البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

ويشتمل على ما يلي:

أَوَّلًا: القواعد العامة الضابطة لآداب المستفتي.

ثانيًا: واجبات المستفتي.

 

 

 

أَوَّلا

القواعد العامة الضابطة لآداب المستفتي

 

القاعدة الأولى (سؤال أهل الذكر إذا نزلت به حادثة):

فينبغي على المستفتي إذا نزلت به حادثة، ويريد أن يعرف حكم الشرع فيها، أن يبحث عن المفتي، حتى وإن كان المفتي في مكان بعيد أو بلد غير بلد المستفتي، وجب عليه أن يسافر إليه، مهما بعدت المسافة، ووسائل الاتصال الحديثة قد سهلت التواصل بين الناس في عصرنا الحاضر، فلا يسع المستفتي إلا أن يسأل أهل الذكر عن مسألته.

يقول العلامة الشاطبي: “إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية؛ فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها على الجملة؛ لأن الله لم يتعبد الخلق بالجهل”([1]).

وسؤال أهل الذكر من الأمور التي أمر بها الشرع الشريف؛ حيث يقول عز وجل في كتابه العزيز: {فَسۡـَٔلُوٓاْ ‌أَهۡلَ ‌ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [النحل: 43]، وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجرٌ فشَجَّه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُخبِر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر -أو يعصب- على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده))([2]).

القاعدة الثانية (الرجوع إلى أهل العلم المتخصصين):

فينبغي على المستفتي أن يرجع في المسائل المهمة إلى أهل العلم المتخصصين أو جهات الإفتاء الرسمية، فليس كل مَن انتسب إلى أهل العلم كان أهلًا للتصدر للإفتاء، فالواجب على المستفتي أن يبحث عن أهل العلم من الفقهاء والمفتين؛ فعن محمد بن سيرين، قال: “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم”([3]).

وعن يزيد بن هارون يقول: “إن ‌العالم ‌حجتك بينك وبين الله تعالى، فانظر من تجعل حجتك بين يدي الله عز وجل”([4]).

القاعدة الثالثة: (البحث عن المفتي المشهود له بالعلم):

فينبغي على المستفتي أن يبحث عن العالِم المتصدر للإفتاء ليسأله عن حكم الشرع فيما ينزل به من حادثة، فلا يصح أن يسأل مجهول الحال؛ يقول العلامة أبو المظفر السمعاني: “فأما المستفتي فلا يجوز له أن يستفتي مَن شاء على الإطلاق؛ لأنه ربما يستفتي من لا يعرف الفقه، بل يجب أن يتعرف حال الفقيه في الفقه والأمانة، ويكفيه في ذلك خبر العدل الواحد”([5]).

وقال أيضًا: “أما شرائط الاستفتاء: أن يغلب على ظن المستفتي أنَّ مَنْ يستفتيه من أهل الاجتهاد، مما يراه من انتصابه للفتوى بمشهد من أعيان الناس، ويرى أخذ الناس عنه، وأن يظنه من أهل الدين بما يرى من اجتماع الجماعات على سؤاله، واستفتائه فيما يراه من سمات الستر والدين، والأشبه أنه ليس للعامي أن يستفتي مَنْ يظنه غير عالم ولا متدين، وإنما أخذ عليه ذلك الظن؛ لأن ذلك القدر ممكن له، وأما ما يجب على العامي إذا أفتاه أهل الاجتهاد هو أنهم إن اتفقوا يجب على المستفتي أن يصير إلى الفتوى التي اتفقوا عليها، وإن اختلفوا وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأدينهم لأن ذلك طريق قوة ظنه وهو ممكن له فجرى مجرى قوة ظن مجتهد في المسائل التي يجتهد فيها”([6]).

القاعدة الرابعة (الالتزام بتقوى الله عز وجل):

فينبغي على المستفتي أن يتقي الله ويراقبه فيما يستفتي فيه المفتي، فلا يجوز للمستفتي أن يجعل الفتوى ذريعة إلى أمر ما يكتمه في قلبه يعلم أنه غير صواب، ولكنه دلس على المفتي وأخفى عنه أشياء تؤثر في عملية التصوير أو التكييف للمسألة، فتخرُج الفتوى على هوى المستفتي، وربما تكون تلك الفتوى مما يتعلق بالخصومات ونحو ذلك، والمفتي ليس له إلا ظاهر الكلام؛ فعن أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمَنْ قضيتُ له بحق أخيه شيئًا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها))([7]).

يقول العلامة ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث: “وقوله: ((فإنما أقطع له قطعة من النار)): أي إن أخذها مع علمه بأنها حرام عليه دخل النار”([8]).

لذا لا يجوز للمستفتي أن يخدع نفسه ويجوِّز لها ما يوقن أنه أمر غير جائز، معتمِدًا على أنه حصل على فتوى من أحد أهل العلم من الفقهاء أو المفتين، والحقيقة والواقع أنه قد لبَّس عليهم حين سألهم وعرض عليهم المسألة على غير وجه الحقيقة.

القاعدة الخامسة (حدود ما يخالف فيه المستفتي قول المفتي):

فيجوز في بعض الأحوال معارضة المستفتي لما أفتى به المفتي؛ وذلك في حالة عدم اطلاع المفتي على حال المستفتي؛ فعن ‌عائشة رضي الله عنها قالت: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل، قال: ‌إني ‌لست ‌كهيئتكم، ‌إني ‌يطعمني ‌ربي ‌ويسقيني))([9]).

يقول العلامة ابن حجر في شرح الحديث: “ومن أدلة الجواز إقدام الصحابة على الوصال بعد النهي فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لَمَا أقدموا عليه … وفي أحاديث الباب من الفوائد استواء المكلفين في الأحكام، وأن كل حكم ثبت في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثبت في حق أمته إلا ما استثني بدليل، وفيه جواز معارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولم يعلم المستفتي بسر المخالفة”([10]).

القاعدة السادسة (العمل بالقول الأيسر):

لا يجب على المستفتي المُقلِّد إذا استفتى أكثر من عالم أن يأخذ بالقول الأغلظ أو الأشد، بل يجوز له أن يقلد من شاء؛ وقد ذكر العلامة أبو المظفر السمعاني عدة مذاهب في هذه المسألة، ورجح جواز تقليد المستفتي لمن شاء أو الأخذ بقول الأيسر؛ فقال: “وإن استفتَى رجلين نَظَرَ في الجواب، فإن اتفقا في الجواب عَمِلَ بما قالا، وإن اختلفا فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة؛ فاختلف فيه أصحابُنا على ثلاثة أوجه: منهم من قال: لا يأخذ بما شاء منهما. ومنهم من قال: يجتهد فيمن يأخذ بقوله منهما. ومنهم من قال: يأخذ بأغلظ الجوابين لأن الحق ثقيل والأولى أن يقال يجتهد ممن يأخذ بقوله منهما. وأما الذي قال: إنه يأخذ بأغلظ الجوابين فقد يكون الحق في أخف الجوابين قال الله تعالى: {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ} [البقرة: 185]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((بُعِثْتُ بالحنيفية السمحة))، وقد قيل يأخذ بأخف الجوابين لهذا الدليل”([11]).

ويؤكد على ما رجحه العلامة القاضي أبو يعلى الفراء؛ حيث قال: “(إذا استفتى المقلد عالمين). وإن استفتى عالمين: فإن اتفقا على الجواب عمل بما قالاه، وإن اختلفا، فقال أحدهما: مباح، والآخر محظور. مثل إن استفتاه في صريح الطلاق إذا نواه ثلاثاً، فقال له حنبلي: طلقت واحدة. وقال له شافعي: طلقتَ ثلاثاً، فإنه يقلد من شاء منهما، ولا يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ عليه. وهذا ظاهر ما رواه الحسين بن بشار عن أحمد؛ لأنه استفتاه في مسألة الطلاق، فقال له أحمد رضي الله عنه: “إن فعل حنث، وقال: إن إفتاك مدني: لا تحنث، فافعل”. فقد سوَّغ له الأخذ بقول المدني بالإباحة، ولم يلزمه الأخذ بالحظر. فإن قيل: هلَّا قلتم: يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ، كما قلتم: إذا تقابل في الحادثة دليلان: أحدهما حاظر والآخر مبيح: إنه يقدم الحظر على الإباحة. قيل: الفرق بينهما: أن ذلك من الأصول مبناه على التأكيد، ولهذا طريق ثبوته دليل مقطوع عليه. وهذا من الفروع مبناه على التخفيف، ولهذا يثبت بغلبة الظن”([12]).

القاعدة السابعة (الواجب التزامه عند تكرار الحادثة):

يجب على المستفتي إذا نزلت به حادثة أن يسأل المفتي عن الحكم الشرعي فيها، وإذا تكررت تلك الحادثة فينبغي على المستفتي أن يكرر السؤال مرة أخرى على المفتي؛ يقول العلامة القاضي أبو يعلى الفراء: “على العامي أن يستفتي في كل حادثة تقع، وإن استفتى عاميٌّ عالمًا في حكم وأفتاه، ثم حدث حكم آخر مثل ذلك، فعليه أن يكرر الاستفتاء، ولا يقتصر على الأول”([13]).

القاعدة الثامنة (تقليد المستفتي من شاء من المفتين المجتهدين):

فيجوز للعامي أن يعمل بأي قول في المسألة ما دام هذا القول لأحد العلماء المجتهدين؛ يقول العلامة القاضي أبو يعلى الفراء: “للعاميِّ أن يقلد من شاء من المجتهدين، وإذا ثبت أن له التقليد، فليس عليه أن يجتهد في أعيان المقلَّدين، بل يقلد من شاء، لأنه لما لم يكن عليه الاجتهاد في طلب الحكم كذلك في المقلَّد. وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله فيما رواه الحسين بن بشار المخرمي قال: “سألت أحمد رحمه الله عن مسألة في الطلاق، فقال: إن فعل كذا حنث. فقلت له: فإن أفتاني إنسان: لا أحنث، فقال: تعرف حلقة المدنيين؟ قلت: فإن أفتوني أدخل؟ قال: نعم”. فلم يكله الإمام أحمد رضي الله عنه إلى اجتهاده في المستفتي، وإنما أفتاه بقوله، وأرشده إلى غيره”([14]).

وقد فَصَّل هذه المسألة العلامة الآمدي فقال: “المسألة: وجد العامي في البلد أكثر من مفتٍ، المسألة السابعة: إذا حدثت للعامي حادثة، وأراد الاستفتاء عن حكمها، فإما أن يكون في البلد مفتٍ واحد أو أكثر: فإن كان الأول وجب عليه الرجوع إليه والأخذ بقوله. وإن كان الثاني فقد اختلف الأصوليون: فمنهم من قال: لا يتخير بينهم حتى يأخذ بقول من شاء منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدْيَن والأعلم، وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين، مصيرًا منهم إلى أن قول المفتِيَيْن في حق العامي ينزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد، وكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين فيجب على العامي الترجيح بين المفتِيَيْن، إما بأن يتحفظ من كل باب من الفقه مسائل، ويتعرف أجوبتها ويسأل عنها، فمن أجابه أو كان أكثر إصابة اتبعه، أو بأن يظهر له ذلك بالشهرة والتسامع، ولأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن، والظن في تقليد الأعلم والأدين أقوى، فكان المصير إليه أولى. وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء، وسواء تساووا أو تفاضلوا، وهو المختار. ويدل على ذلك أن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أقضاكم عَلِيٌّ، وأفرضكم زَيْدٌ، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذُ بن جبل)) وكان فيهم العوام، ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير، ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهادَ في أعيان المجتهدين، ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول والاستفتاء له مع وجود الأفضل، ولو كان ذلك غير جائز لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه، ويتأيد ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام -: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم))، ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى”([15]).

 

 

 

القاعدة التاسعة (الأخذ بقول المفتي الأعلم):

إذا توفر للمستفتي عدد من المفتين، وقد بلغ كل منهم رتبة الاجتهاد في العلم، فله أن يقلد مَن شاء منهم دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن الأعلم بينهم.

يقول إمام الحرمين الجويني: “فصل هل يجب تقليد الأعلم؟ والقول في تعارض الفتيا: … وإن جمعت البلدةُ العلماءَ وكل منهم بالغ مبلغ الاجتهاد، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن الواجب عليه أن يقلد الأعلم منهم، ولا يسوغ له تقليد من عداه. وهذا غير سديد والصحيح أنه له أن يقلد مَنْ شاء منهم … والذي يوضح الحق في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم انقسموا إلى الفاضل والمفضول، وكان الصديق رضي الله عنه أفضلهم على مذاهب أهل الحق، ثم لم يكلفوا المستفتين ألا يستفتوا غيره. بل لم يجمعوا السائلين على أحد منهم تعيينًا منهم وتخصيصًا. فوضح بذلك أنه لا يتعين على المستفتي التعرض للأعلم”([16]).

القاعدة العاشرة (الاعتماد على اجتهاد سابق):

وذلك إذا سأل المستفتي عن نازلة فأجابه المفتي، ثم تكررت تلك النازلة، فحينئذ يجوز للمستفتي أن يعتمد على اجتهاد المفتي في جوابه الأول إذا كان المستفتي متذكرًا لذلك الجواب بالتفصيل؛ وقد ذكر العلامة الآمدي في تلك المسألة عدة أقوال، فقال: “المسألة الرابعة: إذا استفتى العاميُّ عالمًا في مسألة فأفتاه، ثم حدث مثل تلك الواقعة، فهل يجب على المفتي أن يجتهد لها ثانيا ولا يعتمد على الاجتهاد الأول؟

اختلفوا فيه:

– فمنهم من قال: لا بد من الاجتهاد ثانيًا لاحتمال أن يتغير اجتهاده ويطلع على ما لم يكن اطلع عليه أولًا.

– ومنهم من قال: لا حاجة إلى اجتهاد آخر؛ لأن الأصل عدم اطلاعه على ما لم يطلع عليه أولًا.

– والمختار إنما هو التفصيل، وهو أنه إما أن يكون ذاكرًا للاجتهاد الأول، أو غير ذاكر له، فإن كان الأول فلا حاجة إلى اجتهاد آخر كما لو اجتهد في الحال، وإن كان الثاني فلا بد من الاجتهاد؛ لأنه في حكم من لم يجتهد”([17]).

القاعدة الحادية عشرة (رجوع المستفتي عن تقليد بعض المجتهدين):

يجوز للمستفتي أن يعمل بقول أحد المجتهدين من العلماء والفقهاء والمفتين، ثم إذا حدثت له نازلة أخرى عمل بقول مجتهد آخر، ولا حرج عليه في ذلك على الراجح، ومما يدل على ذلك ما قاله العلامة الآمدي: “(المسألة الثامنة اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم وعمل بقوله هل يرجع إلى غيره)، المسألة الثامنة: إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث وعمل بقوله فيها: اتفقوا على أنه ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره، وهل له ذلك في حكم آخر؟ اختلفوا فيه:

– فمنهم من منع منه.

– ومنهم من أجازه، وهو الحق نظرًا إلى ما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة، وأنه لم ينقل عن أحد من السلف الحجر على العامة في ذلك، ولو كان ذلك ممتنعا لما جاز من الصحابة إهماله والسكوت عن الإنكار عليه، ولأن كل مسألة لها حكم لم يتعين الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله، فكذلك في المسألة الأخرى”([18]).

القاعدة الثانية عشرة (رجوع المستفتي عن تقليد أحد المذاهب الفقهية):

يجوز للمستفتي العامي أن يخالف ما ألزم نفسه به من اتباع مذهب معين من المذاهب الفقهية؛ يقول العلامة الآمدي: “وأما إذا عين العامي مذهبا معينا كمذهب الشافعي أو أبي حنيفة أو غيره وقال: أنا على مذهبه وملتزم له، فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل؟ اختلفوا فيه:

– فجوزه قوم؛ نظرًا إلى أن التزامه لمذهب غير ملزم له.

– ومنع من ذلك آخرون؛ لأنه بالتزامه المذهب صار لازمًا له كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة.

– والمختار إنما هو التفصيل، وهو أن كل مسألة من مذهب الأول اتصل عمله بها، فليس له تقليد الغير فيها، وما لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها”([19]).

 

 

 

ثانيًا

واجبات المستفتي

المقصود بـ”واجبات المستفتي”: تلك اللوازم والمسؤوليات الواقعة على المستفتي تجاه عملية الإفتاء، والذي هو -أي: المستفتي- أحد أركانها. وهي ما يلي:

1- طلب المستفتي إعادة توضيح الجواب:

فيجب على المستفتي إذا لم يفهم جواب المفتي أن يستأذنه في توضيح الجواب؛ فعن ‌أبي جمرة قال: “كنت أقعد مع ابن عباس رضي الله عنهما يُجْلِسُني على سريره فقال: أَقِمْ عندي حتى أجعل لك سهما من مالي. فأقمتُ معه شهرين، ثم قال: ((إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَنِ القوم؟ أو من الوفد؟ قالوا: ربيعة. قال: مرحبا بالقوم، أو بالوفد، غير خزايا ولا ندامى. فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمُرْنَا بأمر فصل نخبر به مَنْ وراءنا، وندخل به الجنة. وسألوه عن الأشربة: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن ‌أربع، ‌أمرهم: ‌بالإيمان ‌بالله ‌وحده، ‌قال: ‌أتدرون ‌ما ‌الإيمان ‌بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخُمُس. ونهاهم عن أربع: عن الحنتم والدُّبَّاء والنقير والمزفت. وربما قال: المقير. وقال: احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم))”([20]). يقول العلامة بدر الدين العيني في شرح الحديث: “فيه أنه لا عيب على الطالب للعلوم أو المستفتي أن يقول للعالم أوضح لي الجواب”([21]).

2- اكتفاء المستفتي بجواب المفتي إذا كان بإشارة مفهمة:

فيجب على المستفتي أن يكتفي بما أجابه به المفتي عن طريق الإشارة المفهمة، ولا يشق على نفسه بطلب صريح الكلام أو الكتابة من المفتي، فقد لا يستحق الجوابُ هذا العناء وضياع وقت المفتي؛ فعن ‌ابن عباس رضي الله عنهما، ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل في حجته فقال: ذبحتُ قبل أن أرمي؟ فأومأ بيده قال: ولا حرج. قال: ‌حلقتُ ‌قبل ‌أن ‌أذبح؟ فأومأ بيده ولا حرج))([22]).

يقول العلامة القسطلاني في شرح الحديث: “هذا (باب من أجاب الفتيا) أي في بيان المفتي الذي أجاب المستفتي فيما سأله عنه (بإشارة اليد والرأس) … (فأومأ) فأشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (بيده) الشريفة (ولا حرج) أي صحَّ فعلُك ولا إثم عليك، ولم يحتج إلى ذكر؛ قال هنا: لأنه أشار بيده بحيث فهم من تلك الإشارة أنه لا حرج”([23]).

3- قبول المستفتي جواب المفتي المتعجل:

ينبغي على المستفتي أن يقبل جواب المفتي إذا أجابه وهو متعجل؛ كأن يكون عنده لقاء مهم، أو راكبًا أو عنده الكثير من المستفتين ونحو ذلك من الشواغل التي تعتري وقت المفتي، فيجب حينئذ على المستفتي أن يقبل جواب المفتي ما دام قد فهم منه المفتي سؤاله وأجابه عليه؛ فقد عقد الإمام البخاري في صحيحه بابًا يسمى: “باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها”، وأورد فيه حديثًا عن الصحابي الجليل ‌عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ((أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقتُ قبل أن أذبح. فقال: اذبح ولا حرج. فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. قال: ارمِ ولا حرج. فما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: افعل ولا حرج))”([24]). ففي هذا الحديث ما يرشد إلى وجوب قبول المستفتي الفتوى من المفتي وهو متعجل أو وهو راكب الدابة؛ يقول العلامة ابن حجر في شرح الحديث: “أن سؤال من لا يعرف الحكم عنه في موضع فعله حسن، بل واجب عليه لأن صحة العمل متوقفة على العلم بكيفيته، وأن سؤال العالم على قارعة الطريق عما يحتاج إليه السائل لا نقص فيه على العالم إذا أجاب ولا لوم على السائل”([25]).

ويقول العلامة القسطلاني: “وفي الحديث جواز سؤال العالم راكبًا وماشيًا وواقفًا على كل حال، ولا يعارض هذا بما روي عن مالك من كراهة ذكر العلم والسؤال عن الحديث في الطريق، لأن الموقف بمنى لا يعد من الطرقات لأنه موقف سنة وعبادة وذكر ووقت حاجة إلى التعلم خوف الفوات إما بالزمان أو بالمكان”([26]).

4- يجب التزام المستفتي بالصدق فيما يذكره للمفتي:

فينبغي على المستفتي أن يلتزم الصدق في سؤاله المفتي، حتى لو أدى ذلك إلى ذكر أحد الأشخاص بما لا يحب، فهذا ليس من باب الغيبة المحرمة، إنما يكون ذلك ضرورة لمعرفة الحكم الشرعي؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ((أن هند بنت عتبة رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك، بالمعروف))([27]).

فهذا الحديث يدل على جواز ذكر المستفتي أحد الأشخاص بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والتظلم ونحو ذلك؛ يقول العلامة ابن حجر في شرح هذا الحديث: “واستدل بهذا الحديث على جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة،… وفيه جواز استماع كلام أحد الخصمين في غيبة الآخر، وفيه أن من نسب إلى نفسه أمرًا عليه فيه غضاضة فليقرنه بما يقيم عذره في ذلك”([28]).

5- وجوب العمل بما اتفق عليه المُفتون:

فإذا سأل المستفتي أكثر من عالم في مسألة واتفقوا جميعًا في الحكم عليها، وجب عليه أن يعمل بما اتفقوا عليه؛ يقول العلامة القاضي أبو يعلى الفراء: “وإن استفتى عالمين: فإن اتفقا على الجواب عمل بما قالاه”([29]).

السابع: (وجوب العمل بالفتوى المترجمة من لغة إلى أخرى):

فيجب على المستفتي المُقلِّد إذا كان عالمًا بلغة المفتي أن يعمل بما قاله، أما إذا لم يكن المستفتي عالمًا بلغة المفتي وقد تُرجم له الجواب، فليزمه في هذا الحالة العمل بهذا الجواب المترجم؛ يقول العلامة القاضي أبو يعلى الفراء: “يكفي في الفتوى مترجم واحد، فإن كان المقلد يعرف لسان المفتي سمع منه، وعمل بقوله عليه. وإن كان لا يعرف لسانه أجزأه مترجم واحد؛ لأنه نقل خبر إليه، وخبر الواحد يوجب العمل. ويفارق هذا الترجمة عن الشاهد؛ لأنها إثبات شهادة، فلهذا افتقرت الترجمة إلى عدد”([30]).

6- الأخذ بقول المفتي الحاضر:

فإذا لم يتوفر في البلد أو القرية إلا مفتٍ واحد، فينبغي على المستفتي أن يسأله فيما ينزل به من حادثة، فيعمل بقوله وفتواه دون الحاجة إلى الانتقال أو السفر لسؤال غيره؛ يقول العلامة إمام الحرمين الجويني: “إذا لم يكن في البلدة التي فيها المستفتي، إلا عالم واحد فيقلده، ولا يكلف الانتقال عنه”([31]).

7- التعجيل بسؤال المفتي:

يجب على المستفتي أن يبادر بسؤال المفتي إذا نزلت به حادثة، ليتمكن من معرفة حكم الشرع في التعامل معها، يقول العلامة أبو المظفر السمعاني: “مسألة: ويجب على العامي أن يستفتي إذا وقعت له الحادثة، ولم يحتمل التأخير فيلزمه تعجيل السؤال وهذا في الديانات إذا توجه فرضها عليه لزمه الاستفتاء بأعجل ما يمكنه، فأما في المعاملات فإن توجه الحق عليه لزمه الاستفتاء فيه، وإن كان الحق له مخيرًا فيه …”([32]).

8- إخلاص النية:

فيجب على المستفتي أن يخلص النية لله تعالى في طلب معرفة الجواب عن مسألته، فلا يتكبر على أقرانه ومن حوله بأن عنده العلم بحكم تلك النازلة التي حلت بهم، وذلك بعد سؤاله المفتي عنها؛ يقول العلامة بدر الدين بن جماعة: “حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى والعمل به وإحياء الشريعة، وتنوير قلبه وتحلية باطنه والقرب من الله تعالى يوم القيامة والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله”([33]). فلا يصح أن يكون قصد المستفتي من معرفة الحكم الشرعي من المفتي مباهاة الأقران، وتعظيم الناس له، وتصديره في المجالس ونحو ذلك، فيستبدل الأدنى بالذي هو خير؛ يقول العلامة سفيان الثوري: “ما عالجتُ شيئًا أشد علي من نيتي، إنها تقلب علي”([34]).

9- أن يضع المستفتي نصب عينيه أن طلب الفتوى عبادة:

فسؤال المستفتي عن حكم الشرع في النازلة يُعَدُّ عبادة، لأنه ما سأل إلا لتصح عبادته ومعاملاته؛ يقول العلامة بدر الدين بن جماعة: “والعلم عبادة من العبادات وقربة من القرب فإن خلُصَت فيه النية قُبِلَ وزكا ونَمَتْ بركته، وإن قصد به غير وجه الله تعالى حبط وضاع وخسرت صفقته، وربما تفوته تلك المقاصد ولا ينالها فيخيب قصده ويضيع سعيه”([35]). وقال الإمام أبو يوسف: “يا قوم أريدوا بعلمكم اللهَ عز وجل، فإني لم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم ‌حتى ‌أفتضح”[36]).

10- يجب على المستفتي العامي أن ينقاد للمفتي العالم:

فلا يصح أن يخرج المستفتي العامي عن رأي المفتي ومشورته فيما يعرض له من حوادث ووقائع يحتاج فيها إلى معرفة الحكم الشرعي؛ فيكون شأن المستفتي مع المفتي كالمريض مع الطبيب الماهر، فيشاروه فيما يقصده ويتحرى قوله فيما يعتمده، ويبالغ في احترامه والتواضع أمامه؛ يقول العلامة بدر الدين بن جماعة: “يقال إن الشافعي رضي الله عنه عوتب على تواضعه للعلماء، فقال:

ولن تكرم النفس التي لا تهينها … أهين لهم نفسي فهم يكرمونها.

وأخذ ابن عباس رضي الله عنهما مع جلالته ومرتبته بركاب زيد بن ثابت الأنصاري وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا”([37]).

11- يجب على المستفتي العامي أن يُقَلِّد العالم:

فلا يصح أن يستقل المقلد العامي برأيه في المسألة ويترك قول المفتي العالم؛ يقول العلامة الغزالي:

“العلم حرب للفتى المتعالي … كالسيل حربٌ للمكان العالي

فلا ينال العلم إلا ‌بالتواضع ‌وإلقاء السمع قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِيدٞ} [ق: 37]، ومعنى كونه ذا قلب أن يكون قابلًا للعلم فهمًا ثم لا تعينه القدرة على الفهم حتى يلقي السمع وهو شهيد حاضر القلب؛ ليستقيل كل ما ألقي إليه بحسن الإصغاء والضراعة والشكر والفرح وقبول المنة، فليكن المتعلم لمعلمه كأرض دمثة نالت مطرًا غزيرًا فتشربت جميع أجزائها وأذعنت بالكلية لقبوله، ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم فليقلده وليدع رأيه”([38]).

12- يجب على المستفتي أن ينظر إلى المفتي بعين الإجلال والإكبار:

فلا يصح أن يتعامل المستفتي مع المفتي كتعامله مع أقرانه وأصحابه، بل الواجب على المستفتي أن يُجِلَّ المفتي ويحترمه ويعظمه، شأنه في ذلك شأن المتعلم مع شيخه وأستاذه؛ يقول العلامة بدر الدين بن جماعة: “أن ينظره بعين الإجلال ويعتقد فيه درجة الكمال فإن ذلك أقرب إلى نفعه به، وكان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء وقال: اللهم استر عيب شيخي عني ولا تذهب بركة علمه مني”([39]).

وقال الإمام الشافعي: “وكان ذلك طبعي إن قدمت المدينة فرأيت من مالك بن أنس ما رأيتُ من هيبته وإجلاله للعلم، فازددتُ لذلك حتى ربما كنت أكون في مجلسه وأريد أن أصفح الورقة فاصفحها صفحًا رقيقا؛ هيبة له لئلا ‌يسمع ‌وقعها”([40]).

13- يجب على المستفتي ألا ينشغل عن كلام المفتي بشيء آخر:

فالصواب أن يكون المستفتي منتبهًا لما يلقيه عليه المفتي من أجوبة حول مسألته؛ يقول حمدان ابن الأصفهاني: “كنت عند شريك، فأتاه بعض ولد المهدي، فاستند إلى الحائط، فسأله عن حديثٍ، فلم يلتفت إليه، وأقبل علينا ثم عاد فعلا بمثل ذلك، فقالوا: أتستخف بأولاد الخلفاء، قال: لا، ولكن العلم أَجَلُّ عند أهله من أن يضيعوه، قال: فجثا على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم”([41]).

14- يجب على المستفتي أن يعرف حق المفتي:

فينبغي على المستفتي أن يحفظ حق المفتي، ولا ينسى فضله، فالمفتي هو من يدل المستفتي على الحكم الشرعي، ويرشده إلى ما ينفعه ويصلحه؛ يقول العلامة بدر الدين بن جماعة: “أن يعرف له حقه ولا ينسى له فضله، قال شعبة: كنت إذا سمعت من الرجل الحديثَ كنت له عبدًا ما يحيا، وقال: ما سمعت من أحد شيئًا إلا واختلفت إليه أكثر مما سمعت منه.

ومن ذلك أن يعظم حرمته ويرد غيبته ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس”([42]).

15- يجب على المستفتي أن يصبر على جَفْوة ([43]) المفتي:

فينبغي على المستفتي أن يصبر على ما قد يصدر من المفتي من جفوة وشدة في بعض الأحيان، فالمفتي بَشَرٌ يعتريه ما يعتري الإنسان من الضيق والحزن ونحو ذلك مما يعكر صفوه ويشغل ذهنه وقلبه، فإذا بدر منه شدة دون قصد منه تجاه المستفتي، فينبغي حينها أن يتفهم المستفتي ذلك، ويصبر عليه ويسامحه، فهذا حق المعلم على الطالب؛ يقول العلامة بدر الدين ابن جماعة: “أن يصبر على جفوة تصدُر من شيخه أو سوء خلق ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته، ويتأول أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه ويجعل العَتْبَ عليه فإن ذلك أبقى لمودة شيخه واحفظ لقلبه وأنفع للطالب في دنياه وآخرته.

وعن بعض السلف: من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة”([44]).

16- يجب على المستفتي أن يشكر المفتي:

فينبغي على المستفتي أن يشكر المفتي على توجيهه للصواب وإرشاده للحق، يقول العلامة بدر الدين بن جماعة: “أن يشكر الشيخَ على توقيفه على ما فيه فضيلة، وعلى توبيخه على ما فيه نقيصة، أو على كسل يعتريه، أو قصور يعاينه أو غير ذلك مما في إيقافه عليه وتوبيخه إرشاده وصلاحه، ويعد ذلك من الشيخ من نعم الله تعالى عليه باعتناء الشيخ به ونظره إليه، فإن ذلك أمثل إلى قلب الشيخ وأبعث على الاعتناء بمصالحه.

وإذا أوقفه الشيخ على دقيقة من أدب أو نقيصة صدرت منه وكان يعرفه من قبل فلا يظهر أنه كان عارفًا به وغفل عنه، بل يشكر الشيخ على إفادته ذلك واعتنائه بأمره، فإن كان له في ذلك عذر وكان إعلام الشيخ به أصلح فلا بأس به وإلا تركه، إلا أن يترتب على ترك بيان العذر مفسدة فيتعين إعلامه به”([45]).

17- يجب على المستفتي أن يستأذن في الدخول على المفتي:

فلا يصح أن يدخل المستفتي على مجلس المفتي دون استئذان؛ يقول العلامة بدر الدين بن جماعة: “أن لا يدخل على الشيخ في غير المجلس العام إلا باستئذان سواء كان الشيخ وحده أو كان معه غيره، فإن استأذن بحيث يعلم الشيخ ولم يأذن له انصرف ولا يكرر الاستئذان”([46]).

18- يجب على المستفتي أن يهتم بحسن المظهر عند دخوله على المفتي:

فلا يصح أن يدخل ورائحته كريهة أو ثيابه غير نظيفة، بل لا بد أن يدخل عليه بأحسن الثياب وأجمل هيئة؛ يقول العلامة بدر الدين بن جماعة: “وينبغي أن يدخل على الشيخ كامل الهيئة متطهر البدن والثياب نظيفهما، بعدما يحتاج إليه من أخذ ظفر وشعر وقطع رائحة كريهة، لا سيما إن كان يقصد مجلس العلم فإنه مجلس ذكر واجتماع في عبادة”[47]).

 

([1]( الموافقات، للشاطبي (5/ 283)، مرجع سابق.

([2]( أخرجه أبو داود في “سننه” (1/ 93).

([3]( أخرجه مسلم (1/ 14).

([4]( الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (2/ 378)، مرجع سابق.

([5]( قواطع الأدلة في الأصول، لأبي المظفر السمعاني (2/ 357)، مرجع سابق.

([6]( قواطع الأدلة في الأصول، لأبي المظفر السمعاني (2/ 364- 365)، مرجع سابق.

([7]( أخرجه البخاري (3/ 180).

([8]( فتح الباري، لابن حجر (12/ 339)، مرجع سابق.

([9]( أخرجه البخاري (3/ 37).

([10]( فتح الباري، لابن حجر (4/ 205)، مرجع سابق.

([11]( قواطع الأدلة في الأصول، لأبي المظفر السمعاني (2/ 357)، ط. دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، سنة ١٤١٨هـ- ١٩٩٩م.

([12]( العدة في أصول الفقه، لأبي يعلى الفراء (4/ 1227)، مرجع سابق.

([13]( العدة في أصول الفقه، لأبي يعلى الفراء (4/ 1228)، مرجع سابق.

([14]( العدة في أصول الفقه، لأبي يعلى الفراء (4/ 1226)، مرجع سابق.

([15]( الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (4/ 237)، مرجع سابق.

([16]( التلخيص في أصول الفقه، للجويني (3/ 465)، مرجع سابق.

([17]( الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (4/ 233)، مرجع سابق.

([18]( الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (4/ 238)، مرجع سابق.

([19]( الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (4/ 238)، مرجع سابق.

([20]( أخرجه البخاري (1/20)

([21]( عمدة القاري، للعيني (1/ 310).

([22]( أخرجه البخاري (1/ 28).

([23]( إرشاد الساري، للقسطلاني (1/ 183)، ط. المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، الطبعة السابعة، سنة 1323هـ.

([24]( أخرجه البخاري (1/ 28).

([25]( فتح الباري، لابن حجر (1/ 223)، مرجع سابق.

([26]( إرشاد الساري، للقسطلاني (1/ 183)، مرجع سابق.

([27]( أخرجه البخاري (7/ 65).

([28]( فتح الباري، لابن حجر (9/ 509)، مرجع سابق.

([29]( العدة في أصول الفقه، لأبي يعلى الفراء (4/ 1227)، ط. كلية الشريعة بالرياض، الطبعة الثانية، سنة ١٤١٠هـ- ١٩٩٠م.

([30]( العدة في أصول الفقه، لأبي يعلى الفراء (4/ 1228)، مرجع سابق.

([31]( التلخيص في أصول الفقه، للجويني (3/ 465)، مرجع سابق.

([32]( قواطع الأدلة في الأصول، لأبي المظفر السمعاني (2/ 358)، مرجع سابق.

([33]( تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص 68)، ط. دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، سنة ١٣٥٤هـ.

([34]( الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي (1/ 317)، مرجع سابق.

([35]( تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص 69)، مرجع سابق.

([36]( الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي. (2/ 49).

([37]( تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص 87)، مرجع سابق.

([38]( إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 50)، ط. دار المعرفة- بيروت.

([39]( تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص 88)، مرجع سابق.

([40]( “تاريخ دمشق لابن عساكر” (14/ 293)، ط. دار الفكر، سنة ١٤١٥هـ- ١٩٩٥م.

([41]( الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه، لأبي الهلال العسكري (ص 85)، ط. المكتب الإسلامي- بيروت، الطبعة الأولى، سنة ١٤٠٦هـ- ١٩٨٦م.

([42]( تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص 90)، مرجع سابق.

([43]) أي: غِلْظة.

([44]( تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص 91)، مرجع سابق.

([45]( تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص 92- 93)، مرجع سابق.

([46]( تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص 93- 94)، مرجع سابق.

([47]( تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص 95)، مرجع سابق.

اترك تعليقاً