البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الأول

المبحث الثاني

113 views

أسباب اضطراب الفتوى

لاضطراب الفتوى وعدم انضباطها عدة أسباب متعددة، بعضها يعود للمفتي، وبعضها يرجع للمستفتي، والبعض الآخر يتعلق بالفتوى، وفيما يلي بيان أهمهما.

 

 

المطلب الأول

أسباب اضطراب الفتوى المتعلقة بالمفتي

الفتوى المنضبطة صناعةٌ وعمليةٌ مهارية مكتملة الأركان، وإذا وقع خلل في أحد هذه الأركان باتت مضطربة وغير منضبطة، والمفتي الماهر هو أحد هذه الأركان، بل أهمها؛ إذ هو الموقع عن الله تعالى المبين عنه، لذا وجب أن يكون أهلًا لذلك، مكتمل الأركان والشروط والآداب الخاصة به، فأي خطأ وأي خلل في ذلك موجب للخطأ في الفتوى وعدم انضباطها، ونعرض فيما يلي أهم الأسباب لاضطراب الفتوى المتعلقة بالمفتي:

  • عدم اكتمال الأهلية الإفتائية للمفتي:

يعد من أحد الأسباب الرئيسة لعدم انضباط الفتوى -وما أكثره في الوقت المعاصر- صدورها من غير مكتمل الأهلية الإفتائية، وتكتمل الأهلية بتوافر مجموعة من الضوابط والشروط -أفاض فيها الفقهاء عند حديثهم عن أحكام المفتي- بعضها لا غنى عن توافره، والبعض الآخر مكمل ومتمم له، فبجانب الإسلام والبلوغ والعقل والعدالة، يشترط في المفتي حتى يكون أهلًا للإفتاء ما يلي:

أولًا: العلم بالأحكام الشرعية: فيشترط في المفتي أن يكون عالمًا بالأحكام الشرعيَّة، وعلمه بها يشتمل على معرفته بأصولها والارتياض بفروعها، وأصول الأحكام في الشرع أربعة:

أ- معرفة الكتاب الكريم وعلومه: وذلك على الوجه الذي تصح به معرفة ما تضمنه من آيات الأحكام، ومعرفة العام والخاص، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، إلى نحو ذلك.

ب- معرفة السنة النبوية الشريفة: فيكون المفتي عالمًا بسنته صلى الله عليه وسلم الثابتةِ من أقواله وأفعاله وتقريراته، وأن يعرفَ منها المتواتر والآحاد، والصحيح والحسن والضعيف، وحال الرواة قوةً وضعفًا، والناسخ والمنسوخ منها، والعام والخاص، وما كان على سبب أو إطلاق، إلى نحو ذلك.

ج- معرفة الإجماع: فيعلم أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه ليتبعه ولا يفتي بخلاف الإجماع، ويعلم أيضًا ما اختلفوا فيه؛ ليجتهد في الرأي وصولًا إلى الحكم الذي يؤديه إليه اجتهاده في ضوء الضوابط والأحكام المنصوص عليها.

د- معرفة القياس: وذلك لرد الفروع والمسائل المسكوت عنها بالأصول المنطوق بها، والمجمع عليها، والقياس الصحيح هو طريق المفتي إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحق من الباطل، فـ “القياس قاعدة الإفتاء، ومن لا يعرف القياس لا يتمكن من الاستنباط”([1]).

فهذه الشروط الأربعة مما لا غنى عنها، ولا مندوحةَ للمفتي عنها، ولا يجوز له الإخلال بشيء منها ([2]).

ثانيًا: معرفة قواعد اللغة العربية: فينبغي للمفتي أن يكون متقنًا للغة العربية وقواعدها؛ حيث إن لذلك أثرًا كبيرًا في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، فبها يعرف عموم اللفظ وخصوصه، وإجماله وبيانه، وتقيده وإطلاقه، ودلالات البيان العربي من عبارة وإشارة واقتضاء إلى غير ذلك، ومن لا يعرف ذلك لا يتمكَّن من استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة على النحو الصحيح المنضبط، ودَرْك حقائق المقاصد منهما، ولا يشترط في المفتي أن يكون من أئمَّة اللغة والنحو، بل يكفي “معرفة اللغة والنحو على وجه يتيسر له به فهم خطاب العرب”([3]).

ثالثا: معرفة علم الفقه وأصوله: فيشترط في المفتي أن يكون عالمًا بالفقه أصلًا وفرعًا، خلافًا ومذهبًا؛ بحيث يكون حاكمًا ضابطًا لأمهات مسائله وفروعه ([4]).

وأن يكون عالمًا بعلم أصول الفقه ([5])، وذلك بإدراك قواعده؛ حتى يتمكَّن من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وبيان وجوه ارتباط الأحكام بأدلتها، وكيفية استفادتها منها، وكيفية الاستدلال والاستنباط، إلى غير ذلك من مهام وأهميات تفيد المفتي وتساعده في الوصول إلى الحكم المنضبط الموافق للشرع الحنيف ومقاصده ([6])، فـ “التمكن من هذا العلم من أهم الأدوات التي تُمكن المتصدر للإفتاء من الوصول إلى المراد الإلهي بصورة علمية منضبطة” ([7]) . ولهذه الأهمية نصَّ الأصوليون على أنَّ علم أصول الفقه هو أهم العلوم بالنسبة للمفتي والمجتهد([8])، ونص البعض على أنه فرض عين لمن أراد الاجتهاد والإفتاء ([9])، ويقول القرافي: “من لا يدري أصولَ الفقه يمتنع عليه الفتيا؛ فإنه لا يدري قواعدَ الفروق والتخصيصات والتقييدات على اختلاف أنواعها إلَّا من درى أصول الفقه ومارسه” ([10]).

رابعًا: معرفة العلوم الأخرى: مما ينبغي للمفتي تحصيله والإلمام به على قدر الاستطاعة هي العلوم الإنسانية والاجتماعية والكونية الأخرى؛ وذلك لضبْط القدر الذي يحتاجه في الفتوى([11])؛ إذ إن “المفتي مهيأ بأن يُسأل عن أشياءَ متعددة، وخاصة ما له ارتباط بالأحكام الشرعية، فلا يمكنه أن يصادفَ الصواب إذا لم يكن له اطلاع على ذلك” ([12]).

هذا ومما تكتمل به الأهلية الإفتائية للمفتي هو العلم بمقاصدِ الأحكام ومآلات الأفعال، والقدرة على إدراك الواقع، ونفرد الكلام لهذين الضابطين في إطار هذا المطلب والمطلبين التاليين منعًا للتكرار؛ كونهما أحد أهم أسباب عدم انضباط الفتوى المتعلقة بالمفتي.

فالمفتي على الحقيقة هو من له أهلية تامة يمكنه من خلالها أن يعرف الحكم الشرعي الصحيح في المسألة أو القضية المعروضة أمامه ([13])، وبالتالي فإنَّ عدم توافر أحد هذه الضوابط الأربعة السابقة في المفتي فلا ريبَ أن فتواه ستكون مضطربة، وبالتالي تعد صادرة من غير أهلها، من أهل الاختصاص بهذا المجال، المأمور بالرجوع إليهم في قوله تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}  [النحل: 43].

وفي الوقت الحاضر اقتحم ميدانَ الفتوى وخَاض في غمار هذا البحر مَن لم يتَأهَّل له تأهيلًا كاملًا، وبعضهم ليس من أهل الاختصاص بالأمر؛ لذلك كثُر منهم هذا النوع من الفتاوى الشاذة والمضطربة التي خطرها عظيم، وخطبها جسيم، وهذا من قبيل الفتوى بغير علم التي ورد التحذير منها في آياتٍ وأحاديثَ وآثارٍ كثيرة ([14])، نحو قوله عز وجل: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ} [النحل: 116].

قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: “ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلَّلَ شيئًا مما حرم الله، أو حرَّم شيئًا مما أباح الله بمجرَّد رأيه وتشهيه”([15]).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعُه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا فأفْتَوْا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) ([16]).

قال ابن حجر معلقًا على هذا الحديث: “وفي هذا الحديث الحثُّ على حفظ العلم، والتحذير من ترئيس الجهلة، وفيه أنَّ الفتوى هي الرياسة الحقيقية، وذم من يقدم عليها بغير علم” ([17]).

 

 

 

  • الخطأ في أي مرحلة من مراحل إصدار الفتوى:

تَمُرُّ الفتوى بأربع مراحلَ أساسية في ذهن المفتي وذلك قبل إصدارها جوابًا على سؤال المستفتي، هذه المراحل هي: مرحلة التصوير، ومرحلة التكييف، ومرحلة بيان الحكم، ومرحلة التنزيل وإصدار الفتوى:

أما عن مرحلة التصوير: فهي أول هذه المراحل وأهمها، وفيها يتم تصوير المسألة أو الواقعة، يقول إمام الحرمين الجويني: “وأول ما يجب به الافتتاح: تصوير المسألة” ([18]). وإنما كانت مرحلة تصوير المسألة أهم هذه المراحل؛ لما ينبني عليها ما بعدها: من تكييف وبيان حكم وإصدار للفتوى، فـ “المسألة إذا حُقِّق تصويرها لم يَبْقَ فيها خلاف” ([19]).

فالتصوير الدقيق المطابق لواقع النازلة المسؤول عنها شرطٌ أساسيٌّ لصدور الفتوى بشكل صحيح، وكلما كان التصوير صحيحًا مطابقًا للواقع -وأجريت المراحل التالية على الوجه الصحيح- كانت الفتوى صحيحةً منضبطة أبعد عن الخطأ، وأقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع الكلية، ومصالح العباد المرعية، وانعدام هذا الشرط يؤدي إلى أن تكون الفتوى الصادرة غير معبرة عن حقيقة الأمر، وعلى ذلك عبر العلماء بقولهم: “الحكم على الشيء فرعٌ عن تَصَوُّره”.

وعبء التصوير أساسًا يقع على المستفتي، لكنَّ المفتي ينبغي عليه أن يتحرَّى بواسطة السؤال عن الجهات الأربع التي تختلف الأحكام باختلافها، وكثيرًا ما يتم الخلط والاختلاط من قبل السائل بشأنها، وهي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، كما ينبغي على المفتي أيضًا أن يتأكد من تعلُّق السؤال بالفرد وبالجماعة؛ لأن الفتوى تختلف باختلاف هذين الأمرين، وتزداد أهمية تصوير الفتاوى إذا تعلقت بالمعاملات المستحدثة كما هو الحال في معاملات البنوك، وفي التسويق الشبكي والهرمي؛ لِمَا في هذه المعاملات من التفاصيل المركبة والمعقدة التي تحتاج لمزيد نظر.

والتصوير قد يكون لواقعة فعلية، وقد يكون الأمر مُقدَّرًا لم يقع بعدُ، وحينئذٍ فلا بد للمفتي من مراعاة المآلات والعلاقات البينية، وبقدر ما عند المفتي من قدرة على التصوير الصحيح بقدر ما تكون الفتوى منضبطة أقرب لتحقيق المقاصد الشرعية، وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة، وهو أمر لا يجيده إلا فقيه النفس الماهر بصناعة الإفتاء؛ يقول ابن الصلاح: “إن تصوير المسائل على وجهها، ثم نقل أحكامها بعد استتمام تصويرها -جلياتها وخفياتها- لا يقوم به إلا فقيه النفس، ذو حظ من الفقه” ([20]).

ويقول الغزالي: “إن وضع الصور للمسائل ليس بأمر هين في نفسه، بل الذكي ربما يقدر على الفتوى في كل مسألة إذا ذكرت له صورتها، ولو كُلِّف وضع الصور وتصوير كل ما يمكن من التفريعات والحوادث في كل واقعة عجز عنه، ولم يخطر بقلبه تلك الصور أصلًا، وإنما ذلك شأن المجتهدين” ([21]).

ثانيًا: مرحلة التكييف: وفيها يتم إلحاق الواقعة محل النظر والسؤال بما يناسبها من أبواب الفقه ومسائله، فتكيف المسألة مثلًا على أنها من باب المعاملات لا العبادات، وأنها من باب العقود، وأنها من قسم مسمى منها، أو من العقود الجديدة غير المسماة، وهذه المرحلة تهيئ لبيان حكم الشرع الشريف في مثل هذه المسائل، والتكييف من عمل المفتي واختصاصه، ويحتاج إلى نظر دقيق وفكر رصين؛ لأن الخطأ فيه يترتب عليه الخطأ في الفتوى، والتكييف قد يختلف فيه الفقهاء والعلماء، وهذا الاختلاف أحد أسباب اختلاف الفتوى، والترجيح بين المختلفين حينئذ يرجع إلى قوة دليل أي منهم، وإلى عمق فهم الواقع، وإلى تحقيق المقاصد والمصالح ورفع الحرج وهي المقاصد العليا للشريعة.

ثالثًا: مرحلة بيان الحكم الشرعي: المأخوذ من الأدلة الشرعية، أي أن الحكم الشرعي -وهو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع- يؤخذ من الكتاب الكريم والسنة النبوية وإجماع الفقهاء، ويتم إظهاره أيضًا بواسطة القياس والاستدلال، ويجب على المفتي -كما بينا سابقًا- أن يكون مدركًا للكتاب والسنة ومواطن الإجماع، وكيفية القياس ودلالات الألفاظ العربية وترتيب الأدلة الشرعية، وطرق الاستنباط والاستدلال، وإدراك الواقع إدراكًا صحيحًا، ويتأتى هذا بتحصيله لعلوم الوسائل والمقاصد كالأصول والفقه واللغة والحديث ونحوها، وبتدريبه على الإفتاء الذي ينشئ ويربي لديه ملكة راسخة في النفس -الملكة الإفتائية- حتى يكون قادرًا بها على تنزيل الأحكام المنضبطة على وقائع الناس ومستجداتهم اليومية.

وأخيرًا: مرحلة الإفتاء وإصدار الفتوى: وفيها يتم تنزيل الحكم الشرعي الذي توصل إليه المفتي على الواقعة أو النازلة المعروضة عليه، وحينئذ فلا بد عليه من التأكُّد أن هذا الحكم الذي سيُفتي به لا يخالف نصًّا مقطوعًا به ولا إجماعًا متفقًا عليه ولا قاعدة فقهية مستقرة، ولا يخالف مقصدًا من مقاصد الشريعة الكلية، فإذا وجد شيئًا من هذا فعليه مراجعة فتواه حتى تتوفر فيها تلك الشروط والضوابط ([22]).

هذه هي المراحل الأربع لإصدار الفتوى قبل صدورها جوابًا على علَّة سؤال المستفتي أو نازلته، وسيأتي مزيد تفصيل عليها في الفصل الثاني.

وكما أوضحنا خلال العرض الموجز لهذه المراحل أَنَّ الخطأ في أي مرحلة من هذه المراحل يترتب عليه حتمًا خطأٌ في الفتوى ابتداءً من مرحلة التصوير وانتهاءً بمرحلة إصدار الفتوى، وبذلك يتجلى لنا أن الخطأ في أي مرحلة من مراحل إصدار الفتوى هو من أسباب اضطراب الفتوى وعدم انضباطها؛ إذ إن هذه المراحل بمثابة مقدِّماتِ للفتوى، فإذا صحَّتْ هذه المقدِّمات صَحَّت وانتظمت النتائج المترتِّبة عليها وهي “الفتوى المنضبطة”، ولا شكَّ أنه لن تصحَّ هذه المقدِّمات إلا بالعنايَة بالضوابطِ الموضوعة لكل مرحلة، ومن هنا تبرز أهميَّةُ الاعتناء بضوابط هذه المقدِّمات، وإلَّا كنا بصدد فتوى مضطربةٍ متعارضةٍ مع الشرع الحنيف ومقاصده الكلية.

  • الفتوى مع انشغال القلب:

لمَّا كانت الفتوى تبليغًا عن رب العالمين، والمفتي هو المُبلَّغ عنه عز وجل، القائم في الأمة مقامَ نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من تبيين الأحكام على الوقائعِ والأحوال والحوادث المتجددة، امتنع عليه الإفتاءُ مع كل حال تشغل قلبه وتمنعه من التريُّث والتفكير والتدبُّر: كالغضب، والمرض الشديد، والحزن، والضجر، إلى نحو ذلك من الأحوال الّتي تمنع صحَّة الفكر واستقامة الحكم، وتخرجه عن حال الاعتدال، وكمال التثبُّت ([23]).

والسبب في ذلك أن المفتي مع هذه الحال -كما هو جلي- لا يمكنه إمعان النظر والفكر في الفتوى، فربَّما خرج الحكم يشوبه القصورُ والضعف، والبعدُ عن الحق ومجانبة الصواب؛ إذ يمنعه الغضبُ وما يلحق به من عوارضَ -إذ هي في معنى الغضب المنصوص عليه، فتجري مجراه ([24])– من التثبُّت والتأمُّل وتحري الدقة، وعدم استيفاء الرأي فيما ينظر ويفتي به، وهذا سببٌ من أسباب عدم انضباط الفتوى واضطرابها، لذا نبَّه صلى الله عليه وآله وسلم على أنه: ((لا يقضينَّ حكم بين اثنين وهو غضبان)) ([25])، والقاضي والمفتي في هذا الحق سواء.

قال ابن العطار: “وهذا الحديث نص في المنع من القضاء حالة الغضب؛ وذلك لما يحصل للنفس بسببه من التشويش الموجب لاختلال النظر، وعدم حصوله على الوجه المطلوب، وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل حال يخرج الحاكم فيها عن سداد النظر واستقامة الحال: كالشبع المفرط، والجوع المقلق، والهم والفرح البالغ، ومدافعة الحدث، وتعلق القلب بأمر، ونحو ذلك، فكل واحد مما ذكر مشوش للذهن، حامل على الغلط”([26]).

وقال سيدنا عمر بن الخطاب لأبي موسى رضي الله عنهما في رسالته المشهورة: “وإياك والغضب، والقلق والضجر، والتأذي بالناس عند الخصومة، والتنكُّر، فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر، ويحسن به الذخر” ([27])؛ إذ إن ذلك -وما يلحق به- يفوت على المفتي إدراك بعض الوقائع الهامة المتعلقة بالفتوى، وتنزيل الأحكام عليها، وخاصة في المسائل والوقائع التي تستدعي منه الهدوء وإمعان النظر بهدوء وتريث وترك للغضب والضجر.

فالواجب على المفتي إذًا أن يتوقَّف عن الإفتاء وهو في هذه الحال حتى يزول ما به ويرجع إلى حال الاعتدال، فإن أفتى في شيء من هذه الأحوال وهو يرى أن ذلك لم يمنعه من إدراك الصواب، صحَّت فتياه، وإن خاطر بها كان مكروهًا عليه حينئذ لهذه المخاطرة، وللنهي الوارد عن الإفتاء في هذه الحالة ([28]).

وبمفهوم المخالفة: فإن المفتي إن لم يدرك الصواب في الفتوى -وهذا هو الغالب في هذه الأحوال، وبالأخص عند النظر في المسائلِ المستجدة التي تتعلق بالشأن العام والمجتمع، والتي تحتاج إلى مزيد فكر وبحث، وهو ما يتطلب التركيز والتحري والدقة في الفتوى باستنباط الحكم الشرعي من أدلته، وتنزيله على الواقعة المطروحة عليه بشكل منضبطٍ متقنٍ وصحيحٍ، مع التحري والحذر فيه، ووضع تصورات احتمالات مآلته، والمعوقات والمعضلات التي تتعلق بتلك الواقعة، والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لذلك على نحو من التأني والهدوء- بطلت فتواه؛ لعدم انضباطها، وعدم تأمل وتصور المسألة بالقدر الكافي، وربما وقع الخلل والخطأ في تكييف المسألة أو في تنزيل الحكم عليها -على نحو ما أشرنا إليه في العنصر السابق- فالخطأ في كليهما موجب للخطأ وللاضطراب في الحكم -الفتوى- وبالتالي أصبحنا بصدد فتوى مضطربة، غير متماشية مع الواقع المعيش.

  • الترخص والتساهل المذموم واتباع الهوى:

من أسباب اضطراب الفتوى وعدم انضباطها أيضًا: التساهل بشأنها، وعدم التثبُّت والتحري في المسألة أو النازلة المعروضة أمامه، فيفتي فيها بلا إمعانِ نظرٍ أو إعمالِ فكرٍ، أو متبعًا للهوى والتشهي، أو مستخدمًا للحيل المحرمة أو المكروهة أو الرخص لمن أراد نفعه، أو التغليظ على من أراد مضرته، إلى نحو ذلك ([29]).

والتساهل بهذا المعنى أمر غير مقبول شرعًا، لا خلافَ في حرمته بين أهل العلم، وَرَدَ عنهم ذمُّه، ونصوا على أن من عرف عنه ذلك -التساهل بهذا المعنى- لم يجز استفتاؤه في شيءٍ من أمور الدين؛ قال ابن الصلاح: “لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عُرف بذلك لم يُجز أن يُستفتى” ([30])، وقال النووي: “يحرم التساهل في الفتوى، ومن عُرف به حرم استفتاؤه” ([31]).

والتساهل بهذا المفهوم بخلاف التيسير والتخفيف في الفتوى: فهناك فرق كبير بين التساهل والتيسير؛ فكما ورد عن أهل العلم ذمُّ التساهل، ورد عنهم أيضًا استحسانُ التيسير والتخفيف على الناس، والتماس المخرج الشرعي لهم فيما يشقُّ عليهم من التزامات وواجبات، ومراعاة أحولهم، وهذا أمرٌ مطلوبٌ، لا مانعَ منه شرعًا.

يقول النووي: “يحرم التساهلُ في الفتوى، ومن عُرف به حرم استفتاؤه، فمن التساهل: أن لا يتثبت ويشرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر… ومن التساهل: أن تحمله الأغراضُ الفاسدة على تتبُّع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسُّك بالشبه طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره.

وأما مَن صحَّ قَصْده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل؛ لقوله تعالى لسيدنا أيوب: {وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡ} [ص: 44] لما حلف ليضربن امرأته مئة جلدة ([32])، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، وأما التشديدُ فيحسنُه كلُّ أحد” ([33]).

إذًا هناك فارق جوهري بين التساهل والتيسير في الفتوى؛ فالتساهلُ ينشأ عن فوضى وتقصير في البحث والاجتهاد، وهو نوعٌ من التلاعب والاستهتار، ولذا فحكمه الحرمة، بينما التخفيف والتيسير ينشأ عن رسوخٍ في العلم وملكة تمكن صاحبها من إدراكٍ لمقاصدِ الشريعة ومآلاتها وأدلتها وطرائق الترجيح بينها، وعن درايةٍ بأحوال الناس وحاجتهم وواقعهم وأعرافهم، فالتيسير نوعٌ من إعمال القواعدِ العلمية المدروسة والمقننة بعنايةٍ من قِبل علماء الإسلام وأئمَّة الفقه، ولهذا فلا يخرج حكمه عن الندب أو الوجوب بحسب ما يقتضيه الواقع والحال ([34]).

فالتساهل في الإفتاء إذًا سببٌ من أسباب عدم انضباط الفتوى؛ كونها صادرةً من المفتي من غير تثبت ودقة في البحث، أو صادرة لأغراض فاسدة من تتبُّع للحيل المحظورة أو المكروه شرعًا، أو التمسُّك بالشُّبَه طلبًا للترخيص على نحو من التشهي والغرض، محابيًا في دين الله من يشاء ([35])، يقول ابن الصلاح: “ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينُه، ونسأل الله تعالى العافية والعفو” ([36]).

ويقول القرافي: “ولا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف: أن يفتيَ العامَّة بالتشديد، والخواصَّ من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين، والتلاعب بالمسلمين، ودليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه، وعمارته باللعب، وحب الرياسة، والتقرب إلى الخلق دون الخالق!” ([37]).

ويقول ابن القيم: “فلا يجوز للمفتي العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخيُّر وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض مَنْ يحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر” ([38]).

فلا يجوز للمفتي إذًا أن يتبع في فتواه غرضه ومشتهاه، أو يحابيَ بدين الله أحدًا لجر منفعة أو دفع مضرة إلى نحو ذلك، أو أن يتبع الحيل المحظورة أو المكروهة، والمصالح الموهومة، فإن أفتى على نحو ذلك كان متعديًا مفتريًا على الله تعالى؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ١١٦ مَتَٰعٞ قَلِيلٞ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ}  [النحل: 116، 117].

والواجب على المفتي إذًا لتفادي ذلك ولانضباط فتواه: عدم التساهل في الفتوى، وإفتاء السائل بعد إمعانِ النظر والفكر في مسألته، وفقًا للنصوص القطعية من الكتاب الكريم أو السنة النبوية الشريفة، أو بما أجمع عليه الفقهاء، فإن كان السؤال أو الواقعة من المسائل المختلف فيها أفتاه بما يؤديه إليه اجتهاده ما دام أنه من أهل الاجتهاد، دون تتبع لحيل محظورة أو مكروهة، بعيدًا عن الهوى والتشهي، والمحاباة في دين الله، وإن كانت الواقعة من المسائل المستحدثة أكثر من إمعان النظر والفكر فيها، فإن احتاجت إلى مشاورة أهل فنه من المفتين لزمه ذلك، وإن احتاجت أيضًا إلى الاستعانة بالخبراء من أصحاب العلوم والمجالات الأخرى فعل ذلك([39]).

  • التسرُّع وعدم التأني في الفتوى:

عدَّ الفقهاء التسرُّعَ في الفتوى نوعًا من أنواع التساهل المذموم شرعًا على المفتي([40]): وذلك في المسائل والقضايا المستجدة له التي لم يسبق له السؤال عنها والجواب عليها، أما عن الأسئلة المكررة عليه فلا بأسَ بالتسرُّع في الجواب عليها طالما أنه مستحضر للجواب، متيقن منه بشكل صحيحٍ؛ يقول النووي: “فمن التساهل: أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأسَ بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة” ([41]).

وتسرُّعُ المفتي في الجواب في المسائل والوقائع التي لم يسبق له الجواب فيها سببٌ من أسباب اضطراب الفتوى؛ لأنه غالبًا ما يصدر الحكم في المسألة بدون تأنٍّ وتفكير سليم، وتصوير دقيق للمسألة المعروضة عليه، وربما أفضى ذلك إلى الخطأ والاضطراب في الفتوى، والبُعد عن الحقيقة، ومجانبة الحق والصواب فيها.

والواجب على المفتي إذًا لتفادي ذلك أن يتأملَ المسألةَ المسئول عنها ويتصورهًا تصورًا دقيقًا، وأن يتريَّث في الجواب، ولا يتسرَّع في الإفتاء، وخاصَّة في المسائل والنوازل والوقائع المستجدة والمتشابهات والمسائل المشكلة التي تحتاج إلى التأني في الجواب، وإمعان النظر والفكر فيها، وأحيانًا إلى مشاورة أهل العلم من المتخصصين بشأنها من أصحاب العلوم والتخصصات الأخرى([42]).

والتأني في الفتوى وعدم التسرُّع في الجواب وإمعان النظر قبل إصدار هو سمة من سمات السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، يقول ابن القيم: “كان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرُّعَ في الفتوى، ويودُّ كلُّ واحد منهم أن يكفيَه إياها غيرُه، فإذا رأى أنها قد تعيَّنت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى” ([43]).

ونقل عن بعض التابعين كالشعبي وغيره أنهم قالوا: “إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر!” ([44]).

ولحرص السلف أيضًا على التأني في الفتوى وعدم التسرُّع في الفتيا: نبَّه الخليل بن أحمد على ذلك قائلًا: “إن الرجل ليسأل عن المسألة ويعجل في الجواب فيصيب فأذمه، ويسأل عن مسألة فيتثبت في الجواب فيخطئ فأحمده” ([45])، وهذا ما هو إلا للإرشاد وتمرين النفس وتدريبها على التأني في الفتوى والصبرِ عليها.

ففي التأني وعدم الإسراع في الفتيا التأكُّد من موافقة الصواب، والبعد عن الخطأ، وبث الثقة بين المستفتين والمفتي، وتعظيم قدره عندهم، فيعرف لديهم أنه لا يصدر حكمًا في مسألة إلَّا بعد أن يتحقَّق منه بالضوابط والآليات الموضوعة لذلك، وبالتالي تكون فتواه محلَّ قبولٍ لدى المستفتي واطمئنان بالحكم الصادر عنه في المسألة.

فعلى المفتي ألا يتعجَّل الجواب في فتياه وإن كان الجواب صحيحًا، وعليه أيضًا أن لا يكون حريصًا عليها سابقًا إليها: يقول ابن عيينة: “أعلم الناس بالفتوى أسكتهم فيها، وأجهل الناس بالفتوى أنطقهم فيها. قال الخطيب البغدادي معلقًا عليه: وقلَّ من حرص على الفتوى، وسابق إليها، وثابر عليها، إلا قَلَّ توفيقه، واضطرب في أمره”([46]).

  • الغلوُّ في اعتبار التشدُّد في الفتوى:

يعدُّ من أسباب اضطراب الفتوى أيضًا: “الغلو في التشدد” وحمل المفتي المستفتين على مذهب الشدة في الأمور والأفعال، وترك الوسطية، فيترك الرخص الشرعية المقررة شرعًا، ويترك المخارج الشرعية الصحيحة المنصوص عليها لدى الفقهاء المعتبرين، مختارًا للشدائد من الأحكام والأقوال، وغالبًا ما يكون الباعث على ذلك هو إظهار عدم التساهل في الدين والتزام الورع وشدة التقوى، والأخذ بظواهر الأحكام دون نظر لواقع المستفتين وظروفهم.

ومن كان ظنُّه ذاك فقد أخطأ، واضطربت فتواه؛ لما هو مقرَّر من أنَّ المنهج الصحيح المنضبط للفتوى هو حمْلُ المكلفين على الوسط، وذلك يتأتَّى من جهة حمل المكلفين على مواردِ الشرع وأدلته دون إفراطٍ ولا تفريط، فلا يذهب بهم مذهبَ الشدَّة، ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال؛ وذلك “لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدَّى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة” ([47]). ويقول الشاطبي: “وربما فهم بعض الناس أنَّ ترك الترخُّص تشديد، فلا يجعل بينهما وسطًا، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة، وأم الكتاب، ومن تأمَّل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك” ([48]).

ومن ثم كان على المفتي أن يراعيَ أحوالَ المستفتين، ولا يغلوَ في التشدُّد والضيق عليهم، بل يعالج أحوالهم بالرخص التي سهل الله بها لعباده، كإباحة المحظورات عند الضرورات، كل بحسب حاله، فإذا أدَّت العزيمة إلى الضيق كانت الرخصة أحبَّ إلى الله من العزيمة؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ} [البقرة: 185]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ}   [الحج: 78]، وقوله تعالى: {ﱲ ﱳ ﱴ  ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ} [المائدة: 6]، قال الجصَّاص عند تفسيره لهذه الآية: “لمَّا كان الحرج الضيق، ونفى الله عن نفسه إرادةَ الحرجِ بنا، ساغ الاستدلالُ بظاهره في نفي الضيق وإثبات التوسعة في كل ما اختلف فيه من أحكام السمعيات، فيكون القائل بما يوجب الحرج والضيق محجوجًا بظاهر هذه الآية”([49]).

وحمْلُ المكلفين على الوسط -الوسطية في الفتوى- أمر لا يجيده إلا الفقيه العالم الرباني البالغ ذروة الاجتهاد؛ لقول سفيان الثوري: “إنما العلم عندنا الرخصةُ من ثقة، وأما التشديد فيحسنه كل أحد”([50]). وقال الإمام عطاء بن أبي رباح المكي بعد أن أفتى أحدَ الناس عن سؤاله: “الدين سمحٌ سهلٌ”([51])، ولذا نصَّ الشاطبي على أنَّ المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناسَ على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.

والدليل على صحَّة هذا المذهب أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة؛ لأن مقصدَ الشارع من المكلف هو الحمْلُ على التوسُّط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذمومًا عند العلماء الراسخين، ثم أورد الأدلة على هذا المذهب من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأضاف أنَّ الميلَ إلى الرُّخص في الفتيا بإطلاق يكون مضادًّا للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضًا ([52])، والأدلة على ذلك كثيرة.

وعلى ذلك: فعلى المفتي أن ينتبهَ لأحوال المستفتين، وأن يراعيَ ذلك عند تنزيل الحكم الشرعي على واقعته، فمن غلب عليه التحرج والضيق، وحمل النفس على ما يرهقها، أفتاه بما فيه الترجية، والترغيب، والترخيص، وإخباره بما فيه سعة والتيسير عليه، وأنه يجزئه القليل من العمل إن كان خالصًا صوابًا، ومن غلب عليه التهاون والتساهل والانحلال في الدين أفتاه بما فيه الترهيب والتخويف والزجر([53])، وكل ذلك من غير أن يبدل المفتي حكمًا شرعيًّا من تلقاء نفسه بالهوى والتشهي، بل تكون فتواه مطابقةً لمقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفتيا المنصوص عليها في كتب ومدونات الفتوى وأصول الفقه.

فإن لم تكن الفتيا بمقتضى الدليل الشرعي، بل أفتاه بما فيه الرخصة عن غير ثقة ومن غير دليل معتبر، وكذا بما فيه التشدُّد والضيق، فيكون الترخيص والتشدد تشهيًا وجريًا مع الهوى، وهو ممنوع شرعًا، وسبب من أسباب اضطراب الفتوى؛ يقول الشاطبي: فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتيَ بما يشتهي، أو يفتي زيدًا بما لا يفتي به عمرًا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟! إن المفتي لا يحل له أن يتخيَّر بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد، ولا أن يفتي به أحدًا.

والواجب على المفتي أن يعلمَ أنَّ الله أمره أن يحكمَ بما أنزل الله من الحق، فيجتهد في طلبه، ونهاه أن يخالفَه وينحرف عنه، وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته؟! ([54]).

هذا وكلما اتسع علم المرء، زادت رحمته بالعباد، وظهر التيسير في فتواه، وبعد عن التشدد المذموم، وكانت فتواه منضبطةً متطابقةً مع أدلة الشرع، ملائمة لأحوال المستفتين.

  • عدم إدراك المقاصد والمآلات في الفتوى:

من الأسباب الموجبة لاضطراب الفتوى أيضًا: عدم إدراك المقاصد والمآلات؛ فمخالفة المفتي للمقاصد الشرعية فيما يفتي به سببٌ من أسباب اضطراب الفتوى، وعدم انضباطها، وفي المقابل: فإن الاهتداء بالمقاصد ومراعاتها سببٌ موجبٌ لانضباط الفتوى وتنزيل الحكم الشرعي الصحيح على الواقعة، لذا أوضح الشاطبي أنَّ أكثر زلَّات المجتهد راجعة إلى الغفلة عن المقاصد في المعاني التي اجتهد فيها ([55])، فينزل الحكم على غير محله الصحيح، وينجم عن ذلك من سوء ووخامة المآل في الفتوى؛ مما يجعل الواقع معزولًا عن الدين وهدْي الشرع الحنيف، وإذا بالناس في تقلقل وتخبُّط في أمورهم ومعايشهم.

ومما هو مقرَّر لدى العلماء أنَّ الشريعة مبنيَّةٌ على اعتبار مصالح العباد في المعاش والمعاد: يقول الشاطبي: “إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا”([56])، فالأحكام الشرعية مشتملة على مقاصدَ وغاياتٍ قصدها الشارع الشريف عند تشريع الأحكام، وطلب مراعاتها وتحقيقها.

يقول العز بن السلام: “التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم”([57]).

ويقول ابن القيم: “إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالحُ كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث: فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل” ([58]).

فإدراك وفهم مقاصد الشرعية إذًا أمر ضروري لا غنى عنه لمَنْ يتصدر للإفتاء، وهو شرط في بلوغ مرتبة الاجتهاد والفتيا، كما نَصَّ عليه المحققون؛ وفي ذلك يقول الشاطبي: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: الممكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها” ([59]).

وعلى المفتي أيضًا إدراك المآل فيما يفتي به من أمور ومسائل؛ وذلك لأن اعتبار المآلات جزءٌ لا يتجزَّأ من مقاصدِ الشريعة؛ إذ إنها جزءٌ منها ومتفرعة عنها، فاعتبار المآل يتحقق من “كون الفعل موافقًا أو مناقضًا لمقاصد الشرع بالنظر فيما يؤول إليه الفعل عند وقوعه ومدى موافقته لمقاصدِ التشريع، بل لا يمكن أن تُعرف المآلات إلا بمعرفة مقاصدِ التشريع” ([60])، وقد نصَّ الشاطبي على أن النظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات من خصائصِ المجتهد والفقيه الرباني الراسخِ في العلم ([61]).

فالنظر في الحال والمآل وربْطُه بالمقاصدِ أساس من أساسيات منطلقات الفتوى المنضبطة الصحيحة لا يصحُّ للمفتي أن يتجاهله أو يغفل عنه([62])، وعليه أن يتمهَّل في إصدار فتواه، فينظر في حالها ومآلها قبل إصدارها؛ وذلك “لأن الفعل قد يكون غيرَ مشروعٍ لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحةٍ تندفعُ به، ولكنْ له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدَّى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدَّى استدفاع المفسدة إلى مفسدةٍ تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاقُ القول بعدم المشروعية”([63]).

فينبغي على المفتي إذًا أن يراعيَ مقاصدَ الشرع الحنيف والغايات التي جاءت من أجله في الفتوى؛ بمعنى أن تكون الفتوى موافقةً لمقاصدِ الشريعة، وملائمةً لها في الحال والمآل معًا عند إصدار الحكم فيها، “فقد يكون النظر إلى أصل الواقعة يوجب التحريم أو الإباحة أو الوجوب، ولكن اعتبار المقاصد في حال الواقعة أو مآلها يتطلَّب حكمًا آخر نظرًا لترتب المفسدة عند الحكم على أصل الواقعة”([64])، وحينئذ “متى كان الفعل مفضيًا إلى مصلحة، أو تحولت مفسدته إلى مصلحة راجحة كان مشروعًا ومطلوبًا، ومتى كان الفعل مفضيًا إلى مفسدة، أو تحولت مصلحته إلى مفسدة راجحة أو مساوية لمصلحته صار منهيًّا عنه” ([65]).

يتجلَّى من ذلك: أنَّ تطبيقَ الحكم الأصلي على الفعل والإفتاء بالمشروعية وعدمها دون اعتبارٍ لما يحتفُّ به مفضٍ إلى مناقضة المقاصد الشرعية، وسبب من أسباب اضطراب الفتوى؛ لما قرره الفقهاء من أنَّ “كل تصرُّف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل”([66]).

وبقدر تمكُّن المفتي من المقاصدِ والمآلات في الفتوى، بقدر ما تكون صوابية الفتوى وانضباطها، وإهمال ذلك وعدم إدراكه زلة له تنتهي به إلى هدم قواعد الشرع الحنيف من حيث لا يدري، والإساءة إلى تعالميه ([67]).

لذا ينصح الطاهر بن عاشور للباحث في مقاصد الشريعة: “أن يطيلَ التأمُّل ويجيد التثبُّت في إثبات مقصد شرعي، وإياه والتساهل والتسرع في ذلك؛ لأنَّ تعيينَ مقصد شرعي كلي أو جزئي أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط، ففي الخطأ فيه خطر عظيم.

فعليه أن لا يعيّن مقصدًا شرعيًّا إلا بعد استقراء تصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه، وبعد اقتفاء آثار أئمَّة الفقه ليستضيءَ بأفهامهم، وما حصل لهم من ممارسة قواعد الشرع، فإنْ هو فعل ذلك اكتسب قوةَ استنباط يَفهم بها مقصود الشارع”([68]).

فالمقاصد إذًا حياطة للمفتي من الاضطراب في الفتوى تعطي له اطمئنانًا في عدم وجود المعارض، وتمكنه من فهم النصوص الشرعية على حقيقتها عند الاجتهاد، وتنزيل الحكم الشرعي على الوقائع المستجدة؛ إذ إنَّ هذه المستجدَّات قد يعوزها النص الخاص بها، فيحتاج المفتي إلى النظر في المقاصدِ والأصول العامَّة، حتى يجتهد في هذه الواقعة، ويثبت لها الحكم الشرعي الصحيح ([69]).

والقدرة على إدراك ومراعاة المقاصد في الفتوى هو سمة من سمات المفتي والمجتهد الماهر: فأكثر المجتهدين إصابةً وأكثرهم صوابًا كما يقول ابن عاشور: هو المجتهد الذي يكون نجاحُه في ذلك بقدر غَوصِه في تطلب مقاصد الشريعة ([70])، وبهذه المقدرة يستحق المرء أن يكون في منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار التبليغ عنه؛ يقول الشاطبي: “إذا بلغ الإنسان مبلغًا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله” ([71]).

  • عدم مراعاة الواقع:

إنَّ الخطأ في تصوير الواقع -أو ما يسمى بفقه الواقع- أو عدم مراعاته من قبل المفتي يُعدُّ من أسباب اضطراب الفتوى: فإذا تصوَّر المفتي الواقعَ على غير حقيقته وما هو موجود عليه بالفعل، كانت فتواه مغلوطةً في غير محلها، لذا نبَّه ابن القيم على ضرورة إدراك الواقع للمفتي والحاكم، فيقول: “ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر” ([72]).

وفقه الواقع يتكون من: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأحداث، وعالم الأفكار، وعالم النظم، ويتكون أيضًا من العلاقات البينية المتشابكة بين تلك العوالم، ولا بد للمفتي من مراعاة كل ذلك في إدراك الواقع والتعامل معه ([73]).

ومعرفة أحوال الناس وأعرافهم وعادتهم هي جزء لا يتجزأ من إدراك هذا الواقع على المفتي مراعاته؛ فإن لم يكن له معرفة بالناس وأحوالهم “تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم”([74])؛ حتى تكون فتواه منضبطةً صحيحةً متوافقةً مع شرع الله تعالى، ملائمةً  لحال المستفتين وأعرافهم.

 

  • عدم المشاورة في الحكم عند الإشكال:

من الأسباب الموجبة لاضطراب الفتوى في كثير من الأحيان هو تفرُّد المفتي بالجواب، وعدم مشاورة غيره من أهل العلم من أهل فنه واختصاصه من الفقهاء والمفتين، واستقلاله بالجواب في المسائل والقضايا التي تحتاج إلى كثيرٍ من المشاورة والمحاورة، وتبادُل الحديث، وعرْض الآراء حولها وصولًا إلى الحكم الشرعي الصحيح.

والمشاورة في الفتوى في أصلها مستحبة (ليست واجبة) للمفتي عند الفقهاء؛ لما لها من فوائدَ جمَّة، أبرزها ظهور وإيضاح بعض الأمور التي قد تغفل عن المفتي عند الإفتاء فيما هو معروض عليه؛ يقول النووي عند حديثه عن آداب المفتي وشروطه: “يستحبُّ له أن يقرأها -أي: الفتوى- على حاضريه ممن هو أهل لذلك، ويشاورهم ويباحثهم برفق وإنصاف، وإن كانوا دونه وتلامذته للاقتداء بالسلف، ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه”([75]).

وهذا الاستحباب مأخوذ من عموميات الشريعة في غير موضوع الفتوى، ومما درج عليه السلف الصالح فيها، حيث كانوا يستشيرون حين تعرض لهم المشكلة، أو يسألون عنها، ودليل ذلك ثناء الله تعالى على المؤمنين حيث كان أمْرُهم شورى بينهم في قوله عز وجل: {وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ}  [الشورى: 38]، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يشاورهم في الأمر في قوله عز وجل: {وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ} [آل عمران: 159].

قال قتادة: “أمره بمشاورتهم تألُّفًا لهم وتطييبًا لأنفسهم. وقال الضحاك: أمره بمشاورتهم؛ لما علم فيها من الفضل. وقال الحسن البصري: أمره بمشاورتهم؛ ليستنَّ به المسلمون، ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنيًّا”([76]).

وعلى هذا كان الخلفاء الراشدون، وخاصَّة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالمنقول من مشاورته لسائر الصحابة أكثر من أن يحصر؛ حيث كانت المسألة تنزل عليه، فيستشير فيها من حضر من الصحابة، بل ربما جمعهم وشاورهم، حتى كان يشاور ابن عباس رضي الله عنهما وهو آن ذاك أحْدثُ القوم سِنًّا، وكان يشاور عليًّا كرم الله وجهه، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم، رضوان الله عليهم جميعًا ([77]).

فالمشاورة في الأمور -سواء في أمور الدين أو الدنيا- من الأهمية بمكان؛ يقول الماوردي: “اعلم أن من الحزم لكل ذي لب أن لا يبرم أمرًا ولا يمضي عزمًا إلا بمشورة ذي الرأي الناصح، ومطالعة ذي العقل الراجح… وقال بعض الحكماء: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه. وقال بعض الأدباء: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار. وقال بعض البلغاء: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما ضل. وقال بشار بن برد:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعنْ … برأي نصيح أو نصيحة حازمِ

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة … فإنَّ الخوافي قوة للقوادم” ([78]).

فالمشاورة إذًا حصنٌ للمرء من الندامة، وأمان له من الملامة، فعلها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، واقتدى به أصحابه من بعده، وحثوا عليها، ونبهوا على أهميتها، من ذلك: قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “الرجال ثلاثة: رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه، وينزل حيث يأمره أهل الرأي، ورجل حائر بأمره لا يأتمر رشدًا ولا يطيع مرشدًا. وقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد. وقول عمر بن عبد العزيز: إن المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة، لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم، وقول سيف بن ذي يزن: “من أعجب برأيه لم يشاور، ومن استبد برأيه كان من الصواب بعيدا”([79]).

والأحاديث والآثار التي حثَّت على المشاورة نكتفي بما أشرنا إليه.

نعود فنقول: إنَّه ينبغي على المفتي مشاورةُ مَنْ يثق بعلمه ودينه، ولا يستقل بالجواب تساميًا بنفسه عن المشاورة، يقول ابن القيم: “إن كان عنده مَنْ يثق بعلمه ودينه، فينبغي له أن يشاوره، ولا يستقل بالجواب ذهابًا بنفسه وارتفاعًا بها أن يستعين على الفتاوى بغيره من أهل العلم، وهذا من الجهل”([80])؛ لما مرَّ من أمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه، وحثهم على ذلك، ولما في ذلك من البركة والاقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم وبالسلف الصالح رضي الله عنهم([81])؛ لذا نصَّ مجمع الفقه الإسلامي على أنَّ من آداب المفتي أن يكون “مشاورًا غيره من أهل العلم”([82])، فالمرء مهما بلغ من العلم فإنه “لا يحيط علمًا بالشرع كله، وإنما يعلم البعض وقد يخفى عليه البعض، فربما ذكر له من يستشيره ما يخفى عليه منه”([83])، فبالمشاورة والمباحثة يكتمل المقصود، وتحصل الفائدة للمفتي بالوصول إلى سبيل الرشاد والصواب فيما يفتي به؛ لقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. فالمشاورة في طلب الحق من باب المجاهدة ([84]).

والمشاورة في الفتوى مرتبطة بالمسائلِ التي تحتاج إلى الاجتهاد؛ كونها مختلفًا فيها بين الفقهاء، أو كونها من المسائلِ المستجدَّة التي لم يتحدثْ عنها الفقهاء سابقًا، وتحتاج إلى البحث والاجتهاد وتبادل الآراء الصحيحة حولها من الفقهاء المؤهلين لينقدح لهم الحق والصواب، أمَّا عن أصولِ الشريعة المقطوع بحكمها في كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله، أو إجماع الفقهاء، أو قياس جلي واضح، فليس بحاجةٍ إلى مشاورة غيره، بل لإمضاء الحكم مباشرة ([85]).

كما أنَّ المشاورة في الفتوى مقيدة بكونها لم تعارضها مفسدة: من إفشاء سر السائل، أو تعريضه للأذى، أو مفسدة لبعض الحاضرين، فإن عارضت المشاورة ذلك فلا ينبغي للمفتي أن يرتكبَ ذلك دفعًا لتلك المفاسد، فالمفتي كالطبيب يطلع من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيره، وقد يضر بهم إفشاؤها، أو يعرضهم للأذى، فعليه كتمانُ أسرارِ المستفتين، فيما لا يحسن إظهاره([86])، ولئلا يحول إفشاؤه لها بين المستفتي والبوح بصورة الواقعة إذا عرف أن سرَّه ليس في مأمنٍ، وبالتالي ربما وقع خلله في تصوير هذه الواقعة، يستتبعه خلل في التكييف، يؤدي إلى خطأ في الحكم.

ويمكن للمفتي لتفادي هذا وللاستفادة من فوائد المشاورة: “أن يستعير أسماء غير أسماء الأشخاص الذين استفتوه عند المشاورة، أو يستخدم أي أسلوب آخر يدعو إلى الستر، وعدم الكشف عن أحوال الناس، كالتعريض ونحوه” ([87]).

يتجلى مما سبق: أنَّ المشاورة في الفتوى مستحبة، ينبغي على المفتي الحرصُ عليها في كل ما يفتي به من مسائلِ الاجتهاد والمستجدات والمتشابهات والمسائل المشكلة التي تستدعي إلى مزيدِ نظرٍ وبحثٍ واجتهادٍ، وصولًا إلى الحكم الصحيح، إلَّا أنه إذا أشكل عليه الحكم في الفتوى وجب عليه المشاورة فيها([88])، فإن تفرَّد بالحكم أتت الفتوى غالبًا في غير محلها مشوبة بعيب الاضطراب وعدم الانضباط.

 

  • عدم الاستعانة بالمتخصصين في المسائل المستحدثة:

من أسباب اضطراب الفتوى: عدمُ الاستعانة بالمتخصصين، والرجوع إليهم في المسائلِ المستحدثة ذات الصلة بالعلوم الأخرى: كعلم الاقتصاد، أو الطب، أو الهندسة، أو الفيزياء، أو الكمياء، أو الفلك، إلى نحو ذلك من العلوم والمجالات المختلفة؛ لتصور المسألة المسؤول عنها قبل تنزيل الحكم الشرعي على تلك المسألة.

وكما أوضحنا سابقًا أنَّ الفتوى تمرُّ بأربع مراحل أساسية قبل إصدار المفتي فيها جوابًا على الواقعة المسؤول عنها: أول هذه المراحل وأهمها، هو “تصوير أو تصور المسألة” تصورًا دقيقًا مطابقًا لواقع المسألة أو النازلة المسؤول عنها، وهذا شرط أساسي لا غنى  عنه لصدور الفتوى بشكل صحيح منضبط، فكلما كان التصوير صحيحًا مطابقًا للواقع، وأجريت المراحل التالية على الوجه الصحيح، كانت الفتوى منضبطة، أبعدَ عن الخطأ وأقربَ إلى تحقيق مقاصدِ الشرع ومصالح العباد، وانعدام هذا الشرط يؤدي إلى أن تكون الفتوى مضطربةً، صادرةً في غير محلها، غيرَ معبرةٍ عن حقيقة الأمر.

وتصوير المسألة يقع أساسًا على المستفتي في المسائل العادية، لكن ينبغي على المفتي أن يتحرَّى ويجتهدَ في تصوير واقع المسألة أيضا؛ فكثيرًا من الأحيان ما يتم الخلط والخطأ من قبل المستفتي في تصوير مسألته، أما إذا تعلق سؤال المستفتي بنازلة من النوازل والوقائع المستحدثة ذات الصلة بالتخصصات الأخرى، فوجب على المفتي الرجوعُ لأهل تلك التخصصات، والاستعانةُ بهم في تصوير المسألة؛ تمهيدًا لإجراء باقي مراحل الفتوى، وإنزال الحكم الشرعي عليها، ولا شكَّ أن عدم الاستعانة بالمتخصصين في تلك المجالات بشأن تلك القضايا يؤدي غالبًا إلى اضطراب الفتوى؛ كونها صادرةً في غير محلها، فالخطأ في التصور يتأتى منه خطأ في التكييف، ومن ثم في إنزال الحكم على الواقعة محل السؤال.

فالواجب على المفتي إذًا أن يراعيَ أن هذا العصر هو عصر التخصص، ولا بد له من الرجوع في فتواه إلى الدراسات المعتمدة والبحوث الثابتة في مختلف المجالات، والاستعانة بأرباب هذه المجالات، وهذا الرجوع بمثابة الفحوصات التي يطلبها الطبيب من المريض، ولا بد من احترام كلام أهل التخصص وأخذه في الاعتبار ما دام يفيد ويحقق المصلحة ولا يتعارض مع الشرع الحنيف.

وهذا الشرع الحنيف أرشدنا أيضًا إلى اللجوء إلى أهل الاختصاص كل في تخصصه، وسؤال أهل الذِّكْر إذا خَفِي علينا شيء، في قوله تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [ النحل: 43] والمراد بأهل الذكر: هم أهل التخصص والعلم والخبرة في كل فنٍّ وعلمٍ، كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمنا احترام التخصص، فبرغم علمه الرباني كان يستشير المتخصصين في كافة الشؤون الدنيوية من الصحابة ليعلمنا اللجوء للمتخصصين.

إنَّ التكلم في علوم الدين بغير علم يؤول إلى فساد عظيم في الدين والاعتقاد، وكذلك التجرُّؤ في كافة التخصصات الأخرى من طب، وصيدلة، وغيرهما، قد يؤول إلى فساد في الأنفس، وقد يعرض حياة الإنسان إلى الخطر، ومن المقاصد الشرعية العليا حفظ النفس، وتعدُّ أهم الضروريات الخمس التي قام على أساسها الشرع الشريف، فكان حفظها أصلًا قطعيًّا، وكليةً عامةً في الدِّيْن، ولذا وجب احترام التخصص ([89]).

وعلى ذلك: فلا يجوز للمفتي أن يصدرَ الحكم في الفتوى في المسألة المعروضة عليه دون أن يجتهدَ في الوصول إلى التصور الصحيح لها المطابق للواقع، ولا يصحُّ له بحالٍ أن يتكبر عن سؤال غيره من أهل التخصص والخبرة في المجالات المختلفة؛ فقد قال سبحانه وتعالى: {وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} [يوسف: 76]، يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة: “وفوق كل عالم من هو أعلمُ منه، حتى ينتهي ذلك إلى الله”([90]).

وفي السنة ما روي عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يخبر أن رجلًا أصابه جرح في رأسه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أصابه احتلام، فأمر بالاغتسال، فاغتسل، فكز فمات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ))قتلوه، قتلهم الله، أولم يكن شفاء العي السؤال(( ([91]).

فعلى المفتي أن لا يتحرَّج في الرجوع إلى أهل التخصص في شتَّى المجالات حتى يستطيع أن يحكم على الواقعة محل النظر بما يناسبها من أحكام شرعية ملائمة للواقع المعيش.

إذًا فإنَّ الرجوع إلى الخبراء والمختصين لاستطلاع آرائهم في صورة المسألة أمرٌ لا غنى للمفتي عنه، إلا أن هذا لا يعني نقل الاختصاص، بل يبقى اختصاص الفتوى وبيان الحكم الشرعي مكفولًا للمفتي بعد أن يحيط علمًا بالمقدار الذي يتوقف عليه التصور الصحيح للمسألة أو الواقعة محل البحث.

نعم، قد يكون الخبير الذي يستعين به المفتي على قدرٍ من الثقافة الشرعية بحيث يمكنه أن يعرضَ فكرةً، أو يبديَ رأيًا ما في الجانب الشرعي، وهذا مما لا بأسَ به، وقد يفيد المفتي زيادة في البصيرة، إلَّا أنَّ الرأي الشرعي النهائي الذي يعتمد في الفتوى هو ما يراه المفتي، لا ما يراه الخبير([92]).

إنَّ رجوع المفتي لأقوال المتخصصين في مختلف المجالات هو فهم للواقع، ومن سعة الأفق والاجتهاد، ومن ثم يصل لحكم شرعي صحيح منضبط، لذا دأبت المؤسسات الإفتائية ألَّا تتسرَّع إلى الفتوى في النوازلِ والمستجدَّات، حتى تجمع لها الخبراء المتخصصين وتستفتيهم في أمر هذه النازلة أو الواقعة -طبية كانت أو فلكية أو سياسية إلى نحو ذلك- فإذا اتضح لها الفهم التام لأبعاد تلك النازلة وملابساتها، أصدرت حكمها الشرعي مبنيًّا على فقه الواقع، وحقيقة الحال.

ولهذا المبدأ تطبيقاتٌ كثيرةٌ في تاريخ الفقه الإسلامي، ومن أقرب النماذج التي يتجلى فيها هذا التعاون المثمر بين المفتي وأهل الخبرة في المجالات المتنوعة، ما يلي:

  • الفتوى الصادرة عن دار الإفتاء المصرية حول غش اللبن برقم 1757 لسنة 2006م، والتي جاء فيها: “أعمل في تبريد الألبان وتوريدها للشركات الكبرى لتصنيعها، وهذه الشركات تطلب حموضة معينة للبن -وهي ثلاث عشرة- وهي درجة حموضة اللبن عند الحلْب، ولكن درجة الحموضة ترتفع إلى عشرين أو أكثر من زمن حلب اللبن وتوريده إِلَيَّ من التجار وحتى يأخذ اللبن درجة التبريد الكافية لتوريده للشركات، وهذا ما يجعل الشركات ترفضه، ولذا فإنني ألجأ إلى وضع مادة النشادر -الأمونيا- أو مادة الصودا الكاوية لخفض نسبة الحموضة للنسبة المطلوبة، علمًا بأن جميع العاملين في هذا المجال يتبعون نفس الطريقة، وهذا بعلمٍ من هذه الشركات، كما أنني أتسلم بعض الألبان من العملاء وأنا أعلم أنها مغشوشة بنسبة مياه وبها نسبة حموضة أعلى من المستوى المطلوب، فهل وضع هذه المواد مباح؟ وإذا كان مباحًا، فما النسبة الجائز وضعها؟ وهل وضع الماء باللبن جائز؟

وجاء الجواب بعد مراجعة المختصين العلميين في هذا المجال، واستشارة الأستاذ الدكتور رئيس شعبة بحوث الصناعات الغذائية والتغذية بالمركز القومي للبحوث، أفاد أنه: من حيث الإباحة من عدمها فإن التشريعاتِ والقوانينَ الرقابية والمواصفات القياسية المصرية والعالمية تُجَرِّم أيَّ إضافات أو حدوث أي تغيرات في صورة اللبن، سواء باستخدام موادَّ ضارَّةٍ بالصحة أو غير ضارة بها، وبأي نِسَب من شأنها أن تُحدِث تغيرًا في اللبن من ناحية خواصه الطبيعية أو الكيماوية التي أنتج عليها من ضَرع الحيوان، وتضع عقوبةً على مخالفة هذه التشريعات أقلها مصادرة اللبن، وتطلق على صورة هذه التدخلات المختلفة: غش اللبن.

ولمزيد من التوضيح فإن الصورة المصرَّح بتداول الألبان السائلة عليها هي:

– تعريف اللبن: الإفراز الطبيعي للغدة اللبنية في الحيوانات الثديية التي لا تزيد الحموضة فيه عن 0.16 – 0.17% مقدرة كحمض لاكتيك.

ويوصف بالتركيب الكيماوي الآتي:

– الماء 87%.

– كربوهيدرات: 4.5 – 5% سكر اللبن – سكر اللاكتوز.

– الدهن: 3 – 3.5% لبن بقري، 5.5 – 9% لبن جاموسي.

– بروتين: 3.3% لبن بقري، 4.5% لبن جاموسي.

– المعادن: كالسيوم 120 ملجم/ لتر لبن بقري، 108 ملجم/ لتر لبن جاموسي.

– بالإضافة إلى بعض الفيتامينات والأملاح المعدنية الأخرى بنسب ضئيلة.

وهذه هي الصورة التي ألزمت التشريعات تداول اللبن السائل عليها مبردًا أو مبسترًا.

ولمزيد من الفائدة فإننا نورد حصرًا لطرق الغش التي وردت بالمراجع العلمية وكذلك التشريعات والمواصفات الوضعية وهي:

1- تخفيفه بالماء أو نزع جزء من قشدته.

2- إضافة اللبن الفَرز إليه.

3- إضافة النشا أو بعض المواد الرابطة إلى اللبن المخفف بالماء بقصد رفع لُزوجته وإظهاره بمظهر أكثر دسامة.

4- قد يضاف قليل من ملح الطعام أو السكر بقصد رفع قراءة اللاكتومتر، وبالتالي زيادة الوزن النوعي للبن.

5- قد يضاف مادة ملونة مثل الأناتو لإظهار اللبن الجاموسي المغشوش بمظهر اللبن البقري؛ لانخفاض معدلات اللبن الأخير عن الجاموسي.

6- إضافة بعض المواد الحافظة مثل الفورمالين والبوراكس وفوق أكسيد الأيدروجين أو بعض المواد القلوية مثل: كربونات أو بيكربونات الصوديوم أو الصودا الكاوية أو النشادر أو بعض المضادات الحيوية.

7- وقد يلجأ بعضهم إلى استرجاع اللبن المجفف وعرضه على أنه لبن طازج، أو يقوم بخلط جزء من اللبن المجفف مع اللبن الطبيعي.

إن هذه الوسائل المنتشرة لغش اللبن وغيرها من الوسائل التي لم تُعرف بعدُ لا يمكن أن تكونَ مرغوبةً أو مشروعةً قانونًا، بالإضافة إلى ما يترتب عليها من كثير من المشكلات التي تتلخص فيما يلي:

1- المشكلات الصحية العديدة التي تنشأ عن غش اللبن والتي تختلف باختلاف نوع الغش.

2- انخفاض القيمة الغذائية للبن ومنتجاته.

3- الصعوبات التي تظهر أثناء صناعة اللبن أو عند استخدامه في صناعة بعض المنتجات كما يحدث عند استخدام لبن مضاف إليه إحدى المواد الحافظة أو الكيماوية أو مضادات حيوية في صناعة الألبان المتخمرة أو بعض أنواع الجبن.

الخلاصة: أنه لا يجوز إضافة أي موادَّ خارجة عن أصل اللبن طبيعيًّا من الضرع سواء أكانت ضارةً بالصحة أم غيرَ ضارةٍ بها وبأي نسب، وهذا وفق القوانين والتشريعات والمواصفات القياسية والرأي العلمي. انتهى تقرير المركز.

بعد هذا التَّصوُّر الحاصل من المركز المختص، جاء الحكم من المفتي بقوله-: “وعليه، ولأنَّ الغش عامة من المحرمات، وخاصة في الأطعمة وأقوات الناس، وغذائهم عامة، وغذاء أطفالهم خاصة؛ وذلك للأحاديثِ المتكاثرة الواردة في هذا الصدد مثل قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا))، وكان أبو هريرةَ رضي الله تعالى عنه قد مرَّ بناحية الحرَّة بالمدينة المنورة؛ فإذا إنسان يحمل لبنًا يبيعه، فنظر إليه أبو هريرة فإذا هو قد خلطه بالماء، فقال له أبو هريرة: كيف بك إذ قيل لك يوم القيامة: خَلِّص الماءَ من اللبن؟! رواه البيهقي والأصبهاني بإسناد قال عنه المنذري في “الترغيب والترهيب”: لا بأس به.

لكل هذا ولغيره نرى عدمَ جواز إضافة الأمونيا وأمثالها مما يحافظ على حموضة اللبن عند حدٍّ معين، وعدم جواز إضافة الماء، وعدم جواز تغيير المركبات الطبيعية للبن عند بيعه لبنًا”.

وفي فتوى الإجهاض: لا تصدر الدار فتواها إلا بعد تقرير من الطبيب المختص، فجاء في عدة فتاوى لها: “والراجح والمختار للفتوى في ذلك: أنه يحرم الإجهاض مطلقًا سواء قبل نفخ الروح أو بعده إلا لضرورة شرعية؛ بأن يقرِّر الطبيب العدل الثقة أن بقاء الجنين في بطن أمه فيه خطر على حياتها أو صحتها، فحينئذ يجوز إسقاطه مراعاةً لحياة الأم وصحتها المستقرة، وتغليبًا لها على حياة الجنين غير المستقرة”.

وفي الحقيقة إنَّ لدار الإفتاء منهجًا واضحًا مستقرًّا منذ نشأتها من الرجوع لأهل الاختصاص في كافة المجالات: اقتصادية كانت أو طبية أو سياسية، إلى نحو ذلك، كثر الاستعانة بهم، والرجوع إليهم في الآونة الأخيرة مع ظهور العديد من المعاملات المركبة والمعقدة كأمثال التسويق الشبكي، والتسويق الهرمي، إضافة إلى معاملات البنوك بصورها المختلفة، والتأمينات بمختلف أشكالها، وظهور عملات جديدة في سوق التعاملات كأمثال البتكوين والفوركس وغيرهما، وفي ظل وباء كورونا تم الرجوع إلى المتخصصين في مجال الطب لمعرفة عدة أمور حول هذا الوباء المستجد لإصدار الأحكام الشرعية الصحيحة المطابقة للواقع.

يتجلى مما سبق: أنه لا بد للمفتي الرجوع والاستعانة بأهل الاختصاص في كافة المجالات لإدراك تصور حقيقة المسألة، والإلمام بجميع أبعادها وملابساتها؛ ليتسنى له تنزيل الفتوى المنضبطة الصحيحة على تلك المسألة المسؤول عنها، ولو فعل غير ذلك كانت فتواه غالبًا مشوبة بعيب الاضطراب؛ لسببٍ راجعٍ إلى عدم التصوُّر الدقيق لصورة المسألة، بالرجوع إلى أصحاب الاختصاص فيها، ووضْع تصور من تلقاء نفسه، وهو ما يؤدي إلى حكم غير منضبط في الأخير، والأمثلة على هذا النوع من الفتاوى كثيرة لكل ذي لب.

 

المطلب الثاني

أسباب اضطراب الفتوى المتعلقة بالمستفتي

إنَّ أسباب عدم انضباط الفتوى ليست قاصرةً على المفتي، بل إن هناك أسبابًا راجعة إلى المستفتي، نذكر منها:

  • عدم الرجوع إلى أهل الاختصاص بالفتوى:

يعدُّ من أسباب اضطراب الفتوى المتعلقة بالمستفتين عدم رجوعهم إلى أهلها، وأهلها هم أهل الاختصاص بشأنها، والرجوع إلى من ليسوا من علماء الدين من أصحاب التخصصات الأخرى: كرجال الأدب، أو القانون، أو الطب، أو الهندسة، أو الرياضيات، إلى غير ذلك من أصحاب الدراسات الإنسانية والاجتماعية والعلوم الطبيعية، إلى نحو ذلك مما ليس له علاقة بالعلوم الشرعية، أو من علماء الدين، ولكنهم لم يتخصصوا في فقه الشريعة وأصولها، والفتوى وعلومها، بل تخصصوا في علم الكلام والعقيدة، أو في علم التفسير أو في علم الحديث، إلى غير ذلك من العلوم الشرعية، ممن لم يشتغلوا بالفقه وأصوله، ولم ترسخ أقدامهم في قواعده وضوابطه، والفتوى وإن كانت كما علمنا هي فرع من فروع علم الفقه، إلا أن لها علومَها الخاصَّةَ بها إضافة إلى علم الفقه، نص عليها الفقهاء والأصوليون، والخطر من هؤلاء أنهم يجرؤون على الإفتاء بدون علم ومعرفة بأصولها وقواعدها، فيقعون في أخطاءٍ شنيعة، ويفتون بفتاوى شاذة مضطربة غير منتظمة([93]).

ولا شك أنَّه: “لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجهلون، ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون” ([94]).

لذا قال ابن حجر: “إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب” ([95]).

فعلى هذا: لا يصح للمستفتي أن يستفتيَ مَنْ يشاء على الإطلاق؛ يقول أبو المظفر السمعاني: “فأما المستفتي فلا يجوزُ له أن يستفتيَ من شاء على الإطلاق؛ لأنه ربما يستفتي من لا يعرف الفقه، بل يجب أن يتعرف حال الفقيه في الفقه والأمانة، ويكفيه في ذلك خبر العدل الواحد” ([96]).

والانتساب للفتوى سِمَة من سمات كل عصر: فعن الإمام مالك رضي الله عنه أنه قال: “أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا ولكن استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ربيعة: ولَبَعضُ مَنْ يفتي ههنا أحقُّ بالسجن من السراق” ([97]).

قال ابن الصلاح: “رحم الله ربيعة، كيف لو أدرك زماننا؟! وما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل” ([98]).

وقال ابن حمدان: “فكيف لو رأى زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا مع قلة خبرته وسوء سيرته وشؤم سريرته، وإنما قصده السمعة والرياء ومماثلة الفضلاء والنبلاء والمشهورين المستورين والعلماء الراسخين والمتبحرين السابقين، ومع هذا فهم ينهون فلا ينتهون، وينبهون فلا ينتبهون، قد أملي لهم بانعكاف الجهال عليهم، وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم، فمن أقدم على ما ليس له أهلًا من فتيا أو قضاء أو تدريس أثم، فإن أكثر منه وأصرَّ واستمرَّ فسق ولم يحل قبول قوله ولا فتياه ولا قضاؤه، هذا حكم دين الإسلام والسلام، ولا اعتبار لمن خالف هذا الصواب، فإنا لله وإنا إليه راجعون” ([99]).

والأجدر بنا أن نقول: رحم الله هؤلاء الأعلام، كيف لو أدركوا زماننا؟! وكيف لو رأوا أنه أصبح يُفتي في دين الله في قضايا الأمة التي لو وردت على سيدنا عمر بن الخطاب لجمع لها أهلَ بدرٍ لخطورتها وأهميتها مَنْ لا علمَ له بالأصول ولا بالفروع، ولم يشم رائحة الفقه والاختلاف أصلًا، ولم يقرأ كتابًا واحدًا في أصول الفقه؟! أما الاستنباط وتحقيق المناط والقياس والعلل إلى نحو ذلك فهي أمور لم يسمع بها.

وعوام الناس لا يفرقون بين اختصاصات العلماء، بل أغلبهم يظنُّ أن الخطيب المُفوَّه، أو الواعظ البليغ، أو الداعية البارع، والمفكر الإسلامي، أو المرء صاحب الشهادات العليا في مجال من مجالات العلوم المختلفة -الدينية وغيرها- من أهل الفتوى، “والحقيقة أنه ليس كل خطيب أو واعظ أو داعية مشهور أو مفكر إسلامي معروف أهلًا لأن يتصدَّر للفتوى، فما كلُّ مائع ماء، ولا كلُّ سقف سماء، فلكل علم رجاله، ولكل فن أهله، ورحم الله امرأً عرف قدره، فوقف عنده” ([100]).

يقول النووي: “فلا يجوز له -أي: المستفتي- استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرَّد انتسابه وانتصابه لذلك” ([101]).

ولا شكَّ أنَّ الفتوى الصادرة من غير أولي العلم من أهل الاختصاص بها سببٌ من أسباب اضطراب الفتوى، ومن أعظم الأسباب والمقومات الداعية لانتشار الجهل والتطرف بين الناس: فقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من خطر سؤال هؤلاء، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص السابق ذكره: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) ([102]).

ولتفادي ذلك من قبل المستفتي: عليه الرجوعُ إلى المختصين بشأن الفتوى، وعليه أيضًا أن لا يستفتيَ في أمور دينه إلَّا من كان من العلماء الذين كملت لهم آلات الاجتهاد، بأن يكون عارفًا بالكتاب، والذي يجب عليه أن يعلم منه ما تعلَّق بذكر الأحكام من الحلال والحرام، والسنة وما يتعلق بها من أحكام، ويعرف أقاويلَ العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، ويعرف وجهَ النطق والاجتهاد والقياس، ووضع الأدلة في مواضعها والترجيح والتعليل([103])… إلى نحو ما ذكرناه فيما يكتمل به الأهلية الإفتائية لدى المفتي: فعن محمد بن سيرين رحمه الله قال: “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم” ([104])، وعن يزيد بن هارون أنه قال: “إن العالم حجة بينك وبين الله تعالى، فانظر من تجعل حجتك بين يدي الله عز وجل”([105])، فوجب على المستفتي أن ينظر فيما يأخذ منه دينه، وأن يجعل بينه وبين الله من هو أهلٌ لذلك.

كما أنه لِزامًا على المستفتي البُعْد عن الأدْعياء الذين يقحمون أنفسهم في التصدي لأمر الفتيا دون أن يكون أهلًا لهذا المنصب الخطير، فيُضلِّون ولا يَهدون، ويُفسدون ولا يُصلحون، ويوقعون الناسَ في الحرج والضيق والمشقة، ويُشوِّشون على أهل الفُتيا المتخصصين بها المؤهلين لها، ويفسدون الناس عليهم، فتضطرب الفتوى، ويعم الجهل، ويكثر الفساد، ويزيد العنف والتطرف بين العباد.

وينبغي على ولي الأمر أيضًا -كل في نطاق سلطته وولايته- أن ينظم أمر الفتيا بحيث لا تكون كلأ مباحًا لكل من هبَّ ودبَّ من ضعاف النفوس والأهواء، قال الخطيب البغدادي: “ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفحَ أحوالَ المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقرَّه عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها، وأوعده بالعقوبة إن لم ينْتَهِ عنها، وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قومًا يعينونهم، ويأمرون بأن لا يُستفتَى غيرُهم” ([106]).

  • عدم اختيار المفتي الكفء:

من أسباب اضطراب الفتوى المتعلقة بالمستفتي أيضًا: عدم اختيار المفتي الكفء والأصلح للاستفتاء “سوء اختيار المفتي” ([107])، واستفتاء المفتي الذي يوافق هواه ومشتهاه، أو حتى على أقل تقدير يوافق مذهبه السياسي؛ كما هو معروف من مفتي جماعة معين أو حزب بعينه.

والواجب على المستفتي أن لا يستفتيَ إلَّا من عرفه بالعلم والعدالة، أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقًا ([108])، وحرم عليه استفتاؤه، وعليه أن يتحرَّى المفتي الكفء الأهل للفتيا والاجتهاد ممن تحققت لديه شروط الإفتاء وضوابطه وآدابه، فعليه أن يُحسن تخير مفتيه، فيبحث عن الفقيه المتخصص في علوم الشريعة، الملم بعلوم الفتوى وأصولها، ممن استفاض كونه أهلًا للفتوى ([109]).

يقول الزركشي: “وإنما يسأل -أي: المستفتي- من عرف علمه وعدالته: بأن يراه منتصبًا لذلك، والناس متفقون على سؤاله والرجوع إليه، ولا يجوز لمن عرف بضد ذلك إجماعًا”([110]).

فعلى المستفتي إذًا أن يسألَ المفتي الأهل بالفتيا المعروف بعلمه وعدالته، فإن لم يعرف من المفتين من هو الأهل والكفء لأمر الفتيا، سأل أهلَ العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن المفتي العالمِ بالكتاب والسنة، العارفِ بما فيهما، المطلعِ على ما يحتاج إليه في فهمهما من العلوم الآلية، حتى يدلوه عليه، ويرشدوه إليه، فيسأله عن حادثته، فحينئذ يأخذ المستفتي الحق من معدنه، ويستفيد الحكم من موضعه، ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ، المخالف للشرع، المباين للحق، ومن سلك هذا المنهج، ومشى في هذا الطريق، لا يعدم مطلبه، ولا يفقد من يرشده إلى الحق، فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجد لهذا الشأن من يقوم به، ويعرفه حق معرفته ([111]).

هذا وفي الوقت الحاضر أصبح معرفة المفتي الكفء الأهل للاستفتاء أمرًا ميسورًا بالإمكان؛ بكونه أصبح منصبًا في الدولة، ينصبه -يعينه- وليُّ الأمر ويشرف على مسائله التنظيمية، يختار له من هو الأصلح والأنسب والأكفأ لهذا المنصب الرفيع في البلاد، في ضوء مجموعة من الضوابطِ والشروطِ المشترطة فيمن يتولى هذا المنصب الخطير والجليل في الوقت ذاته، كما أصبح الوصول إليه والتواصل معه أمرًا ممكنًا سهلًا؛ وذلك لتنوع الوسائل والطرق المختلفة من: مشافهة عن طريق الحضور إلى مقر عمله، أو المهاتفة بواسطة الهاتف ونحوه من وسائل الاتصال، أو البريد الإلكتروني عبر المواقع المخصصة لذلك على شبكة الإنترنت.

  • عدم البيان الدقيق للسؤال:

يُعدُّ من أسباب اضطراب الفتوى المتعلقة بالمستفتي: عدم البيان الدقيق للسؤال أو النازلة الحادثة له؛ لأن جواب المفتي مترتبٌ على سؤاله متوقف عليه، فإذا أخطأ المستفتي في عرض السؤال، فبالتأكيد سيحدث خطأ في الفتوى المتعلقة بنازلته؛ لذا كانت أهم مرحلة في مراحل الفتوى هي “مرحلة التصوير”؛ لما يترتب عليها ما بعدها من مراحل من تكييفٍ وبيان حكمٍ وتنزيلٍ وإصدارٍ للفتوى.

لذا فعلى المستفتي أن يحسن عرض مسألته أو نازلته، فيبعد عن الاختصار المخل بالسؤال، والاستطراد الممل الذي لا يفيد في الجواب؛ وذلك لأن جواب المفتي يكون على حسب ما فهمه من كلامه، يقول العز بن عبد السلام: “المفتي أسير المستفتي” ([112]).

فبقدر دقة المستفتي في عرض نازلته، تكون دقة الفتوى ومناسبتها لمقتضى الواقع والحال، وبقدر بعد المستفتي عن الدقة في عرض سؤاله، تكون الفتوى مضطربةً بعيدةً عن سبل الحق والرشاد، مجانبةً للصواب.

والواجب عليه إذًا أن يحسن إلقاء سؤاله إن كان الاستفتاء بالنطق، وإن حصل بالكتابة أن يكون السؤال واضحًا عبارة وخطًّا، فإذا لم يكن يحسن ذلك أناب عنه من يعرف حسن الإلقاء أو الكتابة ([113]).

وعليه أيضًا أن يكون صادقًا في عرض نازلته، أمِينًا في ذلك، دقيقًا في بيانها للمفتي، فيشرح واقع مسألته بكل دقةٍ ووضوح وأمانةٍ، ولا يُخفِي عليه شيئًا مما يتعلق بها، فيذكر ما له وما عليه؛ حتى يكون المفتي مطالعًا ملمًّا بواقعة السؤال وملابسته، وبالتالي يتمكن من تنزيل الحكم الشرعي على الوجه الصحيح المنضبط الموافق للشرع الحنيف ومقاصده الكلية، مع العلم بأنه قد يتوقَّف هذا الحكم المنضبط على إيضاح جزئية معينة في موضوع الاستفتاء، ويؤدي إغفالها إلى تغيُّر حكم الفتوى، وبالتالي عدم مطابقتها لحالة المستفتي.

فحسن السؤال نصف الجواب، ومن أحسن السؤال وجد حسن الجواب؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حسن السؤال نص العلم)) ([114])، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: “إذا سأل أحدكم، فلينظر كيف يسأل، فإنه ليس أحد إلا وهو أعلم بما سأل عنه من المسؤول” ([115]).

فإذا كَذَب المستفتي في سؤاله، وذكر ما يخالف الحقيقة، أو أخفى بعضها، فإنَّ فتوى المفتي تكون مضطربةً في حقه، لا تحلل له حرامًا، ولا تحرم حلالًا؛ لأنه إنما يفتي على الظاهر، والله يتولى السرائر، والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألْحنَ بحُجَّته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار)) ([116]).

فعلى المستفتي تقوى الله عز وجل، ومراقبته في عرض سؤاله على المفتي؛ ليصل إلى الحكم الشرعي الصحيح الذي يطمئنُّ إليه قلبُه.

  • خضوع المستفتي للهوى والتشهي:

إنَّ خضوع المستفتي للهوى والتشهي يؤدي بلا شكٍّ إلى فتوى شاذَّة مضطربةِ الحكم؛ فقد يدفع المستفتي الهوى، فيزين الباطل بألفاظ حسنة ليغرر بالمفتي؛ حتى يسوغ هذا الأمر للناس مع كونه باطل، يقول ابن القيم: “فكم من باطلٍ يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق؟ وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل؟ ومن له أدنى فطنةٍ وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس” ([117]).

ولهذا اشترط المحققون من الأصوليين والفقهاء الفطنة واليقظة من المفتي ([118])؛ فيكون بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، غير محسن الظن بهم، بل يكون حذرًا فطنًا فقيهًا بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهُه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألةٍ ظاهرُها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم، فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها؛ فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود ([119]).

يقول ابن عابدين: “وهذا شرط لازم في زماننا -أي: اليقظة والفطنة-… وليحترز من الوكلاء في الخصومات؛ فإن أحدهم لا يرضى إلا بإثبات دعواه لموكله بأي وجه أمكن، ولهم مهارة في الحيل والتزوير، وقلب الكلام وتصوير الباطل بصورة الحق، فإذا أخذ الفتوى قهر خصمه، ووصل إلى غرضه الفاسد، فلا يحل للمفتي أن يعينَه على ضلاله، وقد قالوا: من جهل بأهل زمانه فهو جاهل” ([120]).

فالواجب على المفتي إذًا أن يكون متيقظًا فطنًا لأساليبِ الناس وألاعيبهم وخداعهم؛ كي لا يَضل ويُضل، وعليه أن يحذر من تحري القول الذي يوافق هوى المستفتي ومشتهاه؛ لأن اتباع الهوى ليس من الأمور التي يترخص بسببها، يقول الشاطبي محذرًا من ذلك: “واتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى ولا على مطلق التشديد، فليأخذ الموفق في هذا الموضوع حذره؛ فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه” ([121]).

  • الاستفتاء في المعضلات من المسائل:

من الأسباب التي قد تؤدي إلى اضطراب الفتوى من جانب المستفتي أيضًا: السؤال عن معضلات المسائل، أي: صعاب المسائل وشدادها؛ وذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستفتاء في مثل تلك المسائل، فعن معاوية رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأغلوطات)) فسره الأوزاعي قال: يعني صعاب المسائل ([122]).

وغالبًا ما يكون غرض المستفتي هو إحراج المفتي ووضعه في موضع الزلل والغلط والارتباك، فيقابله بصعاب المسائل وعضدها، مما يكثر فيها الغلط؛ ليستزل ويستسقط فيها رأيه([123])، قال الخطابي: “الغلوطات: جمع غلوطةٍ: وهي المسألة التي يعيا بها المسؤول، فيغلط فيها، كره صلى الله عليه وسلم أن يعترض بها العلماء، فيُغالطوا ليُستزلُّوا ويُستَسقَط رأيهم فيها”([124])، مما يؤدي إلى اضطراب الفتوى الصادرة جوابًا على هذه المعضلة.

وهؤلاء هم شرار الأمة، أخبرنا عنهم نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه ثوبان: ((سيكون أقوام من أمتي يغلطون فقهاءهم بعضل المسائل، أولئك شرار أمتي))([125]).

وعن الحسن البصري: “إن شرار عباد الله الذين يجيؤون بشرار المسائل، يعنتون بها عباد الله” ([126]).

وعلى ذلك: فعلى المستفتي اجتباب السؤال عن مسائل المعضلات، والأغلوطات، والمتشابهات، إلى غير ذلك مما لا يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه، أو يسبب له الشك والارتياب في الدين والعمل، إلى نحو ذلك، فعليه اجتناب ذلك كله؛ حتى لا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم))([127])، وحتى لا يكون سببًا من أسباب عدم انضباط الفتوى.

والواجب عليه إذًا: ألا يسألَ إلَّا عما يتعلَّق به عمل أو تكليف مطلوب شرعًا، يقول في ذلك الشاطبي: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوضُ فيها خوضٌ فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعًا” ([128]). وعليه أن يقتديَ بالسلف الصالح؛ فإنهم “ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم” ([129]).

والواجب على المفتي أيضًا لتفادي ذلك: أن يقتديَ بالقاعدة التي وضعها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لمولاه عكرمة في أمر الفتوى والاستفتاء -وذلك حين أمره أن يفتي الناس- فقال له: “انطلق فأفتِ الناسَ، فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته”([130]).

وعليه أيضًا -في حالة ما إذا كانت المسألة المعضلة من الأمور المطلوبة المتعلقة بالتكليفات الشرعية- أن يتأنى، ولا يتعجل في الجواب، فيتفهم المسألة، ويتصورها بشكل جيد بإمعان النظر والفكر، فإن كانت المسألة من المستجدات المتعلقة بالتخصصات الأخرى رجع إلى أهل الخبرة، وسأل في كل فن أهله، وفي كل علم أصحابَه، ثم أصدر الحكم بعد هذا التصور، فإن أشكل عليه الحكم شاور أهلَ فنه من المفتين والفقهاء، وتبادل معهم الآراء حول هذه المسألة وصولًا للحكم الشرعي المنضبط بشأنها، على النحو السابق تفصيله.

وعليه أيضا ألا يتحرَّج في قول: “لا أدري”، أو “لا أعلم” أو “المسألة تحتاج للدارسة والبحث” إلى نحو ذلك: فعن ابن مسعود قال: “إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم، {قُلۡ مَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]” ([131]).

وهذا هو سمة السلف الصالح والفقهاء الربانيين، وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة أشرنا لبعض منها عند الحديث عن مكانة الفتوى وخطورتها، وحرص السلف على التوقف في الفتوى وعدم التسرع في الإجابة عليها، ونستأنس في هذا المقام بقول الشاطبي: “والروايات عنه -أي: الإمام مالك- في: (لا أدري)، و (لا أحسن) كثيرة؛ حتى قيل: لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك (لا أدري) لفعل قبل أن يجيب في مسألة، وقيل: إذا قلت أنت يا أبا عبد الله: لا أدري، فمن يدري؟ قال: ويحك! أعرفتني، ومن أنا، وأي شيء منزلتي حتى أدري ما لا تدرون؟ ثم أخذ يحتجُّ بحديث ابن عمر، وقال: هذا ابن عمر يقول: لا أدري. فمن أنا؟ وإنما أهلك الناسَ العجبُ وطَلَبُ الرياسة، وهذا يضمحل عن قليل. وقال مرة أخرى: قد ابتُلي عمر بن الخطاب بهذه الأشياء، فلم يجب فيها، وقال ابن الزبير: لا أدري، وابن عمر: لا أدري”([132]).

  • عدم التأدُّب مع المفتي والاستعجال في الجواب:

من الأسبابِ المؤدية لاضطراب الفتوى أيضًا: عدم تأدُّب المستفتي مع المفتي واستعجال الجواب عن سؤاله؛ طالبًا معرفة الحكم الشرعي على نحو من السرعة؛ مما لا يترك له مجالًا لتصور السؤال تصورًا صحيحًا وإجراء باقي مراحل الفتوى عليه بشكل مرضٍ صحيح، وبالأخص إذا كانت الفتوى من مسائل النوازل والمستجدات التي تحتاج للمزيد من البحث والفكر والرجوع إلى أهل الاختصاص بشأنها.

والواجب على المستفتي إذًا التأدُّب مع المفتي؛ إذ إنه مبلغ عن الله ورسوله، والأدب مع المبلِّغ أدبٌ مع المبلَّغ عنه؛ فعليه “أن يحفظ الأدب مع المفتي، ويبجله في خطابه وسؤاله، ونحو ذلك، ولا يومئ بيده في وجهه” ([133])، إلى غير ذلك من الأمور والتصرفات التي تدلُّ على سوء الأدب مع المفتي.

وعليه أيضا التَّأنِّي في عَرْض السؤال، وعدم طلب الاستعجال في الجواب، فكلما كان المستفتي رفيقًا في سؤاله، دقيقًا في بيانه، كان هناك فرصة للمفتي أن يتصور السؤال بشكل صحيح حتى يخرج الجواب على نحو من الصحة والانضباط، موافقًا لحال المستفتي وواقعه، فيرشده بذلك إلى ما ينفعه في دنياه وآخرته؛ يقول ابن حجر: “إن طالب الحاجة لا ينبغي له أن يُلِحَّ في طلبها، بل يطلبها برفق وتأنٍّ، ويدخل في ذلك طالب الدنيا والدين من مستفتٍ وسائلٍ وباحثٍ عن علم” ([134]).

فإن فعل المستفتي ذلك أقبل عليه المفتي بعلمه، وبذل جهده في تعليمه وإفهامه، فإن كان بطيء الفهم ترفق به، وصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه، وكان الحكم بالمنع أرشده إلى ما هو عوض عنه، وإن كان بحاجة إلى تفهيمه أمورًا أخرى لم يتطرق إليها في سؤاله، بيَّنها له زيادة على جواب سؤاله نصحًا وإرشادًا له، وفي مقابل ذلك فسوء الأدب مع المفتي يؤدي إلى إعراضه عن المستفتي.

 

 

 

 

المطلب الثالث

أسباب اضطراب الفتوى المتعلقة بالفتوى

مِن أسباب صدور الفتاوى المضطربة المتعلقة بالفتوى ما يأتي:

  • صدور الفتوى في غير محلها:

يُعدُّ من أسباب اضطراب الفتوى صدورُها في غير محلِّها، وذلك بأن يكون موضوع الفتوى من المسائل المقطوع بحكمها في الشرع بأدلة قطعية الثبوت والدلالة من نصوص قطعية، وما وقع عليه الإجماع، وليست مجالًا ولا محلًّا للاجتهاد، ثم يأتي بعد ذلك من يزعم الاجتهاد فيها من جديد، مدعيًا استنباطَ حكمٍ يخالف ما استقرَّ عليه الفقه، وعليه أجمعت الأمة، واستمرَّ عليه العمل بلا خلاف ولا نزاع ([135]).

يقول الغزالي مبينًا مجالَ الاجتهاد: “والمُجْتَهَدُ فيه: كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي”([136]).

فخرج بذلك الأحكام القطعية المعلومة من الدين بالضرورة، ويكون مجال الاجتهاد في المسائل الظنية التي لم يَرِدْ فيها دليل قاطع، ولا إجماع، أو في المسائل المستجدة، فالأحكام الشرعية بالنسبة للمفتي والمجتهد إذًا نوعان: ما يجوز الاجتهاد فيه، وما لا يجوز الاجتهاد فيه([137])، فإذا كان محل الفتوى فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وادعاء المرء التجديد فيه، أو أتى بالحكم على غير ما هو مستقر عليه، كانت فتواه شاذةً مضطربةً غيرَ معتدٍّ بها شرعًا وعقلًا، وغالبًا ما تكون هذه النماذج المضطربة من الفتاوى صادرةً من غير أهلها من المتخصصين بالفتوى وعلومها ([138]).

 

  • مخالفة النص القطعي:

من الأسباب الرئيسة لاضطراب الفتوى وشذوذها: مخالفة النص القطعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فتكون الفتوى مخالفة لنص قرآني: فالقرآن الكريم يجيز، وهي تحرم، أو هو يحرم، وهي تجيز، فأي فتوى على هذا النحو تعارض نصًّا من نصوص كتاب الله بدعوى الاجتهاد أو التجديد إلى غير ذلك فهي فتوى مضطربة، لا يصحُّ الالتفات إليها، والاعتداد بها.

ومن أمثلة الفتاوى المضطربة المعارضة لنص قرآني: الفتوى الصادرة بجواز زواج المسلمة من اليهودي والنصراني، المعارضة لقول الله تعالى: {وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡ} [البقرة: 221]، وقوله تعالى: {  يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وقد أفاض المفسرون في تفسير هاتين الآيتين وغيرهما، مما يدلُّ صراحةً على تحريم نكاح المسلمة من غير المسلم مطلقًا ([139]).

ومن الفتاوى والدعاوى الشاذة أيضًا: فتوى مساواة الرجل في الميراث؛ مخالفةً بذلك النصَّ القرآني:  {يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ}  [النساء: 11].

فهذه الفتوى وأمثالها فتوى شاذة مضطربة، غير مقبولة، لا يجوز العمل بها، ولا ينبغي الالتفاتُ إليها.

وكما أنَّ الفتوى تكون مضطربة لمخالفة النص القرآني، فإنها تكون مضطربة أيضًا لمخالفة النص النبوي الشريف الثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم: وذلك نحو الفتوى الصادرة بعدم جواز لبس الذهب المُحَلَّق للنساء: كالخاتم والأساور، مخالفة بذلك الأحاديث الصحيحة القاضية بجواز لبس الذهب للمرأة، محلقًا أو غير محلق، من هذه الأحاديث: ما رواه سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال: ((أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريرًا بشماله، وذهبًا بيمينه، ثم رفع بهما يديه، فقال: إن هذين حرام على ذكور أمتي، حل لإناثهم))([140]).

أيضًا تكون الفتوى مضطربة بمخالفتها للإجماع: وذلك نحو الفتوى السابقة -عدم جواز لبس الذهب المُحَلَّق للنساء- فقد عارضت الإجماع الصريح الصادر من الفقهاء المعتبرين أيضًا أمثال الإمام النووي وغيره، حيث قال: “ويجوز للنساء لبس الحرير والتحلي بالفضة وبالذهب بالإجماع؛ للأحاديث الصحيحة” ([141])، وقال أيضًا: “أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الفضة والذهب جميعًا: كالطوق، والعقد، والخاتم، والسوار، والخلخال، والدمالج، والقلائد، والمخانق، وكل ما يتخذ في العنق وغيره، وكل ما يعتدن لبسه، ولا خلافَ في شيء من هذا” ([142]).

ومن الفتاوى المضطربة التي خالفت الإجماع: الفتوى الصادرة بتحريم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ مخالِفة بذلك اتفاقَ الأمة على جواز ذلك: قال الحافظ السخاوي: “ما زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن العظام يحتفلون في شهر مولده صلى الله عليه وآله وسلم وشرَّف وكرَّم، يعملون الولائم البديعة المشتملة على الأمور البهجة الرفيعة، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرَّات، بل يعتنون بقراءة مولده الكريم، وتظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم، بحيث كان مما جُرب” ([143]).

وقد دَرَجَت الأمة الإسلامية منذ القرن الرابع والخامس من غير نكيرٍ على الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإحياء ليلة المولد بشتَّى أنواع القربات، كما نصَّ على ذلك المؤرخون: كالحافظ ابن الجوزي، وابن دِحية، وابن كثير، وابن حجر، والسيوطي، وغيرهم كثير، رحمهم الله تعالى.

وعلى هذا نصَّ جمهورُ العلماء سلفًا وخلفًا على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وألَّف في استحباب ذلك كثيرٌ من العلماء والمحدثين والفقهاء، وبَيَّنُوا بالأدلة الصحيحة استحبابَ هذا العمل ومشروعيته.

إذًا فكل فتوى خالفت الإجماع -والعبرة في الإجماع باتفاق الفقهاء المجتهدين- فهي فتوى شاذة.

يتجلى مما سبق: أن كل فتوى عارضت النصَّ القطعيَّ من كتاب أو سُنة أو إجماع فهي فتوى مضطربة، مردودة، لا يصحُّ العمل بها ([144])، ولا الاعتماد عليها في شيء من أمور الدين والدنيا، قال تعالى مُحذِّرًا من مخالفة أمره: {فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

  • اعتماد الفتوى على الكتب غير المشهورة:

مما يعرض الفتوى للخطأ والاضطراب: استنادُها إلى الكتب غير المشهورة والمعتمدة لدى الفقهاء المعتبرين، وقد كثر في العصر الحاضر الاعتمادُ على هذا النوع من الكتب، من أصحاب الأفكار الموهومة والمتطرفة، مما أدى إلى انتشار وزيادة العنف والتطرف في المجتمع.

والأصل المقرر لدى المحققين من الفقهاء والأصوليين في اعتماد الفتوى على الكتب يقتضي أنه لا تجوز الفتيا إلا بما يرويه العدل عن العدل، عن المجتهد الذي يقلده المفتي؛ حتى يصح ذلك عند المفتي، كما تصح الأحاديث عند المجتهد؛ لأنه نقل لدين الله تعالى في الموضعين.

 وغير هذا كان ينبغي أن يحرم، غير أن الناس توسعوا في هذا العصر فصاروا يفتون من كتب يطالعونها من غير رواية، وهو خطر عظيم في الدين وخروج عن القواعد.

غير أن الكتب المشهورة لشهرتها بعدت بعدًا شديدًا عن التحريف والتزوير، فاعتمد الناس عليها اعتمادًا على ظاهر الحال، ولذلك أيضًا أهملت رواية كتب النحو واللغة بالعنعنة عن العدول بناء على بعدها عن التحريف، وإن كانت اللغة هي أساس الشرع في الكتاب والسنة، فإهمال ذلك في اللغة والنحو والتصريف قديمًا وحديثًا يعضد أهل العصر في إهمال ذلك في كتب الفقه بجامع بُعد الجميع عن التحريف ([145]) .

وعلى هذا نقل ابن فرحون اتفاقَ العلماء على جواز الاعتماد على الكتب الموثوق بها؛ حيث قال: “أما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها: فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها؛ لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية، وكذلك قد اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بذلك وبعد التدليس” ([146])، وتبعه السيوطي وغيره.

لذلك تحرم الفتوى من الكتب الغريبة التي لم تشتهر، حتى تتظافر عليها الخواطر ويعلم صحة ما فيها، وكذلك الكتب الحديثة التصنيف إذا لم يشتهر عزو ما فيها من النقول إلى الكتب المشهورة، أو يعلم أن مصنفها كان يعتمد هذا النوع من الصحة وهو موثوق بعدالته.

وكذلك حواشي الكتب تحرم الفتوى بها؛ لعدم صحتها والوثوق بها إن كانت هذه الحواشي غريبة النقل، وأما إذا كان ما فيها موجودًا في الأمهات أو منسوبًا إلى محله، وهي بخط يوثق به، فلا فرق بينها وبين سائر التصانيف، ولم يزل العلماء وأئمة المذهب ينقُلون ما على حواشي كتب الأئمَّة الموثوق بعلمهم بخطوطهم، وذلك موجودٌ في كلام القاضي عياض والقاضي أبي الأصبغ بن سهل وغيرهما إذا وجدوا حاشية يعرفون كاتبها نقلوا ذلك عنه ونسبوها إليه، وأدخلوا ذلك في مصنفاتهم، وأما حيث يجهل الكاتب ويكون النقل غريبًا فلا شكَّ في حرمة الإفتاء بهذا النقل([147]).

  • الغموض والإبهام في الفتوى:

من أسباب اضطراب الفتوى: الغموض والإبهام في صياغتها، والاعتماد على الألفاظ الملغزة ([148])، متعددة الاحتمالات، مما يوقع المستفتي في الحيرة والارتياب، أو فهم الفتوى على وجهٍ غير صحيح، فتضطرب فتواه، وتزل قدمُه في غير ما أراد الشرع، ويخالف بعمله نهج الشريعة الغراء.

لذا كان من منهج الفتوى المنضبطة الأركان أن يكون بيانها مُزيلًا للإشكال، متضمّنًا فصل المقال، كافيًا في حصول المراد، بأسلوب دقيقٍ، وبلُغةٍ سليمةٍ تتسم بالوضوح، والخلو من اللحن وركاكة الأسلوب والألفاظ المبهمة متعددة الاحتمالات، لا تجعل المستفتي في حيرة من أمره ([149]).

فإذا اقتصر في جواب المفتي على حكاية الخلاف بأن المسألة فيها قولان أو وجهان، أو نحو ذلك من غير أن يبين الأرجح، فحاصل أمره أنه لم يُفتِ بشيءٍ، وهذا حيد عن غرض الفتوى؛ إذ إنه لم يأتِ بالمطلوب، ولم يخلص السائل من عمايته([150]).

لذا أكد العلماء أهمية تحرير ألفاظ الفتوى، وضربوا الأمثلة على ذلك بما يتناسب مع عصرهم، من ذلك ما ذكره ابن القيم من فتاوى صادرةٍ عن أصحابها تتسم بالتخيير وإلقاء السائل في الحيرة والإشكال؛ كمن سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل، وكتبه فلان.

وسئل آخر عن صلاة الكسوف، فقال: تصلى على حديث عائشة. وسئل آخر عن مسألة فقال: فيها قولان، ولم يزد ([151]).

وجاء في شرح منتهى الإرادات: “(ويحرم) على مفتٍ (إطلاق الفتيا في اسم مشترك) قال ابن عقيل: إجماعًا (فمن سئل: أيؤكل) أو يشرب أو نحوه (برمضان بعد الفجر، لا بد أن يقول) الفجر (الأول أو) الفجر (الثاني)” ([152]).

فهذه الفتاوى ونحوها فتاوى مجملة مبهمة محيرة للمستفتي، توقع الشكَّ والحيرة في نفسه، وبالطبع فليس مقصوده أن يكون الجواب عن سؤاله بهذا الشمول والإشكال ([153]).

فالواجب في صياغة الفتوى إذًا أن تكون واضحة بينة مزيلة للإشكال والالتباس، بلغة سليمة، وبعبارة واضحة صحيحة تفهمها العامة، ولا تزدريها الخاصة، لا يحتاج المستفتي في معرفة وفهم الجواب إلى غيره.

هذا ومن الأمور التي تقوى بها الفتوى وتكون عصمة لها من الاضطراب والخطأ: جلب ألفاظ النصوص الشرعية، والاقتصار عليها قدر الإمكان؛ يقول ابن القيم مشدِّدًا على هذا الضابط؛ سدًّا لباب الخطأ والاضطراب في الفتوى: “ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري، حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظًا غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله.

فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون، كانت علومهم أصحَّ من علوم من بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقلَّ مِنْ خطأ مَنْ بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك، وهلم جرًّا، ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض” ([154]).

 

  • مخالفة القوانين والأنظمة:

من الأمور الواجبة على المفتي في الوقت المعاصر هو: معرفة القوانين والأنظمة واللوائح المطبقة في دولة المستفتي ([155])، المستمدة من نصوص الشريعة الإسلامية ومبادئها الراسخة، فعليه ألا تخالف فتواه قانون دولة من الدول الإسلامية؛ حتى لا يقع في مخالفة أُولي الأمر.

فتلك القوانين والأنظمة إنما توضع لمصلحة الناس وتنظيم حياتهم وحوائجهم اليومية في شتَّى مجال حياتهم، فينبغي التقيد بها ومراعاتها من قبل المفتي في فتواه لما فيها من المصالح العامة.

ولا شكَّ أن من أخطر الفتوى التي تصدر في هذا العصر هي الفتاوى المضطربة التي تهاجم القوانين والأنظمة المعمول بها في الدولة، وتصور الأمر على أنه مخالفة شرعية، مستغلةً في ذلك أساليبَ الكذب ونشر الشائعات والتحريض على العنف، وأن أي أحكام تصدرها الدولة هي أحكام وضعية مخالفة لحكم الله ورسوله، والتحاكم إليها تحاكم إلى الطاغوت، وردة عن الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

والنماذج المضطربة بناءً على هذا كثيرة منها:

الفتاوى التي تحثُّ على التطرُّف والإرهاب تحت مسمى الجهاد في سبيل الله، وجواز الخروج على الحاكم.

وكذا الفتاوى التي تحرم التعامل مع البنوك، والفتاوى الصادرة بالتحذير من العمل بالمحاماة، والفتاوى التي تحرم تحية العلم، والفتاوى التي تعتبر تولي المرأة المناصب القيادية حرامًا شرعًا.

وكذلك الفتاوى الصادرة بجواز البحث والتنقيب عن الآثار، وإباحة بيعها.

كل هذه الفتاوى وغيرها فتاوى مضطربة شذَّت عن المنهج الصحيح، وهي في حقيقتها ليست مخالفةً للقانون فحسب؛ بل مخالفة لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف.

  • عدم مراعاة السياسة الشرعية:

من الأسباب التي تعرض الفتوى لعدم الانضباط: عدمُ مراعاتها للسياسات الشرعية.

والسياسة الشرعية: هي تدبير الشؤون العامة للدولة بما يكفل تحقيق المصالح، ودفع المضار، مما لا يتعدَّى حدود الشريعة أو أصولها الكلية، وإن لم يتفق مع أقوال الأئمَّة المجتهدين، وبعبارة أخرى هي متابعة السلف الأول في مراعاة المصالح ومسايرة الحوادث.

والمراد بالشؤون العامَّة للدولة كل ما تتطلبه حياتها من نظم، سواء أكانت دستورية أم مالية أم تشريعية أم قضائية أم تنفيذية، وسواء أكانت من شؤونها الداخلية أم علاقاتها الخارجية. فتدبير هذه الشؤون والنظر في أسسها ووضع قواعدها بما يتفق مع أصول الشرع هو السياسة الشرعية ([156]).

والفتاوى المتعلقة بالسياسة الشرعية لا بد أن تراعى فيها هذه الأهداف، وتصاغ في معالمهما بالنموذج الصحيح للفتوى الفقهية: وقد أضاف بعض الباحثين المعاصرين لبعض من الضوابط المستنبطة والخاصة بالفتوى السياسة في صياغتها، وهي:

– ألَّا تشتمل على شبهة استغلال الدين في مصلحة السياسة، بل تنوير السياسة بتعاليم الدين.

– أن يكون لدى المفتي (سواء أكان الفقيه أو الحاكم) في الأمور السياسية ثقافة سياسية تؤهله للإلمام بنظريات السياسة ومفاهيمها العامة؛ وذلك حتى لا يكون تناوله للأحداث سطحيًّا يجعل رأيه لا يصمد أمام أي نقاش سياسي أو فقهي.

– أن تكون الفتوى مشتملةً على القيم العامة التي يحتاجها الناس، والتي تتوازى مع الأحداث السياسية، مثل: الحديث عن الصبر والتعاون من أجل مصلحة البلاد ونبذ الخلافات، ومواجهة الفساد ليكون سببًا في حفظ توازن الأمة وعدم انشقاقها.

– أن يكون الغرض من الفتوى السياسية إصلاح المجتمع، وتنوير الناس دون أن تكون ملزمة لهم، وأن لا يكون القصد منها الترويج لأفكار واتجاهات سياسية بعيدة عن الإسلام، أو تدعو إلى سفك الدماء المعصومة، أو تدعو إلى الكفر والتضليل أو استباحة المحرمات.

– أن تكون الفتوى صادرةً عن اجتهاد جماعي دون تفرُّد أحد الفقهاء أو المفتين، ودراسة الجدوى من الفتوى والتأكد من غلبة المصلحة فيها ([157]).

  • عدم مراعاة حال المستفتين:

يعدُّ من الأسباب الجوهرية لاضطراب الفتوى وعدم انضباطها: عدم مراعاة حال المستفتين.

ومراعاةُ حال المستفتي هو ضابطٌ من ضوابطِ مراعاة الواقع أو “فقه الواقع”، وقد تعرضنا سابقًا لعدم مراعاة فقه الواقع كونه أحد الأسباب الرئيسية لاضطراب الفتوى من قبل المفتي، إلا أنه لما كان لعدم إدراك حال المستفتي ومراعاته من أثرٍ على الفتوى يؤدي بها في النهاية إلى اضطراب الحكم الصادر كونه صادرًا عن غير محله، فاقدًا لأهم ضوابط الفتوى الصحيحة ألا هو “مراعاة حال المستفتي”، فإننا نلقي الضوء عليه استكمالًا لما سبق.

إن رعاية حال المستفتين أمرٌ محوريٌّ في منظومة الفتوى وأساس جوهري من أساسيات الفتوى وضروراتها: فكل مستفتٍ له وضعه وملابسات حياته، فقد يناسب حال البعض أن يفتيَه المفتي بما فيه التغليظ عليه زجرًا له، وقد يناسب حاله أن يفتيَه بما فيه التخفيفُ عليه ترغيبًا له، فالمفتي كالطبيب يدلُّ المستفتي على ما يناسب حالَه، ويفتيه بما هو الأوفقُ لوضعه.

ولا شكَّ أنَّ عدم إدراك ومراعاة واقع المستفتين جعل كثيرًا من الفتاوى غير منضبطة، الأمر الذي أحدث بلبلة وردَّات فعل سلبية، ونتائجَ وتراكماتٍ سيئةً وخيمة ([158]).

فإذا كانت الفتوى هي عملية تفاعل بين الحكم الشرعي المستنبط من الأدلة التفصيلية وبين الواقعة موضوع البحث في إطار الواقع الذي تقوم فيه هذه الواقعة، فإن إغراق المفتي في النصوص والأحكام المستنبطة منها دون فهْمٍ وإدراكٍ للواقع محل الفتوى، والواقع الذي تقوم فيه هذه الفتوى: هو الجمودُ الذي يفقد الشريعة مرونتها وقدرتها على مسايرة الواقع، وكثيرًا ما يضع الفتوى في غير موضعها، فيأتي الحكم مضطربًا، غيرَ مناسب للحال وواقع المستفتي.

وفي المقابل أيضًا: فإنَّ إغراقَ المفتي في إدراك الواقع وحده دون الاطلاع الكافي على النصوص والأدلة وفتاوى العلماء هو تفريغٌ للشريعة من مضمونها، وإفتاءٌ في الدين بغير علم ولا هدًى، وعليه فلا بد للمفتي من فهم الواقع فهمًا دقيقًا والإلمام بالنصوص والأدلة إلمامًا جيدًا، فالفتوى عملية وصناعة مهارية مزدوجة متعددة الضوابط والأحكام، تكمل بعضها البعض لكي نصل لفتوى منضبطةٍ سليمةٍ معبرةٍ عن الحكم الشرعي الصحيح الذي به يستقيم أمر المسلم.

بقول ابن القيم في بيان أهمية هذا الضابط وأثره على الفتوى: “فهذا -أي: معرفة الناس- أصلٌ عظيمٌ يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهًا فيه، فقيهًا في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلَّا كان ما يفسد أكثر مما يصلح” ([159]).

  • عدم مراعاة تغير أحوال الفتوى:

لمَّا كانت الفتوى عبارة عن إنزال وتطبيق الأحكام على الوقائع والأحوال والحوادث المتجددة، فإنها تختلف باختلاف العرف، والزمان، والمكان، والأحوال، والأشخاص.

ومن المقرَّر لدى الأصوليين والفقهاء أنه لا ينكر تغير الأحكام في الفتوى بتغير هذه العوامل المذكورة، يقول ابن القيم: “إن الفتوى تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله” ([160]).

إلَّا أن الأحكام القابلة للتغير في الفتوى هنا: هي الأحكام النسبية المرتبطة بتلك العوامل والجهات، والأحكام الاجتهادية التي استنبطت بدليل القياس أو المصالح المرسلة أو الاستحسان أو غيرها من الأدلة الفرعية

أما الأحكام المطلقة القطعية، والأحكام الأساسية النصية بالأمر أو النهي، فإنها لا تتغير بتغير الأزمان، ولا بتغير الأماكن، ولا بتغير الناس: كوجوب الصلاة والصيام والزكاة والجهاد والأمانة والصدق، وإباحة البيع والشراء، وحرمة الزنا وشرب الخمر، إلى غير ذلك من الأحكام القطعية المنصوص عليها شرعًا ([161]).

يقول ابن القيم: “الأحكام نوعان: نوع لا يتغيَّر عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة والأمكنة ولا اجتهاد الأئمَّة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرَّق إليه تغييرٌ ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه، والنوع الثاني: ما يتغير فيها بحسب المصلحة” ([162]).

ومن الأسباب الرئيسة التي قد تؤدي إلى الخطأ في الفتوى واضطرابها: عدم مراعاة تغير أحوال الفتوى، والجمود على حال واحدة، وعلى ما هو مسطور في كتب ومدونات الفقه والفتاوى منذ قرون طويلة، فتخالف بذلك الشريعة، وتضيع الحقوق، ويُظلَم الكثيرون، ولا سيما مع التقدم والتكنولوجيا الحديثة الواقعة في شتى المجالات.

وعلى هذا نجد تنبيهات المحققين من الأصوليين والفقهاء على مراعاة تغيُّر العُرف والزمان والمكان والأحوال في الفتوى، وعدم الجمود على المسطور في الكتب ومدونات الفقهاء أمَدَ الدهر:

فيقول القرافي: “والجمود على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصدِ علماء المسلمين والسلف الماضين” ([163]).

وقال أيضًا: “إن إجراء -استمرار- الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة” ([164]).

ويقول ابن عابدين: “إنَّ جمودَ المفتي أو القاضي على ظاهر المنقول مع ترْكِ العرف والقرائن الواضحة، والجهل بأحوال الناس، يلزم منه تضييعُ حقوقٍ كثيرة، وظلم خلق كثيرين”([165]).

ويقول ابن القيم: “ومن أفتى الناسَ بمجرَّد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضلَّ” ([166]).

بل أورد ابنُ القيم في كتابه “إعلام الموقعين” فصلًا بعنوان: “فصل في تغيير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد”، وقال فيه: “هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلطٌ عظيمٌ على الشريعة، أوجب من الحَرَج والمشقَّة وتكليفِ ما لا سبيلَ إليه ما يُعْلَمُ أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به”([167]).

ويقول القرافي أيضًا منبهًا المفتي لتفادي ذلك، واضعًا له قانونًا يجب عليه مراعاتُه على طول الأيام والدهور: “فمهما تجدد في العرف اعْتبِرْه، ومهما سقط أسْقِطْه، ولا تجمُدْ على المسطور في الكتب طولَ عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير أهلِ إقليمِك يستفتيك لا تُجْرِهِ على عُرفِ بلدِك، واسأله عن عُرف بلده، وأجْرِه عليه، وأفْتِهِ به، دون عُرف بلدك، والمقرَّرِ في كتبك، فهذا هو الحقُّ الواضح” ([168]).

ولهذا نَصَّ الفقهاء على أنَّ مراعاة العرف ومعرفة عادات الناس شرطٌ من شروط الاجتهاد والفتوى لا غنى للمفتي والمجتهد عن ذلك، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكمُ على ما كان عليه أولًا للزم عنه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالَم على أتم نظام وأحسن إحكام([169]).

ويتجلى مما سبق: أَنَّ أحوال الناس وعوائدهم لا تدومُ على وتيرةٍ واحدةٍ ومنهاج واحد، بل تختلفُ باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص، مما يستلزم من المفتي التحقيق وإدراك الحكم الشرعي الصحيح ومراعاة تلك الأحوال التي تحيط بكلِّ واقعة، فقد يطرأ على الوقائع من اختلاف الأحوال وتغيُّر العوائد ما يقتضي اختلاف أحكامها وتغييرها.

وختامًا: فهذه هي أهم أسباب اضطراب الفتوى، سواء كانت راجعةً إلى المفتي أو المستفتي أو الفتوى، مع تأكيد أن أسباب الاضطراب متعددة يتعذَّر حصرها والإلمام بها؛ لكثرتها وتشعبها، وقد حاولنا تسليط الضوء على أهمها وأكثرها ذيوعًا وانتشارًا.

([1]) ضوابط الفتوى في الشريعة الإسلامية، لمحسن صالح، (ص 142)، مرجع سابق.

([2]) ينظر: الفقيه والمتفقه، للبغدادي، (2/ 330- 331)، مرجع سابق. والمستصفى، للغزالي، (ص342- 344)، مرجع سابق. وصفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 16)، مرجع سابق.

([3]) المستصفى، للغزالي، (ص 343)، مرجع سابق.

([4]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص87)، مرجع سابق. والورقات، للجويني، (ص 29)، ط. مكتبة دار التراث – القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1397هـ، 1977م. ومنح الجليل، للشيخ عليش، (9/ 593)، ط. دار الفكر – بيروت، الطبعة سنة ١٤٠٩هـ – ١٩٨٩م.

([5]) ويعد من أهم أبواب أصول الفقه: باب القياس، السابق الإشارة إلى وجوب معرفته؛ كونه أحد أحكام الشرع الأربعة التي يجب معرفتها لدى المفتي.

([6]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص86)، مرجع سابق. والمنخول، للغزالي، (ص 573)، مرجع سابق. والفتيا ومناهج الإفتاء، للأشقر (ص 28).

([7]) صناعة الفتوى المعاصرة لقطب سانو، (ص 75)، الطبعة الأولى، سنة 1434هـ – 2013م.

([8]) ينظر: المحصول، للرازي، (6/ 25)، ط. مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، سنة ١٤١٨هـ – ١٩٩٧م. والإبهاج في شرح المنهاج، للسبكي، (3/ 256)، مرجع سابق.

([9]) ينظر: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، (ص 14)، مرجع سابق.

([10]) ينظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، (ص 243)، مرجع سابق.

([11]) ينظر: التأهيل الأكاديمي لوظيفة الإفتاء، للدكتورة/ وسيلة خلفي، (ص 189)، بحث منشور في مجلة الصراط، العدد (23)، لسنة 1432هـ- 2011م.

([12]) أصول الفتوى والقضاء، للدكتور محمد رياض، (ص 253)، مرجع سابق.

([13]) ينظر: صفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 14)، مرجع سابق.

([14]) الفتوى المعاصرة بين الانضباط، للدكتور/ توفيق بن أحمد الغلبزوري، (ص 327)، مرجع سابق.

([15]) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير القرشي البصري، (4/ 523)، ط. دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، سنة 1419هـ.

([16]) سبق تخريجه.

([17]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر أبي الفضل العسقلاني، (1/ 195)، ط. دار المعرفة – بيروت، سنة، 1379هـ.

([18]( البرهان في أصول الفقه، للجويني (2/ 233)، مرجع سابق.

([19]( المرجع السابق، (2/ 256).

([20]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 100)، مرجع سابق.

([21]( الرد على من أخلد في الأرض، للسيوطي، (ص 91)، ط. مكتبة الثعالبية، سنة 1325هـ – 1907م.

([22]( ينظر: صناعة المفتي: مراحل الفتوى، بحث منشور على مواقع دار الإفتاء المصرية: www.dar- alifta.org، وضوابط الإفتاء في الواقع المعاصر منهجية صناعة الإفتاء(3)، للأستاذ الدكتور/ شوقي علام، مقال منشور على في جريدة الأهرام: https:/ / gate.ahram.org.eg

([23]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 113)، مرجع سابق. وصفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 34)، مرجع سابق.

([24]) ينظر: المغني، لابن قدامة، (10/ 45)، ط. مكتبة القاهرة، سنة 1388هـ – 1968م.

([25]) متفق عليه: أخرجه البخاري في الصحيح، واللفظ له، (9/ 65)، ومسلم في الصحيح، (3/ 1342).

([26]) العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام، لابن العطار، (3/ 1566)، ط. دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، سنة: 1427 هـ – 2006م.

([27]) سبق تخريجه.

([28]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 113)، مرجع سابق. وشرح صحيح مسلم، للنووي، (12/ 15)، ط. دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثانية، سنة: 1392هـ. وصفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 34)، مرجع سابق، والعدة في شرح العمدة، لابن العطار، (3/ 1566)، مرجع سابق.

([29]) ينظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 37- 38)، مرجع سابق، وصفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 31- 32)، مرجع سابق.

([30]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 111)، مرجع سابق.

([31]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 37)، مرجع سابق.

([32]) ينظر: صفة الفتوى، لابن حمدان، (1/ 32)، مرجع سابق.

([33]) ينظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص: 37- 38)، مرجع سابق. وينظر أيضًا: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 111)، مرجع سابق، والمجموع شرح المهذب، (1/ 46)، مرجع سابق، وصفة الفتوى، لابن حمدان، (1/ 31- 32)، مرجع سابق.

([34]) ينظر: الفرق بين التيسير والتساهل في الفتوى، فتوى بحثية منشورة على موقع دار الإفتاء المصرية: www.dar- alifta.org

([35]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 162)، مرجع سابق.

([36]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 111)، مرجع سابق. وينظر أيضًا في إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 162)، مرجع سابق.

([37]) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، (ص 250)، مرجع سابق.

([38]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 162)، مرجع سابق.

([39]) وسيأتي في إطار هذا المطلب الحديث عن هذين العنصرين: (المشاورة في الحكم عند الإشكال، والاستعانة بالخبراء في المسائل المستحدثة ذات الصلة بالعلوم الأخرى)، وكونهما سببًا من أسباب اضطراب الفتوى في كثير من الأحيان.

([40]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 111)، مرجع سابق، وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 37)، مرجع سابق، وتبصرة الحكام، لابن فرحون برهان الدين اليعمري، (1/ 74)، ط. مكتبة الكليات الأزهرية، الطبعة: الأولى، سنة 1406هـ – 1986م.

([41]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 37)، مرجع سابق.

([42]) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم: (153) في دروته السابعة عشر.

([43]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (1/ 27)، مرجع سابق.

([44]) سبق تخريجه.

([45]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 82)، مرجع سابق، وصفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 11)، مرجع سابق.

([46]) الفقيه والمتفقه، للبغدادي، (2/ 350)، مرجع سابق.

([47]) الموافقات، للشاطبي، (5/ 277)، مرجع سابق.

([48]) الموافقات، للشاطبي، (5/ 278)، مرجع سابق.

([49]) أحكام القرآن، للجصاص الحنفي، (2/ 490)، ط. دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، سنة 1415هـ – 1994م.

([50]) سبق تخريجه.

([51]) أخرجه الفاكهي في أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، (2/ 119).

([52]) ينظر: الموافقات، للشاطبي، (5/ 276- 278)، مرجع سابق.

([53]) ينظر: الموافقات، للشاطبي، (2/ 286)، مرجع سابق. وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 56)، مرجع سابق.

([54]) ينظر: الموافقات، للشاطبي، (5/ 91)، مرجع سابق.

([55]) ينظر: الموافقات، للشاطبي، (5/ 135)، مرجع سابق.

([56]) الموافقات، للشاطبي، (2/ 9)، مرجع سابق.

([57]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لعز بن عبد السلام، (2/ 73)، ط. مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة.

([58]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (3/ 11)، مرجع سابق.

([59]) الموافقات، للشاطبي، (5/ 41- 42)، مرجع سابق.

([60]) اعتبار مآلات الأفعال وأثرها الفقهي، (ص 51)، لوليد بن علي الحسين، (ص 51)، ط. دار التدمرية- الرياض، الطبعة: الثانية، سنة 1430هـ- 2009م.

([61]) ينظر: الموافقات، للشاطبي، (5/ 233)، مرجع سابق.

([62]) ينظر: اعتبار المقصد الشرعي في الفتوى آلياته وآثاره، (ص653)، دكتور/ محمد بن علي بن عبد العزيز اليحيى، بحث مقدم لمؤتمر الفتوى واستشراف المستقبل.

([63]) الموافقات، للشاطبي، (5/ 177)، مرجع سابق.

([64]) اعتبار المقصد الشرعي في الفتوى، (ص625- 654)، مرجع سابق.

([65]) اعتبار مآلات الأفعال وأثرها الفقهي، (ص 51)، مرجع سابق. وينظر أيضًا: مقاصد الشريعة لابن عاشور، (3/ 51)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، سنة 1425هـ – 2004م. والاجتهاد في مناط الحكم الشرعي: دراسة تأصيلية تطبيقية، لبلقاسم بن ذاكر بن محمد الزُّبيدي (ص 294)، ط. مركز تكوين للدراسات والأبحاث، الطبعة: الأولى، 1435هـ – 2014م.

([66]) قواعد الأحكام لعز بن عبد السلام، (2/ 143)، مرجع سابق، والأشباه والنظائر للسيوطي، (ص 285)، مرجع سابق. وموسوعة القواعد الفقيهة، (8/ 363).

([67]) ينظر: الموافقات، للشاطبي، (5/ 135)، مرجع سابق، ومقاصد الشريعة لابن عاشور، (2/ 236)، مرجع سابق، وصناعة الفتوى المعاصرة لقطب سانو، (صـ 75)، مرجع سابق.

([68]) مقاصد الشريعة، لابن عاشور (3/ 138)، مرجع سابق.

([69]) ينظر: اعتبار المقصد الشرعي في الفتوى، (616/ 617)، مرجع سابق.

([70]) ينظر: مقاصد الشريعة، لابن عاشور، (2/ 236)، مرجع سابق.

([71]) ينظر: الموافقات، للشاطبي، (5/ 43)، مرجع سابق، بتصرف يسير.

([72]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (1/ 69)، مرجع سابق.

([73]) ينظر: عوامل تغير الفتوى، بحث منشور على موقع دار الإفتاء المصرية www.dar- alifta.org

([74]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، (4/ 157)، مرجع سابق.

([75]( آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 48)، مرجع سابق، وينظر أيضًا: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص138)، مرجع سابق. وصفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 58)، مرجع سابق.

([76]( ينظر: أدب الدنيا والدين، لأبي الحسن الماوردي، (ص 300)، ط. دار مكتبة الحياة، سنة: 1986م.

([77]( ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 197)، مرجع سابق، والمفتي في الشريعة الإسلامية، لعبد العزيز بن عبد الرحمن الربيعة، بحث منشور في مجلة البحوث الإسلامية، العدد (1)، (1/ 162- 165).

([78]( أدب الدنيا والدين، لأبي الحسن الماوردي، (ص 300)، ط. مرجع سابق.

([79]( ذَكَرَ هذه الأقوالَ أبو الحسن الماوردي، المرجع السابق نفسه.

([80]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 197)، مرجع سابق.

([81]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص86)، مرجع سابق.

([82]) قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي، رقم: (153) في دروته السابعة عشرة، مرجع سابق.

([83]) البيان في مذهب الإمام الشافعي، للعمراني، (13/ 57)، ط. دار المنهاج – جدة، الطبعة: الأولى، سنة 1421هـ – 2000م.

([84]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، (7/ 12)، ط. دار الكتب العلمية، الطبعة: الثانية، سنة 1406هـ – 1986م.

([85]) ينظر: تفسير الراغب الأصفهاني، لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، ط. دار الوطن – الرياض، الطبعة الأولى، سنة 1424هـ – 2003م، والمغني، لابن قدامة، (10/ 45- 47)، مرجع سابق.

([86]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 197)، مرجع سابق.

([87]) ينظر: أصول الفتوى والقضاء، لمحمد رياض، (ص 238)، مرجع سابق.

([88]) يستأنس في ذلك بما ذكره الفقهاء في حق المشاورة بالنسبة للقاضي: بأنه “إذا أشكل الحكم عليه تكون المشاورة واجبة، وإلَّا فمستحبة”. والقاضي والمفتي في هذا الحق سواء، ينظر في ذلك: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للخطيب الشربيني، (6/ 286- 287)، ط. دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، سنة 1415هـ – 1994م.

  • ([89]( ينظر: مقال بعنوان: “الشرع أرشدنا إلى اللجوء لأهل التخصص”، الأستاذ الدكتور/ شوقي علام، على بوابة الأهرام على شبكة الإنترنت: www/ ahram.org.eg

([90]( جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، (16/ 191)، ط. مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، سنة 1420هـ – 2000م.

([91]( أخرجه ابن ماجه في سننه، (1/ 189).

([92]) ينظر: صناعة المفتي، مرجع سابق.

([93]( الفتوى المعاصرة بين الانضباط والاضطراب، (ص 327، وما بعدها)، مرجع سابق.

([94]( الأخلاق والسير في مداواة النفوس، لابن حزم الظاهري، (ص 23)، ط. دار الآفاق الجديدة – بيروت، الطبعة: الثانية، سنة 1399هـ – 1979م.

([95]) فتح الباري، لا بن حجر، (3/ 584)، مرجع سابق.

([96]( قواطع الأدلة في الأصول، لأبي المظفر السمعاني (2/ 357)، مرجع سابق.

([97]) ذكره ابن الصلاح في “أدب المفتي والمستفتي”، واللفظ له، (ص85)، مرجع سابق، والبغدادي في “الفقيه والمتفقه”، (2/ 324)، مرجع سابق.

([98]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص85)، مرجع سابق.

([99]) صفة الفتوى، لابن حمدان، (ص 12)، مرجع سابق. وينظر في هذا المعنى أيضًا: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 159)، مرجع سابق.

([100]( الفتوى المعاصرة بين الانضباط والاضطراب، (ص 331)، مرجع سابق.

([101]( آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 72)، مرجع سابق.

([102]( سبق تخريجه.

([103]( البيان والتحصيل، لابن رشد القرطبي، (17/ 11)، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان،

الطبعة: الثانية، سنة 1408 هـ – 1988 م.

([104]( أخرجه مسلم (1/ 14).

([105]) الفقيه والمتفقه، للبغدادي، (2/ 378)، مرجع سابق.

([106]) الفقيه والمتفقه، للبغدادي، (2/ 324)، مرجع سابق.

([107]( وهذا السبب من أسباب اضطراب الفتوى، وإن كان قريبًا من السبب السابق -عدم الرجوع إلى أهل الاختصاص بالفتوى- إلا أنه يختلف عنه من كون المفتي هنا أهلًا للفتوى من ناحية توافر بعض الشروط المسماة بشروط العلم أو المعرفة -من العلم بالكتاب والسنة… إلى آخر ما أوضحناه سابقًا- إلا أنه فاقدٌ لبعض الشروط والآداب الأخرى: كأن يُعْرَف عنه التساهل المذموم، والفتوى بالهوى والتشهي، أو التسرُّع فيها، إلى نحو ذلك.

([108]) ينظر: المستصفى، للغزالي، (ص: 373)، مرجع سابق.

([109]( ينظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 72)، مرجع سابق.

([110]) البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي، (8/ 362)، مرجع سابق، وينظر أيضًا: شرح الكوكب المنير، لابن النجار الحنبلي، (4/ 542)، مرجع سابق.

([111]) ينظر: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، (2/ 251)، ط. دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، سنة 1419هـ – 1999م.

([112]) قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، (2/ 91)، مرجع سابق.

([113]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 169)، مرجع سابق. وينظر أيضًا: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 85)، مرجع سابق، وأصول الفتوى والقضاء، لمحمد رياض، (ص 246)، مرجع سابق.

([114]) أخرجه الطبراني في “المعجم الأوسط”، (7/ 25).

([115]) الفقيه والمتفقه، للبغدادي، (2/ 388)، مرجع سابق.

([116]) متفق عليه: أخرجه البخاري واللفظ له، (9/ 69)، ومسلم، (3/ 1337).

([117]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 176)، مرجع سابق.

([118]) ينظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي (ص 19)، مرجع سابق، ورد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، (5/ 359)، ط. دار الفكر- بيروت، الطبعة: الثانية، سنة 1412هـ – 1992م.

([119]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 176)، مرجع سابق.

([120]) رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، (5/ 359)، مرجع سابق.

([121]) المرجع السابق.

([122]( أخرجه أحمد في “المسند”، (39/ 92)، وينظر أيضًا: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/ 1056)، مرجع سابق.

([123]) ينظر: شرح السنة، لابن الفراء البغوي الشافعي، (1/ 308)، ط. المكتب الإسلامي – دمشق، بيروت- الطبعة: الثانية، سنة: 1403هـ – 1983م.

([124]) غريب الحديث، للخطابي، (1/ 354)، ط. دار الفكر – دمشق، عام النشر: 1402 هـ – 1982م.

([125]) الفقيه والمتفقه، للبغدادي، (2/ 21)، مرجع سابق.

([126]) أخرجه ابن بطة في “الإبانة”، (1/ 403). والقرطبي في “جامع بيان العلم وفضله”، (2/ 1073).

([127]) متفق عليه، أخرجه البخاري، (9/ 94)، ومسلم واللفظ له، (2/ 975).

([128]) الموافقات، للشاطبي، (1/ 43)، مرجع سابق.

([129]) جامع بيان العلم وفضله، للقرطبي، (2/ 1062)، مرجع سابق.

([130]) أخرجه الأصفهاني في “حلية الأولياء”، (3/ 327).

([131]( رواه البخاري في “الصحيح”، (6/ 131).

([132]) الموافقات، للشاطبي، (5/ 328)، مرجع سابق.

([133]( ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 168)، مرجع سابق

([134]( فتح الباري، لابن حجر (9/ 216)، مرجع سابق.

([135]) ينظر: الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، للدكتور محمد مصطفى الزحيلي، (2/ 311)، ط. دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق – سوريا، الطبعة: الثانية، سنة: 1427هـ – 2006م، والفتوى المعاصرة بين الانضباط والاضطراب، (ص 334).

([136]) المستصفى، للغزالي، (ص345)، مرجع سابق.

([137]) ينظر: الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، للزحيلي، (2/ 311- 342)، مرجع سابق.

([138]) والفتاوى الشاذة الصادرة في غير محلها كثيرة، منها: “مساواة المرأة بالرجل في الميراث”.

([139]) ينظر: الأم، للشافعي، (5/ 169)، ط. دار المعرفة- بيروت، سنة 1410هـ- 1990م، وبحر العلوم، للسمرقندي، (3/ 354،)، ط. دار الكتب العلمية، وجامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، (4/ 370)، مرجع سابق.

([140]) رواه أبو داود في “سننه”، (4/ 50)، وابن ماجه في “سننه”، واللفظ له، (2/ 1189).

([141]) المجموع شرح المهذب، (4/ 442)، مرجع سابق.

([142]) المجموع شرح المهذب، (6/ 40)، مرجع سابق.

([143]) الأجوبة المرضية، للسخاوي، (1/ 1116)، ط. دار الراية، سنة 1418 هـ. وكذلك قاله الحافظ القسطلاني في “المواهب اللدنية”، (1/ 89)، ط. التوفيقية. والعلامة الديار بكري في “تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس صلى الله عليه وسلم”، (1/ 223)، ط. دار صادر. وغيرهم كثير.

([144]) ينظر: ضوابط الفتوى في الشريعة الإسلامية، لمحسن صالح، (ص 82)، مرجع سابق.

([145]) ينظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، (ص 244)، مرجع سابق، وأدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص 115- 116)، مرجع سابق، وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي، (ص 41)، مرجع سابق. وضوابط الفتوى في الشريعة الإسلامية، لمحسن صالح، (ص 82)، مرجع سابق.

([146]) تبصرة الحكام، لابن فرحون، (1/ 77)، مرجع سابق، والأشباه والنظائر للسيوطي، (ص 310- 311)، ط. دار الكتب العلمية.

([147]) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، (ص 244- 245)، مرجع سابق، وتبصرة الحكام، لابن فرحون، (1/ 78)، مرجع سابق.

([148]) واللفظ المُلْغِز: هو المبهم الملتبس، يقال: ألغز الشخص في كلامه: أي أخفى مراده منه، ولم يبينه ويظهر معناه. ينظر: لسان العرب، لابن منظور، (5/ 405)، مرجع سابق، والصحاح، للجوهري، (3/ 894)، مرجع سابق.

([149]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 139)، مرجع سابق، وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص48)، مرجع سابق، وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، (ص 246)، مرجع سابق، إعلام الموقعين عن رب العالمين، (4/ 136)، مرجع سابق.

([150]) ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص131)، مرجع سابق.

([151]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 136)، مرجع سابق.

([152]) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي (3/ 484)، ط. عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، سنة ١٤١٤هـ – ١٩٩٣م.

([153]) ينظر: أصول الفتوى والقضاء، للدكتور محمد رياض، (ص 240)، مرجع سابق.

([154]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 130)، مرجع سابق.

([155]) ينظر: الكفايات المعرفية والأدائية اللازمة للمفتي المعاصر، د. محمد جابر ثلجي، (ص 173)، بحث مقدم لمؤتمر الفتوى واستشراف المستقبل.

([156]) ينظر: ضوابط الفتوى من الناحية الفقهية والسياسة الشرعية، دكتورة/ عنود بنت محمد بن عبد المحسن الخضيري، (ص 341- 342)، بحث مقدم لمؤتمر الفتوى واستشراف المستقبل.

([157]) ينظر: السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، لدكتور عبد الوهاب خلاف، (ص 20)، ط. دار القلم، الطبعة، سنة 1408هـ – 1988م.

([158]) ينظر: الفتوى المنضبطة، لأحمد صالح، (ص 575)، مرجع سابق.

([159]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، (4/ 157).

([160]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، (4/ 157)، مرجع سابق.

([161]) ينظر: عوامل تغير الفتوى، بحث منشور على موقع دار الإفتاء المصرية www.dar- alifta.org

([162]) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم الجوزية، (1/ 330)، ط. مكتبة المعارف – الرياض، المملكة العربية السعودية.

([163]) الفروق للقرافي، (1/ 177)، ط. عالم الكتاب.

([164]) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، (ص 218)، مرجع سابق.

([165]) مجموع رسائل ابن عابدين، (1/ 47)

([166]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، (3/ 66)، مرجع سابق.

([167]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، (3/ 11)، مرجع سابق.

([168]) الفروق للقرافي، (1/ 176- 177)، مرجع سابق.

([169]) ينظر: رسائل ابن عابدين، (2/ 125). ط. عالم الكتب.

اترك تعليقاً