البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى وآله وصحبه ومَن والاه، وبعد:

فإن الفتوى منصبٌ جليلٌ، وعملٌ عظيمٌ، وركيزةٌ من ركائز الدين، تجليها نصوص الشرع الشريف، ومع هذه المنزلة فإنَّ خطرها كبير؛ لكون المفتي موقِّعًا عن الله تعالى، مُخبرًا بالحكم الشرعي، وارثًا لمهام الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، قائمًا في الأمة مقام رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولا ينبغي أن تغفل خَطَر هذه المنزلة وتلك المكانة حال الإقبال على الفتيا؛ ولذا ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار))([1])؛ فلذا وجب على من يقوم بهذا المنصب الخطير -كما يقول ابن القيم-: “أن يعد له عُدَّته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه”([2])، فإن خطر الفتوى لا يقتصر أثرها على من أفتى بها، بل يتعدى ذلك على الغير الفرد والمجتمع.

أما عن الفرد فإن فعله قد لا يوافق الحق والرشاد في بعض الحالات، وهو مأمور بسؤال أهل العلم والاختصاص فيما يكون ليس عنده علم فيه؛ لوجوب العمل عليه حسب حكم الشرع؛ وذلك لقوله: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [النحل: 43].

وأَمَّا عن المجتمع فقد تفسده وتسبب له الكثير من المشاكل والقلاقل والاضطرابات، وزعزعة الأمن والاستقرار، ولا يتوقف خطر الفتوى على المجتمع الواحد، بل ربما تعدى ذلك لعدة مجتمعات؛ وحصول الفُرقة بينها، وربما شمل الأمة بأسرها.

ومن ثَمَّ اختصت الفتوى بجملةٍ من الضوابط والمقومات والآليات التي لا بد من مراعاتها، وتدور هذه المقومات والآليات حول شخصية المتصدر للفتوى وكونه أهلًا للإفتاء، وكيفية الوصول إلى الحكم الشرعي المنضبط؛ باعتباره آخر مرحلة تمر بها عملية الإفتاء؛ إذ إنَّ الفتوى كما هو معلوم لأهل الاختصاص بعلم الإفتاء، تمر بأربعة مراحل أساسية في ذهن المفتي: أولى هذه المراحل هي مرحلة التصوير، ثم التكييف، ثم بيان الحكم، وأخيرًا مرحلة التنزيل وإصدار الفتوى، فهذه المراحل بمثابة مقدِّمات للفتوى، فإذا صحَّتْ هذه المقدِّمات من المفتي صَحَّت له النتائج المترتِّبة عليها وهي “الفتوى المنضبطة”، ولا شك أنه لن تصح هذه المقدِّمات إلا بِالعنايَةِ بالضوابط الموضوعة لكل مرحلة، ومن هنا تبرز أهميَّة الاعتناء بضوابط هذه المقدِّمات، وإلَّا كنا بصدد فتاوى شاذة مضطربة متعارضة فيما بينها.

وتجدر الإشارة إلى أنَّه يجب على المفتي لإدراك هذه المقدمات معرفة الأدلة الشرعية وكيفية الاستفادة منها، مُرورًا بإدراك فقه الواقع والوقوف على حقيقته وقوفًا صحيحًا محيطًا بكل أبعاده وملابساته، ثم العلم بكيفية الربط بينهما، وفقه تنزيل الحكم الشرعي على الواقعة محل السؤال؛ بمراعاة العوائد والأعراف والأحوال، وبإعمال المقاصد والمآلات إلى غير ذلك.

كل هذا وغيره يتطلب فيمن يتصدر للإفتاء تحصيل علومٍ وآدابٍ شتى، وتأهيلًا علميًّا وذهنيًّا واقعيًّا له؛ حتى يكون أهلا لهذا المنصب الجليل ومؤتمنًا عليه، وتصير لديه الملكة الإفتائية التي يقدر بها على استنباط الحكم المنضبط من الأدلة الشرعية؛ ليفتي به في النازلة المعروضة عليه بحرفية ومهارة وإتقان.

فالفتوى الصحيحة فن وصنعة لا يجيدها غير أهلها من المتخصصين بها المُلمين بعلومها وأحكامها، الممارسين لها؛ إذ هي عملية تطبيقية تربط بين العلم الشرعي النظري وبين الواقع المتغير الملموس وفقًا لقواعد وأصول مُحَدَّدة تعمل على تحقيق المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، وهذا يتطلب صانعًا محترفًا لها، ماهرًا بها، قادرًا على التعامل الدقيق مع هذه الأدوات والمعطيات؛ لتخرج الفتوى بعد ذلك مُحَقِّقة لمصالح العباد، موافقة للشريعة الغراء، مساهمة في استقرار المجتمعات والنهوض بأعبائها.

ونظرًا لتصدر غير المؤهلين للإفتاء في هذا العصر وما أحدثوه من فوضى وقلاقل وتَخَبُّط وحيرة لدى عامة المسلمين؛ بفتاوى وخطابات وآراء شاذة ومضطربة لا يضبطها ضابط ولا يحكمها ميزان، فتتأكد الحاجة إلى قَصْر الخطاب الإفتائي على المؤهلين له، المرخص لهم بمزاولة مهنة الإفتاء من قبل ولي الأمر، والحجر على غير المتخصصين الذي يتجرؤون على أمر هم ليسوا أهلًا له فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ، ويفسدون ولا يصلحون، وفي كل واد تراهم يهيمون، ويكثرون من الضجيج والشذوذ، وينسبون أنفسهم إلى العلماء وهم ليسوا منهم، وهو ما يعود بالسلب على الفرد والمجتمع، فضبط الفتوى واجب شرعي، وضرورة اجتماعية، واضطرابها يؤدي إلى أضرار ومخاطر جسيمة.

وحرصًا منا وإسهامًا على استقرار المجتمعات، ونشرًا لصناعة الفتوى المنضبطة؛ يأتي هذا الكتاب تحت عنوان: “الفتوى المنضبطة- المنطلقات والآثار أَمَلًا في بَسْط القول حول آليات إصدار وتفعيل وتقويم الخطاب الإفتائي؛ بغية الوصول إلى فتاوى منضبطة، منتظمة مع قواعد الشرع الحنيف، محققة لرضا الله سبحانه وتعالى، ومساهمة في استقرار المجتمعات والأوطان والنهوض بهم نحو التقدم والازدهار.

وتتناول هذه الدراسة “الفتوى المنضبطة .. المنطلقات والآثار”: إلقاء الضوء بداية على معايير انضباط الفتوى وسماتها، وأهم أسباب اضطرابها، وعلاج ذلك، ثم بيان للمقومات والأسس والمنطلقات الرئيسة اللازمة لإصدار حكم إفتائي منضبط وفق مناهج ومقررات الإفتاء العلمية الموروثة من سلفنا الصالح وعلمائنا الفقهاء الأجلاء، ثم توضيح لآليات تقويم وتفعيل الفتوى في الوقت الحاضر.

ومما يجب التنبيه عليه أنَّ مؤسسات ودور الإفتاء الرسمية في العصر الحاضر عليها دَوْر كبير نحو إصدار خطاب إفتائي منضبط بالمعايير المقررة شرعًا، على نحو من الوسطية والاعتدال، فلا تذهب بهم مذهب التشدد والغلو، ولا تميل بهم إلى طرف الانحلال والتفريط، مما يجعل الفتوى منطلقًا أصيلًا للأفراد والمجتمعات نحو تحقيق التنمية والاستقرار على كافة المستويات، وسلاحًا قويًّا يواجه ويعالج بحكمة إشكاليات التكفير والتطرف والإرهاب.

وقد استغلت بعض الجماعات المتطرفة في عصرنا الحاضر الخطاب الإفتائي؛ لتدلي بدلوها وآرائها الشاذة والمضطربة تجاه قضايا ووقائع تتعلق باستقرار وحماية الأوطان والمجتمعات، فأصدرت الكثير من الفتاوى المضطربة المضللة لعوام الناس؛ لتحقيق مصالحهم الشخصية ومقاصدهم السياسية الدنيئة وتطبيق أجندتهم الإرهابية التي تعود بالدمار والخراب على تلك الأوطان، بل الأعم والأشد من ذلك أنهم يقومون بالتشكيك والتقليل في دور ومؤسسات الإفتاء الرسمية المعنية بأمر الإفتاء، ويتعمدون الإساءة لها والنيل من علمائها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومن هنا يمكن القول بأن حاجة الناس إلى الفتوى وتبيين الحكم الشرعي المنضبط لهم فيما يتعرضون له من نوازل ومستجدات، وما يشكل عليهم من أمور، لا تقل عن حاجتهم إلى حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل، وفي الحقيقة أن الفتوى الوسطيَّة المنضبطة، هي السبيل الذي يتوقف عليه حفظ هذه الضروريات الخمس، بل هي الركيزة الأساسية في مسيرة البناء والتعمير، والأمن والاستقرار؛ فالفتوى المنضبطة هي صمام أمان لجميع أفراد المجتمع، فهي من الأمور العظام التي يتوقف عليها إقامة الدين والدنيا.

وهذا لا يتأتى في وقتنا الحالي إلَّا بقَصْر الخطاب الإفتائي على أهل الاختصاص، وإصدار قانون تشريعي ملزم للكافة بذلك؛ بحيث يحدد الإطار القانوني والضوابط الإجرائية لتنظيم هذا المجال الإفتائي وقصره على المختصين به عن طريق العلماء المؤهلين في المؤسسات والمراكز الإسلامية المتخصصة بالإفتاء، وبالأخص في المسائل والقضايا التي تتعلق بالشأن العام، ومعاقبة وتجريم كل من يتصدى لهذا المجال بالعقوبات الرادعة التي يقررها ولي الأمر زجرًا وردعًا له؛ طالما أنه غير مرخص له بذلك، وغير مؤهل للإفتاء.

وفي إطار ذلك -قَصْر الفتوى على المؤسسات الإفتائية الرسمية- فلا بد من إعادة تأهيل دور ومؤسسات الفتوى، على نحو يضمن انضباط الخطاب الإفتائي وسلامته؛ لكي تحقق الفتوى بغيتها وأهدافها.

ولهذه الأهمية فقد عمدنا إلى تقسيم هذا الكتاب إلى: مدخلٍ تمهيدي وثلاثة فصول وخاتمة:

أما المدخل التمهيدي: فقد اشتمل على حقيقة الفتوى وذلك بتعريفها وبيان حكمها ومكانتها وأنواعها، ثم تناولنا ماهية الفتوى المنضبطة، وذلك ببيان التعريف الجزئي والاصطلاحي لمفهوم الفتوى المنضبطة؛ وبيان بعض مرادفات وأضداد مفهوم “الفتوى المنضبطة”.

وأما الفصل الأول: فقد اختص بالحديث عن معايير الفتوى المنضبطة، فاشتمل على تمهيد بيان مكانة الفتوى المنضبطة، ثم بيان بأهم سمات انضباط الفتوى، من: اتباع المذاهب الفقهية، وعدم الشذوذ، والتيسير وعدم التَّشدُّد في الفتوى.

وكذلك اشتمل على أهم أسباب اضطراب الفتوى؛ لصعوبة حصر وتحديد الأسباب الموجبة لاضطراب الفتوى وشذوذها، نظرًا لكثرتها وتشعبها، ولكننا حاولنا إلقاء الضوء على أبرز تلك الأسباب وأكثرها انتشارًا وتأثيرًا في اضطراب الفتاوى، فعمدنا إلى تقسيم تلك الأسباب والموجبات إلى أسباب راجعة إلى شخص المفتي، من: (عدم اكتمال أهليته للإفتاء، أو الخطأ في أي مرحلة من مراحل إصدار الفتوى، أو الإفتاء مع كل حال يشغل قلبه ويمنعه من التريث، أو يؤدي إلى تسرعه وعدم التأني، أو غلوه في التشدد في الفتوى، أو عدم إدراكه للمقاصد والمآلات… إلخ)، وأسباب تعود إلى شخص المستفتي، نحو: (عدم الرجوع إلى أهل الاختصاص بالفتوى، أو عدم البيان الدقيق للسؤال، أو خضوعه للهوى والتشهي، أو استفتائه في معضلات المسائل… إلخ)، وأسباب أخرى متعلقة بالفتوى نفسها، نحو: (صدور الفتوى في غير محلها، أو مخالفة النص القطعي، أو اعتماد الفتوى على الكتب غير المشهورة، أو عدم مراعاة تغير أحوال الفتوى… إلخ) على ما سيأتي بيانه في موضعه بمشيئة الله وتوفيقه.

أما الفصل الثاني: فقد خصصناه للحديث عن آليات إصدار وتفعيل الفتوى المنضبطة، فاشتمل أولًا على آليات الإصدار التي تعود بالانضباط على الفتوى، من: (مراعاة أركان مراحل الفتوى، ومراعاة العوائد والأعراف، والمقاصد والمآلات، وأحوال المستفتين واختيار ما يناسبهم، مع وضوح وسلامة الألفاظ في الفتوى).

ثم اشتمل ثانيًا: على آليات تفعيل وتقويم الفتوى المنضبطة: من ضرورة الرجوع إلى أهل الاختصاص، وإعادة تأهيل مؤسسات وهيئات الإفتاء الرسمية، وحتمية التنظيم لعملية الفتوى.

وأما الفصل الثالث: فجاء للحديث عن آثار الفتوى المنضبطة، فاحتوى على آثار الفتوى المنضبطة على الفرد: من تحقيقٍ للوعي الشرعي والوسطية في الفتوى، إلى نحو ذلك، ثم آثار الفتوى المنضبطة على المجتمع، من تحقيق للتوازن الفكري والاستقرار والسكينة في المجتمع، إضافة إلى محاربة التطرف، والأفكار الدخيلة على الشرع والمجتمع، وأخيرًا: آثار الفتوى المنضبطة في تحقيق دور التنمية المستدامة.

أما الخاتمة: فقد اشتملت على أبرز وأهم النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث.

ومن هنا تبرز قيمة هذا الكتاب وأهميته في إصدار فتوى شرعية منضبطة بالمعالم والقواعد الرصينة، المقررة في تراثنا الإسلامي، لما في ذلك من صلاح الدين والدنيا، فبالفتوى المنضبطة يوافق فعل المستفتي الحق والصواب، فتستقيم الحياة، وتتقدم الأوطان والبلدان، ويحل الأمن والاستقرار، مع البعد عن الشذوذ والتطرف، والاضطراب والاغتراب في الفتاوى، ومن ثمَّ نحمي المجتمعات من الدخلاء والمتطفلين على المجال الإفتائي.

نسأل الله تعالى أن يتَقبَّل هذا العمل كما وفَّقَنا إليه، وأن ينفع به أمة المسلمين والمؤمنين وسائر الناس أجمعين وصلَّى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله أَوَّلًا وآخرًا.

###

 

([1]) أخرجه الدارمي، في “سننه”، باب الفتيا وما فيه من الشدة، (1/ 258).

([2]) إعلام الموقعين، لابن القيم، (1/ 9).

اترك تعليقاً