البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثالث تاريخ تطور إدارة الموارد البشرية

56 views

مرت إدارة الموارد البشرية بأدوار تاريخية مختلفة إلى أن وصلت إلى مفهومها الحديث الحالي. وتعد الثورة الصناعية بمثابة المغير الجذري لتحويل دفة الاقتصاد من الزراعة والحرف اليدوية إلى الصناعة، فقد بدأت هذه الثورة في بريطانيا في القرن الثامن عشر، ومنها انتشرت في مختلف أرجاء العالم، وبذلك تم تأسيس المصانع الكبيرة؛ وترتب عليه: زيادة الطلب على القوى العاملة بشكل ملحوظ، فقامت المصانع بتوظيف آلاف العمال.

ومع بداية التوسع الصناعي في العصر الحديث، ظهرت تنظيمات عمالية، فدعت الحاجة آنذاك إلى وجود إدارة متخصصة للموارد البشرية؛ لرعاية شئون الأفراد في تلك المنشآت، حيث بدأت تظهر مشاكل بين الإدارة والموارد البشرية، فدعت الحاجة إلى وجود إدارة خاصة لرعاية وحل مشكلات الأفراد في كل منشأة، وأدى ذلك إلى ظهور الحاجة لوجود متخصصين في مجال الموارد البشرية، وبذلك تمت زيادة التدخل الحكومي لحماية حقوق العمال وسن تشريعات السلامة في العمل، وظهور نقابات عمالية تدافع عن حقوق الموارد البشرية.

وفي بداية القرن العشرين قويت المنظمات العمالية وحاولت زيادة أجور العمال وخفض ساعات العمل. وتم اتباع أساليب جديدة لاختيار الموظفين قبل توظيفهم للقيام بتوظيف المناسبين وتعيينهم في الأماكن المناسبة، وتبع ذلك تطور الإدارة العلمية فأنشأت معظم المؤسسات إدارة شئون العاملين، فكان لدى هذه الإدارة مسئوليات كبيرة كتدريب العاملين، وتوفير الرعاية الصحية لهم، والأمن الصناعي. وتلك كانت أولى الطلائع التي ساهمت في تكوين الموارد البشرية بمفهومها الحديث.

وعندما بدأت موجة العولمة الجديدة في سبعينيات القرن العشرين، تحولت إدارات شئون العاملين إلى إدارات للموارد البشرية. وبذلك تغير دور إدارة الموارد البشرية بشكل جذري، فباتت إدارة الموارد البشرية تضع خططًا تطويرية للمؤسسات ذات ميزة تنافسية وتجهيزها للأهداف المستقبلية.

وسوف نفصل تاريخ نشأة وتطور إدارة الموارد البشرية من خلال المباحث الخمسة التالية:

  • المبحث الأول: ظهور الثورة الصناعية.
  • المبحث الثاني: الإدارة العلمية.
  • المبحث الثالث: حركة العلاقات الإنسانية.
  • المبحث الرابع: ظهور إدارة الموارد البشرية.
  • المبحث الخامس: تطور إدارة الموارد البشرية حتى الآن.

المبحث الأول

ظهور الثورة الصناعية

إن المتعمق في تاريخ الفكر الإداري يُرجع جذوره إلى الحضارات القديمة، وفيها يجد بعض الملامح لتطبيقات الإدارة بشكل عام وإدارة الموارد البشرية بشكل خاص. فوراء تلك الإبداعات والإنجازات الحضارية الكبيرة في العالم إدارة تُخطط وتُوجه وتقود وتحفز وتدفع باتجاه الإنتاج الجيد والكفء، وأثمرت في بناء حضارات عريقة قائمة على أساس تنظيم وتعبئة الجهد البشري باتجاه أهداف كانت تعتبرها تلك الحضارات مهمة في بناء مجتمعاتها آنذاك.

وبالرغم من شيوع استخدام بعض المبادئ الإدارية في تلك الفترة، إلا أن العملية الإدارية تركزت حول استخدام الأرض والموارد البشرية لتحقيق أهداف محددة هي الإنتاج الزراعي، علاوة على وضوح صفة الدمج بين الملكية والإدارة. لهذا كان القطاع الزراعي أحد أشكال الإدارة المستخدمة في حقل الزراعة؛ حيث كان المالك المدير هو الذي ينظم ويوجه وينسق ويقيِّم الأفراد العاملين في القطاعات الزراعية.

وتعد «الثورة الصناعية» نقطة فاصلة في تاريخ البشرية وتاريخ الإدارة أيضًا. فقد تميزت الفترة السابقة عليها بالاعتماد الكلي على الزراعة والتجارة والصيد والصناعات اليدوية غير المميكنة، ولم يكن لنشاط إدارة العنصر البشري اهتمام واضح، حيث إن التجمعات الزراعية أو لأغراض الصيد كانت تنشأ بشكل عفوي بعيدًا عن الإدارة المنظمة التي تستند إلى مبادئ واضحة أو أدلة عمل.

والثورة الصناعية هي: «عملية التغيير الجذري الذي عاشته أوربا وفي مقدمتها بريطانيا، حيث تحولت المجتمعات الزراعية إلى مجتمعات صناعية، ونشأت مدن صناعية جديدة، وتوسعت مدن أخرى بفعل الاختراعات ونظام العمل، وظهرت طبقات اجتماعية وقيم وتقاليد لم تكن معروفة من قبل».

وقد بدأت بواكير الثورة الصناعية في إنجلترا منذ الثلث الأخير من القرن الثامن عشر الذي بدأت فيه الاختراعات التي دخلت مرحلة الإنتاج في القرن التاسع عشر. وكانت الآلة البخارية أبرز تلك الاختراعات. وانتقلت الثورة الصناعية بعد ذلك إلى دول غرب أوروبا، ومن ثَمَّ إلى جميع أنحاء العالم. وقد كانت إنجلترا الدولة الأولى التي ظهرت فيها الثورة لعدة أسباب؛ منها: أنها كانت دولة قوية اقتصاديًّا، وتتميز بموقع جغرافي مهم جعلها منعزلة عن قارة أوربا ومستقرة من الناحيتين السياسية والاقتصادية.

وتنقسم الثورة الصناعية إلى أربع مراحل:

١) الثورة الصناعية الأولى (١٧٨٤م):

حيث اعتمدت على الطاقة البخارية، وهي تبدأ باختراع الآلة البخارية، حين بدأت ميكنة الإنتاج، وميكنة الانتقال بواسطة الطاقة البخارية.

٢) الثورة الصناعية الثانية (١٨٧٠م):

حيث اعتمدت على الطاقة الكهربائية، وفيها انتقل الإنتاج والاتصال والمواصلات إلى استخدام الطاقة الكهربائية، وقد أدت إلى طفرة كبيرة وتغير واضح في نمط حياة المجتمع الإنساني.

٣) الثورة الصناعية الثالثة (١٩٦٩م):

حيث اعتمدت على الحاسوب والإنترنت، وفيها دخلت الحواسيب في معظم مناحي التصنيع والاتصالات والتعليم، ولذلك تسمى بـ«ثورة المعلومات».

٤) الثورة الصناعية الرابعة:

وهي الثورة التي نعيشها اليوم، حيث اعتمدت على الذكاء الصناعي ولذلك فهي «الثورة الرقمية»، فظهرت الروبوتات، وأفكار تعليم الآلات، وتقنية النانو، كما ظهرت وسائل الاتصال الاجتماعي الافتراضي.

ولقد ساهمت الثورة الصناعية الأولى وما صاحبها من نهضة صناعية في بريطانيا وانتشارها في كلٍّ من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وما نتج عنها من إقامة مصانع كبيرة الحجم، ونمو القوى العاملة، وزيادة حجم الإنتاج الصناعي، وتعقُّد العلاقات الصناعية بين القوى العاملة الجديدة وإدارات المصانع، واحتدام المنافسة بين مختلف المؤسسات وغيرها من العوامل، في ظهور عدة أبحاث ودراسات إدارية تهدف إلى استنباط ووضع أساليب ونظم إدارية جديدة تنظم علاقات العمل داخل المؤسسة وتعمل على تحقيق كفاءة إنتاجية عالية.

وتعتبر الثورة الصناعة وانطلاق حركة التصنيع الضخم(1) نقطة بداية الأفكار الأولى الخاصة بإدارة الموارد البشرية، حيث إن الإحلال الواسع للآلة محل الجهد البشري، والتوسُّع في استخدام الطاقة البخارية ثم الكهربائية ثم النووية، وظهور وسائط وطرق جديدة للنقل، واتساع حركة الاختراع والاكتشاف، وانتقال الإنتاج في الورش إلى المصانع، وبناء المدن وتوسعها وزيادة سكانها، والتغيير في طبيعة الحياة الإنسانية، كانت جميعها العوامل الدافعة لظهور حقول إدارية متخصصة في إدارة المؤسسات؛ ومنها إدارة الموارد البشرية التي بدأت تحت تسمية «إدارة الأفراد»، وتطورت إلى «إدارة الموارد البشرية» في الوقت الحاضر.

ومنذ بداية الثورة الصناعية، بدأ التفكير الإداري يتجه إلى متابعة العنصر البشري داخل وخارج المؤسسة، والعناية به منذ لحظة دخوله إلى المؤسسة وحتى لحظة انتهاء علاقته بها، وظهر أفكار ونظريات إدارية حول ساعات العمل، وأساليب الرقابة، واستبدال الجهد البشري بالآلة، وسوء ظروف العمل. وقد ساعد ذلك على بلورة بدايات «إدارة الموارد البشرية»، ووضع إدارة العنصر البشري داخل المؤسسة في حسبان الفكر الإداري، والنظر إليه على أنه عنصر أساسي من عناصر المؤسسة.

وقد استتبع ذلك ظهور كثير من الكتابات الإدارية التي نبهت إلى:

  1. ضرورة الاهتمام بالعنصر البشري بشكل عام، والعنصر البشري خلال فترة العمل بشكل خاص.
  2. التأكيد على المنفعة المتبادلة بين العاملين وأرباب العمل، إذ إن العمل الجيد وتحسين الإنتاجية ينعكس بأجور أفضل للعاملين وأرباح أعلى لأرباب العمل.
  3. التركيز على أساليب الدافعية المتمثلة بحوافز العمل والمشاركة في الأرباح وزيادة مشاركة العاملين في وضع خطط الإنتاج على مستوى وحدة العمل والمؤسسة.

وقد نتج عن ذلك ظهور مدارس ونظريات إدارية جديدة لها فلسفتها ومبادؤها الخاصة، والتي كان من أبرزها: «النظرية البيروقراطية»، و«نظرية التقسيمات الإدارية»، و«نظرية الإدارة العلمية»(2).

1 من الملاحظ أن تطور علم الإدارة ونظرياته ارتبط بشكل كبير بتطور الصناعة وما حققته من قفزات كبيرة وطفرات ضخمة.

2 سيتم التركيز على «نظرية الإدارة العلمية» فقط؛ لارتباطها بشكل مباشر بتطور مفاهيم إدارة الأفراد والعاملين داخل المؤسسة.

المبحث الثاني

الإدارة العلمية

يرجع نشأة إدارة الأفراد بأصولها ومبادئها إلى مطلع القرن العشرين وبشكل تزامن مع التطورات التي حدثت في علم إدارة الأعمال والفكر الإداري، بعد ظهور حركة الإدارة العلمية في بداية القرن التاسع عشر، والتي نادت بأن زيادة الإنتاج وتحسين نوعيته لا يتمان إلا على أساسين: الاختيار السليم للعاملين، والتوزيع الذي يتناسب مع قدراتهم ومهاراتهم على الأعمال، من أجل أن يؤديَ كل فرد أقصى إنتاجية ممكنة.

وقد صِيغت هذه النظرية على أساس الفصل بين مهام الإدارة وجهود العاملين: فوظيفة الإدارة هي التخطيط والتنظيم والمتابعة، وبينما يقتصر دور العاملين على تنفيذ ما يُكلفوا به من مهام وأعمال من قبل الإدارة.

وقد اهتمت حركة الإدارة العلمية بتحديد أفضل الطرق والأساليب المتخصصة لاستخدام الفرد وجهده.

وقد بُنيت فلسفة حركة الإدارة العلمية على وجود نوع من التناقض بين مصالح الأفراد من جهة الإدارة ومصالح الإدارة من جهة أخرى: فالعامل يطالب بأجور مرتفعة دون أن يحاول زيادة مجهوده، والإدارة تسعى إلى زيادة كمية الإنتاج وتخفيض تكلفته.

وفي محاولتها معالجة هذا التضارب في المصالح، فقد ابتكرت حركة الإدارة العلمية نظام الأجر التفاضلي وعلى أساس القطعة، أي أن العامل يتقاضى معدلاً أعلى للأجر بعد تحقيقه للمعدلات المعيارية أو القياسية للإنتاج.

وبالرغم من زيادة الإنتاجية وتحفيز العاملين من خلال العائد والحوافز نتيجة تطبيقات تعليمات حركة الإدارة العلمية، فقد أدى ذلك وبنفس الوقت إلى سخط وتذمر العاملين، وترتب عليه اعتراض الحركات العمالية عليها.

وقد دفع ذلك رواد الإدارة العلمية إلى إيجاد وسائل أخرى تضمن خلق جو أفضل من الود والتفاهم والرضا بين الإدارة والعاملين. فتم القيام بدراسات التعب والإجهاد وتحليل العمل وتوصيف الوظائف وتطوير نظم الحوافز والأجور. فعلى سبيل المثال: فقد تمت التوصية بضرورة إيجاد إدارة خاصة ينحصر نشاطها بمهام تنظيم وتطوير العلاقات بين الإدارة والعاملين، على أساس الاهتمام بتدريبهم وتنمية مواهبهم، ورعاية شئونهم الحياتية، وتقديم الخدمات الاجتماعية وغيرها من الخدمات، في محاولة إلى تقليل درجة السخط واستياء العاملين من ساعات العمل الطويلة، وانخفاض الأجور، وقسوة ظروف العمل، والتنافس غير الشريف بينهم.

وهكذا بدأت تظهر أفكار وآراء تنادي بأهمية تقسيم العملية الإدارية إلى أنشطة تهتم بالجوانب الإنسانية، باعتبار أن كلا الجانبين ضروري للوصول إلى النتائج المحققة لأهداف المؤسسة.

ويلاحظ أن تطور إدارة الأفراد في ذلك الحين كان بطيئًا، فحركة الإدارة العلمية ركزت في دائرة اهتماماتها الأولى على زيادة الإنتاجية باستخدام بعض من الأساليب الحديثة كقياس معدلات الأداء والوقت والحركة، بينما لم تُعِرِ الجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية للفرد أي اهتمام؛ انطلاقًا من تصورها أن الحاجات المادية هي الوحيدة المحددة لسلوك أداء الفرد. فقد نظرت الإدارة العلمية إلى الفرد كعنصر من عناصر الإنتاج المادية، ويمكن الحصول منه على أكبر إنتاجية لقاء عوائد مادية.

كان اهتمام حركة الإدارة العلمية بالإنسان العامل ينصب على الجانب الفسيولوجي، فهي تهتم به كطاقة إنتاجية، فركزت على قدرته من حيث الطاقة وسرعة الأداء واستمراريته، ولم تنظر إليه كآدمي يحب ويكره، يحس ويتألم، يسعى ويطمح، ويؤثر ويتأثر، أي أن هناك دوافع نفسية واجتماعية وذاتية تكمن وراء خلق سلوكه وتصرفاته، وليس العائد المادي هو الدافع الوحيد لسلوكه.

يُلاحظ من خلال دراسة مبادئ الإدارة العلمية، أنها وضعت المبادئ الأولى لإدارة الأفراد العاملين متمثلة في تصميم أساليب العمل، ووضع معايير العمل العلمية، والاختيار والتدريب، والحوافز، والتركيز على التخصص في العمل، والفصل بين التخطيط والتنفيذ في صناعة قرارات المؤسسة.

وبالرغم من أن حركة الإدارة العلمية وضعت الملامح الأولى لإدارة الأفراد، إلا إنها قادت إلى زيادة حالات التذمر وانخفاض الرضا عن العمل؛ وذلك بسبب التركيز على الطابع الفردي في التعامل مع العامل.

المبحث الثالث

حركة العلاقات الإنسانية

جاء ظهور حركة العلاقات الإنسانية في النصف الأول من القرن العشرين كرد فعل للأفكار التي جاءت بها حركة الإدارة العلمية. ففي حين ركزت الثانية على الإنتاج وسبل زيادته دون اهتمام حقيقي بالفرد العامل، جاءت حركة العلاقات الإنسانية للعمل على إيجاد جو عمل يحفِّز على الأداء الجيد والتعاون بين الأفراد؛ بهدف الوصول إلى نتائج أفضل، بما يضمن إشباع رغبات الأفراد الاقتصادية والنفسية والاجتماعية. فهي ترى أن العامل هو إنسان له شخصيته المستقلة، وأنه ليس أداة من أدوات العمل، وأن كثيرًا من إشكاليات العمل تستلزم حلولاً إنسانيةً قد لا تُجْدي معها الحلول الفنية.

فحركة العلاقات الإنسانية لم تلغِ مبادئ حركة الإدارة العلمية في مجال إدارة الأفراد، وإنما انتبهت إلى جانب مهم في حياة الفرد العامل يتمثل في علاقته بزملاء العمل والجماعات داخل المؤسسة. وحركة الإدارة العلمية ركزت على المبادئ الموحدة في تنظيم وسلسة القيادة والسلطة ونطاق الإشراف، في حين ركزت حركة العلاقات الإنسانية على التنظيم غير الرسمي ومعايير وضغوطات الجماعة وبرامج المشاركة، والأخذ بنظر الاعتبار الخاصية المعقدة للإنسان.

فنتيجة للمشاكل التي نتجت عن التقيد الشديد بمبادئ حركة الإدارة العلمية، تحول الاهتمام نحو ضرورة زيادة الرضا عن العمل؛ لكونه السبيل إلى زيادة الإنتاجية. وقد قاد هذا التوجه إلى ظهور حركة العلاقات الإنسانية، والتي ظهرت خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين وتحول الاهتمام إلى العلاقات الإنسانية بدلاً من العلاقات المادية التي سادت سابقًا في البلدان الصناعية في إدارة العنصر البشري.

وقد ركزت هذه المدرسة على الجانب الإنساني من الإدارة، وعلى المبدأ الذي يقول: إنه عندما يعمل الموظفون مع بعضهم البعض بغرض تحقيق أهداف جماعية، فإن هؤلاء الموظفين يجب أن يسود بينهم التفاهم التام. ولذا فإن المنطلق الأساسي لحركة العلاقات الإنسانية هو أن الإنسان هو محور العمل الإداري وعنصره الهام في تحديد الإنتاجية.

وعلى هذا الأساس، فقد أولت مدرسة العلاقات الإنسانية اهتمامًا خاصًّا للعلاقات غير الرسمية التي تنشأ بين الأفراد أثناء العمل، وقامت بالعمل على ترسيخ جذورها خارج العمل؛ ليصبح تأثيرها في تحريك سلوكهم في العمل أقوى من تأثير التنظيم الرسمي وما ينطوي عليه من أنظمة وقواعد وبرامج وسلطات وظيفية.

وبالرغم من التطور النظري في المبادئ الإدارية، إلا أن المصطلح الذي يشير إلى المورد البشري ظل حدود ما يسمي بـ«إدارة الأفراد»، وبوضع تنظيمي ووظيفي غير محدد.

وبالرغم من أهمية النتائج التي توصل إليها رواد حركة العلاقات الإنسانية والنجاحات التي حققتها في تحسين ظروف العمل والأجور ومناصرة النقابات العملية لها، إلا أنها لم تحقق هدفها الأساسي بزيادة الإنتاجية وزيادة الرضا عن العمل وزيادة ولاء العاملين للمؤسسة التي يعملون بها. ويرجع السبب في ذلك إلى عدة عوامل؛ أبرزها: إغفال أهمية السياسات والإجراءات والمعايير وقواعد العمل الجيدة في توجيه سلوك العاملين نحو أهداف المؤسسة.

ولكن لابد من الإشارة إلى أن مدرسة العلاقات الإنسانية كانت بحق أساسًا في دراسة العلوم السلوكية، ومدخلاً جديدًا في إدارة الأفراد. وقد استخدم مدخل العلوم السلوكية بفاعلية كبيرة في الخمسينيات من القرن العشرين، وتأخذ هذه المدرسة بسلوك الفرد والجماعة وتفاعلات هذا السلوك في محيط الإدارة، ودور القيادة في خلق العلاقات التي من شأنها إثارة دوافع حاجاتهم وصولاً إلى أفضل النتائج.

المبحث الرابع

ظهور إدارة الموارد البشرية

منذ مطلع الستينات من القرن الحادي والعشرين بدأت إرهاصات ما يسمى بـ«مدرسة الموارد البشرية». وخلال السبعينيات والثمانينيات ظهر مصطلح «إدارة الموارد البشرية»، وشاع استخدام مدخل الموارد البشرية، بما يكفل زيادة فعالية المؤسسة وإشباع حاجات العاملين في ذات الوقت، باعتبار أن مصالح المؤسسة والعاملين فيها مشتركة ومتسقة مع بعضها البعض إلى حد كبير، ومن ثم لا يمكن تحقيق إحداها على حساب الأخرى.

ويركز مدخل الموارد البشرية على أهمية إدارة الأفراد باعتبارهم موارد اقتصادية أساسية لأية مؤسسة، وليست عنصرًا من عناصر الإنتاج. فالأفراد ينظر إليهم وفقًا لهذا المدخل كعناصر ذات قيمة كبيرة وأساسية في منظومة المؤسسة، ولابد من المحافظة عليها وتنميتها وتهيئة الأجواء المساعدة على ذلك.

وعلى هذا الأساس، يهتم مدخل الموارد البشرية بتحفيز الإدارة على تصميم خطط وبرامج للعاملين، مع توفير بيئة عمل مناسبة تتيح لأفراد القوى العاملة النمو والتطور والاستخدام الأمثل لقدراتهم ومهارتهم.

وتقوم أفكار هذه المدرسة على عدة أسس إدارية، أبرزها ما يلي:

  1. يشكل البشر أهم الأصول التي يمكن أن تمتلكها أية مؤسسة. ويمكن للمؤسسة أن تحقق النجاح عندما يتم ربط سياسات وإجراءات مواردها البشرية مع أهدافها واستراتيجياتها. فلابد أن ينظر إلى الموارد البشرية كأصول ذات قيمة عالية، وليست كمصدر للتكلفة.
  2. التعامل مع العنصر البشري برعاية شديدة وعناية فائقة، فالعنصر البشري مصدر غير ملموس يستحق أن يعطى الوقت والاهتمام الكافيين.
  3. تعمل المؤسسة في بيئة تعتمد عليها في الحصول على مواردها ومنها الموارد البشرية. وفي محاولة المؤسسة الحصول على مواردها البشرية، فإنها تحتاج إلى إدارة متخصصة تتابع حركة الموارد البشرية خارج المؤسسة، وتهتم بتلك الموارد؛ بهدف زيادة فاعليتها داخل المؤسسة، وتعيد تأهيلها بعد خروجها من المؤسسة للاستفادة منها في نشاطات أخرى.
  4. تخضع حركة الفرد داخل المؤسسة لإشراف ومتابعة إدارة متخصصة تُعرف بـ«إدارة الموارد البشرية Human Resource Management».

ولتمكين تلك الإدارة من ممارسة عملها بكفاءة، فيجب أن تُعطى الاهتمام الوظيفي والتنظيمي من قبل إدارة المؤسسة.

ولا تهتم مدرسة الموارد البشرية بالمورد البشري كفرد عامل داخل المؤسسة فقط، وإنما كأحد الموارد التي يمكن أن تُضيف إلى المؤسسة ميزة جديدة وقيمة إضافية. فهي تنظر إلى المورد البشري باعتباره مدخلاً من مداخلات العملية الإنتاجية وموردًا داعمًا للمداخلات الأخرى. فتعتبر إدارة المورد البشري مركز الجذب داخل المؤسسة، ومن خلال زيادة فاعليته في العمل يمكن أن يُساهم في زيادة فاعلية الأنشطة الأخرى الإنتاجية والتسويقية والمالية والتطويرية.

ويمكن تحديد أوجه الاختلاف ما بين «إدارة الموارد البشرية» في المفهوم الإداري الحديث و«إدارة الأفراد» في المفهوم الإداري التقليدي في الأمور التالية:

  1. في الوقت الذي يكون فيه منظور التخطيط لـ«إدارة الأفراد» قصير الأجل ويعتمد على الاستجابة لحاجة مؤسسية، يكون التخطيط في «إدارة الموارد البشرية» بأفق زمني بعيد المدى وقائمًا على أساس التوقعات المستقبلية ومتكاملاً وذا طابع استراتيجي.
  2. تركز «إدارة الأفراد» على الإذعان في العقد مع الفرد العامل، بينما تركز «إدارة الموارد البشرية» على الولاء والانجذاب إلى العمل.
  3. تتميز أنظمة الرقابة في «إدارة الأفراد» بكونها داخلية ورسمية، بينما تكون الرقابة ذاتية في «إدارة الموارد البشرية».
  4. يكون منظور العلاقات بين الأفراد نفعيًّا وقائمًا على أساس الثقة الضعيفة بالعاملين في «إدارة الأفراد»، بينما يكون تبادليًّا وقائمًا على أساس الاحترام والثقة المتبادلة بين «إدارة الموارد البشرية» والموارد البشرية.
  5. تتميز الهياكل والأنظمة في «إدارة الأفراد» بكونها بيروقراطية ومركزية وميكانيكية، بينما تكون واقعية ومرنة في «إدارة الموارد البشرية».
  6. تركز «إدارة الأفراد» على الأدوار التخصصية والمهنية، بينما تميل «إدارة الموارد البشرية» إلى التنوع والتكامل في الأدوار، علاوة على أن دور «إدارة الأفراد» في المؤسسة هو دور تنفيذي فقط، بينما يغلب الطابع الاستشاري على دور «إدارة الموارد البشرية».
  7. تتميز وظائف «إدارة الأفراد» بكونها ضيقةً وذات طابع اقتصادي يركز على النتائج الداخلية للمؤسسة، بينما تتميز وظائف «إدارة الموارد البشرية» بالسعة والتكيف مع المتغيرات البيئية، وتتضمن أبعادً اقتصادية واجتماعية وأخلاقية.

ولا شك في أن الاهتمام بإدارة الموارد البشرية بمفهومها الحديث يشكل عنصرًا أساسيًّا للمؤسسات والشركات العامة والخاصة، خصوصًا في ظل التحديات والتغيرات المتسارعة في العالم المعاصر.

فإدارة الموارد البشرية إدارة تهتم بإدارة ثقافة المؤسسة، وتصميم هياكلها، وتحليل العوامل التي تؤثر على الموارد البشرية في المستقبل، وتزود المؤسسة بمجموعة من الكفاءات المناسبة.

فإدارة الموارد البشرية نموذج متميز لإدارة البشر الذي يسعى إلى تحقيق الميزة التنافسية من خلال وضع استراتيجية طويلة المدى للحصول على موارد بشرية تتميز بالكفاءة والولاء.

المبحث الخامس

تطور إدارة الموارد البشرية
حتى الآن

اتسمت السنوات الأخيرة من القرن الحادي والعشرين بتطورات وتحديات سياسية واقتصادية هائلة؛ مثل: العولمة، وشدة المنافسة العالمية، والطلب المتغير على الجودة من قبل العملاء، وتطور التكنولوجيا بصور متسارعة، وبروز ظاهرة التمكين للعاملين، وقد كان لهذه التطورات وغيرها انعكاساتها الإيجابية على إدارة الموارد البشرية. فمنذ بداية عام ١٩٨٠م ومفهوم إدارة الموارد البشرية يحظى باهتمام متزايد من قبل الأكاديميين والممارسين المهتمين بقضية الموارد البشرية.

ونتيجة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية في الدول المتقدمة، تم الاعتماد الكامل على مفاهيم «إدارة الموارد البشرية»، فقد أدركت الشركات والمؤسسات في الدول المتقدمة أن الاهتمام بالعنصر البشري هو السبيل للمنافسة وتحقيق التميز.

وشهدت فترة التسعينات من القرن الحادي والعشرين تغيرًا جديدًا في التعامل مع العنصر البشري؛ فقد تحول الاهتمام من التركيز على النمو الاقتصادي إلى التركيز على توظيف وتطوير وتحفيز الموارد البشرية والمحافظة عليها؛ وذلك لإيجاد حالة من الاستعداد والتهيؤ لدى تلك الموارد وإدارتها للتكيف مع حالة التغيير التكنولوجي الجديد وتحديات العولمة والمنافسة العالمية والتأثير فيها.

ومع ازدياد شدة التحديات المعاصرة على المنظمات والمؤسسات في بداية القرن الحادي والعشرين، استُحدثت مهام جديدة لإدارة الموارد البشرية؛ لعل أهمها: جذب واستقطاب نوعية جديدة من الموارد البشرية تتميز بدراية ومعرفة عالية وقدرة متميزة تناسب الأوضاع العالمية المعرفية الجديدة.

ويرى العديد من علماء الإدارة الحديثة أن تحقيق النجاح في القرن الحادي والعشرين يتطلب إحداث تغييرات جوهرية في فلسفات العمل وأنظمته وسياساته الحاكمة، وأن النجاح في الظروف الحالية والمستقبلية يستلزم مزيجًا من القدرات المميزة التي تساعد على تحقيق الابتكار والجودة والمرونة. ولا يتأتى ذلك إلا إذا توافر للمؤسسات السمات الرئيسة التالية:

١) المبادرة:

وتعني: تحقيق الاستجابة السريعة للابتكار والتغيير، وسرعة التصدي للمشكلات، ومن ثم ضمان الأداء المتميز.

٢) استقطاب الموهوبين:

حيث تلتزم مؤسسة القرن الحادي والعشرين باجتذاب العاملين ممن يحملون مواهب تميزهم عن الآخرين، وأن تقدم لهم الخدمات والبرامج التي تساعدهم على تحقيق الإشباع الوظيفي.

٣) التدريب المستمر:

ويعني: تحقيق مزيد من القيمة المضافة، من خلال استغلال مهارات ومواهب الأفراد وكيفية الوصول إلى أعلى مستويات ممكنة من الأداء.

٤) العالمية:

وتتمثل تلك السمة في القدرة على خلق مؤسسات تعمل وبشكل دائم ومستمر على تطوير أنظمتها في ضوء التغيرات العالمية، والأخذ بكل ما هو جديد ومتقدم.

٥) الجودة:

يجب أن تسعى مؤسسة القرن الحادي والعشرين إلى تحقيق رضا عملائها من خلال تبني برامج متكاملة؛ وذلك لضمان أداء العمل الصحيح من المرة الأولى.

وهذا ما دعا إلى إعادة النظر في المدارس الإدارية التي تطورت وغيرت من مفاهيمها، خاصة مدرسة إدارة الموارد البشرية، التي تطورت إلى ما يعرف بـ«مدرسة استراتيجية إدارة الموارد البشرية».

فبدأ التركيز ينصب على الموارد البشرية «المواهب البشرية» التي تحمل صفات وقدرات تؤهلها للخوض في المتغيرات المتلاحقة التي يشهدها هذا القرن.

اترك تعليقاً