البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الخامس

الفصل الأول مفهوم الإدارة ووظائفها وأقسامها

69 views

تمهيد وتقسيم:

يشهد العصر الحديث تغيرات كثيرة وسريعة في كافة جوانب الحياة المعقدة والمتشعبة وعلى مختلف المستويات العلمية والعملية والإنسانية. والإنسان هو الأساس في عملية التغيير والتطوير، ولا يكون هذا التطوير ناجحًا إلا إذا توافرت للإنسان إدارة تنظم حياته وعلاقاته بالآخرين، وتوظف إمكاناته لمصلحة الجميع. إن الإدارة وسيلة مهمة لتنظيم جهد الإنسان -أفرادًا أو جماعات-، وهي فن توظيف الإمكانات والمعطيات؛ لتحقيق الأهداف المنشودة. كما أن الإدارة عملية إنسانية ونشاط إنساني غايتها تحقيق أهداف محددة، من خلال مجموعة من العلاقات والاتصالات والتفاعلات بين فئات ومهن ذات أهداف وتطلعات متباينة.

فوجود الإدارة حتمي في كل التجمعات البشرية التي تمتلك إمكانيات مادية وفنية وطبيعية، تساعدها على تحقيق أهدافها وتنفيذ واجباتها.

والمؤسسة الإفتائية الحديثة شأنها شأن كافة التجمعات البشرية الأخرى بحاجة إلى إدارة واعية تعمل على تحديد أهدافها وتحقيقها وتطويرها، من أجل تقديم خدمة إفتائية منضبطة تفيد حركة وإيقاع الحياة وتتناغم معها، في هدي من نور القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة.

وفي هذا الفصل نعرض لمفهوم الإدارة ووظائفها وأقسامها من خلال ثلاثة مباحث على النحو التالي:

  • المبحث الأول: مفهوم الإدارة.
  • المبحث الثاني: وظائف الإدارة.
  • المبحث الثالث: أقسام الإدارة.

مفهوم الإدارة

تعرف الإدارة بأنها: «عملية تحقيق الأهداف المرسومة للمؤسسة؛ من خلال استغلال الموارد المتاحة، وفق منهج مُحدَّد، وضمن بيئة معينة».

وقد عرفت الإدارة في الإسلام بأنها: «نشاط جماعي مشروط يقوم به الراعي مع موظفيه العاملين في جميع الأجهزة الحكومية وغير الحكومية من خلال تقديم خدمة أو سلعة مشروعة إلى الرعية بلا تمييز، شعورًا منهم بأمانة الإدارة أثناء ممارستهم الإدارية وفقًا لأنظمة وتعليمات مصدرها الشريعة الإسلامية، مستغلين بذلك كافة الإمكانات المتاحة سعيا وراء تحقيق أهداف عامة مباحة من أجل توفير الأمن والرخاء والنماء للبلاد والعباد».

وهذا التعريف عام وشامل، يُمكن تطبيقه على أية مؤسسة، سواء كانت خاصة أو عامة، ومنها المؤسسة الإفتائية. ويتضمن هذا التعريف العناصر التالية:

١) الأهداف:

وهي النتائج المراد تحقيقها، وهنا يدخل عنصر القصد والإرادة في استغلال الموارد لتحقيق النتائج المرغوبة.

وتتمثل أهداف المؤسسات الإفتائية بصفة عامة في تقديم خدمة إفتائية منضبطة ومناسبة لأوضاع العصر الحديث، دون شطط أو غلو أو خروج عن وسطية الإسلام وسماحته، ومع التقيد والتمسك بثوابت الإسلام وهويته.

٢) الموارد:

وتشمل الموارد كلاًّ من: الموارد البشرية، والموارد الطبيعية، والموارد المالية (نقد أو أصول). وحتى يكون هناك إدارة، فلابد من توافر بعض الموارد، وتشكل هذه الموارد البيئة الداخلية للمنشأة، والتي يمكن لإدارتها التحكم بها.

وتتمثل الموارد البشرية الأساسية الخاصة بالمؤسسات الإفتائية في:

  • أمناء الفتوى بكافة أشكالها (المباشرة والمرئية والمسموعة والمكتوبة والبحثية… إلخ).
  • متصدرى الفتوى.
  • باحثي الفقه.
  • باحثي أصول الفقه.
  • باحثي الحديث النبوي.

٣) المنهج:

ويشمل استخدام كافة الوظائف الإدارية من تخطيط وتنظيم ورقابة واتخاذ قرارات.

وفي المؤسسات الإفتائية لابد من وجود هيكل تنظيمي يرأسه رئيس هيئة الإفتاء، ويقسم هذا الهيكل إلى إدارات. ويقوم رئيس هيئة الإفتاء بإدارة تلك المنظومة الإفتائية.

٤) البيئة:

لا يوجد كائن حي -سواء أكان شخصًا طبيعيًّا كالفرد، أو شخصًا معنويًّا كمنشأة الأعمال- يعيش منعزلاً وحده لا يؤثر ولا يتأثر بمتغيرات محيطة به، فعملية الاستفادة من الموارد التي تقع ضمن السيطرة وتحقيق الأهداف تتفاعل بعلاقات ذات اتجاهين مع البيئة المحيطة التي لا يمكن التحكم بها.

إن نجاح أية مؤسسة يعتمد على كفاءة ونوعية جهازها الإداري ومقدرته على التطوير والتجديد والإبداع؛ ليواكب متطلبات مجتمعه وبيئته الخارجية.

ولذلك فعلى رئيس هيئة الإفتاء انتقاء أمناء الفتوى الذين يعملون معه بعناية شديدة، وأن يتم توظيف متصدري فتوى وباحثين شرعيين مميزين، وعلى درجة عالية من العلم في مجال الفقه الإسلامي وأصوله بصفة خاصة، وعلوم الشريعة الأخرى بصفة عامة، وأن يتميز فكرهم بالاعتدال والوسطية والبعد عن الغلو والتطرف، وأن يكونوا واعين تمامًا بمكونات وتعقيدات واقع الحياة وسمات العصر المعيش، وبأهمية الدور الديني والحضاري الذي يقومون به في مجتمعاتهم.

ولقد تضمن الإسلام كمنهج منجزًا معرفيًّا وفقهيًّا لمفاهيم ومصطلحات توازي وتقارب، بل تتعدى في بعض الأحيان المعنى والمضمون لحدود المقاصد المجردة لمفهوم الإدارة العامة المعاصرة. ومن هذه المفاهيم والمصطلحات: الولاية، والرياسة، وولاية الأمر، والسياسة الشرعية، وتراتيب الدولة، وتدبير أهل الإسلام، والأحكام السلطانية، وغيرها من المفاهيم.

ولعل مصطلح «التدبير» في تراثنا الفقهي أقرب المصطلحات شبهًا بمصطلح «الإدارة» في العلوم الإدارية المعاصرة.

وتنقسم المستويات الإدارية إلى ثلاث مستويات، تختلف فيما بينها من حيث السلطة والمسئولية ودرجة ممارسة الوظائف الإدارية. والمستويات الثلاثة هي: «الإدارة العليا، والإدارة الوسطى، والإدارة الدنيا».

  • فالإدارة العليا في المؤسسات الإفتائية تتمثل في رئيس هيئة الإفتاء.
  • والإدارة الوسطى في المؤسسات الإفتائية تتمثل في الأمين العام للفتوى ومديري إدارات الأبحاث الفقهية والأصولية والحديثية… إلخ.
  • والإدارة الدنيا في المؤسسات الإفتائية تتمثل في أمناء الفتوى بكافة أشكالها (المباشرة والمرئية والمسموعة والمكتوبة والبحثية… إلخ).

وتعد الإدارة أهم عناصر المنظمات والمؤسسات؛ لأن الشعوب والمؤسسات والأفراد يتمايزون بالدرجة الأولى بعنصر الإدارة وليس بباقي عناصر الإنتاج. فاليابان على سبيل المثال، استطاعت أن تصبح من أغنى دول العالم، وأكثرها تقدمًا ورقيًّا، وهي دولة تفتقر إلى الموارد الطبيعية، فهي تقوم باستيراد المواد الخام من خارج البلد، ثم تقوم بتصنيعها، ثم تصدرها إلى دول العالم سلعًا جاهزة للاستخدام، وذلك بفضل الإدارة.

والإدارة في الإسلام محورها الأساسي: العقيدة الإيمان، وبهما يتجاوز الفرد المسلم المنافع الشخصية والدنيوية إلى سعة التكليف الرباني الذي يجعل الحياة كلها لله، وغاية خلق الإنسان واستخلافه هي عبادة الله في مفهومها الواسع الشامل والتي تقوم على عمارة الأرض تحقيقًا لقوله تعالى: {ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ} [هود/٦١].

والإدارة علم أصيل له قوانين وقواعد ونظريات، كما أنها فن يعتمد على الخبرة الإنسانية والمهارات الشخصية.

ولذلك يجب على القائمين على إدارة المؤسسات الإفتائية الإلمام بتلك القواعد والنظريات والخبرات الإدارية، والعمل بشكل فعال على تطبيقها والاستفادة منها داخل المؤسسات الإفتائية.

ومن أهم العوامل التي ساعدت على زيادة أهمية الإدارة ما يعرف في التاريخ الاقتصادي بالثورة الصناعية، التي كان من أهم نتائجها ما يلي:

  1. استبدال الجهد البشري والحيواني بالجهد الآلي.
  2. ضخامة حجم منشآت الأعمال وانتقالها إلى الإنتاج الكبير.
  3. ضخامة حجم الأموال المستثمرة في منشآت الأعمال وظهور الشركات المساهمة العامة والشركات العابرة للدول والقارات.
  4. انفصال الملكية عن الإدارة وظهور طبقة مديرين ممتهنين للإدارة.
  5. اتساع الأسواق من ناحية المدخلات والمخرجات وعدم اقتصارها على السوق المحلي.
  6. تعقد وتشابك وتزايد المتغيرات البيئية التي تعمل ضمنها المنشأة.
  7. ازدياد حدة المنافسة والتي كان من أهم نتائجها: الزيادة في جودة وعدد المنتجات مع خفض تكلفتها؛ وبالتالي انخفاض أسعارها للمستهلك النهائي.
  8. ثم جاءت الثورة الإلكترونية المعلوماتية في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي ما زلنا نعيش آثارها وتطوراتها إلى هذه اللحظة، والتي أدت إلى تطور كثيرٍ من المفاهيم الإدارية.

وقد كان لكل ذلك ظلال قوية وحاضرة على المؤسسات الإفتائية. فقد أصبحت أجهزت الحاسوب المكتبي والمحمول والتابلت وغيرها من الأجهزة الإلكترونية أداة فاعلة مساعدة على إجراءات البحث الشرعي لدى كل من متصدري الفتوى والباحثين الشرعيين، ولذلك صارت المؤسسات الإفتائية تمتلك تلك الأجهزة كمكون أساسي من مكوناتها المادية المهمة.

كما أصبحت المؤسسات الإفتائية في القلب من الثورة التكنولوجية الحديثة، وتفاعلت معها تأثيرًا وتأثرًا. فبسبب تلك الثورة التكنولوجية والمعلوماتية وتطور العلوم، كَثُرت النوازل الفقهية التي تحتاج إلى اجتهاد ونظر شرعي واعٍ في كافة مناحي الحياة؛ كالمعاملات المالية والطب الأحوال الشخصية وغيرها من المجالات.

وقد ترتب على ذلك تنامي دور الإدارة في المؤسسات الإفتائية من أجل تأهيل وتدريب متصدري الفتوى بها كي يكونوا قادرين على تأدية مهامهم الإفتائية من خلال إعداد إدارة المؤسسات الإفتائية لبرامج تدريب متخصصة تمكن متصدر الفتوى من الإلمام بالتفاصيل العلمية الخاصة بالنوازل المالية أو النوازل الطبية على سبيل المثال، وتوفير الكوادر العلمية الجيدة التي ستقوم بتقديم تلك البرامج، حتى إذا ما أراد متصدر الفتوى أن يبين حكم الله في النازلة، كانت فتواه صادرة عن تصور وتكييف صحيح للنازلة موضوع الفتوى.

المبحث الثاني

وظائف الإدارة

تتركز وظائف إدارة أية مؤسسة في خمس وظائف أساسية؛ هي: «التخطيط، والتنظيم، والتوظيف، والقيادة، والرقابة».

وفيما يلي عرض لكل وظيفة من تلكم الوظائف:

الوظيفة الأولى: التخطيط:

يعرف التخطيط بأنه: «صياغة رسالة المؤسسة وأهدافها، ووضع الرؤية المستقبلية الخاصة بها، ومتابعة تنفيذ تلك الرؤية؛ بغية الوصول إلى الأهداف الغايات المطلوبة، مع الأخذ بعين الاعتبار موارد المؤسسة المتاحة لتحقيق النتائج الجيدة».

فالتخطيط عمل ذهني يعتمد على التفكير العميق والرؤية الصائبة التي يستخدمها مدير المؤسسة في رؤية حاضره ومواجهة مستقبله.

والتخطيط مفهوم يتفق وتعاليم الإسلام، وقد وردت كثير من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تحث المسلم على تخطيط شئونه المستقبلية. منها قوله تعالى: {             } [الأنفال/٦٠]. وقال النبي  وهو يحض الناس على مواجهة المستقبل والتخطيط له: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس». متفق عليه.

والمؤسسة الإفتائية مؤسسة لها أهدافها ورؤيتها المتمثلة، ويمكننا إجمال أهداف أية مؤسسة إفتائية في الأمور التالية:

  1. تبليغ صحيح الدين إلى الناس في كل مكان، مع ترسيخ مفهوم المرجعية الفقهية الدينية الوسطية في بيان الأحكام الشرعية والدعوة إلى العمل بها؛ وذلك بتنظيم وإصدار الفتاوى المؤصلة في الأمور العامة والخاصة، والاهتمام بالموسوعات الفقهية والمخطوطات الإسلامية، وإعداد الدراسات والبحوث الشرعية، والتأسيس للاجتهاد الجماعي بالتواصل مع علماء العالم الإسلامي، مستفيدين من تقنيات ووسائل الاتصال الحديثة.
  2. التأكيد على أن رسالة المؤسسة الإفتائية رسالة سامية ذات شرف مخصوص لتعلقها بالشرع، وأن ما تقدمه هو خدمة مهمة يحتاج إليها جمهور كبير من أفراد المجتمع، والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، على كافة المستويات محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا؛ ولذا تسعى إلى تقديم هذه الخدمة في أحسن صورة ومن أيسر طريق ابتغاء مرضاة الله تعالى وحرصًا على مصلحة المستفيدين.
  3. مواكبة التطور والأخذ بأسباب العصر؛ فالإسلام قادر على مواكبة التغير الحضاري الذي نشاهده في جميع أنظمة الدولة الحديثة، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي؛ ولذا فإن المؤسسة الإفتائية تسعى إلى إيجاد موضع قدم على خريطة العصر من خلال الاستفادة من أدوات هذا التطور، حتى تبني مؤسسة علمية شرعية قوية في عُمقها العلمي، عصرية في تناولها وتعاطيها مع مجريات الأمور، بحيث ترتقي في منهجية الإفتاء، وترفع من نِسَبِ الدقة والموضوعية والرصانة في الفتوى الصادرة عنها.
  4. تكوين شبكة علاقات تبادلية مع المؤسسات على المستويين التخصصي والعام، وذلك من خلال:

أ ) التعاون الكامل مع المؤسسات المحلية المختلفة الدينية الإسلامية وغير الإسلامية، وكذا مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية والأمنية والإنمائية في إطار تعميق مفهوم المواطنة الكاملة، ونشر ثقافة الحوار الهادف والتعاون البنَّاء مع الكافة، ونبذ كافة صور وأشكال التمييز على أساس العِرق أو الدين أو الطائفة أو اللون.

ب) تكوين الشراكات وبرامج تبادل الخبرات مع المؤسسات العريقة المعنية بالشريعة والإفتاء، كالأزهر الشريف ودار الإفتاء بمصر.

ج) التواصل مع المؤسسات الدولية المعنية بالتنسيق بين هيئات الإفتاء وتسعي نحو تطوير الأداء الإفتائي وتفعيل الاجتهاد الجماعي في ظل المستجدات التي تتنامى يومًا بعد يوم، وتتصل بشئون الأمة وتهتم بقضاياها المختلفة كالأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم.

د) التعاون مع المؤسسات الدولية المختلفة كالأمم المتحدة، وذلك بتبادل وتقديم المشورة والخبرات في المجالات المشتركة، لا سيما تلك التي تتعلق ببيان وتوضيح المفاهيم والأفكار الإسلامية الصحيحة في القضايا المطروحة على الساحة الدولية، والتي على رأسها تفكيك الفكر المتطرف وتفنيد الشبهات التي يَصِمُ بها البعض الإسلامَ وهي ليست منه في شيء.

  1. التأكيد على احترام الإسلام للإنسان وتكريمه ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، بغضِّ النظر عن عقيدته الدينية أو انتمائه العرقي أو لونه أو ثقافته.
  2. نشر ثقافة التسامح وقبول الآخر وذلك من خلال النوافذ الإفتائية والدعوية والبرامج التدريبية والحوارات العامة والخاصة مع كافة أطياف المجتمع.
  3. إحياء فكرة النماذج الأربعة للدولة التي طبقها وعاشها رسول الله r في مكة والحبشة والمدينة في مرحلتيها الأولى والثانية، حتى يُفتح الباب للمسلم واسعًا نحو عيش كريم خالٍ من التعقيدات والعُسر الذي يتعمده قليلو الخبرة من غير أهل العلم، الذين يتعسفون مع الناس ويلزمونهم بما فيه المشقة، في حين أن الشريعة مبنية على اليسر ونفي الحرج.
  4. التأكيد على نبذ التطرف والعنف بكافة صوره وأشكاله، مع تفعيل كافة السبل التي تحمي المشترك الإنساني.
  5. التأكيد على ضرورة احترام الخصوصية الثقافية والفكرية والدينية لكل مُكون من المكونات المجتمعية مع التأكيد على أهمية التمسك باحترام الهوية الدينية للمسلمين، في إطار ثقافة احترام المقدسات والثوابت، وذلك من خلال نشر الوعي الصحيح والممارسة الإفتائية والدعوية الواعية.

ويعد التخطيط الوظيفة الأولى من وظائف الإدارة، وله أولوية على الوظائف الأخرى، فهو القاعدة التي تقوم عليها الوظائف الإدارية الأخرى. والتخطيط عملية مستمرة تتضمن تحديد الأنشطة التنظيمية اللازمة لتحقيق أهداف المؤسسة. فمفهوم التخطيط العام يجيب على أربعة أسئلة هي:

  1. ماذا نريد أن نفعل؟
  2. أين نحن من ذلك الهدف الآن؟
  3. ما هي العوامل التي ستساعدنا أو ستعيقنا عن تحقيق الهدف؟
  4. ما هي البدائل المتاحة لدينا لتحقيق الهدف؟ وما هو البديل الأفضل؟

ولذلك فعلى إدارة المؤسسة الإفتائية أن واعية تمامًا لتلك الأسئلة، وأن تكون متفاعلة معها وحاضرة في ذهنها باستمرار، خاصة في ظل ما يموج به العالم المعاصر من تحديات ومشكلات له انعكاس مباشر على حياة المسلمين ومجتمعاتهم.

ومن خلال التخطيط تتحدد طرق سير الأمور التي سيقوم بها الأفراد العاملون بالمؤسسة، والإدارات، والمؤسسة ككل لمدة أيام وشهور، وحتى سنوات قادمة.

والتخطيط يحقق هذه النتائج من خلال:

  • تحديد الموارد المطلوبة.
  • تحديد عدد ونوع الموظفين «فنيين، مشرفين، مديرين» المطلوبين.
  • تطوير قاعدة البيئة التنظيمية حسب الأعمال التي يجب أن تُنجز «الهيكل التنظيمي».
  • تحديد المستويات القياسية في كل مرحلة، وبالتالي يمكن قياس مدى تحقيق الأهداف، مما يُمَكِّن من إجراء التعديلات اللازمة في الوقت المناسب.

ويمكن تصنيف التخطيط حسب الهدف منه أو اتساعه إلى ثلاثة أنواع مختلفة؛ هي: التخطيط الاستراتيجي، والتخطيط التكتيكي، والتخطيط التنفيذي:

١) التخطيط الاستراتيجي «طويل الأمد»:

يهتم التخطيط الاستراتيجي بالشئون العامة للمؤسسة ككل. ويبدأ التخطيط الاستراتيجي ويوجه من قبل المستوى الإداري الأعلى المتمثل في رئيس هيئة الإفتاء، ولكن جميع المستويات الإدارية يجب أن تشارك فيه؛ كالأمين العام للفتوى ومديري إدارات الأبحاث الفقهية والأصولية والحديثية، وأمناء الفتوى بكافة أشكالها (المباشرة والمرئية والمسموعة والمكتوبة والبحثية… إلخ).

وغاية التخطيط الاستراتيجي هي:

    • إيجاد خطة عامة طويلة المدى تبين المهام والمسئوليات للمؤسسة ككل.
    • تطوير المؤسسة من خلال تناغم خطط الوحدات الفرعية مع بعضها وتكاملها.

فالمتغيرات التي تمر بها المؤسسات الإفتائية متعددة، وهي تفرض العديد من التحديات على تلك المؤسسات التي تقوم بدور ديني مهم في حياة المجتمعات؛ مما يستلزم معه ضرورة الاهتمام بتخطيط العمل الإفتائي بمختلف مراحله، والعمل على الإعداد المنظم الدقيق لخُطَى المؤسسة الإفتائية، والاستجابة المرنة لمتغيرات العالم والتحديات التي تواجه المجتمعات والأقليات المسلمة.

ويتم ذلك من خلال الاستخدام الجيد لتقنيات التخطيط الاستراتيجي، والتي تمثل صورة من صور الاستعداد لمستقبل أكثر وضوحًا. وتشمل تقنيات التخطيط الاستراتيجي: دراسة الأوضاع الحالية للمؤسسة الإفتائية؛ للوقوف على أهم المعلومات حول المستوى المالي وحجم الموارد البشرية المتوافرة لدى المؤسسة الإفتائية، وتحليل نقاط القوة والضعف فيها. وتُنتج تلك الدراسات كمًّا هائلاً من المعلومات التي يُستفاد منها في وصول رئيس هيئة الإفتاء وهو متخذ القرار، إلى قرار سليم حول سبل التطوير والتحديث، وأهم الأهداف المطلوب تحقيقها وفقًا لنتائج تلك الدراسات.

وتعتمد تقنيات التخطيط الاستراتيجي على الاستفادة من المعلومات المستقبلية التي تتوافر نتيجة التنبؤ بالتقديرات عن ما سوف يتم تحقيقه أو ما يمكن تحقيقه، وتعتبر العوامل المحيطة بالمؤسسة الإفتائية مكونًا أساسيًّا من مكونات تقنيات التخطيط الاستراتيجي؛ حيث تفيد دراسة تلك العوامل في التعرف على أهم الفرص والتهديدات التي تتضمنها بيئة العمل، بالإضافة إلى التعرف على سبل الاستفادة من الموارد المتاحة لتحقيق أهداف المؤسسة الإفتائية. كما تساعد تقنيات التخطيط الاستراتيجي في تحديد النطاق المستهدف، وعلاقات التأثير والتأثر بالمتغيرات المتنوعة التي تشمل المجتمع التي تتعامل معها المؤسسات الإفتائية، والعوامل الدينية والاقتصادية والسياسية وغيرها التي تؤثر منظومة العمل في تلك المؤسسات.

كما تتضمن تقنيات التخطيط الاستراتيجي تحديد مستويات أداء أمناء ومتصدري الفتوى، وسبل تدعيم تلك المستويات من خلال التركيز على تحسين نقاط القوة ومعالجة نقاط الضعف، ورفع جودة الخدمة الإفتائية بشكل عام.

وتتضمن تقنيات التخطيط الاستراتيجي تحديد وضع ومستوى الموارد المادية متمثلة في الأجهزة ومصادر التمويل والموارد البشرية المتاحة وهيكل التنظيم الإداري المتوافر والعلاقات العامة، ومراجعة أهم مميزات وعيوب اللوائح الداخلية المنظمة للعمل داخل المؤسسة الإفتائية، ومدى صلاحية نظام المعلومات، ومدى تطابق تلك العناصر مجتمعة مع رسالة المؤسسة الإفتائية وأهدافها، حتى يمكن تأسيس خطة عمل استراتيجية واضحة تتناسب مع تطورات سوق العمل والأهداف التي ترغب المؤسسة في تحقيقها بما يخدم العملاء وأصحاب الأعمال.

على أن تتم عملية التخطيط الاستراتيجي وفق إطار زمني محدد، يشمل فلسفة المؤسسة الإفتائية نحو نفسها ونحو كافة الأطراف التي تتعامل معها، بما يمكِّنُها من الوصول إلى أفضل مستويات الأداء والإشباع لرغبات العملاء المستفتين، بشكل يلبي ويضمن استمرارية المؤسسة الإفتائية في تقديم المزيد من الخدمات الإفتائية، والحفاظ على مستويات الأداء المهني فيها على أعلى مستوى يعبر عن الإطار الفكري العام الذي يحكم المؤسسة الإفتائية ويوفر لها مقومات النجاح.

ولعلنا نلحظ أن في التخطيط الاستراتيجي معنى حسن التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، والسعي إلى تحقيق تواصل أكثر فعالية في مجتمعات تتوق للعالم الواعي والجامع بين أدوات واقعه وعصره، وقادر في الوقت نفسه على مواكبة علمه وتراث دينه مع تلك المستجدات المتسارعة التي لن تنتطرنا طويلاً.

٢) التخطيط التكتيكي «متوسط الأمد»:

يركز التخطيط التكتيكي على تنفيذ الأنشطة المحددة في الخطط الاستراتيجية. وهذه الخطط تهتم بما يجب أن تقوم به كل وحدة من المستوى الأدنى، وكيفية القيام به، ومن سيكون مسئولاً عن إنجازه. والمدى الزمني لهذه الخطط أقصر من مدى الخطط الاستراتيجية، كما أنها تركز على الأنشطة القريبة التي يجب إنجازها لتحقيق الاستراتيجيات العامة للمؤسسة. أي أن التخطيط التكتيكي هو تخطيط لأجزاء محددة من الخطة الاستراتيجية الشاملة.

٣) التخطيط التنفيذي «قصير الأمد»:

يستخدم المدير التخطيط التنفيذي لإنجاز مهام ومسئوليات عمله. ويمكن أن تستخدم مرة واحدة أو عدة مرات. والخطط ذات الاستخدام الواحد تطبق على الأنشطة التي تتكرر؛ مثل: خطة الموازنة.

وفيما يلي نذكر خطوات إعداد الخطط التنفيذية:

  • الخطوة الأولى:وضع الأهداف: تحديد الأهداف المستقبلية.
  • الخطوة الثانية:تحليل وتقييم البيئة: تحليل الوضع الحالي والموارد المتوفرة لتحقيق الأهداف.
  • الخطوة الثالثة:تحديد البدائل: بناء قائمة من الاحتمالات لسير الأنشطة التي ستقود تجاه الأهداف المحددة.
  • الخطوة الرابعة: تقييم البدائل: عمل قائمة بناءً على المزايا والعيوب لكل احتمال من احتمالات سير الأنشطة.
  • الخطوة الخامسة: اختيار الحل الأمثل: اختيار الاحتمال صاحب أعلى مزايا وأقل عيوب فعلية.
  • الخطوة السادسة:تنفيذ الخطة: تحديد من سيتكفل بالتنفيذ، وما هي الموارد المعطاة له، وكيف ستقيم الخطة، وتعليمات إعداد التقارير.
  • الخطوة السابعة: مراقبة وتقييم النتائج: التأكد من أن الخطة تسير وفق ما هو متوقع لها وإجراء التعديلات اللازمة لها عند الاحتياج.

الوظيفة الثانية: التنظيم:

يعرف التنظيم بأنه: «عملية تجميع المهام اللازمة لتحقيق أهداف المؤسسة، وإسناد مهمة الإشراف على كل مجموعة لشخص تمنح له السلطات الإشرافية اللازمة، مع مراعاة التقسيمات الرأسية والأفقية اللازمة لإتمام البناء الهيكلي». فالتنظيم يقوم بدمج الموارد البشرية والمادية من خلال هيكل رسمي يبين المهام والسلطات، ويبين العلاقات بين تلك المهام والسلطات داخل المؤسسة.

وغاية وهدف عملية التنظيم في المؤسسة: أن تعمل كل الوحدات التي تتألف منها المؤسسة بتآلف لتنفيذ المهام لتحقيق الأهداف بكفاءة وفاعلية.

والتنظيم عملية إدارية مستمر تلازم عمل الإدارة ولا تنتهي عند حد معين، طالما أن أهداف المؤسسة تتغير وفقًا لبيئتها الخارجية، ولذا فلا بد من إحداث غير يتلاءم مع ذلك في البناء التنظيمي للمؤسسة. فعلى سبيل المثال: قرار المؤسسة الإفتائية بتقديم خدمات خاصة جديدة للمستفتين مثل الفتوى الهاتفية، فإن ذلك يتطلب إنشاء وحدة متخصصة في الفتوى الهاتفية وتزويدها بمتصدري الإفتاء ذوي الخبرة والمهارة في التعامل مع هذا النوع من الفتاوى. وفي المقابل فإن قلة الطلب على خدمة إفتائية معينة مثل الفتوى الإلكترونية مثلاً، قد يدفع المؤسسة الإفتائية إلى الاستغناء أو دمج تلك الوحدة مع وحدة أخرى تشابهها. فالمؤسسة التي لا تُحدث التغيير التنظيمي اللازم والذي تُمليه الظروف قد تجد صعوبة بالغة في تحقيق أهدافها، وقد يكون ذلك سببًا في تلاشي دورها وزوالها الكلية؛ لأنها ستصبح مؤسسة بلا هدف أو قيمة.

وتتجلى أهمية العملية التنظيمية داخل المؤسسة في الأمور التالية:

١) توضيح بيئة العمل: فكل شخص يجب أن يعلم ماذا يفعل. فالمهام والمسئوليات المكلف بها كل فرد، وإدارة، والتقسيم التنظيمي العام يجب أن يكون واضحًا، ونوعية وحدود السلطات يجب أن تكون محددة.

٢) تنسيق بيئة العمل: فالفوضى يجب أن تكون في أدنى مستوياتها، ويجب العمل على إزالة العقبات. كما أن التوجيهات بخصوص التفاعل بين الموظفين يجب أن تعرَّف.

٣) بناء الهيكل الرسمي لاتخاذ القرارات: فالعلاقات الرسمية بين الرئيس والمرؤوس يجب أن تُطور من خلال الهيكل التنظيمي، وهذا يتيح انتقال الأوامر بشكل مرتب عبر مستويات اتخاذ القرارات.

٤) تحسين إمكانية إنجاز وظائف العمل.

وفي عملية التنظيم يتم اتخاذ خطوات محددة لذلك؛ وهي:

الخطوة الأولى: احترام الخطط والأهداف:

فالخطط تُحدد للمؤسسة الغاية والأنشطة التي يجب أن تسعى لإنجازها. ومن الممكن إنشاء إدارات جديدة، أو إعطاء مسئوليات جديدة لبعض الإدارات القديمة، كما يمكن إلغاء بعض الإدارات، وقد تنشأ علاقات جديدة بين مستويات اتخاذ القرارات. فالتنظيم ينشئ الهيكل الجديد للعلاقات، ويقيِّد العلاقات المعمول فعليًّا داخل المؤسسة.

وتتجلى أهداف المؤسسة الإفتائية في تقديم خدمات إفتائية تتفق وتعاليم الإسلام، مع مراعاة ظروف الأمة المسلمة الراهنة ومحيطها العالمي.

الخطوة الثانية: تحديد الأنشطة الضرورية لإنجاز الأهداف:

حيث يجب إعداد قائمة بالمهام الواجب إنجازها ابتداء بالأعمال المستمرة التي تتكرر عدة مرات، وانتهاء بالمهام التي تُنجز لمرة واحدة.

وتتمثل أنشطة المؤسسة الإفتائية في: الفتوى الشفهية، والفتوى المرئية المباشرة، والفتوى المرئية المسجلة، والفتوى المسموعة المباشرة، والفتوى المسموعة المسجلة، والفتوى المكتوبة «الموثقة»، والفتوى البحثية، وفتوى المواقع الإلكترونية، وفتوى وسائل التواصل الاجتماعي، وما يتصل بذلك من بحث فقهي وأصولي وحديثي.

الخطوة الثالثة: تصنيف الأنشطة:

حيث يكون المديرون مطالبين بإنجاز ثلاث عمليات:

١- فحص كل نشاط تم تحديده لمعرفة طبيعته «تسويق، إنتاج… إلخ».

٢- وضع الأنشطة في مجموعات، بناءً على هذه العلاقات.

٣- البدء في تصميم الأجزاء الأساسية من الهيكل التنظيمي.

وفي المؤسسة الإفتائية يتمثل ذلك في تقسيم الموارد البشرية داخل المؤسسة إلى أمناء فتوى، ومتصدري الفتوى، والباحثين، بالإضافة إلى التقسيمات الإدارية الأخرى؛ كالإداريين والمهندسيين والفنيين… إلخ.

الخطوة الرابعة: تفويض العمل والسلطات:

إن تفويض السلطة في نشاط المؤسسات يشكل عاملاً أساسيًّا في تفعيل الأداء الوظيفي والمؤسسي على حد سواء، من خلال تطبيق مبدأ «التكافؤ بين السلطة والمسئولية» كأسلوب فعال تستخدمه الإدارة في ممارستها لوظائفها، وتحقيقها لأهدافها على نحو أفضل. فالتفويض يتضمن في معناه مسئولية ثنائية، والشخص المفوَّض إليه مسئولية يصبح مسئولاً أمام من فوضها إليه عند مباشرة الاختصاص الذي فُوِّض فيه، ومع ذلك يبقى الرئيس مسئولاً عن العمل الذي فوضه وعن نتائجه. وهذه الخطوة مهمة في بداية وأثناء العملية التنظيمية.

فمتصدر الفتوى الشفهية مسئول أمام أمين الفتوى الشفهية، وأمين الفتوى الشفهية مسئول أمام رئيس هيئة الإفتاء.

الخطوة الخامسة: تصميم مستويات العلاقات:

هذه الخطوة تحدد العلاقات الرأسية والأفقية في المؤسسة ككل. فالهيكل الأفقي يبين من هو المسئول عن كل مهمة، أما الهيكل الرأسي فيقوم بالتالي:

١- يعرِّف علاقات العمل بين الإدارات العاملة.

٢- يجعل القرار النهائي تحت السيطرة. فعدد المرؤوسين تحت كل مدير واضح.

وتُعد العناصر التالية من أهم المحددات المؤثرة في الهيكل التنظيمي للمؤسسة الإفتائية:

أولاً: حجم المؤسسة الإفتائية:

ينعكس حجم المؤسسة على حجم الهيكل التنظيمي؛ فكلما كانت المؤسسة صغيرة كان هيكلها التنظيمي صغيرًا بحيث تمارس الوحدة التنظيمية فيها عدة مهام؛ فعلى المستوى العلمي مثلًا تحتوي المؤسسة الصغيرة على وحدة تنظيمية واحدة للإفتاء المباشر والهاتفي وأخرى للإفتاء عبر البريد الإلكتروني والموقع الإلكتروني وصفحات التواصل الاجتماعي، في حين تحتوي المؤسسة الكبيرة على وحدة تنظيمية لكل واحدة من هذه الأنشطة، وكذا يُقال في الإفتاء في الأبواب الفقهية مجموعة أو مفصلة.

ثانيًا: التقنية:

تُعد التقنية أحد المتغيرات الهيكلية لأنها تؤثر وبشكل مباشر ومستمر في علاقات الأفراد بالمؤسسة الإفتائية، وأيضًا تؤثر على الاتصال بينهم وعلى المستويات الإدارية وعلى الأداء والإنجاز وغيرها؛ ومثال ذلك أن المؤسسات الإفتائية التي تعتمد الأجهزة والبرامج الحاسوبية يختلف هيكلها التنظيمي عن غيرها من المؤسسات التي لم تدخلها هذه الآليات بعد من حيث تواجد إدارات أو أقسام للإفتاء الإلكتروني وموقع شبكة المعلومات ونحو ذلك، والمؤسسات التي لا تزال تعتمد المراسلات الورقية تتطلب إيجاد أقسام لحفظ الملفات ونحو ذلك.

ثالثًا: الموارد البشرية:

فهي تؤثر في الهيكل التنظيمي من حيث وجود عدة مهام في الوحدة التنظيمية أو إفرادها في وحدات عدة بحسب قدرات العاملين؛ ويظهر ذلك واضحًا في القدرات العلمية للمتصدرين للإفتاء.

رابعًا: بيئة المؤسسة الإفتائية:

حيث إن للبيئة دورًا رئيسيًّا في تحديد شكل ونوع الهيكل التنظيمي في المؤسسة؛ فالمؤسسات والهيئات الإفتائية العاملة في البلدان الإسلامية تختلف عن غيرها مما يعمل في البلدان غير الإسلامية؛ فالمؤسسة لابد من أن تتفاعل مع بيئتها وتتكيف معها، ولابد للهيكل من التكيُّف والتعامل مع البيئة الداخلية والخارجية للمؤسسة على السواء.

خامسًا: نطاق المؤسسة الإفتائية:

فالمؤسسات التي يتعدى عملها عدة مواقع جغرافية تختلف في هيكلها التنظيمي عن التي لا تتعدى موقعًا واحدًا.

سادسًا: السياسة العامة المؤسسة الإفتائية:

فالمؤسسات التي تقتصر سياستها على تقديم الخدمة الإفتائية المباشرة تختلف عن التي تتعدى إلى غيرها من الخدمات الإلكترونية والبحث الإفتائي والنشر التوعوي ونحو ذلك، والمؤسسة التي تقتضي منهجها العام الإفتاء طبقًا لمذهب فقهي محدد يختلف هيكلها عن التي تُفتي تخيُّرًا من سائر المذاهب الفقهية.

وتستند عملية تصميم أو تطوير الهيكل التنظيمي للمؤسسات الإفتائية على أسس تنظيمية رئيسية تعد مرتكزات لاتخاذ القرار بشأن الخيارات التنظيمية المتعددة في المؤسسة، وهي:

  • أولاً: تجميع الوظائف المتشابهة، ويقصد به تجميع الأعمال والنشاطات المتشابهة تحت تقسيم تنظيمي مستقل؛ أي: تحت سقف إداري واحد من أجل تحديد المهارات البشرية المطلوبة لكل مجموعة من هذه الوظائف. مثاله: تخصص شرعي، تخصص إداري، تخصص قانوني، تخصص مالي… إلخ.
  • ثانيًا:التركيز على التخصص الشرعي، وذلك بتحديد مستويات التنظيمية (إدارة، قسم، وحدة)؛ مثال ذلك: (الإدارة العلمية، قسم الإفتاء، وحدة الإفتاء الهاتفي)، ونحو: (الإدارة العلمية، قسم الأبحاث الإفتائية…. أو: قسم المعتمدات…)، وهكذا.
  • ثالثًا:التكامل والتجانس، وذلك بضم الأعمال والأنشطة المتجانسة والمتكاملة في تقسيم تنظيمي واحد بما يحقق الفعالية في الأداء وزيادة التنسيق وتدفق المعلومات بشكل سهل وواضح لإتمام المهام وتحقيق الأهداف.
  • رابعًا: نطاق الإشراف، ويقصد به عدد الموظفين الواقعين ضمن مسئولية مدير واحد من حيث توزيع العمل ومراقبة الأداء، والرأي الشائع هو أن العدد الأمثل يتمثل بخمسة إلى ثمانية أشخاص.

وكلما زاد عدد المرؤوسين زاد عبء العمل والإشراف الواقع على المدير؛ مما يقلل من فعالية الإشراف والتوجيه والتنسيق بين الجهود.

وفي حالة زيادة العدد المطلوب في إدارة بعينها؛ كأن تزيد عدد الأسئلة الواردة للإفتاء المسموع مثلًا؛ فإنه ينبغي تقسيم المتصدرين للإفتاء إلى مجموعتي عمل أو أكثر بتقسيم التخصصات إن أمكن؛ كإفراد قسم للإفتاء الهاتفي المباشر وآخر للمسجَّل، أو بتقسيمهم إلى مجموعتي عمل على رأس كل مجموعة رئيس.

  • خامسًا: التسلسل الإداري، وهو خط السلطة الثابت الذي يربط جميع الموظفين في تقسيم تنظيمي معين ويعمل على تحديد التبعية الإدارية وآلية رفع مخرجات العمل والتقارير.

وكلما قل عدد المستويات الإدارية ازدادت سهولة عملية الاتصال بين المستويات الإدارية ومعرفة معوقات العمل وحل جميع مشاكلها مما يؤدي إلى رفع فعالية الهيكل.

  • سادسًا:الرقابة الفاعلة، ويقصد بها تجنب تضارب المصالح بمراعاة فصل الأنشطة الرقابية عن الأنشطة التنفيذية لتحقيق أفضل النتائج، ومثال ذلك: عدم تبعية نشاط مراجعة البحوث الإفتائية لإدارة الشئون العلمية؛ بل تكون تابعة لرئيس هيئة الإفتاء مباشرة.
  • سابعًا:وحدة الأمر، ويقصد به ألا يتلقى المرؤوس أوامره إلا من رئيس واحد فقط في الموضوع ذاته وألا تتم محاسبته من قِبل أكثر من شخص، وهذا في غير المتصدرين للإفتاء والباحثين؛ حيث إنه من المفضَّل أن تكون لكل منهم تبعية إدارية وتبعية علمية في الوقت نفسه؛ بحيث تختص الرئاسة العلمية بكيفية الإفتاء والبحث وإجراء المتابعة العلمية وتختص الرئاسة الإدارية بالموافقة على الإجازات ومراقبة الحضور والغياب ونحو ذلك مما يتطلب وقتًا من الأولى للرئاسة العلمية بذله في المراجعات العلمية والتدريب والتعليم.

ولكي يحقق الهيكل التنظيمي للمؤسسة الإفتائية الكفاءة والفاعلية فإنه لابد من اتسامه بالخصائص الآتية:

  • أولاً: المرونة: أي:الاستجابة للتغيرات في حجم العمل ومستوى المسئولية والصلاحية اللازمة لتنفيذ الأعمال وضرورة توفر المرونة والانسيابية في الهيكل بما يحقق سهولة الإجراءات وانسيابها وإمكانية إضافة وظائف أو وحدات تنظيمية في المستقبل والتكيُّف السريع مع الظروف والمتغيرات.
  • ثانيًا: الاتصال الداخلي الفعال:إن الاتصال الفعال هو الفعل الذي يحقق أقصى درجات التواصل باستثمار كافة إمكانيات الإلقاء والتلقي باستخدام الوسائل والوسائط المناسبة في المؤسسة الإفتائية من أجل تحقيق فهم مشترك؛ وبخاصة فهم المنهج العام للإفتاء واستيعاب معتمدات الفتوى.
  • ثالثًا: التوازن التنظيمي:ويتمثل هذا المبدأ في تحقيق التوازن في الهيكل التنظيمي من حيث حجم ونوع وعدد تبعية الوحدات التنظيمية؛ إذ لا يُعقل أن تتبع ثمانية إدارات لقطاع معين وإدارتين لقطاع آخر، ولا يُعقل أن تكون الوحدات التنظيمية المساندة والمعاونة للعملية الإفتائية أكثر من الوحدات الإفتائية أو عدد الوظائف أو الموظفين العاملين في النشاطات المعاونة أكثر من المتصدرين للإفتاء والباحثين.

ولابد من التنويه إلى أن تطوير الهيكل التنظيمي للمؤسسة الإفتائية هو عملية متكاملة تشمل المؤسسة ككل من خلال تخطيط محكم يستهدف رفع الكفاءة للعاملين عامة والمتصدرين للإفتاء والباحثين بصفة خاصة، ويعتبر الهيكل التنظيمي إحدى أطراف هذه العملية.

الوظيفة الثالثة: التوظيف:

يعرف التوظيف بأنه: «استقطاب الأفراد الذين لديهم الكفاءة والتميُّز والقدرة على المساهمة في تحقيق أهداف المؤسسة». وبعبارة أخرى: «تكوين وتنمية الكفاءات».

فالأفراد المنتمون إلى المؤسسة هم المورد الأكثر أهمية من جميع الموارد الأخرى. وهذه الموارد البشرية حصلت عليها المؤسسة من خلال التوظيف، والمؤسسة مطالبة بتحديد وجذب الموظفين، والمحافظة على المؤهلين منهم لملء المواقع الشاغرة فيها من خلال التوظيف، ويندرج جميع ذلك تحت ما يسمى بـ«إدارة الموارد البشرية».

ويعد التوظيف في المؤسسات الإفتائية من الأهمية بمكان؛ لأنه في المقام الأول مسئولية أمام الله في اختيار من يبلغ رسالته للبشرية جمعاء، والتوقيع عن رب العالمين كما نص على ذلك أئمتنا المتقدمون. فلابد من انتقاء الكفاءات الحقيقية التي تصلح لحمل تلك الأمانة الكبرى والقيام بتلك المسئولية الخطيرة(1).

الوظيفة الرابعة: القيادة:

تعرف القيادة بأنها: «التأثير على الآخرين لتوجيه جهودهم لتحقيق أهداف الجماعة». فالقيادة فيها إرشاد وتوجيه للمرؤوسين أثناء تنفيذهم للأعمال؛ بغية تحقيق أهداف المؤسسة؛ لضمان سلامة تطبيق الخطط المرسومة وحسن استخدام العلاقات التنظيمية».

بمجرد الانتهاء من صياغة خطط المؤسسة وبناء هيكلها التنظيمي وتوظيف العاملين فيها، تكون الخطوة التالية في العملية الإدارية هي قيادة الأفراد باتجاه تحقيق الأهداف التنظيمية. وفي هذه الوظيفة الإدارية يكون من واجب المدير تحقيق أهداف المؤسسة من خلال إرشاد المرؤوسين وتحفيزهم.

ووظيفة القيادة يشار إليها أحيانا على أنها «التحفيز»، أو «التوجيه»، أو «الإرشاد»، أو «العلاقات الإنسانية». ويعتبر التوجيه الوظيفي «القيادة» العملية الأكثر أهمية للمستوى الإداري الأدنى؛ لأنه ببساطة مكان تركز معظم العاملين في المؤسسة. وإذا أراد أي شخص أن يكون مشرفًا أو مديرًا فعالاً، فعليه أن يكون قياديًّا فعالاً، فحسن مقدرته على توجيه الناس تبرهن مدى فعاليته.

وينبغي على المدير القائد الموجِّه للآخرين مراعاة ما يلي:

      • معرفة جميع الحقائق عن الحالة التي تتم فيها القيادة.
      • التفكير في الأثر الناجم عن القرار على المهمة.
      • الأخذ بعين الاعتبار العنصر البشري عند اتخاذ للقرار.
      • التأكد من أن القرار المتخَذ هو القرار السليم.
      • جعل الأوامر واضحة ومختصرة.
      • متابعة كل شخص تم تفويضه، وإعطاء أوامر محددة سواء كانت كتابية أو شفوية.

كما ينبغي مراعاة الأمور التالية في عملية القيادة نفسها:

١) عدم جعل القيادة نزاعًا من أجل السلطة، ومحاولة التركيز على الأهداف الواجب تحقيقها، دون الدخول في صراعات تنظيمية.

٢) عدم اللجوء إلى الأساليب الخشنة عند قيادة الأفراد العاملين.

٣) عدم افتراض أن الموظفين قد فهموا كل شيء، وإعطاؤهم الفرصة لطرح الأسئلة ومناقشة الأهداف؛ للتأكد من فهمهم وجعلهم يكررون ما تم طرحه.

٤) التأكد من الحصول على «التغذية الراجعة»(2) بالطريقة الصحيحة، وإعطاء الموظفين الذين يريدون الاعتراض على المهام الفرصة لعمل ذلك في الوقت الذي يتم فيه تفويضهم بالمهام؛ معرفة المعارضة والسيطرة سوء الفهم قبل بدء العمل أفضل من الانتظار لما بعد.

٥) عدم إعطاء كثير من الأوامر، فالمعلومات الزائدة عن الحد تعتبر مثبطًا للعاملين، والأفضل جعل التعليمات مختصرة ومباشرة.

٦) الانتباه إلى التعليمات المتضاربة بين الإدارة العليا والإدارتين الوسطى والدنيا، والتأكد من عدم القول للموظفين أمرًا ما، بينما المشرفون في الإدارات الأخرى يقولون ما يعارض ذلك.

٧) عدم تحميل الفرد العامل أكثر من طاقته.

٨) عدم التمييز بين الموظفين.

٩) اقتراب المديرين من الموظفين وجعل العلاقة معهم علاقة طيبة دون استعلاء أو استغلال للسلطة.

وقائد المؤسسة الإفتائية هو رئيس هيئة الإفتاء، وقد يكون فردًا أو مجلسًا يضم أفرادًا يمثلون قيادة المؤسسة الإفتائية.

الوظيفة الخامسة: الرقابة:

تعرف الرقابة بأنها: «الإشراف على أداء العمل داخل المؤسسة من حيث دقة تنفيذه طبقًا لما هو مخطط له، ومدى تحقيقه لأهداف المؤسسة، من خلال قياس نتائج أعمال الأفراد العاملين لمعرفة أماكن الانحرافات وتصحيح أخطائهم؛ بغرض التأكد من تنفيذ الخطط المرسومة وتحقيق الأهداف الموضوعة».

فيجب متابعة ورقابة العمليات الإدارية السابقة من «تخطيط، وتنظيم، وتوظيف، وقيادة»؛ للحفاظ على كفاءتها وفاعليتها. لذلك فالرقابة آخر الوظائف الخمسة للإدارة، وهي المعنية بالفعل بمتابعة كل هذه الوظائف؛ لتقييم أداء المؤسسة تجاه تحقيق أهدافها.

وفي الوظيفة الرقابية للإدارة، يتم إنشاء معايير الأداء التي تستخدم لقياس التقدم نحو الأهداف. ومقاييس الأداء هذه صُمِّمت لتحديد ما إذا كان الأفراد والإدارات المتنوعة داخل المؤسسة على المسار الصحيح في طريقهم نحو الأهداف المخطط تحقيقها أم لا.

ولعملية الرقابية أربعة الخطوات الأساسية؛ هي:

١) إعداد معايير الأداء:

  • المعيار: هو أداة قياس «كمية أو نوعية»، صُمِّمت لمساعدة مراقب أداء الناس والسلع أو العمليات.

وتستخدم المعايير لتحديد التقدم أو التأخر عن أهداف المؤسسة. وطبيعة المعيار المستخدم يعتمد على الأمر المراد متابعته. وأيًّا كانت المعايير، فإنه يمكن تصنيفها جميعا إلى مجموعتين: معايير الإدارية، والمعايير تقنية:

أ. المعايير الإدارية: تتضمن عدة أشياء؛ كالتقارير واللوائح وتقييمات الأداء. وينبغي أن تركز على: المساحات الأساسية ونوع الأداء المطلوب لبلوغ الأهداف المحددة. وتعبر المقاييس الإدارية عن من، متى، ولماذا العمل؟

ب. المعايير التقنية: يحدد ماهية وكيفية العمل. وهي تطبق على طرق الإنتاج، والعمليات، والمواد، والآلات، ومعدات السلامة، والمورِّدين. ويمكن أن تأتي المعايير التقنية من مصادر داخلية أو خارجية، مثل معايير السلامة الواردة من خلال لوائح حكومية أو مواصفات المصنعين لمعداتهم.

٢) متابعة الأداء الفعلي:

وهذه الخطوة تعتبر مقياس وقائي، وهي تعنى ملاحقة التنفيذ وتحديد درجة النجاح أو الفشل فيه خطوة بخطوة، والتنبؤ باحتمالات الانحراف عن الخطة المحددة، ومن ثم العمل على تلافيها قبل حدوثها.

وتقوم عملية المتابعة على الأسس التالية:

أ. الوقت.

ب. أدوات القياس.

ج. المهارات الإحصائية. ومن أمثلة التحليل الإحصائي:

  • تحليل الانحراف عن المعدلات المحددة.
  • تحليل التباين بين قيم الأداء في أوقات مختلفة.
  • تحليل الارتباط بين النتائج المحققة وبين العديد من الظواهر الداخلية أو الخارجية.

٣) قياس الأداء:

وفي هذه الخطوة يقيس المديرون الأداء، ويحددون إن كان يتناسب مع المعايير المحددة أم لا. وإذا كانت نتائج المقارنة أو القياسات مقبولة -خلال الحدود المفترضة-، فلا حاجة حينئذ لاتخاذ أي إجراء. إما إن كانت النتائج بعيدة عما هو متوقع أو غير مقبولة، فيجب اتخاذ الإجراء اللازم.

٤) تصحيح الانحرافات عن المعايير:

تحديد الإجراء الصحيح الواجب اتخاذه يعتمد على ثلاثة أشياء: المعيار، ودقة القياسات التي بَيَّنت وجود الانحراف، وتحليل أداء الشخص أو الآلة لمعرفة سبب الانحراف. مع الوضع في الاعتبار أن تلك المعايير قد تكون متساهلة جدًّا أو صارمة جدًّا، والقياسات قد تكون غير دقيقة بسبب رداءة استخدام آلات القياس أو بسبب وجود عيوب في الآلات نفسها. ومن الممكن أن تصدر عن الناس أحكام غير دقيقة عند تحديد الإجراءات التقويمية الواجب اتخاذها.

والرقابة هنا هي «الرقابة الرئاسية أو الإدارية»(3). وهذا النوع من الرقابة حسب التدرُّج الرئاسي، قال تعالى: {ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ} [الزخرف/٣٢].

وقد كان النبي  يراقب ولاته وعمَّاله، رغم أن صحابته الكرام  من المشهود لهم بالرقابة الذاتية، فهم يخافون الله في السر والعلانية، إلا أن الإنسان مخلوق ضعيف، ليس معصومًا من الخطأ.

فالرقابة من أسس العمل الناجح، الذي تنبني عليه قيمة هذا العمل ومدى إمكانية تحقيقه للنتائج المرجوَّة منه، ولقد اهتمَّت الرؤية الإسلامية بهذا الأمر، وأوْلَته ما يستحقُّ من عنايةٍ واهتمامٍ.

إن المسلم ينشأ على اعتقاد أن الله  يراقبه ويطَّلع على دقائق أعماله، فلا يكون في كونه  إلا ما أراد، وأن كلَّ ما في الكون بحسابٍ وتقديرٍ، وليس فيه شيءٌ خلقه الله سبحانه زائدًا لا فائدة منه أو مفتقرًا إلى استكمال؛ فينشأ المؤمن الذي في ذهنه هذا التصور على منهجٍ يدفعه إلى إتقان العمل، ومحاسبة نفسه على مقدار أهميته وأولويته قبل أن يحاسبَه غيرُه عليه، وهذا التصور أيضًا يرسِّخ من قيمة المحاسبة والرقابة وتقييم العمل. قال تعالى: {ﮂ ﮃ ﮄ} [الرحمن/٥]. وبيَّنَ  أن أعمالنا نُجازى عليها وأنه  بصيرٌ بنا وبما نعمل؛ فقال تعالى: { ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ} [البقرة/١١٠]، وقال أيضًا: { ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ } [النساء/١]. وأخبرنا  أنه يطلع على أعمالنا، وتُعرض على الرسول ﷺ والمؤمنين، وفي النهاية سنحاسب على هذه الأعمال: { ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ} [التوبة/١٠٥].

والنبي ﷺ وجَّهَ المسلمين إلى العناية بأمر العمل وأدائه بأمانة، وأن كلَّ أحدٍ مسئولٌ عمَّن له سلطة عليهم، فقال ﷺ: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته» متفق عليه.

وكان من هديه ﷺ أن يُحاسب مَن يُكَلِّفهم بعملٍ ما؛ فعن أبي حميدٍ الساعدي  قال: استعمل رسول الله ﷺ رجلاً على صدقات بني سُلَيْم يُدعى ابن اللُّتَبِيَّة، فلما جاء حاسبه قال: هذا مالكم وهذا هدية. فقال رسول الله ﷺ: «فهلاَّ جلستَ في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتُك إن كنتَ صادقًا». ثم خطبنا: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أُهديت لي. أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيَه هديتُه. والله لا يأخذ أحدٌ منكم شيئًا بغير حقه، إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر». ثم رفع يده حتى رُئِي بياض إِبْطِه يقول: «اللهم هل بَلَّغْتُ بَصْرَ عيني وسَمْعَ أذني». متفق عليه.

وكذلك كان نهج الخلفاء الراشدين  بعد النبي ﷺ؛ فإنهم تمسَّكوا بأمر الرقابة والمحاسبة حتى لو أدَّى ذلك إلى إغضاب من تتم محاسبتُهم. فحين قدم معاذٌ  من اليمن بعد وفاة النبيِّ ﷺ على أبي بكر  فقال له: «ارفع حسابك». فقال: «أحسابان: حسابٌ من الله، وحسابٌ منكم؟ والله لا ألي لكم عملاً أبدًا».

وكان من سيرة عمر بن الخطاب  أنه كان يأخذ عماله بموافاته كل سنة في موسم الحج ليحجزهم بذلك عن الرعية، ويحجر عليهم الظلم، ويتعرَّف أحوالهم في قُرْبٍ، وليكون للرعية وقت معلوم يُنهون إليه شكاويهم فيه.

وكانت هناك وظيفة تُسمَّى «المحتسب»، وكان من يتولاها يمُرُّ بالأسواق ليتأكَّدَ من التزام التجار بضبط الموازين وعدم الغش، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

ولذلك فعلى المؤسسات الإفتائية تفعيل تلك المفاهيم الرقابية وترسيخ مفاهيمها في كافة مستوياتها الإدارية؛ تطبيقًا لهذا المفهوم الإسلامي الأصيل.

1 هذه الوظيفة هي محور هذا الكتاب، وتفصيلها في الباب الثاني.

2 «التغذية الراجعة»: «هي مجموعة معلومات يتلقاها الفرد العامل في المؤسسة عن أدائه ونتائجه، بحيث توضِّح له الأخطاء التي وقع فيها، ومقدار تقدمه، ومقدار ما تعلمه، ومدى ملائمة أدائه للهدف الذي ينبغي الوصول إليه».

3 وهي تختلف عن «الرقابة الربانية الإلهية» التي يراقب الله فيها عباده، وعن «الرقابة الذاتية» التي يراقب فيها الإنسان نفسه وأعماله ويحاسبها على ذلك.

اترك تعليقاً