البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثاني: حماية الحياة الزوجية في النظر الإفتائي.

84 views

يتناول هذا الفصل حماية الحياة الزوجية ورعايتها بالإبقاء عليها واستقرارها في رؤية الفتوى المنضبطة؛ فيُبيِّن أهمية العمل على حماية الحياة الزوجية، وضرورة التوازن بين الحقوق والواجبات في سبيل هذه الحماية ودور الفتوى في حفظ هذا التوازن وكذلك دورها في تبغيض الطلاق وتضييق أسباب الفرقة، وذلك من خلال عدة مباحث، وهي:

المبحث الأول: أهمية حماية الحياة الزوجية:

المبحث الثاني: دور الفتوى في حفظ التوازن بين الحقوق والواجبات:

المبحث الثالث: تبغيض الطلاق وتضييق أسباب الفرقة:

المبحث الرابع: الاعتداد بالشخصية المستقلة للزوجة:

المبحث الخامس: مراعاة الصحة البدنية والنفسية للزوجين:

 

 

المبحث الأول: أهمية حماية الحياة الزوجية:

تحقق حماية الحياة الزوجية بالإبقاء عليها واستقرارها مقصدًا شرعيًّا؛ لأن الإسلام يقضي بأن الأصل في الزواج التأبيد وفي الأسرة البقاء والدوام، وإتمامًا لواجب التشجيع على الزواج الذي لا يستوفي مقاصده الشرعية إلا ببقاء الأسرة بالذود عنها ورعايتها؛ بناء على قاعدة أنه: «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»؛ فلا يمكن بقاء الأسرة قائمة على التأبيد دون حمايتها ورعايتها؛ ففي حماية الأسرة حماية للمجتمع، وفي إهمال الحفاظ عليها وعلى قيمها انهيار للمجتمع وقيمه، ولهذا ورد عدد من النصوص يدعو الأُمَّة إلى بذل كل جهد لمنع تصدع الأسرة([1])، قال الله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يُوَفّقِ الله بينهما إن الله كان عليمًا خبيرًا}[النساء: 35]، قال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق، وتَشَوَّف الشارع إلى التوفيق بين الزوجين؛ ولهذا قال تعالى: {إن يريدا إصلاحًا يُوَفِّقِ الله بينهما} [النساء: 35]([2])، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من خَبَّبَ امرأةً على زوجها أو عبدًا على سيده»([3]).

 

المبحث الثاني: دور الفتوى في حفظ التوازن بين الحقوق والواجبات:

يشتمل هذا المبحث على مطلبين، وهما:

المطلب الأول: المرأة في الإسلام:

المطلب الثاني: التوازن بين الحقوق والواجبات الزوجية في الإسلام:

 

 

المطلب الأول: المرأة في الإسلام:

إن الأمة الإسلامية لم تعرف في تاريخها ما يسمى بقضية المرأة، ولم يثر فيها مثل هذه القضية، وذلك لأن عقيدتها بنيت على أن الرجل والمرأة معًا هما أساس قيام الأسرة الصالحة‏،‏ ونواة بناء المجتمع الرشيد‏،‏ ولكل منهما الحق في إبداء الرأي في شئون الأمة أو المشاركة الاجتماعية والسياسية؛ وهذا ما أكدته النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة وشهد به واقع المسلمين عبر التاريخ‏.‏

ولقد جاء الإسلام وكل أمم الأرض تمتهن المرأة وتبخسها حقها، فقد كانت هذه الأمم تقف عند الاعتراف بأصل المرأة الإنساني؛ أما تقرير كرامتها والعدل بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات فكان بعيدًا كل البعد عن أذهانهم.

لم تكن المرأة عند الأمم القديمة كالصين والهند ومصر وإيران ونحوها ذات استقلال وحرية، لا في إرادتها ولا في أعمالها، بل كانت تحت الولاية الكاملة للرجل، لا تنجز شيئًا من تلقاء نفسها، ولا كان لها حق التدخل في الشئون الاجتماعية من حكومة أو قضاء أو غيرهما.

كما كان عليها أن تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسب وغير ذلك، وفي نفس الوقت كان عليها أن تختص بأمور البيت والأولاد.

وكانت المرأة عند هؤلاء أحسن حالًا بالنسبة إليها في الأمم غير المتمدنة، فلم تكن تُقتل ويُؤكل لحمها، ولم تُحرم من تملك المال بالكلية؛ بل كان لها حقّ الإرث وغير ذلك، وإن لم يكن لها أن تتصرَّف فيه بالاستقلال، وكان للرجل أن يتَّخذ زوجات متعددات من غير تحديد.

وكان لكل أمة من هذه الأمم أمور تخصها بالنسبة للمرأة بحسب عاداتها، فقد كان الزواج في الصين بالمرأة نوعًا من اشتراء نفسها ومملوكيتها، وكانت هي ممنوعة من الإرث، ومن أن تشارك الرجال -حتى أبناءها- في الغذاء.

وكان للرجال حق في أن يتشاركوا في أكثر من واحدة في الزواج، والجميع يشتركون في التمتع بها والانتفاع من أعمالها، ويلحق الأولاد غالبًا بأقوى الأزواج.

وكان النساء بالهند من تبعات أزواجهنَّ، لا يحل لهُنَّ الزواج بعد توفي أزواجهن أبدًا، بل إما أن يحرَقْن بالنار مع جسد أزواجهن أو يعشْنَ مذلَّلات، وهن في أيام الحيض أنجاس خبيثات يلزم اجتنابهُنَّ، وحكمهن حكم النجاسة.

هذا عن الأمم التي كانت تجري معظم آدابها الخاصة على أساس العادات الموروثة ونحوها من غير أن تعتمد على كتاب أو قانون ظاهرًا.

لكن كانت هناك أمم أخرى تعيش تحت سيطرة قانون من إنشائهم، مثل: الكلدانيِّين والرومانيِّين واليونانيِّين.

فالكلدانيُّون والآشوريُّون قد حكم فيهم شرع (حامورابي) بتبعية المرأة لزوجها وسقوط استقلالها في الإرادة والعمل، حتى إن الزوجة لو لم تطع زوجها في شيء من أمور المعاشرة أو استقلَّ بشيء فيها كان له أن يخرجها من بيته أو يتزوج عليها ويعاملها بعد ذلك معاملة ملك اليمين.

ولو أخطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير كان له أن يرفع أمرها إلى القاضي ثم يغرقها في الماء بعد إثبات الجرم.

وأما الرومانيُّون فهم من أقدم الأمم وضعًا للقوانين المدنية، وبالجملة كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود تابعة، وإرادتها بيَد ربِّ البيت من أبيها إن كانت في بيت الأب أو زوجها إن كانت في بيت الزوج أو غيرهما. فربَّما باعَها وربَّما وهَبها وربما أقرضها للتمتُّع وربما أعطاها في حقٍّ يراد استيفائه منه كدين أو ضرائب أو نحوهما، وربما أدبها بقتل أو ضرب أو غيرهما. وكانت محرومة من الإرث.

وكان الأمر عند اليونانيين قريبًا من الرومانيِّين.

وأما العرب فلم يكونوا يروا للمرأة استقلالا في الحياة ولا حرمة إلا حرمة البيت، وكانوا لا يورثون النساء، وكانوا يجوِّزون تعدُّد الزوجات من غير تحديد بعدد معين.

وكانت العرب تئد البنات، وإذا ولدت للرجل منهم بنت يعدُّها عارًا لنفسه يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به، لكن يسرُّه الابن مهما كثر ولو بالادعاء والإلحاق، وكانوا يمنعون الحائض أن تساكنهم في بيت أو تؤاكلهم في إناء.

كان هذا حال المرأة في المجتمع الإنساني في أدواره المختلفة قبل الإسلام؛ إلى أن جاء الإسلام ليقرر للمرأة المساواة مع الرجل ويقرر لها حقوقها كاملة لينقذها من ذلك الوضع المأساوي الشائن إلى أفق سامية على جميع المستويات([4]).

فها هو يقرر بشكل قاطع وحدة أصل النوع البشري وما فيه من المساواة بين الناس جميعًا في أصل النشأة؛ وذلك في عدة آيات؛ يقول تعالى: {يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، ويقول: {يا أيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

كما قرر أن البشر جميعًا صائرون إلى الله الذي خلقهم أول مرة وكل واحد منهم ذكرًا كان أم أنثى سيلقى هناك جزاء عمله في هذه الدنيا، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، يقول تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95]، ويقول: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، ويقول عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

فخطاب الله إلى البشر ورسالته إلى الناس متجهة إلى المرأة والرجل على حد سواء، وشخصية المرأة تجاه الرجل مستقلة تمامًا؛ فهي مطالبة بالإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ومخاطبة بكافة التكاليف الشرعية دون وساطة أحد أو وصايته، وهي تتحمل المسئولية الكاملة في كل ذلك؛ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة: «يا فاطمة بنت رسول الله، سليني بما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا»([5]).

فالأصل مساواة المرأة للرجل في الأحكام الشرعية لأن مناط التكليف بأحكام الشريعة الإسلامية كون الإنسان بالغًا عاقلا لحديث: “رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق”، فإذا بلغ الإنسان الحلم وكانت أقواله وأفعاله جارية وفقًا للمألوف المعتاد بين الناس مما يستدلُّ به على سلامة عقله حُكِم بتكليفه بأحكام الشريعة لتوفُّر مناط التكليف، والمرأة يتحقق فيها هذا المعنى كما يتحقق في الرجل.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائق الرجال»([6]) أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهن شُقِقن من الرجال. قال بعض العلماء مفسرًا ما في الحديث من الفقه: “إنّ الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابًا للنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها”.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الرجال والنساء جميعًا بعثًا مستويًا وخطاب الله تعالى وخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم للرجال والنساء واحدًا، ولذلك لم يجز أن يُخصَّ بشيء من ذلك الرجالُ دون النساء إلا بنصّ جليّ أو إجماع.

وكما ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الواجبات أعلن الإسلام كذلك المساواة والتكافؤ بينهما في الحقوق وفي علاقتهما ببعض؛ فقد ساوى الخالق بينهما في حق الوجود وعدم مصادرة ذلك الحق من أي من الطرفين‏،‏ ولذلك جرم الله تعالى ما كان يفعله العرب قبل الإسلام من كراهيتهم أن يرزقهم الله بالأنثى‏،‏ فقال سبحانه‏: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ‏} [النحل: 58، 59].

وقال تعالى في شأن الحقوق الأسرية: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقرر الإسلام كذلك حق المرأة في الشورى داخل الأسرة في أمر الأبناء وتربيتهم وغير ذلك من أمور الأسرة فقال تعالى في شأن فطام الأبناء: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233]، وقال: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6]؛ أي ليأمر كل واحد من الزوجين الآخر بالمعروف في شئون الأسرة من إرضاع للأبناء وتربيتهم وغير ذلك.

كما كفل الإسلام للإنسان ذكرًا أو أنثى حق التفكير والاعتقاد، بل اعتبر التفكير والنظر أمرًا واجبًا على الإنسان، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185].

أما حق الاعتقاد فقد كفله الإسلام للإنسان ومنع الإكراه على تغيير المعتقد: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقد توعد القرآن أولئك الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات عن دينهم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] ومن كل تلك النصوص تتجلى استقلالية الشخصية الدينية للمرأة وأنه لا أحد يقرر لها معتقدها وإنما هي التي تقرره بإرادتها الحرة.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [الممتحنة: 12].

ولما جاء الإسلام أسلمت المرأة وهاجرت مع كفر الزوج والأب وكافة الأقارب من الرجال؛ فهذه أم حبيبة بنت أبي سفيان تسلم وتهاجر مع أن أباها كان حينذاك من رءوس الكفر ويرتد زوجها فتثبت هي على الإسلام. وهذه فاطمة بنت الخطاب تسلم قبل إسلام أخيها عمر وتكون هي سبب إسلامه بواسطة تصديها وتحديها له لما علم بإسلامها وأراد أن يفتنها. وهذه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط تسلم وتهاجر رغم أن كل أفراد أسرتها كانوا على الشرك. وكثيرات هن اللواتي كن السبب في إسلام أزواجهن منهن أم سليم زوجة أبي طلحة الأنصاري وأم حكيم بنت حزام زوجة عكرمة بن أبي جهل، وغيرهن كثير.

والمرأة كذلك لها حصانتها القانونية في الإسلام ولها حق التقاضي ورفع الظلم إن وقع عليها، وكثيرات هن النساء اللاتي جئن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكين من الظلم الواقع عليهن من بعض أقاربهن فأنصفهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع عنهن ذلك الظلم؛ فمنهن تلك التي منعها أخوها عن الزواج ممن ترضى فجاءت تشكوه إلى الرسول فنزل قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]، وتلك التي زوجها أبوها وهي كارهة فرد الرسول صلى الله عليه وسلم نكاحها، وتلك الفتاة التي زوجها أبوها ممن تكره فجاءت إليه صلى الله عليه وسلم فخيرها فقالت: “قد أجزت ما فعل أبي ولكن أردت أن يعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء”([7]).

وأخرى جاءته وقد منع عم ابنتيها أباها من الميراث من أبيهما فنزل قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وغيرهن كثيرات.

المطلب الثاني: التوازن بين الحقوق والواجبات الزوجية في الإسلام:

الحقوق على وجه العموم منح من الله تعالى تفضَّل بها على عباده لتحقيق مصالحهم في الدنيا والآخرة فيام إذا عُلمت العلة والغاية من النص؛ بل ولو لم يُعلم ذلك؛ فاليقين ثابت في جريان الشريعة على وفق المصلحة في الدنيا والآخرة سواء علمنا وجه ذلك أو خفي علينا([8]).

وقد قرر الإسلام المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وإذا لاحظ البعض تميزًا لأحد الطرفين سيجد تميزًا من نوع آخر للطرف الثاني‏ تحقيقًا لسنة التوازن بين الجنس البشري،‏ مع مراعاة المساواة بينهما،،‏ وبهذا التوازن وتلك المساواة ينشأ التكامل المنشود بين الرجل والمرأة وتزداد الأواصر بين الأسرة الواحدة التي هي نواة المجتمع وصولا إلى بناء الأمة القوية التي تدرك تمامًا أن المزية بين الجنسين لا تقضي الأفضلية،‏ وأن اختلاف الوظائف والخصائص لا يعد انتقاصًا لنوع أو تمييزًا لآخر([9]).

إنَّ الزواج رباط وثيق بين الرجل والمرأة، والشريعة تريد به الدوامَ والبقاء، ولا يتيسر ذلك الدوام إلا بقيام كل واحد من الزوجين بحقوق الآخر قيامًا يكفل دوام الألفة واستتباب الطمأنينة وشمول المحبة.

وقد نظَّمت الشريعة الغرَّاء علاقة الزوجين نظامًا دقيقًا، فبيَّنت ما يجب على كل واحد منهما قِبَل الآخر؛ بحيث لو اتَّبعها الزوجان لنعمت حياتهما وسَعِدا في معيشتهما.

ولقد وضع الله تعالى الدستورَ العام لهذه الحقوق الزوجية بقوله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]؛ فالحقوق بين الزوجين متبادلة طبقًا للمبدأ القائل: «كل حق يقابله واجب»، فكل حق لأحد الزوجين على زوجِهِ يقابله واجب يؤديه إليه، وبهذا فقد حقق الإسلام التوازن بين الزوجين في شتى النواحي؛ مما يفضي إلى استقرار الأسرة واستقامة مسيرتها؛ فمراعاة العدالة والتوازن بين حقوق وواجبات كلٍّ من الزوجين وَفق الأصول والضوابط الشرعية ضرورةٌ لحماية الحياة الأسرية وبقائها.

وقد راعى الإفتاء المنضبط في اختياراته حقوق الزوجين واهتم ببيانها وتفصيلها وتوضيحها، وكان منهجه فيها اتباع التوازن والعدالة وَفق مقاصد الشارع مع مراعاة القوانين الوطنية والأعراف المجتمعية، ولما كانت الحقوق والواجبات الزوجية منها ما هو مشترك بين الزوجين ومنها ما هو خاصٌّ بأحدهما نبيِّن فيما يلي دور الإفتاء في حفظ التوازن بين الحقوق والواجبات الزوجية في كل نوعٍ منها:

أولًا: الحقوق والواجبات المشتركة([10]):
  • الأمانة والإخلاص:

أول ما يلزم الزوجين من الحقوق والواجبات أمورٌ مشتركة بينهما؛ منها: الأمانة والإخلاص؛ فيجب على كل من الزوجين أن يكون أمينًا مع صاحبه فلا يخونه فيما قلَّ أو كَثُر، وتكون خيانة الأمانة بنحو إفشاء الأسرار وارتكاب الأفعال التي لا يرضى عنها الآخر في السرِّ.

  • حسن العشرة([11]):

لقد حث الإسلام على حسن العشرة بين الزوجين فقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، ومن المعاشرة بالمعروف رفق المعاملة وطلاقة الوجه ولين القول والاحترام المتبادل؛ فلا يستغل الزوج قوامته على زوجته فيحاول إذلالها أو تسفيه رأيها، أو يتعرض لأهل زوجته بالسوء قولًا أو فعلًا، أو يؤذيها أمام أولادها.

ومن حسن العشرة: ملاطفة الزوجة، ويدل على ذلك فعله صلى الله عليه وسلم حيث كان يسابق السيدة عائشة رضي الله عنها فسابقته يومًا وسبقها في بعض الأيام فقال: «هذه بتلك»([12]).

ومن حسن العشرة أيضًا: المشاركة الوجدانية في الأفراح والأحزان؛ فالزوجان يتعاونان في السراء والضراء على جلب السرور ودفع الحزن؛ لأن المشاركة في الأفراح تجعلها تتضاعف، والمواساة في الأحزان والمصائب تكسر حدتها فتخف وطأتها؛ قال أبو الدرداء رضي الله عنه لزوجته يومًا: «إذا رأيتِني غضبتُ فرضِّني، وإذا رأيتُكِ غَضبَى رضَّيْتُكِ وإلا لم نصطحب»([13]).

  • التعاون:

تعاون الزوجين في الخدمات المنزلية الضرورية، فإعانة الرجل زوجته ومشاركته لها في أعمال البيت من مكارم الأخلاق التي سنَّها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخرج الإمام البخاري عن الأسود قال: «سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله -تعني: خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إليها»، وعنها أيضًا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصِفُ نعلَه، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته».

إن كثيرًا من الرجال يظن أن مساعدة أهل بيته عيبٌ يقدحُ في كمال رجولته، وهذا الظن الخاطئ مخالفٌ لما جاءت به السنة النبوية الشريفة كما هو ظاهر في سيرته صلى الله عليه وسلم.

وكذا على المرأة إعانة الرجل فيما يتحمله من أعباء؛ فكل منهما ينبغي أن يُعين الآخر على تحمُّل أعبائه وعلى سائر شئونه؛ لأن كلًّا منهما يُعَدُّ بالنسبة للآخر شريك الحياة، والمعين على أعبائه، وهذه هي طبيعة المرأة مع زوجها، والرجل مع زوجته؛ وهي التشارك والتعاون والتعاضد والتآزر لكلًّ منهما الآخر في عمله وحياته، وبذلك تقوى الأُسَر وتتماسك، وتَتَأبّى على التفكُّك والانحلال، ويشهد لهذا ما كانت تفعله الصحابيات مع أزواجهن في عهد النبوة ومنها عمل السيدة أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- مع زوجها حيث قالت: «تزوجني الزبير وما له في الأرض من مالٍ ولا مملوكٍ ولا شيءٍ غير ناضحٍ([14]) وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأستقي الماء، وأخرز([15]) غربه([16])، وأعجن([17])، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جاراتٌ لي من الأنصار وكن نسوة صدقٍ، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ،…»([18]).

  • التغافل عن الجوانب غير الحسنة:

ومن حسن العشرة ألَّا يركز أحد الزوجين على الجانب السيِّئ في الآخر ويُغْفِل الجوانب الحسنة، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يبغض مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خُلُقًا رضي منها غيره»([19])، وتحثّ الشريعة الإسلامية كلًّا من الزوجين على فهَّم طبيعة الآخر، والوعي بالفوارق الفطرية والطبيعية والنفسية لكلّ منهما، وبوجود قواسم وسمات مشتركة بينهما، كما تحثّ الشريعة كلًّا من الزوجين -لنجاح الحياة الزوجية- على الاهتمام بعوامل التوافق والإيجابيات في شخصية الطرف الآخر، وحصر أسباب الاختلاف، والبحث لها عن حلول وسط يتراضيان عليها، والبعد عن نزغات العناد والإثارة والإفراط في الغيرة وحبِّ التغلب على الآخر([20]).

  • تحصيل العفة:

من الحقوق الزوجية: أن يعف الرجل زوجته وتعف الزوجة زوجها، وليس للمرأة أن تشتغل بغير الفرائض إذا كان ذلك سببًا في تفويت حق زوجها، كما لا يجوز للرجل أن يشتغل بالنوافل فيعجز عن أداء حق زوجته، ومن هذا الباب أن يتزين كلٌّ منهما لصاحبه؛ فإن ذلك سبب في تحصيل العفة؛ فكما حث الشرع كلًّا من الزوجين على تحسين الخُلُق لصاحبه والرفق به واحتمال أذاه؛ فكذلك حثهما على تحسين الخَلق بالتجمُّل والتزيُّن؛ لأنه من باب المعاشرة بالمعروف، وقد بيَّن صلى الله عليه وآله وسلم أن في تجمُّلِ المرأة لزوجها كبيرَ الأجر فيما رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها أنها أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت وأمي، إني وافدة النساء إليك، واعلم -نفسي لك الفداء- أما إنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأيي. إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجًّا أو معتمرًا أو مرابطًا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: «هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟» فقالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها ثم قال لها: «انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي مَن خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته تعدل ذلك كله»([21]).

وقد سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمسلم تنظيف بدنه وتجميله بإزالة ما هو مظنة لجمع ما يُؤذي البدن وقد ينفر منه الزوج والزوجة؛ كتقليم الأظفار ونتف الإبط والاستحداد وغيرها؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الشيخان: «الفطرة خمس: الختان والاستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشارب»([22]).

وقد راعت الفتوى المنضبطة هذه الضوابط في اختياراتها؛ فرغم أن الفقهاء قد اختلفوا في حكم تهذيب الحاجبين للمرأة المتزوجة إلا أن الفتوى المنضبطة؛ وتحقيقًا للتوازن بين الحقوق والواجبات الزوجية؛ تختار في هذه المسألة جواز أخذ الزائد من شعر الحاجبين بالحف أو الحلق إذا كان خارجًا عن الحد المألوف أو مما يؤذي العين أو مما يُنفِّر الزوج عن زوجته إذا لم تُهذبه؛ لأنه ينبغي على المرأة أن تزيل ما في إزالته جمال لها، وقد أجاز متأخرو الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في قولٍ للزوجة أن تُهذِّبه بإزالة ما زاد عن حدوده المعتادة مما يُنفِّر إذا كان بإذن الزوج؛ قال العلامة ابن عابدين: “لو كان في وجهها شعرٌ ينفُرُ زوجها عنها بسببه ففي تحريم إزالته بُعد لأن الزينة للنساء مطلوبة للتحسين”([23])، وقال العلامة النفراوي عن إزالة شعر بدن المرأة: “وأما النساء فيجب عليهن إزالة ما في إزالته جمال لها”([24])، ويقول أيضًا: “والتنميص هو نتف شعر الحاجب حتى يصير دقيقًا حسنًا، ولكن روي عن عائشة رضي الله عنها جواز إزالة الشعر من الحاجب والوجه، وهو الموافق لما مر من أن المعتمد جواز حلق جميع شعر المرأة ما عدا شعر رأسها”([25])، وقال الخطيب الشربيني: “أما إذا أذن لها الزوج أو السيد في ذلك، فإنه يجوز؛ لأن له غرضا في تزيينها له وقد أذن لها فيه”([26])، وقال ابن مفلح الحنبلي: “ويحرم نمص ووشر ووشم في الأصح، وكذا وصل شعر بشعر، وقيل: يجوز بإذن زوج”([27]). فدل كلامهم على جواز تهذيب الحاجبين بإذن الزوج، ويستدل على ذلك بما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأة ابن أبي الصقر أنها كانت عند السيدة عائشة رضي الله عنها فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين إن في وجهي شعرات أفأنتفهن أتزين بذلك لزوجي؟ فقالت عائشة: “أميطي عنك الأذى وتصنَّعي لزوجك كما تصنَّعين للزيارة”. أي: تزيني لزوجك كما تتزينين لزيارة قريبة أو صاحبة.

أما ما رواه الشيخان وغيرهما من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن النامصة والمتنمصة([28])؛ فهذا من العام المخصَّص؛ فقد حمله الفقهاء على المرأة المنهية عن استعمال ما هو زينة لها؛ كمَن كانت في إحداد على زوج أو نحوها([29]).

وجاء في فتوى دار الإفتاء المصرية في المسألة نفسها: «وحاصلُ ما ذُكر أن ما أباحه الشرع من تجميل الوجه أو الكف بالكحل والخضاب ونحوه هو من الزينة التي رخص الشرع في ظهورها على المرأة، ويدخل في ذلك تهذيب الحاجبين.

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال؛ فإن إزالة الزائد على المعتاد من شعر الحاجبين جائزٌ شرعًا بإذن الزوج، ولا حرج عليك في ذلك، بل هو مستحب في حقك ما دام أن إزالته يبتغى من ورائها التجمل والتزين للزوج وحسن معاشرته»([30]).

  • احترام القرابة:

من القيم التي ينبغي أن يراعيها كل من الزوجين أيضًا: احترام قرابة كل من الطرفين واعتباره في مكانة قرابته من النسب؛ فاحترام أهل الرجل وقرابته هو من احترامه وتقديره، والحطُّ من شأنهم حطٌّ من شأنه، وكذلك يجب على الزوج احترام أهل الزوجة وإنزالهم المنزلة اللائقة بهم؛ فهم أصلها ومعتمدها بعد زوجها، واحترامهم من احترامها، والحطّ من شأنهم حطٌّ من شأنها([31])، ويشهد لهذا المعنى ما رواه أبو ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستفتحون مصر وهي أرضٌ يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا»، وفي رواية: «فإذا افتتحتموها، فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمةً ورحمًا»، أو قال: «ذمةً وصهرًا»([32])، قال العلماء: الرحم التي لهم كون هاجر أم إسماعيل صلى الله عليه وسلم منهم، «والصهر»: كون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم([33])، ففي هذا الحديث اعتبار الودّ والاحترام والتقدير لأهل الزوجة. وهذه المشاعر الطيبة المتبادلة بين الطرفين تحقق مقاصد شرعية حَثَّ الشرع على نشدانها وتحقيقها، من العشرة الطيبة والسكن والمودة والرحمة، وصلة الأرحام، وتربية الأولاد على الحرص على وشائج القربة والحفاظ عليها من أن ينالها أيُّ شرخٍ أو تصدعٍ، والعمل على تنيمتها بأوجه البر والإحسان والصلة والصدقة؛ قال الله جل شأنه: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب} [البقرة: 177]، وقال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كل مختالًا فخورًا} [النساء: 35]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمهُ»([34]). وعن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال فذلك»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا إن شئتم: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم}»([35]).

  • الحث على الخصال الطيبة:

مما ينبغي على الزوجين أيضًا حثُّ كل منهما الآخر على الالتزام بتعاليم الإسلام، يقول الله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} [طه: 132]، وقال جَلَّ شأنه عن النبي إسماعيل عليه السلام: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيًا} [مريم: 55]، وقال عَزَّ من قائل: {يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6]، قال عَلِيّ رضي الله عنه في قوله: {قُوا أنفسكم وأهليكم نارًا} قال: «علموا أنفسكم وأهليكم الخير»([36])، وقال مجاهدٌ: «قوا أنفسكم وأهليكم: أوصوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدبوهم»([37])، وقال قتادة: «مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصيته»([38])، قال الله تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} [آل عمران: 134]، وقال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199]، وقال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميمٌ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيمٍ} [فصلت: 34، 35]، وقال تعالى: {فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85]، وقال تعالى: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} [النور: 22].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فأن أبى نضحت في وجهه الماء»([39]).

وينبغي أن يحثُّ كلٌّ من الزوجين على النظام والنظافة والطهارة الظاهرة والباطنة، قال الله سبحانه: {كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة: 151]، وقال تعالى: {قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها} [الشمس: 9، 10]، وقال تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 122]، وقال تعالى: {ومن يأته مؤمنًا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ، جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى} [طه: 75، 76]، وقال تعالى: {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير} [فاطر: 18].

وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان»([40])، وعن عبد الله بن عمروٍ -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»([41])، وعن النعمان بن بشيرٍ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «.. ألا وإن في الجسد مضغةً: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»([42]).

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرض فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانٌ منهم وهو عندي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا»([43])، وعن صالح بن أبي حسان قال سمعت سعيد بن المسيب يقول: «إن الله طيبٌ يحب الطيب نظيفٌ يحب النظافة كريمٌ يحب الكرم جوادٌ يحب الجود فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود»([44])، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»([45])، وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»([46])، وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة»([47]).

كما ينبغي أن يُعلِّم كلٌّ من الزوجين الآخر أو يُيَسِّرَ له تَعَلُّم كل ما يحتاج إليه في إحسان حياته الدنيوية والأخروية، وليلتزم الزوجان الحلال الطيب والاقتصاد في الإنفاق؛ قال الله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا} [الفرقان: 67]، وقال تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجدٍ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]، وقال تعالى: {ولا تبذر تبذيرًا ، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورًا} [الإسراء: 26، 27]، وقال تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} [البقرة: 188]، وقال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا} [الفرقان: 67]، وقال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا} [الإسراء: 29].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 175]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟»([48])، وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «… ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله»([49])، وعن النعمان بن بشيرٍ -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بينٌ، وإن الحرام بينٌ، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكلٍّ ملكٍ حمي، ألا وإن حمى الله محارمه»([50])، وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البر حسن الخلقِ والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس»([51]).

8-المشاركة في تربية الأولاد: فكل واحد من الزوجين له دور في بناء الأسرة وتربية الأولاد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «والرجل راعٍ في بيت أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها»([52])؛ ولا ينبغي أن ينشغل الرجل بما ليس ضروريًّا ويترك لزوجته كامل مسئولية تربية الأبناء؛ فتجد الأم نفسها تحمل من المسئوليات التربوية ما لا قِبَل لها بها؛ فيدفعها ذلك إلى التقصير عن القيام ببعض الأدوار، فيكون الأبناء ضحيةَ ذلك([53]).

هذه أهم الحقوق والواجبات التي قررها الإسلام، وبها تستقر الأسرة وتقوم بدورها كنواة للمجتمع؛ مما يحقق الأمن والأمان والسعادة للأفراد والمجتمعات والأوطان.

وقد راعت الفتوى هذه الحقوق والتوازن بينها، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا:

فقد حثت الفتوى على الأمانة في العلاقة الزوجية وعدم إفشاء أسرارها، ومما جاء في هذا الصدد: فتوى دائرة الإفتاء الأردنية جاء فيها: «وأما إفشاء أسرار الزوجية الخاصة، التي تكون بين المرء وزوجه، ومن غير سبب شرعي، فذاك من المحرمات التي ورد النهي الخاص عنها، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا”([54]).

يقول الإمام النووي رحمه الله: “وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه»([55])([56]).

كما تناولت الفتوى المنضبطة مسألة الرفق بالزوجة وحسن العشرة، جاء في فتوى دار الإفتاء المصرية: «أمر الإسلام الزوج بإحسان عشرة زوجته، وأخبر سبحانه أن الحياة الزوجية مبناها على السكن والمودة والرحمة، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم معيار الخيرية في الأزواج قائمًا على حسن معاملتهم لزوجاتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»([57]).

وحض الشرع على الرفق في معالجة الأخطاء، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفق في الأمر كله، فقال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه»([58]).

ولم يضرب النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا من زوجاته أبدًا، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل”([59]).

والنبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة الذي يجب على الأزواج أن يقتدوا بسيرته الكريمة العطرة في معاملة زوجاتهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وأضافت الفتوى: «ولا شك أن الضرب المبرح أو الجلد أو العقاب البدني -وهو ما يطلق عليه: العنف الأسري- محرم بالإجماع، ويجب على جميع البشر الوقوف ضده، وممارسة العنف ضد الزوجة لا علاقة لها بالإسلام، بل المصادر التشريعية للمسلمين تحثهم على الرحمة والمودة في الحياة الزوجية ولا تدعوهم بحالٍ إلى ضرب النساء وظلمهن، يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، وفقهاء المسلمين يقفون ضد هذا الضرب والعنف، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن العلاقة بين الرجل والمرأة تقوم على المودة والرحمة، وهذا يتنافى مع الضرب والإيذاء؛ ولذلك يستنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك استنكارًا شديدًا، فيقول صلى الله عليه وسلم: «أَيَضْرِبُ أَحَدُكُم امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْم؟!» أخرجه البخاري في “صحيحه”، والبيهقي في “سننه الكبرى” واللفظ له، وفي ذلك رد على من زعم أن الإسلام أهان المرأة وأباح للرجل ضربها.

وخلصت الفتوى إلى أنَّ ما يصدر من الزوج لزوجته من اعتدائه عليها وتهديدها وترويعها وكذلك الأولاد من الأمور التي أجمع المسلمون على تحريمها، ولا علاقة لها بتعاليم الإسلام ولا بالشريعة الإسلامية، وفاعل ذلك آثم شرعًا»([60]).

وحثَّت الفتوى المنضبطة كذلك على حسن العِشرة بين الزوجين، جاء في فتوى دار الإفتاء المصرية: «الأحكام الشرعية المتعلقة بالحياة بين الزوجين لا تؤخذ بطريقةٍ يبحث فيها كلٌّ من الزوجين عن النصوص الشرعية التي تبيِّن حدود حقوقه وواجباته، أو تجعله دائمًا على صوابٍ والطرفَ الآخر على خطأٍ؛ بحيث يجعل الدين وسيلةً للضغط على الطرف الآخر وجَعْلِهِ مُذعِنًا لرغباته من غير أداء الواجبات التي تجب عليه هو.

فالحياة الزوجية مبناها على السكن والرحمة والمودة ومراعاة مشاعر كلٍّ من الطرفين للآخر أكثر من بنائها على طلب الحقوق، وفِقه الحياة والخلق الكريم الذي علمنا إياه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقتضي أن تتقي الزوجةُ اللهَ تعالى في زوجها وأن تَعْلَمَ أن حُسنَ عشرتها له وصَبْرَها عليه بابٌ من أبواب دخولها الجنة، وعلى الزوج أيضًا أن يراعي ضَعفَ زوجته ومشقة خدمتها طوال اليوم للبيت والأولاد، وأن يكون بها رحيمًا، وأن لا يُحَمِّلَهَا ما لا تطيق، فبهذه المشاعر الصادقة المتبادَلَةِ يستطيع الزوجان أداءَ واجبهما والقيامَ بمراد الله تعالى منهما، وسَحْبُ ما هو عند القضاء إلى الحياة غير سديدٍ؛ قال تعالى في كتابه الحكيم: ﴿يُؤْتِي الحِكمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269]»([61]).

وأما حق احترام القرابة فقد ساهمت في بيانه وترسيخه الفتوى المنضبطة، منها فتوى دار الإفتاء المصرية التي حرَّمت على الزوج منع زوجته من زيارة والديها، فقد جاء في هذه الفتوى: «إن بر الوالدين وزيارتهما فريضة لازمة وواجب محتم وعقوقهما حرام وذنب عظيم، فيجب على الزوج المسلم المؤمن بالله ورسوله أن يمتثل لأوامر الله في كل ما أمر به، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، فيجب على الزوج أن لا يمنع زوجته من زيارة أبويها، وينبغي أن يأذن لها في زيارتهما في الحين بعد الحين على قدر متعارف، بشرط ألَّا يكون في كثرة خروجها فتنة وفساد، وإذا لم يأذن لها زوجها بزيارتهما فيكون آثمًا ومرتكبًا ذنبًا لتسببه في قطع صلة الرحم»([62]).

وأما بخصوص استبقاء الحياة الزوجية وعدم التسرع في إيقاع الطلاق بدون مبرر مقبول شرعًا، وأن يصبر الزوج على ما لا يرضاه من عيوب الزوجة وأنه إن كره منها خلقًا رضي آخر، فقد جاء هذا في فتوى بحثية لدائرة الإفتاء الأردنية حيث جاء في فتواها: «إن طلاق المرأة إضرارٌ بها، وليس للرجل أن يفعل ذلك إلا لسبب مقبول شرعًا، وينبغي للرجل المسلم أن يكون حَكَمًا عادلًا في الموضوع، فيعامل زوجته بمثل ما يحب أن تعامل بها أخته أو بنته من قِبَل زوجها، وإلا كان ظالمًا لها. والمرأة بمجرد أن يعقد عليها الزوج عقد النكاح صارت زوجة له، ولها حقوق، وعليها واجبات، فكيف إذا كان قد اختلى بها، وَأَلِفَتْهُ، وأَنِسَت به، واطمأنت إليه، وعقدت آمالاً طيبةً على الحياة معه، فكيف يفجعها بالطلاق، ويخيب آمالها، ويهدم أحلامها المشروعة!

وقد قال الله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]، والميثاق الغليظ: هو عقد الزواج التي تبذل المرأة بموجبه أعز ما لديها.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق([63])” فهو حلال، لكنَّ الله يبغضه، لما فيه من ضرر بالمرأة وأهلها، والمؤمن يجب أن يكون حريصًا على ما يُرضي الله تعالى، متباعدًا عما يبغضه عز وجل.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر”([64]).

وهكذا نرى أن أمر الطلاق عظيم، لا ينبغي للمسلم أن يُقدم عليه إلا لأمرٍ مشروع يرجع تقديره إليه، والذين استخفُّوا بأمر الطلاق أساؤوا إلى الإسلام، وصوَّرُوه في ذهن الآخرين على أنه دين الشهواتِ والاستخفافِ بمشاعر النساء وأهلهن، والناس يسيؤون الظن بمن تطلق بعد مدة قصيرة من زواجها، فماذا يقول لربه مَن تسبب في تشويه سمعة بنات المسلمين؟!».

وأضافت الفتوى: «إن الطلاق قرار خطير، ترك الله اتخاذه إلى الرجل المسلم الذي يخاف الله، ويعلم أنه سيقف بين يديه للحساب، قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

أما قضية أداء المهر كله أو نصفه فهو تعويض قليل عن مصيبة كبيرة حلَّت بالمرأة، حتى ولو أعطاها مالاً جزيلاً، فقد طلق الحسن بن علي رضي الله عنهما زوجة له، ثم أرسل إليها بمال كثير، فقالت: متاع قليل مِن حبيب مفارق. فندم على طلاقها، لكنه لم يستطع مراجعتها؛ لأنه كان قد طلقها ثلاثًا.

فليتق الله هذا الزوج، وليفكر في أمره جيدًا، وليكن رجلاً صالحًا مؤمنًا قويًّا، يتحمل برجولة نتيجة ما أقدم عليه، يرضاه حتى ولو لم يعجبه شيء مِن زوجته، فَلْيغفر لها لِيَغفرَ الله له، قال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]»([65]).

وساهمت الفتوى أيضًا في حق تحصيل العفة بالنسبة لكل من الزوجين، وقد ظهر هذا في العديد من الفتاوى، نذكر منها: فتوى دار الإفتاء المصرية عن عدم جواز امتناع الزوجة عن فراش زوجها بدون عذر أو مرض، فقد جاء فيها: «لكل من الزوجين حقوق على الآخر، فمن حقوق الزوج على زوجته أن تطيعه في كل أمر من أمور الزوجية فيما ليس فيه معصية، فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح”([66]). وفى الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى قال: “والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قَتَب لم تمنعه”([67]). والقتب ما يوضع على ظهر البعير.

وعلى هذا فامتناع الزوجة عن طاعة زوجها غير جائز شرعًا، ما لم يكن لديها عذر يمنعها من إجابة طلبه، وتكون آثمة في هذا الامتناع»([68]).

ومن هذه الفتاوى أيضًا: فتوى لجنة الإفتاء بالكويت عن هجر الزوج زوجته لكثرة السفر، فقد جاء فيها: «قال الفقهاء: للزوجة حقُّ على زوجها في المبيت عندها وفي الوطء؛ لأن حِلَّه لها حقُّها كما أن حِلَّها له حَقُّه، فإذا طالبته الزوجة بالمبيت عندها وجب عليه المبيت عندها ليلة من كل أربع ليال إن لم يكن له عذر، لما روى الشعبي أن كعب بن سوار كان جالسًا عند عمر بن الخطاب، فجاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت رجلًا قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائمًا، ويظل نهاره صائمًا، فاستغفر لها وأثنى عليها، واستحيت المرأة وقامت راجعة، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، هلَّا أعديت المرأة على زوجها، فقال: وما ذاك؟ فقال: إنها تشكوه، إذا كان هذا حاله في العبادة متي يتفرغ لها؟ فبعث عمر إلى زوجها فقال لكعب: اقض بينهما، قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن، فأقضي بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة. واستحسن عمر بن الخطاب ذلك وأعجب به»([69]).

وأضافت الفتوى: «ولا يجوز أن يسافر الرجل بعيدًا عن زوجته أكثر من ستة أشهر؛ لأن هذه المدَّة هي التي حدَّدها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في بُعد الرجل عن زوجته بعد سؤاله وتحرِّيه عن المدة التي تصبر فيها المرأة عن زوجها، ولذلك لو طلبت حضوره من السفر ورفض كان من حقّها طلب التفريق.

وقد حدَّد الله سبحانه وتعالى أربعة أشهر لمن حلف ألَّا يطأ زوجته، فإذا لم يطأها بعد ذلك كان من حقها طلب الطلاق، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226-227].

من أجل هذا كان الواجب على كل زوج إعفاف زوجته ومؤانستها وعدم البُعد عنها مدة طويلة تحسُّ فيها بالوحشة وتُعرِّضها لوسوسة الشيطان بالأفكار السوداء والانسياق وراء إغراء صديقات السوء، مما قد يؤدى إلى الانحراف، وساعتها لا ينفع الندم»([70]).

ثانيًا: الحقوق الخاصَّة للزوجة على زوجها:

‏تفرض الشريعة الإسلامية على الزوج وحده عدة أمور، وهي:

1- نفقات الزواج من إجراءات العقد وتوثيقه وإقامة العرس من وليمة ونحوها ولا تتكلف الزوجة شيئًا من ذلك إلا برضائها.

2- مهر الزوجة([71])، وهو المال الذي تستحقّه الزوجة على زوجها بالعقد عليها أو بالدخول بها حقيقة، وهو واجب على الرجل دون المرأة، ويجب بمجرد العقد الصحيح، وقد يسقط كله أو بعضه ما لم يتأكد بالدخول أو الموت، كما يجب بالدخول الحقيقي كما في حالة الوطء بشبهة أو في الزواج الفاسد، ولا يسقط حينئذ إلا بالأداء أو الإبراء؛ قال الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلةً فإن طبن لكم عن شيءٍ نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا} [النساء: 4]، أي: عطية، وقال تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضةً} [النساء: 24]، وقال تعالى: {وآتوهن أجورهن بالمعروف} [النساء: 25]، ودليل وجوبه على الزوج قوله تعالى: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} [الأحزاب: 50]، والأمر بالإيتاء في جميع الآيات السابقة مرجّه للرجال خاصّة، ولم ينس الإسلام في هذا المقام المرأة الكتابيّة، فأوجب هذا الحقّ الماديّ على الرجل إذا تزوّج كتابيّة، قال الله تعالى: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن} [المائدة: 5]، أي: مهورهن.

وعن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «إني وهبت من نفسي»، فقامت طويلًا، فقال رجلٌ: «زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجةٌ»، قال: «هل عندك من شيءٍ تصدقها؟»، قال: «ما عندي إلا إزاري»، فقال: «إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئًا»، فقال: «ما أجد شيئًا»، فقال: «التمس ولو خاتمًا من حديدٍ»، فلم يجد، فقال: «أمعك من القرآن شيءٌ؟»، قال: «نعم سورة كذا وسورة كذا» لسورٍ سماها، فقال: «قد زوجناكها بما معك من القرآن»([72]).

والمهر ليس عوضًا في مقابلة الاستمتاع بالمرأة، ولكنه عطاء لازم بدون عوض؛ لأن القرآن الكريم قد سماه نحلة أي عطية بدون عوض؛ ولأنه يجب نصف المهر إذا طلَّقها قبل الدخول بقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضةً فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237]، فلو كان المهر عوضًا عن الاستمتاع بها لما فرض نصف المهر إذا طلّقها قبل الدخول ولم يحصل الاستمتاع.

والحكمة من وجوب المهر هو إظهار خطر هذا العقد ومكانته، وإعزاز المرأة وإكرامها، وتقديم الدليل على بناء حياة زوجية كريمة معها، وتوفير النية على قصد معاشرتها بالمعروف، ودوام الزواج، وفيه تمكين المرأة من التهيؤ للزواج بما يلزم لها من لباس ونفقة بها.

وكون المهر واجبًا على الرجل دون المرأة ينسجم مع المبدأ التشريعيّ في أنّ المرأة لا تُكَلَّف بشيء من واجبات النفقة، سواء أكانت أمًّا أم بنتًا أم زوجة، وإنما يُكَلَّف الرجل بالإنفاق؛ لأن الرجل أقدر على الكسب والسعي في الرزق، وقد وضع القرآن مبدأ توزيع المسئوليات المالية بين الرجل والمرأة، فقال سبحانه: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34].

والمهر يُعَدُّ أثرًا من آثار العقد وليس ركنًا فيه ولا شرطًا من شروط صحتّه، ولهذا يصحّ عقد الزواج بدون النصِّ عليه في العقد، بل ينعقد الزواج ويلزم المهر، حتى ولو اتَّفق الزوجان على أن لا مهر، ويجب لها مهر المثل ويعدّ دينًا على الزوج بمجرد العقد الصحيح النافذ، والدليل على ذلك قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضةً} [البقرة: 236]، فالآية تدلّ على نفي الجناح عند تطليق النساء قبل الدخول وقبل فرض المهر، والطلاق لا يكون إلا بعد الزواج الصحيح؛ وهو ما يدلّ على أن المهر ليس ركنًا ولا شرطًا فيه.

وعن علقمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه أُتي في امرأةٍ تزوجها رجلٌ فمات عنها ولم يفرض لها صداقًا، ولم يدخل بها، فاختلفوا إليه قريبًا من شهرٍ لا يفتيهم ثم قال: أرى لها صداق نسائها لا وكس([73]) ولا شطط([74])، ولها الميراث، وعليها العدة، فشهد معقل بن سنانٍ الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشقٍ بمثل ما قضيت([75])، وهذا الحديث دالٌّ على صحّة عقد الزواج دون ذكر للمهر أو تسمية له.

ولا حدّ لأقل المهر، ولا لأكثره، فكل ما صحّ عليه اسم المال، أو كان مقومًا بمال، جاز أن يكون مهرًا، قليلًا كان أو كثيرًا، عينًا أو دينًا، أو منفعة، وقد استقر العرف حديثًا على تقديره نقدًا، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء: 24]، فإنه أطلق المال، ولم يقدره بحدٍّ معين، وقال صلى الله عليه وسلم: «أعطها ولو خاتمًا من حديدٍ»([76])، وقال تعالى: {وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا} [النساء: 20]، فقد أباح أن يقدم الزوج لزوجته قنطارًا، والقنطار: المال الكثير فدل على أنه لا حد للمهر في الكثرة.

ويستحب شرعًا عدم الغلو في المهر، فعن عمر رضي الله عنه قال: «ألا لا تغلوا صدق النساء، فإنه لو كان مكرمةً في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل كان أولاكم به النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه ولا أصدقت امرأةٌ من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقيةً»([77]).

وقد سبقت الفتاوى المنضبطة في عدم الغلو في المهر، ومن الفتاوى التي قررت حق الزوجة في مهرها ما جاء في فتاوى اللجنة الدائمة في مهر الزوجة، وفيها: «المهر حق من حقوق الزوجة يجب الوفاء به، قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [سورة النساء الآية 4]»([78]).

3- تأثيث بيت الزوجية؛ فالزوج هو المكلف شرعًا بإعداد جهاز الزوجة، ولا يلزم الزوجة إعداد شيء من ذلك من مالها الخاص؛ لا من مهرها الذي تسلمته، ولا من غيره مما تملكه من أموال؛ لأن مهرها حقّ خالص لها استحقته بموجب عقد الزواج، فلا تُجبْر على إنفاق شيء منه لجهازها ولوازم بيتها ولا لنفقتها؛ ولأنّ الله قد أوجب على الزوج النفقة، قال الله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق: 6]، فالنصّ قد أوجب على الزوج سكنى الزوجة وعدم إضرارها بهذا السكن، وهذا يتطلب تجهيز البيت بالمتاع والأثاث ولوازم البيت بما يتناسب مع حاله ولا يضر بالزوجة([79]).

ومن الفتاوى التي تناولت هذا الحق فتوى دار الإفتاء المصرية المتعلقة بقائمة المنقولات الزوجية، فقد جاء في هذه الفتوى: «الأصل في المنقولات الزوجية عُرفًا أنها ما يشتريه الزوج من أثاث وأجهزة لتجهيز منزل الزوجية، وجرى العرف في مصر على أن يقوم الزوج بكتابة قائمة منقولات زوجية يقر فيها بملكية الزوجة لها، وذلك بدلًا عن المهر أو عن جزء منه، وفي هذه الحالة تأخذ القائمة حكم المهر.

وإذا كانت الزوجة هي التي اشترت المنقولات من مالها أو قام وليُّها بشرائها لها فإنه لا نزاع في ملكيتها لها سواء حرَّر الزوج لها قائمة منقولات أم لا، ولها أن تثبت ذلك بطرق الإثبات الشرعية المعتبرة من بينات وقرائن، وأمر تقدير صحة ذلك موكول إلى القاضي.

ويستوي فيما سبق أن تكون المرأة قد طلِّقت أو تكون الزوجية قائمة وأراد الزوج منع الزوجة من منقولاتها تحت أي مبررٍ ما دامت المنقولاتُ خالصَ حقِّ الزوجة، بل إن الأصل أنه يجب على الزوج أن يؤثث لزوجته منزل زوجية يصلح لمعيشتها»([80]).

4- حق النفقة([81])، والمراد من النفقة هنا: «ما تحتاج إليه الزوجة من طعام وكسوة ومسكن وخدمة، وكل ما يلزم لها بحسب العرف»، وقد قرر الشرع الشريف وجوب النفقة للزوجة على زوجها في الجملة، واتفق الفقهاء على وجوبها للزوجة مسلمة كانت أو كتابية بنكاح صحيح وهي غير ناشزة([82])، وقد ثبت وجوب هذا الحقّ بالقرآن والسنة والإجماع والقياس؛ أما القرآن؛ فقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}[الطلاق: 7]. ووجه الدلالة: صيغة الأمر في قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ}؛ فهو فعلٌ مضارعٌ مسبوقٌ بلام الأمر، والأمر للوجوب ما لم يَرِدْ قرينةٌ تصرفه من الوجوب إلى الندب أو الإباحة، وإذْ لم يرد ما يصرفه عن الوجوب فإنه يفيد أن النفقة للزوجة واجبةٌ على زوجها.

وقال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34]، وقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفسٌ إلا وسعها لا تضار والدةٌ بولدها ولا مولودٌ له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالًا عن تراضٍ منهما وتشاورٍ فلا جناح عليهما} [البقرة: 233]([83]).

وقال الله تعالى في حقِّ المطلقات: {اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حملٍ فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكن فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروفٍ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} [الطلاق: 6]، وإذا كان ذلك في حقّ المطلقات في أثناء العدة فحق الزوجات أوجب.

وأما السنة: فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه في حجة الوداع: «… ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»([84])، قال الشافعي: «وجماع المعروف: إعفاء صاحب الحق في المئونة من طلبه، وأداؤه إليه بطيب نفس لا بضرورته إلى طلبه، ولا تأديته بإظهار الكراهية لتأديته وأيهما ترك فظلم، لأن مطل الغنى ظلم، ومطله تأخيره الحق»([85])، وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أنفق المسلم نفقةً على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقةً»([86])، وذكر العلماء أن النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنّوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه([87])، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجلٌ شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، قال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»([88]).

وعن معاوية القشيري قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «أَنْ يُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمَ، وَيَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَى، وَلَا يَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا يُقَبِّحْ، وَلَا يَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» أخرجه الحاكم في “المستدرك” وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ([89]). ووجه الدلالة: التعبير بكلمة “حق”، والحق موضوعٌ حقيقةً للواجب؛ لغةً واصطلاحًا.

وأما الاجماع: فلقد انعقد إجماع المسلمين على وجوب النفقة للزوجة على زوجها إجمالًا من لدُن سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم الناس هذا، ولم يخالف في ذلك أحد؛ كما نقله الإمام أبو الحسن ابن القطان الفاسي وغيرُه.

وأما القياس: فإن من القواعد المقررة في الفقه أن “مَن حُبِس لِحَقِّ غيره فنفقته واجبةٌ عليه”؛ وهذا منطبقٌ على الزوجة؛ فإنها محبوسةٌ على زوجها، فَحُقَّ لها النفقةُ جزاء الاحتباس.

وتختلف النفقة الثابتة بالزوجية عن غيرها من النفقات على الأقارب وغيرهم في أنها تجب مع استغنائها بمالها، ونفقة القريب لا تجب إلا مع إعساره وحاجته، وأيضًا فإن نفقة الزوجة تجب لها مع يسار الزوج وإعساره، بخلاف نفقة الأقارب فلا تجب إلا عند يسار المنفق، وأيضًا فإن نفقة الزوجة تجب لها فيما مضى إذا لم ينفق عليها في مدة ماضية ولا يجب لقريب نفقة ماضية([90]).

ومقدار النفقة الواجبة على الزوج لزوجته ما يكفيها على قدر استطاعته يُسرًا وعُسرًا في غير إسراف ولا تقتير، وقد سبق آية البقرة والطلاق في النفقة فقال العلماء في تفسيرهما: «على والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي بما جرب به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره»([91])، وسبق أيضًا حديث هند في أخذ النفقة بالمعروف.

وتشمل النفقة: الطعام والشراب؛ قال معاوية القشيري: قلت: «يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟» قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت»([92])، كما تشمل المسكن كما قال تعالى: {اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} [الطلاق: 6]، وإذا كان ذلك في حقّ المطلقات في أثناء العدة فحق الزوجات أوجب، كما تشمل النفقة الملبس؛ قال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} [البقرة: 233].

قال العلامة ابن عابدين: «والنفقة تشمل الطعام والكسوة والسُّكنى، ويُعتَبَرُ في نفقته ونفقة عياله الوسطُ من غير تبذيرٍ ولا تَقتِير؛ “بحر”: أي الوسط مِن حاله المعهود»([93])ـ، وقال العلامة خليل: «يجب لِمُمَكِّنَةٍ مُطِيقةٍ للوطءِ على البالغ، وليس أحدُهما مُشْرِفًا -أي بعد الدخول-؛ قوتٌ وإدامٌ وكسوةٌ ومسكنٌ بالعادة بقدر وُسْعِهِ وحالِها والبلد والسعر»([94])، وقال العلامة أبو عبد الله المواق نقلًا عن العلامة ابن شاس: «واجبات النفقة ستةٌ: الطعامُ، والإدامُ، والخادمُ، والكسوةُ، وآلةُ التنظيف، والسُّكنى»([95])، وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: «يجب على الزوجِ النفقةُ بالاتفاق؛ وهي خمسة أشياء: الطعامُ، والإدامُ، والكسوةُ، والسُّكنى، وآلةُ التنظيف؛ كالمشطِ والدهنِ، والخادمُ إن كانت مِمَّنْ تُخْدَمُ»([96])، وقال العلامة الخطيب الشربيني : «والحقوق الواجبة بالزوجية سبعةٌ: الطعامُ، والإدامُ، والكسوةُ، وآلةُ التنظيف، ومتاعُ البيت، والسُّكنى، وخادمٌ إن كانت مِمَّنْ تُخْدَمُ»([97])، وقال الإمام البهوتي الحنبلي: «(ويلزم ذلك) المذكور؛ وهو الكفاية من الخبز والأُدْم والكسوة وتوابعها (الزوج لزوجته) إجماعًا»([98]).

وقد حصر جمهور الفقهاء النفقة فيما مر ولم يدخلوا فيها نفقة العلاج من الأمراض، واستدلوا لما ذهبوا إليه من عدم شمول نفقة الزوجة كُلفةَ علاجها بقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ} [الطلاق: 7]، ووجه استدلالهم: أن الله عز وجل أوجب على الزوج النفقةَ المستمرةَ لزوجته، ونفقةُ العلاج من الأمور العارضة؛ فلا تدخل بذلك في النفقة الواجبة، ولأن شراء الأدوية وأجرة الطبيب إنما تُرَادُ لإصلاح الجسم؛ فلا تلزم الزوج؛ باعتبار أن عقد النكاح إنما هو على منفعة بُضْعِ المرأة؛ فلا يلزم الزوجَ إصلاحُ الجسم كما لا يَلزمُ المستأجرَ إصلاحُ ما انهدم من الدار. قال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي: «ولا يجب عليه شراءُ الأدوية، ولا أجرةُ الطبيب؛ لأنه يراد لإصلاح الجسم؛ فلا يلزمه؛ كما لا يلزم المستأجرَ بناءُ ما يقع من الدار وحفظُ أصولها؛ وكذلك أجرةُ الحَجَّامِ والفَاصِدِ»([99]).

إلا أنهم نصُّوا على شمولها عددًا من الإجراءات الطبية الوقائية للحفاظ على بدن الزوجة وصحتها ووقايتها على وجهٍ مستمرٍّ مما قد يؤذيها أو يضرها أو يسبب لها التعب والإجهاد؛ حيث أوجبوا خدمتها ونفقة من يؤنسها عند الحاجة إلى ذلك، وكذلك توفير أدوات التنظيف والطهارة اللازمة لبدن الزوجة والمسكن؛ قال العلامة منصور البهوتي الحنبلي: «يجب (عليه) أي الزوج (مؤنة نظافتها من الدهن) لرأسها (والسدر والصابون وثمن ماءِ شربٍ ووضوءٍ وغسلٍ من حيضٍ ونفاسٍ وجنابةٍ ونجاسةٍ وغسلِ ثيابٍ وكذا المشط وأجرة القيمة ونحوه وتبييض الدست وقت الحاجة) إليه؛ لأن ذلك يُرَادُ للتنظيف؛ كتنظيف الدار المؤجرة. (ولا يجب عليه) أي الزوج (الأدوية وأجرة الطبيب والحجام والفاصد)؛ لأن ذلك يُرَادُ لإصلاح الجسم؛ كما لا يلزم المستأجرَ بناءُ ما يقع من الدار (وكذا ثمن الطيب والحناء والخضاب ونحوه) كالإسفيداج؛ لأن ذلك من الزينة فلا يجب عليه؛ كشراء الحلي (إلا أن يريد منها التزين به)؛ لأنه هو المريد لذلك (أو قطع رائحةٍ كريهةٍ منها) أي يلزمه ما يُرَادُ لقطع رائحةٍ كريهةٍ منها؛ كما ذكره في “المغني” و”الشرح” و”الترغيب”»([100]).

كما قرر المالكية في المشهور عندهم وجوبَ تحمل الزوج نفقةَ الولادةِ وتوفيرِ العناية والرعاية الطبية اللازمة للزوجة وللمولود في مدة الحمل أيضًا. قال العلامة الدسوقي: «(قوله: وأجرة قابلة) يعني أن أجرة القابلة وهي التي تولد النساء لازمةٌ للزوج على المشهور ولو كانت مطلقةً بائنًا ولو نزل الولد ميتًا في الطلاق البائن؛ لأن المرأة لا تستغني عن ذلك؛ كالنفقة. وقيل: إن أجرة القابلة عليها. ومحل الخلاف في الزوجة التي ولدها حُرٌّ؛ كالزوجة الحرة والأَمَة التي مِثل أَمَةِ الجَد، وأما الزوجة الأَمَة التي يكون ولدها رقيقًا لسيدها فأجرة القابلة لازمةٌ لسيدها قولًا واحدًا؛ لِمِلْكِهِ للولد ولو كانت في عصمة الزوج (قوله: ويجب لها عند الولادة ما جَرَت به العادة) أي من الفراريج والحلبة بالعسل والمفتقة ونحو ذلك (قوله: يحصل لها ضررٌ عادةً بتركها) أي بأن يحصل لها الشعث عند تركها، ولا يشترط المرض، لا -أي لا يجب- ما يُحتَاجُ له من ذلك ولو اعتادته. والحاصل أن المدار في لزوم ذلك على الضرر؛ أُعْتِيدَ أم لا، فإنْ ضَرَّ تَرْكُهُ بها لَزِمَهُ؛ أُعْتِيدَ أم لا، وإن لم يضرَّ تَرْكُهُ بها فلا يلزمه؛ أُعْتِيدَ أم لا»([101]).

وما يُفْهَمُ من إطلاق الحنفيَّة والشافعيَّة والحنابلة عدمَ وجوب هذا النوع من النفقة للزوجة في النصوص السابق إيرادها إنما هو عدم لزومها على الزوج تجاهها إذا لم تأت هذه النفقة استجابةً لطلبه أو بما تعود ثمرته عليه أو بحيث تكون زائدةً على ما يقيم حاجته؛ قال العلامة الشبراملسي: «(قوله: لحفظ الأصل) ويؤخذ منه أن ما تحتاج إليه المرأة بعد الولادة لِمَا يُزِيلُ ما يُصيبُها مِن الوجع الحاصل في باطنها ونحوه؛ لا يجب عليه؛ لأنه من الدواء، وكذا ما جرت به العادة مِن عمل العصيدة واللبابة ونحوهما مما جرت به عادتهن لمن يجتمع عندها من النساء؛ فلا يجب؛ لأنه ليس من النفقة، بل ولا مما تحتاج إليه المرأة أصلًا، ولا نَظَرَ لِتَأَذِّيها بِتَرْكِهِ، فإن أرادته فَعَلَت مِن عندها نفسها»([102]).

وأدخل ثمنَ الدواء وأجرةَ الطبيب مطلقًا بعضُ المالكية وغيرُ واحدٍ من العلماء في النفقة الواجبة للزوجة على زوجها؛ قال الشيخ عليش: «عن ابن عبد الحكم: عليه أجرُ الطبيب والمداواة»([103])، وقال الإمام الشوكاني: «وأما قوله: (كفايتها كسوةً ونفقةً وإدامًا) فصحيحٌ، مع التقييد بقوله عز وجل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ} [الطلاق: 7]. وأما إيجاب الدواء فوجهه: أن وجوب النفقة عليه -أي على الزوج لزوجته- هي لحفظ صحتها، والدواء من جملة ما يحفظ به صحتها»([104]).

والقول بوجوب إنفاق الزوج على علاج زوجته هو ما اختارته التشريعات القانونية المعاصرة في الديار المصرية ومعظم البلاد الإسلاميَّة؛ فقد نصَّت المادة الأولى من قانون الأحوال الشخصية المصري رقم 25 لسنة 1920م على أنه: «تجب النفقة للزوجة على زوجها من تاريخ العقد الصحيح إذا سلَّمت نفسها إليه ولو حُكْمًا حتى لو كانت موسرةً أو مختلفةً معه في الدين، ولا يَمنعُ مرضُ الزوجةِ مِن استحقاقها للنفقة، وتشملُ النفقةُ الغذاءَ والكسوةَ والسكنَ ومصاريفَ العلاج وغيرَ ذلك بما يقتضي به الشرع».

وما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم شمول النفقةِ الواجبةِ الدواءَ وأجرةَ الطبيب: فإنما قرروه في واقعٍ مختلفٍ عن واقع الناس اليوم، ومِن المعلوم أن تغيُّر الزمان يترتب عليه في الغالب تغيُّرٌ في الأعراف والعادات ومِن ثَمَّ الاحتياجات؛ فلَم تكن الأسقامُ والأمراضُ منتشرةً في القرون الأولى على النحو الذي نراه في زماننا هذا، ولم يكن علاجها يحتاج إلى تكاليف وإنفاقٍ مثل ما هو الواقع الآن، بل كان المرض في أزمانهم عارضًا في الغالب، يتأتَّى علاجه بما هو متوفرٌ من أطعمةٍ ونباتاتٍ وأعشابٍ وعناصر في البيئة المحيطة، وكان من خبرة النساء ومما يميزهن عن الرجال تداول هذه الأشياء وتعلم التداوي والتطبيب بها، حتى إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بلغت في ذلك مبلغًا عظيمًا؛ كما وصفها بذلك عبدُ الله بن الزبير وهو ابن أختها أسماء رضي الله عنهم؛ فقال: “ما رأيت أحدًا أعلم بفقهٍ ولا بطِبٍّ ولا بشِعرٍّ من عائشة رضي الله عنها”([105])، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرشد إلى الغسل من الحُمَّى؛ فيقول: «الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ؛ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» متفقٌ عليه([106])، وغير ذلك كثيرٌ مما يدل على طبيعة التداوي وآلِيَّتِهِ في تلك الأزمان.

وهذا الفهم لنصوص الجمهور مستنبطٌ من إيجابهم نفقةَ العلاج والتداوي من بعض الأمراض والأحوال على تفصيلٍ بينهم في ذلك كما سبق بيانه، كما يظهر من نصوصهم في هذا الباب أن تحديد النفقة ومشتملاتها يرجع فيه إلى العرف بشروطه، ومراعاة الأعراف وتغير الزمان عند النظر في هذا النوع من النفقة هو ما قرره الشيخ شمس الدين محمد نجيب المطيعي مستحسنًا ضرب المثل لهذا النوع من النفقة في هذا الزمان بالتأمين الصحي المكفول للعامل لا بالدار المستأجرة؛ فيقول رحمه الله: «ولنا وقفةٌ عند هذا الأمر الذي ينبغي النظر إليه من خلال ما طرأ على حياة الناس من تغيّر، وليس هذا الفرع بالشيء الثابت الذي لا يتأثر بالعوامل الانسانية السائدة، فإنه إذا كان الزوجان في مجتمعٍ أو بيئةٍ أو دولةٍ تكفل للعامل والشغّال قدرًا من الرعاية الصحية تحت اسم اصابة العمل أو المرض أثناء الخدمة؛ فيتكفل صاحبُ العمل ببعض نفقات العلاج أو كلها؛ فإنه ليس من العروف أن يُضرب المثل هنا بإجارة الدار مع الفارق بين الزوجة والدار، والأقرب إلى التشبيه أن يكون المثل إنسانيًّا؛ فيُضرب المثل بالعامل فإنه أَوْلَى»([107]).

ويرجع فيه أيضًا إلى ما هو دائمٌ دون ما هو عارضٌ؛ قال إمام الحرمين الجويني: «والأمراض عوارض؛ لا ترتّب لها، ولا تعدّ من الأطوار التي يقع عليها أدوار النشوء؛ فلم يَرَ الشرعُ اعتبارَها»([108]).

ومراعاةُ المستمر من النفقة دون العارض منها على ما ذهب إليه الجمهور راجعةٌ إلى استيعاب إحداهما الأخرى، ولعل في ذلك تفسيرًا لعدم إيجابهم نفقة العلاج على الزوج تجاه زوجته باعتبار المرض عارضًا يسيرًا تحصل نفقة التداوي منه بما يفضل من النفقة المستمرة؛ إذ كان هذا المعنى واضحًا لديهم؛ حيث أباحوا للزوجة حال مرضها أن تأخذ مِن النفقة المستمرة التي يوفرها الزوجُ ما تتداوى به باعتبار ذلك عارضًا ولا كلفةَ فيه زائدة على حدود النفقة المعتادة؛ قال الإمام النووي: «ويلزم الزوجَ الطعامُ والأُدْمُ في أيام المرض، ولها صرف ما تأخذه إلى الدواء ونحوه»([109]).

وعلى هذا التحقيق كان اختيار الفتوى المنضبطة في المسألة هو القول بشمول النفقة الواجبة على الزوج تجاه زوجته تكاليفَ علاجها؛ فهذا هو المتفق مع مقاصد التشريع التي أسس عليها جمهورُ الفقهاء كلامَهم، وهو المناسب لواقع الناس اليوم؛ فالغالب في أمراض هذا الزمان أنها: إما عارضةٌ تحتاج من النفقة ما لا تستوعبه النفقة المعتادة، أو مزمنةٌ مستمرةٌ لا تستوعبها النفقة المعتادة أيضًا، وعلاجها حينئذٍ يُنزَّل منزلة الأصل من طعامٍ وشرابٍ وكساءٍ إن لم يكن أَوْلَى من ذلك جميعًا؛ فقد يصبر الانسان على الجوع والعطش، لكنه لا يصبر في الغالب على مثل هذه الأمراض.

هذا، بالإضافة إلى أن كثيرًا مِن النساء المتزوجات في عصرنا هذا قد خرجن إلى العمل، باذِلاتٍ دُخُولَهُنَّ في نفقة البيت والأولاد الواجبة أصالةً على الزوج، وليس من العدل أن تَبذُلَ المرأةُ مالها في النفقة، حتى إذا مرضت لا تجد مَن يُنفق على علاجها.

إن الأحكام الشرعية المتعلقة بالحياة بين الزوجين لا تؤخذ بطريقةٍ يبحث فيها كلٌّ من الزوجين عن النصوص الشرعية التي تبيِّن حدود حقوقه وواجباته أو تجعله دائمًا على صوابٍ والطرفَ الآخر على خطأٍ؛ بحيث يجعل الدين وسيلةً للضغط على الطرف الآخر وجَعْلِهِ مُذعِنًا لرغباته من غير أداء الواجبات التي عليه هو؛ فالحياة الزوجية مبناها على السكن والرحمة والمودة ومراعاة مشاعر كلٍّ من الطرفين للآخر أكثر من بنائها على طلب الحقوق، وفِقه الحياة والخلق الكريم الذي علمنا إياه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقتضي أن تتقي الزوجةُ اللهَ تعالى في زوجها وأن تَعْلَمَ أن حُسنَ عشرتها له وصَبْرَها عليه بابٌ من أبواب دخولها الجنة، وعلى الزوج أيضًا أن يراعي ضَعفَ زوجته ومشقة خدمتها طوال اليوم للبيت والأولاد، وأن يكون بها رحيمًا، وأن لا يُحَمِّلَهَا ما لا تطيق، فبهذه المشاعر الصادقة المتبادَلَةِ يستطيع الزوجان أداءَ واجبهما والقيامَ بمراد الله تعالى منهما، وسَحْبُ ما هو عند القضاء إلى الحياة غير سديدٍ؛ قال تعالى في كتابه الحكيم: {يُؤْتِي الحِكمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}[البقرة: 269].

ومن هنا جاءت الفتوى المنضبطة بأن تكاليف علاج الزوجة من دواءٍ وأجرة طبيبٍ داخلةٌ ضمن النفقة الواجبة شرعًا على الزوج تجاه زوجته تبعًا لقدرة الزوج المالية يُسْرًا أو عُسْرًا، وتُنَزَّلُ هذه النفقة منزلة الأصل من طعامٍ وشرابٍ وكساءٍ إن لم تكن أَوْلَى من ذلك جميعًا؛ فقد يصبر الانسان على الجوع والعطش، لكنه لا يصبر في الغالب على المرض([110])، وهذا هو الموافق لمقاصد الشرع الشريف، وفيه عرفانٌ لفضل الزوجة التي لا تألو جهدًا في خدمة زوجها والعكوف على تربية الأولاد.

ومن الفتاوى التي قررت حق النفقة بما فيه من الأحكام السابق ذكرها فتوى دائرة الإفتاء الأردنية بعنوان “حق النفقة”([111]).

ومن الفتاوى التي تناولت هذا الحق فتوى دار الإفتاء المصرية فقد جاء فيها: «من المقرر شرعًا أن الزوجة إذا ما سَلَّمت نفسها لزوجها -ولو حكمًا- وجب على الزوج الإنفاق عليها، حيث إنها قد حبست نفسها للزوج، فإن أَبَى الإنفاق عليها كان للزوجة أن تطلب من القاضي فرض نفقتها على زوجها بأنواعها الثلاثة: المأكل والملبس والمسكن، فإذا ثبت إعسار الزوج وعدم قدرته على الإنفاق على زوجته بأنواعها الثلاثة كان للزوجة أن تطلب من القاضي فرض نفقتها على زوجها، ويأمر القاضي في نفس الوقت مَن تجب نفقة الزوجة عليه لو لم تكن متزوجة من أب أو أخ ونحوهما بأدائها للزوجة على أن يرجع المنفق بما أنفق على الزوج إذا أيسر بعد ذلك.

وللزوجة أن تطلب فرض نفقتها على زوجها مع إذن القاضي لها بالاستدانة من الغير على حساب زوجها المعسر، وفي هذه الحالة إذا استدانت الزوجة نفقتها كان لدائنها الرجوع على الزوج مباشرة بذلك الدين.

أما إذا لم يأذن لها القاضي في الاستدانة فيكون رجوع الدائن عليها لا على الزوج، وترجع هي على الزوج»([112]).

كما قررت الفتوى المنضبطة أنه لا يجوز إجبار الزوجة على الإنفاق من راتبها في البيت، فقد جاء في فتوى دار الإفتاء المصرية: «لا يجوز للزوج أن يُرغم زوجته، ولا أن يسيء معاملتها من أجل أن تنفق من راتبها أو دخلها الخاص بها على منزل الزوجية؛ لأن للزوجة ذمتها المالية المستقلة بها، ولأن النفقة واجبة على الزوج بمقتضى عقد الزواج الصحيح»([113]).

 

 

 

ثالثًا: حقوق الزوج الخاصة على زوجته:

بالنظر إلى الحقوق التي قررها الشرع الشريف للزوج على زوجته نجد أنها ليست حقوقًا بالمعنى الظاهر؛ فليست هي موضوعة لمصلحةِ الزوج نفسه؛ بل هي أمورٌ ضروريةٌ لاستقرار الحياة الأسرية؛ ويظهر ذلك بالكلام على هذه الحقوق؛ وذلك فيما يلي:

  • طاعة الزوج([114]):

كثيرة هي المسائل التي تواجه الزوجين في حياتهما والتي تحتاج إلى اتخاذ قرارٍ معيًّن؛ وقد أمرت الشريعة الزوجين بأن يتناقشا في هذه المسائل ليصلا إلى قرارٍ فيها وحثت على أخذ المشورة من ذوي الرأي الراجح؛ وفي الأسرة التي يتحقق فيها الإعداد النفسي الجيد والالتزام بمبادئ الشرع ومقاصده تقل الحالات التي تؤول المناقشة والاستشارة فيها إلى عدم اتحاد الرأيين؛ وهنا، ولوجوب اتخاذ رأي وقرارٍ حتى تسير سفينة الأسرة؛ كان ولابد من أن يكون لأحد الرأيين مرجِّحٌ، ولأن الله تعالى قد خصَّ الغالبَ من الرجال بخصائصَ عقليةٍ نابعةً من كثرة تجاربه في الحياة وخصائص جسمية لا يختلف فيها اثنان وخصائص نفسية نابعة من هذين النوعين من الخصائص، وبما أوجب الله عليه من واجباتٍ مالية، وبما أَمَرَهُ به وحمَّلَه مسئوليته من التوجيه لأسرته ورعايتهم؛ من هنا جعل الله تعالى القوامة للرجل فقال: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34]؛ فكان للزوج على زوجته حق الطاعة في المسائل التي لم يصلا فيها إلى حلٍّ مشترك؛ هذا هو الأصل؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: «أي الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: «زوجها»([115])، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»([116])، وعن معاذ رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على قتبٍ لم تمنعه»([117])، وعن الحصين بن محصنٍ أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ، ففرغت من حاجتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أذات زوجٍ أنت؟»، قالت: «نعم»، قال: «كيف أنت له؟» قالت: «ما آلوه([118]) إلا ما عجزت عنه» قال: «فانظري أين أنت منه فإنما هو جنتك ونارك»([119])، وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأةٍ ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة»([120]).

وحق الطاعة إنما يكون في المعروف، وهو كل مباحٍ شرعًا؛ فعن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الطاعة في المعروف»([121])، وعن عليٍّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله عز وجل»([122])، وبشرط ألا يصيب الزوجة منه ضرر أو إيذاء، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار»([123])، فلا طاعة له في أن يأخذ من مالها بغير رضاها أو بغير حق، أو أن يأمرها بما فيه إيذاء لها جسميًا أو معنويًا، أو بما يخالف الأحكام الشرعية.

وقد قررت الفتوى هذا الحق للزوج ومن ذلك أن المرأة إن لم تكن ملتحقة بعمل قبل الزواج وتزوجها الرجل على وهي غير عاملة؛ فلا يجوز لها الالتحاق بعمل بعد الزواج إلا بإذنه؛ ففي فتاوى دائرة الإفتاء الأردنية: «لا يجوز للزوجة الخروج من منزل زوجها والعمل دون إذنه؛ فإن خرجت من غير إذنه تكون عاصية لله تعالى وناشزة لا تستحق النفقة من زوجها، وإذا رضي الزوج بعمل زوجته جاز له العدول عن هذا فيما بعد، وعليها التجاوب مع رغبته؛ لأن الحقوق الزوجية متقابلة، فعليه النفقة وعليها الطاعة بالمعروف، أما إذا اشترطت عليه في عقد الزواج أن تخرج للعمل ثم أراد منعها للإضرار بها فعليها مراجعة القاضي الشرعي»([124]).

وفي الفتاوى الكويتية: «يجب على الزوجة طاعة زوجها وعدم الخروج من بيت الزوجية لغير سبب شرعي إلا بإذن الزوج، ومن خرجت بغير إذن الزوج أو بغير سبب شرعي تعتبر ناشزًا وآثمة إلى أن تعود إلى بيت الزوجية»([125]).

  • عدم الإسراف في مال الزوج:

الأصل أن الزوج هو الذي يقوم بالإنفاق على زوجته على حسب حاله؛ فعليه أن يأتي لها بما تحتاج إليه هي وأولاده، أو يُعطيها ما تشتري به احتياجات الأسرة، أو يترك لها أن تذهب فتستدين عليه، ونحو ذلك؛ فالحاصل أن الزوجة من حقها أن يتحصَّل لديها ما تحتاجه الأسرة باي طريقة؛ وغالبًا ما يكون قرار الاحتياج صادرًا منها؛ وكذلك يكون في يدها التصرف فيما يأتيها من احتياجات؛ فعلى المرأة تجاه مال زوجها أو ما يأتيها به من احتياجات أن تحفظ ذلك وتُحسن التصرف فيه، فلا تُسرف في الإنفاق على نفسها وعلى أولاده زيادة عن المعروف؛ قال الله تعالى: {فالصالحات قانتاتٌ حافظاتٌ للغيب بما حفظ الله} [النساء: 34]، قال المفسرون: «أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله»([126])، وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجةٍ صالحةٍ إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنه نصحته في نفسها وماله»([127]).

وإذا لم يقم الزوج بالإنفاق المطلوب منه شرعًا جاز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها الذي تصل يدها إليه بقدر ما يكفيها ويكفي ولدها إن كان لها ولد، وذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجلٌ شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم؟ قال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»([128]).

والتعليل في ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لهند -رضي الله عنها- بالأخذ من مال زوجها ما يكفيها وولدها بالمعروف أنه موضع حاجة، فإنَّ النفقة لا غنى عنها ولا قوام إلا بها، فإذا لم يدفعها الزوج ولم تأخذها أفضى إلى ضياعها وهلاكها فرخَّص لها في الأخذ بقدر نفقتها دفعًا لحاجتها، ولأنّ النفقة تتجدّد بتجدّد الزمان شيئًا فشيئًا، فتشقّ المرافعة إلى الحاكم والمطالبة بها في كلّ الأوقات، فلذلك رخّص لها في أخذها بغير إذن زوجها([129]).

سبق وأن تقرر أن من حقوق الزوج على زوجته عدم الإسراف في النفقة، ويكون ذلك بأن تُنفق بالمعروف، فلا تُنفق زيادة عن المطلوب لها ولأولاده إلا بإذن الزوج وبالمعروف، وقد راعت الفتوى المنضبطة قيد الإنفاق بالمعروف فيما يخص النفقة الزوجية؛ ففي مسألة تصدُّق الزوجة من مال زوجها بدون إذنه ذهبت الفتوى المنضبطة إلى أن هذا التصدق يكون بإذنه وبما تسمح به نفسه، جاء في فتوى دار الإفتاء المصرية: «أما عن تبرع المرأة للمسجد وغيره بدون إذن زوجها، فقد جاء في “صحيح البخاري” قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها، عن غير أمره فله نصف أجره»([130])، وعند أبي داود: «فلها نصف أجره»([131])، وفي مسند أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها»([132])، وروى الترمذي من خطبة الوداع: «لا تنفق امرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها»([133]).

فالواجب على الزوجة أن تحافظ على مال زوجها فلا تتصرف فيه بما يضره، فإذا تصدقت من ماله بغير إذنه استحقت نصف الأجر، وذلك في الشيء اليسير الذي تسمح به نفس الزوج، أما إن كان كثيرًا أو قليلًا لا تسمح به نفسه فيحرم عليها»([134]).

وقررت الفتوى المنضبطة أيضًا أن المرأة مؤتمَنة على مال زوجها فقد جاء في فتوى دار الإفتاء المصرية: «إن الإنسان المكلف -البالغ العاقل- له أن يتصرف في ماله حال حياته كيفما يشاء، ولا يجوز شرعًا لزوجته أن تخفي عنه شيئًا من أمواله أو تأخذ منها شيئًا بدون علمه إلا إذا كان شحيحًا لا ينفق على زوجته وأولاده بما يكفيهم مؤن الحياة، فإن كان كذلك جاز لزوجته أن تأخذ من ماله ولو بدون علمه ما يكفيها وأولادها بالمعروف؛ لما روي عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما شكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها وقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح -ففهم منها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينفق عليها وولدها ما يكفيهم-، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف»([135]).

فإذا كان الرجل ينفق على زوجته وولده ما يكفيهم مؤن الحياة ويغنيهم عن السؤال فلا يحق لزوجته أن تخونه في شيء من ماله؛ لأنها أمينة على أمواله، وإذا غاب عنها حفظته في ماله وولده»([136]).

 

  • قيام الزوجة بمسئولياتها:

من واجبات الزوجة تجاه الحياة الأسرية أنَّ عليها مسئولية شئون بيت الزوجية والأولاد من إعداد الغِذاء ومراعاة الأولاد تعليمًا وتربية وصحةً ومتابعة مشتملات بيت الأسرة عناية وصيانة وتنظيفًا وغير ذلك؛ ولا تعني هذه المسئولية أن عليها أن تنفذ ذلك كله بنفسها؛ بل إن هذا يكون بالمشاركة مع زوجها طبقًا للاتفاق بين الزوجين؛ ولكن تبقى هذه مسئوليتها؛ فعليها اتخاذ القرارات المناسبة لذلك من اتفاقٍ مع الزوج على التوازن بين عمل الزوج وعمل الزوجة وشئون البيت طبقًا للاحتياجات الأسرية وتحديد الاستعانة بخادم من عدمه ومتابعة ذلك كله هو مسئوليتها؛ فتنفيذ هذه الشئون يكون بقرارها وعلى الوجه الملائم لأمثالهما، ويُقصد بالوجه الملائم لأمثالهما: أن قيامها بهذه المسئولية يختلف على حسب حالة كلٍّ من الزوجين؛ فإن كانت ممن يخدم بنفسها فعليها ذلك، وإن كانت ممن يخدمها خادم وتقوم هي بالإشراف عليه فعليها ذلك، وعلى الزوج نفقة الخادم إن قدر عليه، وإلا فإنها تقوم بهذه الشئون بنفسها، وذلك لأن: «الضرر لا يزال بالضرر» كما تقرَّر في القاعدة الفقهية، وقيامها بهذه الشئون يكون بالمعروف من مثلها لمثله ويختلف ويتنوَّع بتنوع الأحوال؛ فخدمة البدوية ليس كخدمة القروية وهما ليستا كخدمة الحضرية المدنية، كما أن خدمة القوية ليس كخدمة الضعيفة وهكذا([137]).

وقد ساهمت الفتوى المنضبطة في بيان هذا الواجب فقد جاء في فتوى للدكتور أحمد ممدوح، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية: «إن الرأي الفقهي الذي يقول بعدم وجوب خدمة الزوجة لزوجها والقيام بالأعمال المنزلية، هو قول واحد وليس إجماع الفقهاء فلا يصح أن نتمسك به ولا نرى غيره».

وأضاف: «إن هذا الرأي ليس القول الوحيد، وإنما كثير من الفقهاء رأوا أنه يجب على المرأة شرعًا أن تقوم بأعمال المنزل وخدمة زوجها، والسيدة فاطمة كانت تفعل ذلك مع زوجها».

ونوَّه «أن الزوجة لو فعلت ذلك وقامت بأعمال المنزل فلها الأجر الكبير على ذلك، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت([138])“»([139]).

 

 

المبحث الثالث: تبغيض الطلاق وتضييق أسباب الفرقة:

مما لا ريب فيه أن الشرع الشريف قد عُني بأمر الأسرة منذ تكوينها، ولمَّا كان الزواج هو عمود كيانها وأساس وجودها جعل الله تعالى عقده ميثاقًا غليظًا فقال: {وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا} [النساء: 21]، ثم إن من تمام التشريع أنه لا يقتصر اهتمامه على ما يُنشئ العلاقة بل يمتد إلى ما يُنهيها أيضًا؛ لهذا اعتنى الشرع ببيان أحكام إنهاء عقد النكاح؛ وبخاصةً إنهاؤه بالطلاق، ورسم طُرُقًا محددة لهذا الإنهاء ارتبطت بتحقيق مقاصد الشريعة في الحفاظ على المجتمع وسلامة أفراده.

وفي عصرنا هذا أصبحت قضية الطلاق من أكثر القضايا التي تُؤرِّق المجتمع كله، لما لها من آثار وخيمة مدمِّرة على الأسرة المصرية وعلى المجتمع، خاصةً مع تفشي حالات الطلاق طبقًا لإحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وكان هذا بسبب خروج استخدام الطلاق عن المبادئ التي رسمها الإسلام فحدث خلل جسيم في العلاقات الأسرية، وهُدِّدت بالتفكُّك والانهيار، وترتَّب عليه ضياع الأولاد في الأعم الأغلب من الحالات.

ومن هنا كان ولابد لجميع المؤسسات المعنية من مواجهة هذه الظاهرة عبر استراتيجيات وآليات وإجراءات مناسبة، ولا ريب أن العمل التشاركي بين سائر الجهات المعنية يأتي في طليعة هذه الاستراتيجيات.

ويُعنى هذا المبحث ببيان هذه القضية في أربعة مطالب، وهي:

المطلب الأول: نظرة الإسلام إلى الطلاق.

المطلب الثاني: تجديد النظر إلى مسائل الطلاق.

المطلب الثالث: دور الفتوى في تضييق سبل الطلاق.

المطلب الرابع: الفتوى والطلاق الحضاري.

 

 

المطلب الأول: نظرة الإسلام إلى الطلاق([140]).

من أجل حماية الحياة الزوجية والعمل على بقائها حرص الإسلام على تضييق أسباب الفرقة، وتبغيض الطلاق والتنفير منه؛ فهذا يُعدُّ من المفردات الهامة المكونة للوازع الديني الذي يؤدي لحماية الأسرة من الانفصام، ويدل على ذلك استقراء ما نصّت عليه نصوص الشرع من الحثّ على الزواج والأمر به وحفظه واستدامته ورعايته من الانفصام بشتى الوسائل، فإذا كانت العلاقة بين الزوجين موثقة مؤكدة فإنه لا ينبغي الإخلال بها، ولا التهوين من شأنها، وكل أمر من شأنه أن يوهن من هذه الصلة ويضعف من رابطتها، فهو بغيض إلى الإسلام؛ لفوات المنافع وذهاب مصالح كل من الزوجين.

ولذلك فإن الإسلام نظر إلى الطلاق -رغم حكمه بمشروعيته- إلى أنه أبغض الحلال إلى الله، ويدلّ على ذلك صراحة ما رواه محاربٌ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق»([141])، وفي رواية عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق»([142])، وتعضّده نصوص كثيرة تؤيّد معناه.

وأيُّ إنسان أراد أن يفسد ما بين الزوجين من علاقة فهو مخالف لتعاليم الإسلام، وليس له شرف الانتساب إليه؛ فهن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من خبب امرأةً على زوجها أو عبدًا على سيده»([143])، وقد يحدث أن بعض النسوة تحاول أن تستأثر بالزوج وتحلّ محلّ زوجته، والإسلام ينهي عن ذلك أشدّ النهي؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأةٍ تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قُدِّرَ لها»([144])، والزوجة التي تطلب الطلاق من غير سبب ولا مقتضى حرامٌ عليها رائحة الجنة؛ فعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّمَا امرأةٍ سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنة»([145]).

وقد عملت الشريعة الإسلامية على تضييق سبل إيقاع الطلاق وذلك عبر مرحلتين:

أولًا: المرحلة الوقائية:

حيث حث الشرع على حُسن اختيار الزوجين، وجعل الزوج راعيًا ومسؤولًا عن أهله، وكذلك جعل المرأة راعية ومسؤولة عن بيت زوجها، وكذا أَمَرَ الزوجَ بحسن العشرة للزوجة والصبر على ما قد يجده ما أمكنه ذلك، والبحث عمَّا يرضيه فيها، وإذا كانت الحياة الزوجية لا تخلو مما قد يُعكِّر صفوَها في بعض الأحيان فعلى الزوجين معالجة ما يكون بينهما.

وقد فرض الإسلام لحلِّ الخلاف بين الزوجين آليات ووسائل متعددة تضمن عدم التسرع في افتراقهما؛ قال الله جلَّ شأنه: {واللاتي تخافون نشورهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا إن الله كان عليًّا كبيرًا}[النساء: 34].

وإن خرج الأمر عن طاقتهما في العلاج أمر الشرع الشريف بأن يبعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها. {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يُوَفِّق الله بينهما إن الله كان عليمًا خبيرًا} [النساء: 35].

قال عليٌّ رضي الله عنه: «الحكمان بهما يجمع الله، وبهما يُفَرِّقُ»([146])، وقال أيضًا رضي الله عنه: «إذا حكم أحد الحكمين ولم يحكم الآخر فليس حكمه بشيءٍ حتى يجتمعا»([147])، وقال تعالى: {وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يُصْلِحَا بينهما صلحًا والصلح خيرٌ وأُحْضِرَتِ الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا} [النساء: 128]([148]).

ثانيا: المرحلة العلاجية:

وتكون تلك المرحلة في حالة وقوع الطلاق، وذلك من خلال مجموعة من الأحكام والإجراءات العلاجية والتي تُمكِّن من تدارُك ما حصل، وتَحُدُّ من وقوع الطلاق قدر الإمكان، فاشترطت توفر أمور معينة لوقوعه، وهذه الشروط قد تكون متعلقة بمن يوقع الطلاق وهو (الزوج)، وبمن يقع عليه الطلاق وهي (الزوجة)؛ فاشتُرط أن يكون المطلِّق زوجًا، وعلى ذلك فغير الزوج لا يقع طلاقه؛ فإذا طلق الرجل زوجة ابنه -مثلًا- لا يقع طلاقه؛ لأنه قاصر على الزوج، أما الحالات التي يجوز للقاضي التطليق فيها، فإنه يقوم بذلك بمقتضى الولاية الشرعية، فالمرأة إذا وقع عليها ظلم واستحالت العشرة بينهما فعلى الزوج أن يطلق مراعاة لحقّ المرأة، فإن لم يفعل كان على القاضي أن يرفع عنها الظلم؛ لأن له ولاية رفع المظالم بمقتضى الشرع.

كما اشترطت الشريعة أن يكون المطلِّق مكلفًا مختارًا، ومن أهم الشروط أن يكون المطلِّق قاصدًا وفاهمًا لفظة الطلاق، كما جعل الإسلام طلاق الحائض طلاقًا بدعيًّا محرَّمًا، وحرَّم أن يطلقها في طهر جامعها فيه([149]).

كل ذلك وغيره يكشف لنا عن مسلك الشرع الشريف وموقفه من الطلاق، وأنه وضع من الأحكام والإجراءات ما يعمل على المحافظة على الأسرة وصيانتها بالحد من الطلاق، وتضييق دائرته، وتقليل مخاطره، ومقاومة تفشِّيه بكافة السبل والطرق، وأن أي إجراءات أو خطوات في هذا المسلك إنما هي مجسِّدة لنصوص الشرع الشريف، ونابعة من أصوله وقواعده، ومحقِّقة لمقاصده في الحفاظ على الأسرة وتدعيمها وتحصينها من عواصف الأزمات ومخاطر الأيام.

المطلب الثاني: تجديد النظر إلى مسائل الطلاق:

يُمثِّلُ الزواجُ أقوى الروابط الإنسانية والاجتماعية؛ فذلك العقد الأبدي الذي يُبرمه الزوجان وينطوي على مجموعة من الحقوق والالتزامات غير التقليدية ليس مجرد اتفاقٍ بين الزوجين على مجموعةٍ من البنود المتعاقَد عليها؛ بل الأمر يتجاوز ذلك بمراحل؛ فهو الميثاق الغليظ بحسب وصف الله سبحانه وتعالى له، وقد وُصِفَ بذلك لأنه يتعلق ببناء الأسرة المسلمة ركيزةِ البنيانِ المجتمعي الكامل للأمة، وهو الميثاق الغليظ لأن الحفاظ عليه هو الضامن الحقيقي لِلُحمة الأمة ونسيجها، وهو الميثاق الغليظ لأنه ظل الرحمة الذي يحجب شرور الفتن عن شبابنا وبناتنا.

ومن هنا عُدَّ الطلاقُ الذي يؤدي إلى انفصام عُرى هذا الميثاق الغليظ من أكثر القضايا التي تؤرِّقُ المجتمع كله؛ لما لها من آثارٍ وخيمةٍ مدمرةٍ على الأسرة المصرية وعلى المجتمع ككلٍّ؛ خاصةً مع تفشي حالات الطلاق بطريقة كبيرة يعقبها الندم عادةً ومحاولة استدراك ما وقع فيه المتلفِّظ متسرعًا؛ الأمر الذي يستلزم منا جميعًا وقفةً جادةً لرفع درجة الوعي عند المواطنين بمخاطر الإقدام على الطلاق وما يترتب عليه من آثارٍ اجتماعيةٍ خطيرة لا تخفى على أحد؛ فهذه قضية وعي في المقام الأول.

ولمَّا كانت المعرفةُ الشرعيةُ والخطابُ الدينيُّ من أهم ركائزِ تشكيلِ الوعي في مجتمعاتنا؛ كان من الضروري الانتباهُ إلى الخطابِ الديني المتعلِّق بمسائل الطلاق بوجه عام والنظر في عناصره ومجمله ومدى مناسبته للواقع المعاصر ومقتضياته وتجديد الاجتهاد فيها بما يحقق مقاصد الشريعة من وراء أحكامها الجزئية التفصيلية.

والحقيقة أن قضايا تجديد الاجتهاد في المسائل الشرعية النازلة في المجالات كافةً من الأمور التي استقر الجميع على ضرورتها، ولا سبيل إلى التوصل إلى أحكام الله في المستجدات والنوازل سوى الاجتهاد الشرعي.

إلا أن المسألة الجديرة بالاهتمام والعناية فعلًا هي قضية تجديد الاجتهاد في المسائل التي تم تناولها بالفعل من قِبَل فقهائنا الكبار؛ فبعيدًا عن المسائل النازلة في الطلاق؛ كالطلاق عبر الهاتف ونحو ذلك؛ هناك العديد من قضايا ومسائل الطلاق المستقرة في الفقه الإسلامي والتي نرى ضرورة تجديد الاجتهاد فيها والنظر إليها نظرةً جديدةً بما يُزيل الآثار التي تترتب على النظرة القديمة التي كانت مناسبةً لزمن فقهائنا الأوائل ومحققةً لمقاصد الشريعة وقتها؛ لكنها الآن لم تَعُد محققةً لهذه المقاصد؛ بل تؤدي إلى مفاسدَ تنأى عنها هذه الشريعة السمحاء.

إننا يجب أن نعي تمامًا ونحن مستمرون في الدعوة إلى تجديد الاجتهاد أن عملية الاجتهاد الشرعي المنطوية على إعمالٍ لأصول الاستدلال في الأدلة الشرعية مع مراعاة مقاصد الشرع وضرورات الواقع هي في حقيقتها عملية إبداعية في المقام الأول يحاول المجتهد من خلالها البرهنة على أن ما من نازلةٍ إلا ولها حكم شرعي، وأن ذلك الحكم الإلهي لابد وأن يدور في فلك مقاصد الشريعة الكلية محققًا مصالح العباد ودافعًا عنهم الضرر، وأن أيَّ حكمٍ استُنبط سابقًا من نصوصِ الشريعة لكنه يؤدي الآن إلى ما يخالف هذه المصالح ينبغي أن يُعاد النظر فيه والتحقق من وجود المقومات التي انبنى عليها هذا الاستنباط القديم.

وبالنظر إلى قضية الطلاق في الوقت الراهن نجد أنها أصبحت من أكثر المواضيع تخبطًا لاسيما مع التزايد المخيف في معدلات الطلاق وإحصائياته ذات المنحنى المرتفع، ولا شكَّ أن ترك مصير الأسرة للاستهتار والعبث بالألفاظ الشرعية الذي ساد بين الناس حيث استهانوا بألفاظ الطلاق وأخرجوها عن الوضع الشرعي الذي جعله الله لها يقتضي منا إعادة النظر في هذا الواقع الجديد، والسؤال الذي لابد أن نبحث له عن إجابة بتجردٍ وإنصافٍ: هل غالب ما يجري على ألسنة الناس في هذا الصدد هي حقًّا ألفاظٌ مطابقةٌ للوضع الشرعي من حيث المعنى أو هو تشابه في اللفظ فقط؟ وإذا كانت هذه الألفاظ التي استهتر بها عامة الناس أُريد بها إيقاع الطلاق حقًّا فلماذا يتراجع عنها أغلب الناطقين بها ويتكدسون أمام لجان الفتوى حتى يجدوا لهم مخرجًا من فلتات اللسان وطريقًا للعودة، وقليل منهم -بل نادرٌ- مَن يقول: قصدت بذلك اللفظ الطلاق.

إذن فلا مناص من الاعتراف بأن ثمة واقعًا جديدًا وخطيرًا يهدد مستقبل الأسر، على ألسنة المتهورين الذين خرجوا بالألفاظ الشرعية عن وضعها الشرعي الذي أراده الله تعالى.

بالإضافة إلى ذلك فإننا أيضًا بحاجة إلى تحقيق ما يمكن أن نُطلق عليه “الطلاق الحضاري”، وذلك عند التأكد من تأزم الحياة الزوجية؛ فإننا يجب أن نحقق الانفصال اللائق بين الزوجين، والذي يتَّسم بالإحسان كما هو منعوت في كتاب الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وهذا الإحسان لا يتحقق بالعداء الحاصل بين الزوجين بمجرد وقوع الطلاق، وبالمنزلقات الخطيرة التي يتسارع إليها الزوجان ضاربين بمصالح أولادهم عرض الحائط ساعين للانتصار لأنفسهم فقط دون النظر لأمر آخر.

إن ذلك الوضع الحرج للطلاق يقتضي بكل تأكيد العمل الجاد للتجديد الفقهي والاجتهادي فيما يتعلق بمسائل الطلاق في إطار الواقع الاجتماعي ومقتضياته وما آلت إليه أنماط السلوك، وكذلك في إطار مقاصد الشرع الحنيف من التماسك والتراحم وشد بنيان الأمة بتقوية الأواصر الأسرية ودفع كل ما من شأنه تفتيت وحدة الأسرة واستقرارها، مع اعتبار القواعد الكلية التي بُنيت عليها الأحكام الشرعية الفقهية عند فقهاء المذاهب المعتبرة والفقهاء المعتبرين، لا المسائل والفتاوى الجزئية المرتبطة بظروف الأعصار والأماكن.

إن التجديد الذي نُنادي به في مسائل الطلاق تجديدٌ يسعى لتحقيق مقصود الشرع من تعضيد الميثاق الغليظ المعقود بالنكاح؛ وذلك بالتقليص من انتشار الطلاق وضمان وقوعه على هيئة حضارية إن لم يمكن منعه.

المطلب الثالث: دور الفتوى في تضييق سبل الطلاق:

أولًا: قضية الطلاق الشفوي:

على الرغم من كون الطلاق قضيةً شخصيةً تتعلق بفردين فقط؛ إلا أن آثارها المجتمعية ظاهرة بشكلٍ لا يَخفَى؛ فجملة الآثار السلبية التي تتعلق بالزوج والزوجة وأطفالهما على الجانب المادي والمعنوي والنفسي تؤثِّر في نسيج البناء الاجتماعي؛ فالمجتمع ما هو إلى مجموع هؤلاء الأفراد المتضررين من تَبِعَاتِ الطلاق.

ومن نفس المنطلَق فإن الطلاق –رغم كونه أمرًا شخصيًّا- ناتجٌ عن إشكالاتٍ اجتماعيةٍ انسحبت على أفراده وظهرت آثارُها على السلوك والتصرفات الشخصية؛ فالمشكلات الأُسرية التي تؤدي إلى طريق الانفصال بين الزوجين هي مشكلاتٌ لها طبيعةٌ ترتبط بالنَّسَق القيمي ارتباطًا وثيقًا؛ فذلك النسق وما يحمله من عاداتٍ وتقاليدَ وقناعاتٍ وأفكارٍ هو ما يُبلوِر تلك المشكلات الأسرية، وغالبًا ما تُصنَّف تلك المشكلات تحت أحد تلك الأفكار والقناعات والعادات.

ولعل أحد أهم تلك الأنماط السلوكية الخاطئة هو تغيُّر العادات اللغوية لدى الأفراد في المجتمع المصري على سبيل الخصوص؛ فقد دخلت العديد من التراكيب اللفظية في الثقافة الشعبية وصار لها إطلاقاتٌ غير ما اعتيد عليه في السابق، ووجدت طريقها في الانتشار بشكلٍ كبيرٍ ودَرَجَت على الألسنة بشكلٍ بالغِ الانتشار.

ومن تلك التراكيب الحلفُ بالطلاقِ؛ فإنك لن تجدَ عناءً أثناء يومِك في أن تسمعَ يمين الطلاق يُطلَق عشرات المرات، وربما أكثر من ذلك، وهذا وإن كان من الناحية الفقهية قد لا يُعتدُّ به على اعتباره من اللغو الظاهر؛ إلا أن ذلك الانتشار أثَّر بدوره على معدلات الحلف بالطلاق وإلقاء اليمين على الزوجة بشكل أكثر من ذي قبل؛ فالتسرُّع أصبح عادةً سيئةً يتسمُ بها الأزواج في الوقت الحاضر، ومع سهولة استعمال اللفظ وانتشاره بهذا الشكل أصبح الطلاق الشفويُّ أمرًا شائعًا يقع مراتٍ في اليوم الواحد؛ وبتأثيرِ الجهلِ بالأحكامِ الشرعيةِ ترتَّب على ذلك فكُّ عُرى آلافٍ من عقودِ الزواجِ بناءً على هذه الألفاظ الشفوية غيرِ المعتدِّ بها في الغالب.

وليس أدل على ذلك من توجُّه مئات الأزواج وزوجاتهم إلى المفتين في دور الإفتاء وغيرها ليستفتون عن صحة وقوع ذلك الطلاق، وجُلُّهم يأتون نادمين مقرين أنهم تسرعوا وأنهم لم يقصدوا إنهاء الحياة الأسرية والرباط الزوجي.

ووفقًا للإحصاءات يُعرَض على دار الإفتاء المصرية مثلًا ما يقرُب من 3200 فتوى تقريبًا في الشهر فيما يخص مسائل الطلاق، وبعد التحقيق الرصين والدقيق ننتهي إلى أن الذي يقع من هذا العدد ما يقرُب من ثلاث حالات فقط.

إن تلك الإحصائية تُشير بوضوحٍ لحجم المشكلة الحاصلة نتيجةَ الطلاق الشفوي؛ مما يدفع بقوةٍ في اتجاه ضرورةِ تجديدِ النظر الفقهي في مسألة الطلاق الشفوي ووقوعها ومدى تقييد الطلاق باشتراط التوثيق.

إن الخوفَ من تلك الحملات والأبواق التي تنصُبُ نفسَها حاميةً للتراث الفقهي الإسلامي لابد أن يتبدد الآن، وأن نقف بشجاعةٍ ونؤكد رؤيتنا الفقهية المقاصدية دون خوفٍ من تلك الدعوات غير الواعية لماهية البناء الفقهي وفلسفته؛ فإن الدعوة للتجديد لم تكن يومًا دعوةً مناهضةً للتراث الفقهي؛ بل إنها دعوةٌ متسقةٌ تمامًا مع الأصول التراثية للفقه الإسلامي الذي اعتمد الاجتهاد ومراعاة المتغيرات الزمانية والمكانية أثناء الفتوى واستنباط الحكم الشرعي.

لقد استقرَّ الفقهاء على أن للسلطة الحاكمة الحق الأصيل في تقييد المباح وتحويله من دَائرةِ الإباحةِ إلى الوجوبِ أو الحُرمةِ إذا اقتضى ذلك تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة؛ وذلك لأن “تصرُّف الإمام على الرعيَّةِ منوطٌ بالمصلحة”.

والمصلحة التي لا يمكن تجاوزها اليوم وفقًا لما نشاهده هي اشتراط الإشهاد على الطلاق لصحة وقوعه، ويزيد منه ويقويه التوثيق الحاصل من المأذون الشرعي في إطار اللوائح والتعليمات المنظِّمَة له؛ فكل ذلك يُمثِّل قيودًا على حريَّةِ الزوج في إيقاع الطلاق إلا في نطاقٍ ضيقٍ يُحقق مقصود الشرع الشريف.

إن عقد الزواج يوجدُ بيقينٍ؛ وذلك بحضور الأهل والمأذون والشهود وجمهورٌ من المدعوين، ومن المنطقي ألا يُرفع ذلك العقد إلا بيقينٍ مثل ذلك اليقين الذي وُجِدَ به، وليس أقل من تحقق الزوج من مراده من الألفاظ التي أطلقها قاصدًا بها إنهاء العلاقة الزوجية وتوثيق ذلك، وإلا فالواقع المشاهَد الذي تدعمه الإحصائيات المتقدمة يؤكد تسرع الأزواج وعزوف المعنى الحقيقي للطلاق عن عقولهم أثناء إطلاق هذه الألفاظ.

هذا وإن اشتراط التوثيق لوقوع الطلاق لن يكون أبدًا تعطيلًا لحكمٍ حَكَمَ الفقهاء باستقراره؛ فبجانب سلطة الحاكم في تقييد المباح فإن ذلك التوثيق ما هو إلا فرصة للزوج ليراجع مراده من لفظ الطلاق ويستفتي أهل الفتوى بحثًا عن تحقق القصد وصحة وقوع ما أطلقه من لفظٍ، ثم بعد ذلك إن كان تحقق كونه واعيًا لما يقوله وأن هذا ما كان يريده؛ فإن السبيل إلى إيقاع ذلك الطلاق هو تأكيده بالتوثيق، ومِن ثَمَّ يمكننا أن نقف على طلاقٍ حاصلٍ بيقينٍ لا مجال فيه للاحتمالات ولا إمكانية فيه لأن يكون الزوج غير قاصدٍ الطلاقَ.

وبالتالي نكون قد اتخذنا التدابيرَ الواجبةَ للحفاظ على التماسك المجتمعي والحفاظ على الأسرة المسلمة بغيةَ استمرار التماسك المجتمعي الذي لن يتحقق أبدًا في ظل تزايد البيوت المهدمة نتيجة التسرع في الطلاق.

إن تجديد الاجتهاد واشتراط قيود التوثيق في الطلاق هو وظيفة الفتوى والاجتهاد الفقهي بوجه عام من حيث تحقيق مقاصد الشرع التي يجب أن تكون حاضرةً في أحكامه؛ من حفظ الأنفس من الضياع والتشرد والتراجع الحضاري، وحفظ الأموال من الإهدار فيما لا طائل منه، وحفظ الدين أيضًا نتيجةَ توفير فرصةٍ جيدةٍ للطفل في التنشئة الاجتماعية الصحية.

لقد عملت الفتاوى المنضبطة من قديم على تضييق سبل الطلاق؛ ومن أهم وسائل ذلك تضييق سبل الطلاق الشفوي، ومن ذلك ما أصدرته دار الإفتاء المصرية بشأن حكم وقوع الطلاق بقول الزوج لامرأته: (أنت طالئ)؛ بالهمزة بدلا عن القاف؛ فقد قررت أن تحريف لفظ الطلاق الصريح؛ بأن يُنطَقَ (طالئ)، بدلا من طالق، كما هو جارٍ على لسان كثير من أهل مصر: يُخرِج اللفظ مِن الصَّراحة إلى الكناية التي تحتاج إلى نية مقارنة للفظ يقع به الطلاق، وأن هذا القول ليس مخترعًا ولا مصادمًا للنصوص، بل هو مبني على مذهب السادة الشافعية تفريعًا وتنظيرًا، وأن الإفتاء بهذا الاختيار فيه مراعاة لأحوال الناس والزمان، وفيه تحقيق لمصلحة بقاء الزوجية قائمة، بما يستتبعها من الحفاظ على كيان الأسرة في زمن تَهَدَّد فيه بقاء الأسرة([150]).

ومن جهة أخرى قامت الجهود الإفتائية بإطلاق دعوات لضبط الطلاق الشفوي؛ يأتي في طليعتها جهود فضيلة مفتي الديار المصرية شوقي علام؛ ولأهمية مسلكه في هذا السياق نبين فيما يلي هذا المسلك بالتفصيل([151]):

فقد انطلق فضيلته من مقاصد الشرع الشريف حسب المنهجية العلمية ووفقَ تطور المجتمعات وتغيُّر الأحوال والأزمان إلى إطلاق دعوته إلى توثيق الطلاق الشفوي؛ فلقد تتابع الفقهاء منذ اليوم الأول على رصد ومتابعة التغيُّرات والنوازل التي تطرأ وتحدُث في عصورهم ومجتمعاتهم، وما يستلزمها من تغيير في الأحكام الفقهية، فلم يجمُدوا أو يتوقفوا على آراء أئمتهم واجتهاداتهم، بل تركوها إذا اقتضت المصلحة أو الحاجة أو عمَّت البلوى.

وينبع مسلكه من صفة المرونة في الفقه الإسلامي التي تجعله وافيًا بحاجات كل العصور؛ فمن خصائص الشريعة الإسلامية صلاحيتها لكل زمان ومكان ومرونتها الكبيرة في مواجهة النوازل والقضايا التي تُستجد، وكذلك من أهم خصائصها التيسير والسماحة وسهولة التطبيق وتنزيل الأحكام الشرعية الثابتة في الكتاب والسنة على الواقع بما يوافق حالة الإنسان الخاصة وظروف المجتمعات بشكل عام.

والمتمعِّن في الفقه الإسلامي وقضاياه ومسائله عبر القرون سوف يجد منظومة متكاملة من الآراء الشرعية المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله، واستنباط أهل العلم صالحة لأن تكون منهجا وأصولًا للتعامل مع القضايا المستحدثة والمسائل التي فرضتها طبيعة الحياة المعاصرة، وذلك على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، مع مراعاة الأبعاد المكانية والزمانية والعرفية والمعرفية، وحد الضرورة والحاجة، والإكراه والاضطرار، وكيفية تحقيق المصلحة وتجنب المفسدة في كل قضية من القضايا ومسألة من المسائل، يتم ذلك من خلال اجتهاد الجماعة العلمية قديمًا حيث كان العمل العلمي يخضع لعملية نقد وفحص دائمين، وفي واقعنا المعاصر يتم من خلال العمل المؤسسي الجماعي والرؤية الكلية، والعقلية الفارقة المدركة لمعاني النص الشرعي والرأي الفقهي، وكيفية الوصل بينه وبين الواقع والحياة اليومية المتجددة في إطار شرعي تم فيه مراعاة النص وحفظ المصلحة وتحقيق المقاصد.

وحينما نتكلم عن مرونة الفقه الإسلامي وقدرته على مسايرة القضايا المعاصرة والنوازل والمستجدات وتفاعله معها، والتأصيل الشرعي لها ووضعها في الإطار الصحيح والتعامل معها وإيجاد الحلول الشرعية المناسبة على المستوى العام والخاص، لا يعني ذلك أبدا أن هذه العملية تتم بدون ضوابط أو أنها مجرد دعوى بدون حدود تؤدي للتفلت، وإنما هي دعوى للتفكر وبيان قدرة تراثنا الفقهي على تقديم مفاتيح معرفية عصرية، يتم من خلالها تلبية حاجة الإنسان المعاصر داخل دائرة الشريعة، مع مراعاة الضوابط الحاكمة لهذه العملية الفكرية مثل الانتباه إلى قضية ثوابت الشريعة ومتغيراتها، وما هو مجمع عليه عند المسلمين، والقطعي والظني من حيث الثبوت أو الدلالة، والتقيد بمعاني اليسر في الكتاب والسنة، وعدم مجاوزة النص، وضرورة أن يكون القائم بالاجتهاد من أهل العلم المتمتعين بالملكة الفقهية مع ثاقب النظر والإحاطة بالواقع الخاص بالقضية محل الاجتهاد، مع الاستعانة بمن يتم الحاجة إليهم من الخبراء وأهل الاختصاص كالأطباء وعلماء الاقتصاد وغيرهم، وذلك لشرح أبعاد القضايا مما يوفر المعرفة الصحيحة والمعطيات الكاملة التي تنتج أحكاما صحيحة، وإنما يتم ذلك كله في إطار مؤسسي شديد التخصص والإحكام والتعاون مع مؤسسات الدولة.

ولعل من المناسب هنا أن نشير إلى خطورة وبطلان الدعاوى التي تنادي بتنحية الفقه وأحكامه جانبًا، وإبعاده عن حياتنا العامة تحت دعوى عدم تقديس التراث، فحقيقة هذه الدعوى هو تحريف جزء من دين الإسلام وإفراغه من معانيه، بحيث نجد أنفسنا في فوضى فكرية ينتج عنها فوضى عملية كبيرة، ولعل ما شاهدناه في العقود الأخيرة من إهمال الجماعات المتطرفة والتيارات المتشددة لدراسة الفقه الإسلامي بشكل صحيح، والاستقلال بعقولهم وفهمهم واجتهادهم وما نتج عن ذلك من التكفير والتبديع و استحلالهم للأعراض والدماء والأموال باسم الدين ما هو إلا من نواتج تنحية الفقه الإسلامي الأصيل. فمنظومة الفقه الإسلامي المنضبط تمثل صمام أمان على المستوى الشخصي والمجتمعي، ونحن هنا لا ندعو للجمود وتقديس الآراء الفقهية وإنزالها منزلة النصوص الشرعية؛ وإنما نحاول الوصول للميزان الصحيح وتحقيق المعادلة بين التجديد والحفاظ على الثوابت، لأن التراكم المعرفي مكون أصيل في منظومة أي علم نظري أو عملي.

  • الطلاق في الواقع المصري:

البيانات الخاصة بمعدلات الطلاق في مصر:

تشير الإحصاءات الخاصة بنِسَب الطلاق في مصر إلى أنه بلغ معدلاتٍ أقلُّ ما توصف به أنها “مثيرة للقلق المجتمعي”، ذلك أن البيانات الخاصة بمعدلات الطلاق من واقع إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تُشير إلى طفرات هائلة؛ فمعدلات الطلاق بين أعوام 2000 – 2002 كانت (1،1) في الألف، في حين أن تلك المعدلات قفزت في الأعوام من 2013 – 2015 لتصبح (2،2) في الألف. أي أنها زادت بنسبة تقترب من (90%).

وفي دراسة أجراها مركز المعلومات بمجلس الوزراء تبين أن (40%) من حالات الطلاق كانت تقع خلال السنوات الأولى من الزواج، وأن الشريحة العمرية لمعظم هذه الحالات لم تتجاوز الثلاثين عامًا.

وأما عن معدلات الطلاق بين عامي 2016 – 2017 فكانت (2،1)، وقفزت في عام 2018 لتصل إلى (2،2)، واستمرت في الزيادة عام 2019 لتصل إلى (2،3)، ثم انخفضت في عام 2020 لتصل إلى (2،2).

ويتراوح معدل الطلاق بين (2،1/2،2) لكل ألف من السكان خلال الفترة 2016 – 2020، وكان عدد حالات الطلاق لكل ساعة لعام 2020 هو 25.3 حالة في الساعة.

وقد كان من أهم الأسباب التي أدت لهذا الارتفاع إخراج الطلاق عن الإطار الذي رسمه له الشرع الشريف، والذي جسَّد حكمة الله ورحمته بنا وبمجتمعاتنا، ومن ثم كان من الواجب علينا أن ننظر إلى ارتفاع معدلات الطلاق بعين يعتريها القلق على المجتمع، ويدفعنا إلى مزيد من العمل والابتكار في إيجاد الحلول والمخارج، مستلهمين في ذلك مقاصد الوحي الشريف، خصوصًا مع ما يترتب على هذه النِّسب من مشاكل نفسية واجتماعية وأمنية، تعمل على إدخال المجتمع في سلسلة لا متناهية من المشكلات والمخاطر.

أسباب الطلاق:

قد لاحظنا من خلال تجربتنا في دار الإفتاء المصرية، ودراستنا العميقة في فحص فتاوى الطلاق التي عُرضت علينا من قِبَل الزوجين، أو من خلال ما يُرسَل إلينا من محاكم الأسرة للبحث في أسبابها والنظر في عللها وكيفية معالجتها، أو من خلال دراستنا لأرشيف الفتاوى في دار الإفتاء المصرية على مدى أكثر من قرن، وكذا ما انتهت إليه حلقات النقاش في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، -أن الأسباب التي يمكن أن تؤدِّي إلى الطلاق يمكن إجمالها من وجهة نظرنا فيما يأتي:

  • تعذُّر استمرار الحياة الزوجية لعجز الزوجين عن تحقيق أهداف الزواج من تحقيق الاستقرار العاطفي والاجتماعي، بسبب وقوع خلل في إنشائه، أو نتيجةً للمشاكل والصراعات والتباينات بين الزوجين واختلاف الطباع وسوء العشرة، أو لعدم قدرتهم على إدارة مشكلاتهم والبحث عن حلولها وطرق معالجتها.
  • ضعف الوازع الديني عند الزوجين، وعدم معرفتهم بالأحكام الشرعية للزواج، وحقوقِ كل منهما وواجباته.
  • جهل الزوجين أو أحدهما بقواعد الحياة الزوجية وسياقاتها وأساليبها وطرقها.
  • تدخُّل أهل الزوجين في حياتهما بدعوى الحرص على مصالحهما.
  • المشكلات الصحية والمالية التي تعصف ببعض الأُسَر.
  • اختلاف الثقافات والبيئات والمستوى الاجتماعي والمالي بين الزوجين.
  • استخدام وتوظيف بعض الأزواج لألفاظ الطلاق في غير ما وُضعت له؛ كالحلف به أو التهديد والتخويف والتلاعب به… إلخ.

2- إجراءات الحد من ارتفاع نسبة الطلاق:

يقتضي الحد من ارتفاع نسبة الطلاق وضع خطة وقائية وأخرى علاجية، فالأولى تتمثل في تبصير المقبلين على الزواج بقدسية الأسرة وعقد الزواج وما يترتب عليه، وكيفية إدارة البيت إدارة حضارية ينعم فيها الزوجان والأولاد بالمودة والرحمة.

والثانية تكون في التوفيق بين الزوجين عند حدوث مشكلات من شأنها أن تؤدي إلى الفراق، وهذا يكون من خلال برامج علاجية ترشد الزوجين إلى إعادة الحياة في مسارها الطبيعي. ومن هنا نحتاج لبرامج للمقبلين على الزواج وأخرى للإرشاد الزواجي، وهو ما عَمِلْنَا عليه في دار الإفتاء المصرية في المجالين معًا.

وإذا كان هذا هو مقصود الشرع الشريف من الطلاق، وأنه جعله في أضيق نطاق، ولا يكون إلا علاجًا عند عدم إمكان الاستمرار في الحياة الزوجية، ووجدنا الأزواج في أغلب الأحوال لرعونةٍ عندهم لا يسيرون وفق هذا المنهج القويم الذي ضيَّق به الشرعُ الطلاق، فإنه يمكن لنا -من باب إعمال السياسة الشرعية ودرء الفساد- أن نضع من الإجراءات التي تناسب زمننا والتي تضع الطلاق في موطنه الصحيح، فكل ذلك يكون موافقًا للمقصود الشرعي من الطلاق، فهذه الإجراءات المتخذة تكون -والحالة هذه- داخلةً في إطار خطة الشرع الشريف من التضييق في الطلاق وجعله علاجًا، فكلما وصلنا بعملنا وإجراءاتنا إلى جعل الطلاق علاجًا لمشكلة واقعة في الحياة الزوجية لا يمكن معها الاستمرار في الحياة الزوجية نكون قد مشينا مع منهج الشرع الشريف، وهذا ما لا نَعْدِم وجودَه في الفقه الموروث عند حُسن الفهم وصدق النوايا.

3- تعامُل المشرِّع المصري مع قضايا الطلاق

تتأسس مشروعيَّة المشرِّع المصري في إصدار قوانين مُلزمة للقضاة للفصل في قضايا الأحوال الشخصية عمومًا والطلاق خصوصًا على ما يلي:

  • سلطة ولي الأمر في تقييد المباح:

تعدُّ مسؤولية ولي الأمر عن رعيته من أهم واجباته، فيجب عليه أن يرعَى شؤونهم ومصالحهم، ويدرأ المفاسد عنهم، ويرفع الضرر عنهم، ويعمل على تحقيق العدل بينهم، وتوفير الأمن لهم؛ ولهذا قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»([152])، وحتى يقوم بمهامه ويؤدي وظيفته التي تحمَّل مسؤوليتها فيجب على جميع الرعية طاعته؛ يقول تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، لهذا أَجمعَ العُلماءُ على وجوبِ طَاعةِ ولي الأمر.

وولي الأمر قد تدفعه المصلحة العامة إلى تقييد المباح؛ لهذا كان من حقه تقييد المباح بالمنع أو الإيجاب، وقد نصَّ العلماءُ على أن لولي الأمر تقييد المباح وتحويله من دَائرةِ الإباحةِ إلى الوجوبِ أو الحُرمةِ إذا اقتضى ذلك تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة؛ فسلطة ولي الأمر (ويمثله: الدولة المعاصرة بمؤسساتها المختلفة)؛ تتسع لتواجه أوجه الفساد وما يؤدي إلى زعزعة استقرار المجتمع والأسرة على وجه الخصوص، وفي هذا الصدد يمكن طرح فكرة الإشهاد على الطلاق كشرط صحةٍ بدلًا من كونه واجبًا مستقلًّا عن العقد، وفق نظر بعض أهل العلم، أو كونه مُستحبًّا وفق نظر الجمهور من العلماء، ويزيد منه ويقويه التوثيق الحاصل من المأذون الشرعي في إطار اللوائح والتعليمات المنظمة له، فكل ذلك يمثل قيودًا على حريَّةِ الزوج في إيقاع الطلاق إلا في نطاق ضيق يحقق مقصود الشرع الشريف.

يقول الشيخ عبد الرحمن تاج: “إن ولي الأمر إذا رأى شيئًا من المباح قد اتخذه الناس -عن قصد- وسيلة إلى مفسدة، أو أنه -بسبب فساد الزمان- أصبح يُفضي إلى مفسدة أرجح مما قد يُفضي إليه من المصلحة، كان له أن يَحظره ويسدَّ بابه، ويكون ذلك من الشريعة، وعملًا بالسياسة الشرعية التي تعتمد على قاعدة سد الذرائع”.

وقد قال الإمام محمد عبده في قضية الإشهاد على الطلاق هذا الرأي من أكثر من قرنٍ من الزمان، وقد تغير الزمان في وقتنا الحاضر بعوامل كثيرة أكثر مما كان في عصره، مما يزيد قوة كلامه والمطالبة به في وقتنا هذا أكثر من أي وقت مضى، فقد قال: «فلم لا يجوز مع ظهور الفساد في الأخلاق والضعف في العقول وعدم المبالاة بالمقاصد أن يؤخذ بقول بعض الأئمة من أن الاستشهاد شرط في صحة الطلاق كما هو شرطُ صحةِ الزواج».

ولا يُظَن من ذلك أن التقييد في الأَحوالِ المذكورة سابقًا فيه تغيير لشرع الله وتحريم ما أحله؛ لأن التقييد عمل اجتهادي يخضع لضوابط الاجتهاد إعمالًا لقواعد الشريعة في تقديم المصالح والترجيح بينها عند التعارض، كقاعدة “الضرر يزال”، و”يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام”، و”تصرف الراعي على الرعية منوط بالمصلحة”.

  • سلطة ولي الأمر في رفع الخلاف:

أعطى الشرع الشريف لولي الأمر سلطة تقييد الآراء والمذاهب المتنوعة بالاختيار من بينها فيما يراه محققًا للمصلحة؛ سواء من حيث الفعل أو الترك، أو ما يتعلق بشخص الفاعل وصفته أو بزمانه أو بمكانه، ثم إلزام الكافة بهذا الاختيار؛ قال ابن عابدين: “تجب طاعة الإمام فيما ليس بمعصية”.

فينبغي على ولي الأمر في صورته الحاضرة من أنظمة الحكم المعاصرة، كالسلطة التشريعية أو التنفيذية، أن يتدخل في أوقات مهمة للقيام بواجباته تجاه الأمة لتحديد المصلحة، وأن يختار من الأقوال ما يناسبها ويحقق متطلباتها؛ لأنه يستحيل العمل بكافة الآراء مجتمعة، وألا يسمح باختلال صفها أو افتراق كلمتها، بل يحرص على استقرارها ووحدتها.

ويترتب على إصدار ولي الأمر القوانين المنظمة لحَياةِ الناس المحققة لمصالحهم وجوب القضاء والإفتاء بما ورد فيها، وعدم مخالفتها ولو كانت على خلاف مذاهبهم أو كانت مرجوحة عندهم؛ لأن إلزام ولي الأمر بها رافع للخلاف، كما أن رفع الخلاف الفقهي في حكم ولي الأمر لا يتعلق بِواقعةٍ مُعينةٍ، بل بكل ما يندرج تحتها من وقائع وأقضية، فيلزم القضاة وأهل الفتوى بهذا الحكم الصادر من ولي الأمر.

وقد اختلف أهل العلم في الإشهاد على الطلاق على ثلاثة أقوال:

القول الأول: يرى أن الإشهاد على الطلاق مستحب، وهو قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة.

القول الثاني: ذهب إلى أن الإشهاد واجب يأثم الزوج إذا تركه، وقال به الإمام الشافعي في القديم، والظاهرية، والشيعة، وبه قال من الصحابة: سيدنا علي، وابن عباس، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، ومن التابعين: عطاء، وابن جريج، وابن سيرين، والسدي.

القول الثالث: يرى أن الإشهاد شرط صحة في الطلاق فضلا عن كونه واجبًا، فلو لم يُشهد لم يكن الطلاق واقعًا، وقد نُقِلَ هذا القول عن علي رضي الله عنه، وجاء هذا الحكم صريحًا في كلام الإمام محمد عبده والشيخ أحمد شاكر وكذا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة، وإن كان يقتضيه قول الآخرين كالشيخ علي الخفيف.

والواقع أن هذا القول الثالث فيه من المصالح الكثير، وبه تندفع المضار والمفاسد المترتبة، ويقويه أكثر أن يقارنه التوثيق للطلاق؛ لأن التوثيق سيكون أمانًا لتحقيق الطلاق على نحو جدي لا يخامرنا شك في رضا الزوج به وقصده إليه قصدًا صحيحًا، فضلًا عن صيانة الحقوق والآثار المترتبة على الطلاق من العبث؛ فتعلم الزوجة بحصول الطلاق إذا كانت حاضرة، وهو ما نحبذه، أو أن يعلمها المأذون إذا كانت غائبة عن مجلس الطلاق، فتكون الزوجة على بينة من أمرها، وترتفع جملة من الإشكالات هي موجودة بالفعل في ظل الوضع التشريعي القائم، ومن ثم نقترح تعديل التشريع القائم إلى عدم وقوع الطلاق إلا إذا أشهد الزوج شاهدين عليه مع اقترانه بالتوثيق.

وهذا كله لا يعني سلب حق الزوج في الطلاق، بل يعني تنظيم هذا الحق، وهو ما يؤدي إلى صيانة الأسرة وحمايتها من التفكك، زيادة على أنه يجعل إثبات الطلاق متحققًا على نحو يخفف عن كاهل القضاء الكثير من القضايا، وأخيرًا فهو يجعل المرأة على بينة من بداية عدتها إذا كان دخل بها زوجها، وهو أمر مقصود للشرع الشريف.

4- الرؤية العامة للدعوة لتوثيق الطلاق الشفوي وتوصيات فضيلة الدكتور شوقي علام.

يقرر فضيلة الدكتور شوقي علام ما يلي:

  • تعد قضية الطلاق من أكثر القضايا التي تؤرق المجتمع كله لما لها من آثار وخيمة ومدمرة على الأسرة المصرية وعلى المجتمع.
  • عمل الشرع الشريف على التنفير من الطلاق والصد عنه.
  • الشريعة الإسلامية لا يمكن تجسيد آرائها أو التعبير عنها بمذهب واحد فقط، بل كل المذاهب معبرة عنها ومنبثقة من نصوصها.
  • الفقه الإسلامي فيه من الإجراءات ما يكفل حل كل المشكلات الأسرية، والشريعة إنما جاءت لصالح الناس.
  • يتجسد مسلك الشرع الشريف وموقفه من الطلاق، في وضع الأحكام والإجراءات التي تعمل على المحافظة على الأسرة وصيانتها، بالحد من الطلاق وتضييق دائرته وتقليل مخاطره ومقاومة تفشيه بكافة السبل والطرق.
  • أي إجراءات أو خطوات في هذا المسلك إنما هي مجسدة لنصوص الشرع الشريف، ونابعة من أصوله وقواعده، ومحققة لمقاصده في الحفاظ على الأسرة وتدعيمها وتحصينها من عواصف الأزمات ومخاطر الأيام.
  • لولي الأمر تقييد المباح وتحويله من دائرة الإباحة إلى الوجوب أو الحرمة، إذا اقتضى ذلك تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة.
  • أعطى الشرع الشريف لولي الأمر سلطة تقييد الآراء والمذاهب المتنوعة بالاختيار من بينها فيما يراه محققًا للمصلحة، سواء من حيث الفعل أو الترك.
  • من حق ولي الأمر أن يقيد القضاء ويخصصه بالزمان والمكان والحادثة، ومنه إلزامه بما يصدر من قوانين، وهو بمثابة تقييده قديمًا بالحكم بمذهب فقهي معين، وهو أمر لا ضير فيه، بل تستدعيه حاجة العصر.
  • يحق لولي الأمر أن يتخذ من التدابير ما يحقق المصلحة ويمنع الفساد عن الناس؛ تأسيسًا على أن للحاكم تقييد المباح والمندوب، بل المكروه في بعض الأقوال، كما أن حكمه رافع للخلاف وواجب الاتباع، وتحرم مخالفته.

من واقع التجربة العملية لدار الإفتاء المصرية، والتحقيقات اليومية في الطلقات على مدار عقود طويلة فإن مشكلة الطلاق الحقيقية لا تكمن في الطلاق الشفوي، بل في السماح غير المنضبط بتوثيقه على خلاف اللوائح والتعليمات الصادرة في هذا الصدد، ومن ثم ندعو إلى عدم توثيق الطلاق إلا بعد تحقيق دقيق مع الزوج يستجلى من خلاله وجود الرضا الصحيح، أو القصد الصحيح، سواء كان ذلك عن طريق المأذون الشرعي أو عالم من علماء الفتوى المدققين.

وانطلاقًا مما سبق يقترح اختيار واعتماد الآراء الفقهية التالية في المجال التشريعي:

  • لزوم استظهار النية في الطلاق الصريح والكنائي، فيلزم استظهار نية الزوج للحكم بوقوع الطلاق في كل حال، ولا يعتد بدلالة الحال كما هو مقتضى مذهب الحنفية.
  • لزوم النية لوقوع الطلاق باللفظ المكتوب، سواء كان صريحًا في الطلاق أو كان كنائيًّا.
  • عدم وقوع الطلاق بالإشارة من القادر على الكتابة أو اللفظ.
  • عدم وقوع طلاق المخطئ قضاء وديانة.
  • اقتران اللفظ المستعمل في الطلاق -سواء كان صريحًا أو كنائيًّا- بما يدل على وقوع الطلاق أكثر مما يحتمله اللفظ، كأن قال لها: هي طالق أشد الطلاق، أو نحو ذلك، فإنه يجعله طلاقًا رجعيًّا.
  • عدم وقوع الطلاق المضاف إلى زمن مضى، كأن يقول: أنت طالق أمس.
  • لا يقع طلاق الهازل إذا قام دليل على الهزل.
  • عدم وقوع الطلاق في الحيض أو في طهر مسها فيه.
  • عدم وقوع الطلاق المضاف إلى زمن، لا في الحال ولا عند حصول الزمن المضاف إليه.
  • الطلاق المعلق لا يقع منه شيء مطلقًا، أيًّا كان قصده.
  • عدم وقوع الطلاق بسبب أمر يظن حدوثه، فظهر له خلاف ما ظنه.
  • إذا شك القاضي أو المفتي أو المأذون في تحقيق المناط في شيء من مسائل الطلاق فإن الطلاق لا يقع.
  • المرأة المعتدة من طلاق رجعي أو بائن ليست محلًّا للطلاق.
  • لا مانع شرعًا من اعتماد القول بإيجاب الإشهاد على الطلاق، وسن القوانين التي تمنع الطلاق بدونه؛ لدفع الفساد المترتب على وقوع الطلاق دون إشهاد.

وقد سبق النقل عن كثير من فقهاء العصر أنهم يقولون بذلك، بل إن قول بعضهم، كالإمام محمد عبده قد تم تبنيه في بعض التشريعات العربية، أو على الأقل وافقته هذه التشريعات فيما انتهى إليه من وجوب الإشهاد وتقييد الطلاق بأن لا يقع إلا أمام القضاء، كالتشريع المغربي والتشريع التونسي.

ثم إن تطور العصر يجعل التوثيق صورة متطورة من صور الإشهاد؛ لأن الشهادة يشترط فيها العدالة، وهذا قد لا يتوفر في كل الشهود، ولذلك أصبح المعتمد فيها رسميًّا وقضائيًّا هو الشخص الاعتباري المعنوي لا الشخص الطبيعي، وحلَّت منظومة التوثيق والشهر العقاري محل الشهود الطبيعيين في كافة العقود؛ بيعًا وشراءً وهبةً ووصيةً وغير ذلك، ومن البديهي أن أمر الطلاق أهم من ذلك كله، بما يؤول إليه من تفكك للأسر وتشريد للأولاد؛ فهو إلى منظومة التوثيق أحوج.

وتأكيدًا لهذا الأمر: فقد أخذ القانون المصري بقول من يوقع الطلاق المقترن بالعدد لفظًا أو إشارة واحدة فقط، فيكون قد أهدر طلقتين لأجل حماية الأسرة ورعاية المصالح، وإن خالف الأئمة الأربعة.

 

ثانيًا: تدريب المعنيين على مواجهة ارتفاع معدلات الطلاق:

يأتي التأهيل والتدريب في مقدمة الآليات اللازمة لتحقيق الأهداف المشتركة، وإننا نعيش في عصر التأهيل والتدريب وبناء القدرات، وهذا التأهيل أمرٌ ضروريٌّ إذا كان في سبيل مواجهة إحدى القضايا التي تؤثر على الأهداف القومية والمجتمعية كقضية ازدياد نسب الطلاق، وإذا كان التدريبُ في مآلِه صقلًا لمهاراتٍ يحتاج إليها المتدرب في أداء عمله على الوجه الأكمل، وفي وسيلته نقلًا لمعارفَ وأدواتٍ من المدرِّب إلى المتدرِّب؛ فإن العلاقة بين المدرِّب والمتدرِّب إذا كانت بين طرفين متشاركين في قضايا متقاطعة ولتحقيق أهدافٍ مشتركة فإنها لا تعني بحالٍ تمييزًا أو تفاضلًا بينهما؛ بل إنها عملية تشاركية؛ حيث يُشارِك المدرِّب خبراته ومعارفه في سبيل صقل مهارات المتدرِّب وتحديد إجراءاتٍ محددةٍ لتحقيق الهدف المشترك.

وفي سياق قيام دور الإفتاء بدورها في تبغيض الطلاق وتضييق أسباب الفرقة توجهت دار الإفتاء المصرية عام 2021م إلى القيام بدورة تأهيلية في مواجهة الإشكالات الزوجية وما يترتب عليها من ازدياد نسب الطلاق.

المطلب الرابع: الفتوى والطلاق الحضاري:

رغم بغض الإسلام للطلاق وتضييقه لسبل إيقاعه إلا أنه جعله مشروعًا في حال كونه دافعًا لفساد أكبر على الزوجين والأطفال إن بقيت الحياة الزوجية؛ ذلك أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة؛ ومن هنا شرع الإسلام التفريق بين الزوجين عن طريق القاضي، فمن المعلوم أن الطلاق يكون بيد الزوج -بحسب الأصل- فإذا لم تستقم الحياة الزوجية كما أرادها الشرع، ولم تحقق الغرض الذي استهدفه منها، وتحولت من حال السكن والمودة والرحمة إلى حياة بسيطة عليها الشقاق والكراهية الممقوتة، ولحق بطرفيها أو بأحدهما الأضرار البالغة التي استحال دفعها، فالواجب على الزوج حينئذ أن يفارق زوجته بالمعروف بما يملك من حقّ الطلاق، فإذا لم يفعل كان ظالمًا، فإذا ما رُفِعَ الأمر إلى القاضي فعليه رفع هذا الظلم؛ لأن له ولاية رفع المظالم، فيفرق بين الزوجين إذا توفرت أسباب الفرقة، وهذا ما يطلق عليه «التطليق»، وله أسباب مختلفة: فمنها التطليق للضرر، أو التطليق لعدم الإنفاق أو للغيبة المنقطعة، أو الخلع عند بغض المرأة لزوجها بغضًا لا يمكن دفعه، ويؤدي إلى الإخلال بواجباتها الزوجية وعدم استجابة الزوج لطلب زوجته الطلاق.

أما التطليق للضرر فهو التطليق بسبب ما يتعذّر معه دوام العشرة بين أمثال الزوج، والضرر المقصود هنا هو: «كل ما يصدر عن الزوج من قول أو فعل أو ترك بقصد وتعمد وبغير موجب شرعي يترتب عليه إلحاق الأذى أو الألم ببدن الزوجة أو نفسها أو اعتبارها أو يعرضها لذلك»؛ والضرر نوعان: ضرر مادي، وهو كل ما يلحق الأذى أو الألم ببدن المرأة كالضرب والجرح وإلقاء المار الحار عليها، وضرر معنوي، وهو كل ما يلحق الأذى بنفس الزوجة أو اعتبارها أو كرامتها كالسب والقذف وأي كلام قبيح، ويشترط في كليهما أن يكون مقصودًا وبغير موجب شرعي.

والدليل على وجوب رفع هذا الضرر ما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار»([153]).

ومن باب التطليق لرفع الضرر: التفريق بسبب مرض معدٍ في أحد الزوجين، وقد اختارت الفتوى المنضبطة أنه إذا وجد عيب بأحد الزوجين يخل بمقاصد الزواج، ويهدد الزوج الآخر أو الذرية بالأمراض فيجوز التفريق بين الزوجين بسبب العيب للضرر؛ لأن هذه العيوب تمنع الاستمتاع المقصود بالنكاح، ولأن هذه الأمراض تثير النفرة في النفس، ويخشى تعديها إلى النفس والنسل؛ قال الإمام النووي رحمه الله: «أما الأحكام؛ فإنه إذا وجد أحد الزوجين عيبًا في الآخر ثبت له الخيار في فسخ النكاح»([154])، وثبوت العيب يكون إما بإقرار أحد الزوجين أو بموجب تقرير طبي معتمد، فإذا تبيّن أن الزوج مريض مرضًا معديًا لا تستقيم حياة الزوجة معه ويسبب لها ضررًا كبيرًا، جاز لها رفع أمرها إلى القضاء لفسخ عقد الزواج([155]).

وفي فتاوى مكتب الإفتاء بسلطنة عمان في جوابها عن إصابة أحد الزوجين بمرض الإيدز: «شُرِع في الإسلام التوقي من كل أسباب الهلاك والأمراض، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالفرار من المجذوم كالفرار من الأسد ، كذلك جاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على التوقي من أسباب الهلاك والأمراض المعدية والفتاكة كلها؛ فمن أجل ذلك كان لزامًا على الإنسان أن يتوقى الإصابة بهذه الأمراض، وعندما يكون أحد الزوجين مصابًا بهذا المرض الفتاك مع معرفته أن المعاشرة تؤدي إلى نقل المرض إلى الطرف السليم في ذلك فلا ريب أن المعاشرة تكون في مثل هذه الحالة محرمة»([156]).

ومن التطليق للضرر: التطليق لعدم الإنفاق أو للغيبة المنقطعة؛ فالمقرر شرعًا كقاعدة عامة أنه لا ضرر ولا ضرار وأن الضرر يزال، كما أمر الله عز وجل بعدم الإضرار بالزوجات بصفة خاصة في قوله تعالى: {ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن…. وأتمروا بينكم بمعروفٍ} [الطلاق: 6]، وقال تعالى: {الطلاق مرتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} [البقرة: 229]، وليس من المعروف إلزامهن بالصبر على الضرر اللاحق بهن في هذه الحالات.

فإذا كان الزوج موسرًا وامتنع عن الإنفاق قاصدًا وأصر على تعنته ورفض إيقاع الطلاق فالضرر بيِّنٌ بلا جدال، وأما إن كان فقيرًا معسرًا ولم يستطع الحصول على عمل يتكسب منه، فهو معذور ويكون من المستحسن شرعًا أن تصبر الزوجة على إعسار الزوج وتقف بجانبه وتعاونه ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا؛ فإذا لم تستطع الصبر على حال الزوج وعجزه عن الإنفاق عليها ورفض طلاقها، فلها أن ترفع أمرها إلى القاضي للتفريق بينه وبينها، ولا يجوز أن نطلب من المرأة الصبر على تحمّل الضرر على وجه الإلزام؛ لأن النفوس ليست واحدة، والنساء لسن في مستوى واحد من الصبر والتحمل في حالة فقر الأزواج وعوزهم إلى حدّ العجز عن الإنفاق عليهنّ.

والغيبة والانقطاع كذلك يُعّدُّ سببًا من أجله يَحِقُّ للمرأة أن تطلب الطلاق([157]).

وأما الخلع فقد أجمع العلماء على مشروعيته؛ لقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ ولا يحل لكن أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229]، هذا القدر من الآية الكريمة يتعلق بإباحة الخلع بالشروط المذكورة في الآية الكريمة، وبذلك قال المفسرون، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلقٍ ولا دينٍ، ولكني أكره الكفر في الإسلام»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته؟»، قالت: «نعم»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقةً»([158])، فإذا أبغضت المرأة زوجها وأصابها النفور منه دون سبب من جانبه يتوافر به موجب الطلاق للضرر، ولم تُطِقْ صبرًا على الإقامة معه.

ولكن للطلاق في الإسلام أحكام عدة جعلتها الشريعة وسيلة لضبطه حتى لا يؤدي إلى إفساد المجتمع أو الأفراد؛ فمن ذلك أن أوجب على المطلِّق بعض الحقوق المادية تجاه زوجته تطييبًا لنفسها وجبرًا لما أصابها من ضررٍ بسبب الطلاق، وأيضًا لأن في هذا الطلاق غضاضة وإيهامًا للناس أن الزوج ما طلقها إلا لعلة فيها، فإذا هو متعها، يكون هذا بمنزلة الشهادة بنزاهتها، والاعتراف بأن الطلاق كان من قبله أي لعذر يختص به لا لعله فيها؛ لأنّ الله تعالى أمرنا أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة؛ يقول تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضةً ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًّا على المحسنين} [البقرة: 236]، فأمرت هذه الآية الكريمة بالمتعة على الزوج لزوجته إذا طلقها قبل الدخول ولم يكن قد سمَّى لها مهرًا، وفي آية أخرى أمر الله تعالى بإعطاء المتعة للمطلقات جميعًا قبل الدخول وبعده في قوله تعالى: {وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقًّا على المتقين} [البقرة: 241].

ومنها: إيجاب المهر كله للزوجة إذا طلقت بعد الدخول؛ بما فيه مؤخر صداقها؛ الذي هو جزء من المهر الثابت بنفس العقد، ويحل المؤخر منه بأقرب الأجلين الطلاق أو الوفاة، ولها كذلك قائمة المنقولات سواء دُوِّنَتْ أو لم تُدوَّن والشبكة شريطة أن يكون قد تُعُورف أو اتُّفِقَ بين الطرفين على أنهما المهرُ أو جزءٌ منه، ولها كذلك نفقة عدتها؛ التي تثبت بالاحتباس الحكمي، ونفقة العدة تُسْتَحَقُّ فيها كافة أنواع النفقة التي تجب للزوجة.

أما المطلقة قبل الدخول فقد قال الله تعالى في شأنها: {وإن طَلَّقتُمُوهنّ مِن قبلِ أن تَمَسُّوهنّ وقد فَرَضتم لهنّ فَرِيضةً فنَصفُ ما فَرَضتم إلاّ أن يَعفُون أو يَعفُوَ الذي بَيدِه عُقدةُ النِّكاحِ وأن تَعفُوا أَقرَبُ للتَّقوى ولا تَنسَوُا الفَضلَ بينَكم إنَّ اللهَ بما تَعمَلُون بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، ولذلك فالمطلقة قبل الدخول يتنصف لها مهرها: مقدمه ومؤخره.

وقد راعت الفتوى المنضبطة تطبيق مقاصد الشريعة في حالة الطلاق؛ فعملت على أن يكون الطلاق بين الزوجين في الإسلام طلاقًا حضاريًّا؛ ففي شأن نفقة المتعة ربطت مقدار هذه النفقة بعرف المجتمع مراعاة للطرفين؛ فمقدار المتعة راجع للعرف وراجع أيضًا لتقدير حال الزوج يسرًا وعسرًا، والدليل على ذلك قولُه تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، وقوله تعالى: {وللمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بالمَعرُوفِ} [البقرة: 241]، وهي في ذلك شبيهة بالنفقة التي حدَّها الفقهاء بالعرف وتقدير حال الزوج([159]).

كما جعلت الفتوى المنضبطة الحقوق المترتبة على الطلاق للضرر بحكم القاضي هي ذات الحقوق المترتبة على تطليق الزوج برضاه لا يُنتَقَص منها شيء؛ لأن لجوء الزوجة إلى القاضي لتطليقها على زوجها راجع إلى مضارته لها، وثبوت هذه المضارة دليل على أنها مكرهة على طلب التطليق لتدفع الضرر عن نفسها، وهذا يقتضي عدم الرضا بالطلاق، فتثبت لها متعة الطلاق([160]).

هذا كله إذا لم يكن الطلاق برضا المرأة ولا بسببٍ مِن قِبَلها، فإن طلبت هي الطلاق أو سعت فيه من غير ضرر عليها مِن زوجها: فإما أن تُطَلَّقَ منه خلعًا فتُرجع إليه المهر كله مقدمه ومؤخره (بما فيه قائمة المنقولات أو العفش إذا ثبت أنه كان مهرًا لها)، وإما أن يوافقها زوجها على الطلاق ولا يرى الطرفان مع ذلك اللجوء إلى القضاء: فإن الحقوق حينئذٍ تكون بالتراضي بينهما حسبما يتفقان عليه في ذلك.

وقد راعت الفتوى المنضبطة أيضًا العرف في حقوق الزوجة المالية الشرعية التي تتنازل عنها عند طلبها الخلع، ولكنها راعت مقاصد الشريعة في اعتبار العرف؛ فقد جاء في فتاوى دار الإفتاء المصرية: “ما عليه الفتوى -وهو المعمول به في القضاء المصري- أن على المرأة المختلِعة من زوجها أن تَرُدّ له مهرها الذي أمهرها إياه وأن تتنازل عن حقوقها الشرعية المالية عند الحكم لها بالخلع؛ اختيارًا من آراء بعض أهل العلم فيما يخصّ هذه المسألة؛ وذلك تقليلًا للأعباء المالية والتكاليف الواقعة على الزوج بسبب هذا الانفصال الواقع عن غير اختياره.

وأما حقوق الزوجة المالية الشرعية التي تتنازل عنها عند طلبها الخلع -والتي وردت في نص المادة العشرين من القانون رقم 1 لسنة 2000م: [للزوجين أن يتراضيا فيما بينهما على الخُلْع، فإن لم يتراضيا عليه وأقامت الزوجة دعواها بطلبه وافتدت نفسها وخالعت زوجها بالتنازل عن جميع حقوقها المالية الشرعية ورَدَّتْ عليه الصداق الذي أعطاه لها، حكمت المحكمة بتطليقها عليه] اهـ- فالمقصود بها: المهرُ بكامله (مقدَّمُه ومؤخَّرُه) وهو ما كان عِوَضًا عن البُضع ومقابلا للتسليم؛ فكل ما ثبت كونه مهرًا وجب ردُّه للزوج، وكذلك تدخل فيها نفقة المتعة فتسقط بالخلع، وكذا نفقة العدة تسقط به أيضًا؛ لأن غرض المشرع من تنظيم قانون الخلع هو رحمة المرأة من زواج لا تطيق الاستمرار فيه مع عدم إثقال كاهل الزوج بالتكاليف والأعباء. غير أن الحقوق المالية الشرعية التي تسقط بالخلع لا تشمل حقها في الحضانة ولا حقوق المحضونين.

وقد سعى المشرع المصري في اختياره لأحكام الخلع من فقه الشريعة الإسلامية إلى تحقيق التوازن بين الرجل والمرأة؛ فقيد العوض المقابل للخلع -بعد أن كان مطلقًا في أقوال الفقهاء- وخصه بالحقوق الشرعية المالية الثابتة للزوجة بالعقد؛ حماية لها من استغلال الزوج، وحتى لا يكر إطلاق العِوَض على مقصود الخلع بالبطلان، وسد في ذات الوقت باب استغلال الخلع من قبل الزوجات في استيلائهن على أموال أزواجهن وإثقال كاهلهم بالتكاليف والأعباء المالية المُدَّعاة والتي قد تكون مبالغًا فيها.

والمتعارف عليه في صياغة القائمة بين الناس أنها في ظاهرها استيثاق لحق الزوجة تحت يد الزوج، فإذا ما قامت المرأة بإعداد بيت الزوجية بمقدَّم صَدَاقها سواء أمهرها الزوج الصَّداق نَقدًا أو قدمه إليها في صورة جهاز أعده لبيت الزوجية فإن هذا الجهاز يكون مِلكًا للزوجة ملكا تامًّا بالدخول، وتكون مالكة لنصفه بعقد النكاح إن لم يتم الدخول. وعادة ما يكون هذا الجهاز في بيت الزوجية الذي يمتلكه الزوج أو يؤجره من الغير، فيكون الجهاز تحت يد الزوج وقبضته. فلما ضَعُفَت الديانةُ وكثر تضييع الأزواج لحقوق زوجاتهم رأى المجتمع كتابة قائمة بالمنقولات الزوجية (قائمة العفش)؛ لتكون مطلَق ضمان لحق المرأة لدى زوجها إذا ما حدث خلاف بينهما، وتعارف كثير من الناس على ذلك، وصيغ هذا الضمان بكون القائمة حقًّا مدنيًّا للزوجة على زوجها بمثابة الدَّين لها عليه.

غير أن هذا الاستيثاق صار في كثير من الأحيان ذريعةً للاستغلال؛ حين تنكر الزوجة كون القائمة مهرًا لها مع اختلاف ذلك عن الواقع ونفس الأمر؛ فقد تكون القائمة كلها هي المهر الحقيقي الذي دفعه الزوج للزوجة ويكون المثبَت في قسيمة الزواج مهرًا صوريًّا يُكتَب فيه أقلُّ مُتموَّل تهربًا من النسبة التي تُدفَع رُسُومًا على قيمة المهر المثبت في قسيمة الزواج، وقد تكون مشتركة بينهما بنسب متفاوتة، وفي بعض الأحيان تكون الزوجة هي التي قامت بشراء المنقولات كلها من مالها أو من مال أهلها.

وعلى هذا التفصيل يجري الحكم؛ فإن ادعى الزوج كون القائمة أو بعضها مهرًا وثبت ذلك بما يثبت به الحق قضاءً بالبينات أو الشهود أو القرائن التي يطمئن القاضي إلى صحتها حُكِم له به، ويجب على الزوجة حينئذ رَدُّه عند الخلع بموجب المعمول به إفتاءً وقضاءً؛ لخروجه حينئذ عن كونه دَيْنا إلى كونه عِوَضًا للبُضع ومقابِلًا للتسليم، فكان بذلك مهرًا واجب الرد. أما إن لم يثبت ذلك عند القاضي فإنها تكون حقًّا خالصا للزوجة: اختلعت أو لم تختلع، ولا يجب عليها ردها للزوج عند الخلع.

أما الشبكة فإذا كان العرف قد جرى على أنها جزء من المهر فإنها تُرَدُّ عند الخلع، أما إذا كان قد اتُّفقَ على كونها هدية فإنها تأخذ حكم الهدايا، والهدايا ليست مهرًا؛ فلا تُرَدُّ عند الخلع.

وبناءً على ذلك: فالذي يُرَدُّ عند الخلع هو كل ما يثبت كونه مهرًا، وما لم يكن مهرًا فإنه لا يُرَدُّ عند الخلع، والحكم بأن القائمة أو غيرها هي المهر أو جزء منه هو موكول إلى القاضي بما يترجح عنده من الأدلة والقرائن والبينات التي هو مُخَوَّل بالنظر فيها والترجيح بينها عند تعارضها؛ فإذا ثبت عنده أن القائمة أو بعضها هي المهر أو جزء منه قضى برده للزوج كما سبق إيضاحه”([161]).

 

المبحث الرابع: الاعتداد بالشخصية المستقلة للزوجة:

للزوجة في نظام الأسرة في الإسلام استقلالها الفكري والمالي وأهليتها الكاملة؛ والأهليَّة لغة: مصدر صناعي من “الأهل”، وهو في اللغة يأتي لمعان متعددة منها: أهل الرجل: زوجه، وأهل الرجل: أخصُّ الناس به، وأهل الإسلام: مَن يدين به، وفلان أهل لكذا أي: يستوجب ذلك الأمر ويستحقه، والمعنى الأخير هو المقصود هنا، ومنه قولهم: تأهل تأهيلًا؛ أي أصبح قادرًا على القيام بعمل معين([162]).

والأهلية اصطلاحًا: صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه، ولصدور الأفعال منه على وجه يُعتد به شرعًا([163]).

والأهلية هي الأمانة التي أخبر الله تعالى بحمل الإنسان لها في قوله: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا} [الأحزاب: 72].

وتُستعمل الأهلية في الفقه الإسلامي بمعنى توفر صفات محددة -يقررها الشرع– في الشخص تجعله أهلًا أو صالحًا للتكليف بالأوامر والنواهي الشرعية، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وإجراء التصرفات على نحو يَعتد به الشرع([164]).

والأهلية نوعان: أهلية وجوب، وأهلية أداء. وكُلٌّ منهما كاملةٌ وناقصةٌ.

فأهلية الوجوب عرَّفها فقهاء الشريعة بأنها صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه؛ أي: صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات؛ ولما كانت تتعرض لما يجب للإنسان من حقوق وما يجب عليه من التزامات سُميت بـ”أهلية الوجوب”، ومناطها حياة الإنسان؛ وأصل هذا النوع من الأهلية هو الذمة؛ فإن كان الإنسان صالحًا لوجوب الحقوق المشروعة له دون تحمل الالتزامات؛ كالجنين في بطن أمه؛ فهي أهلية وجوب ناقصة، وتثبت له بها بعض الحقوق التي له نفع فيها ولا تتوقف على قبول؛ كثبوت النسب والوقف والوصية، وإن كان الإنسان صالحًا لوجوب الحقوق وتحمل الالتزامات فهي أهلية وجوب كاملة([165])، وهي تثبت لكل إنسان يولد حيًّا، وبمقتضى هذه الأهلية تثبت للإنسان الحقوق وتجب عليه الواجبات، سواء أكان مميزًا أم غير مميز([166]).

والنوع الثاني: أهلية الأداء، وعرفها فقهاء الشريعة بأنها صلاحية الإنسان لصدور الفعل منه على وجه يُعتد به شرعًا وتترتب عليه الأحكام([167]).

ويقصر البعض هذا النوع على أنها: صلاحية الإنسان لصدور التصرف القولي دون الفعلي، وآخرون على أنها تشمل الأقوال وا لأفعال؛ فهي عندهم: صلاحية الإنسان لأن تصدر منه أفعال وأقوال يُعتد بها شرعًا([168]).

ومناط أهلية الأداء التمييز بالعقل([169])، وبحسب سلامة العقل من العوارض والآفات يكون كمال هذا النوع من الأهلية أو نقصانه؛ فأهلية الأداء الناقصة عبارة عن: صلاحية الإنسان لصدور بعض الأفعال منه دون بعض، أو: لصدور أفعال يتوقف الاعتداد بها على رأي من هو أكمل منه عقلًا وأعلم بوجوه النفع والضرر؛ كحال الصبي المميز، وهي تثبت للإنسان من السابعة حتى البلوغ، وأهلية الأداء الكاملة: صلاحية الإنسان لصدور الأفعال منه على وجه يُعتد بها شرعًا وعدم توقفها على رأي غيره، وهي تثبت بعد البلوغ([170]).

وقد تتوافر في الشخص أهلية الوجوب دون أهلية الأداء؛ فيكون متمتعًا بالحق، وهذه أهلية الوجوب، دون أن يستطيع استعماله بنفسه، وهذه أهلية الأداء، ويتبين من ذلك أنه يمكن فصل أهلية الوجوب عن أهلية الأداء فصلا تامًّا([171]).

ومناط أهلية الوجوب هو الإنسانية، ومناط أهلية الأداء هو العقل فلا يسلب من المرأة إلا بسلبهما، والأول غير حاصل، والثاني يزول بالجنون أو العته، ويترتب على هذا استقلال ذمة المرأة المالية سواء كانت زوجة أو لا؛ فللزوجة ذمة مالية كاملة لا تنقص شيئًا عن ذمة زوجها المالية، فلها حق تملّك جميع أنواع الأموال من عقارات، ومنقولات، وأموال سائلة (نقود) كالرجل سواء بسواء؛ فلما كانت المرأة من جملة الأناسيِّ، فهذا يعني أن لها ذمّة هي أساس أهلية الوجوب، فتثبت لها هذه الأهلية من حين ولادتها ولا تفارقها إلا حين موتها، ولما كانت المرأة مكلفة بالتكاليف الشرعية، فمعنى ذلك أن لها أهلية الأداء التي على أساسها تطالَب بالتكاليف الشرعية وتطالِب هي غيرها بحقوقها، وعلى هذا فالزوجة كالزوج في أهلية الوجوب وأهلية الأداء؛ فللمرأة حق التصرف بمختلف أنواع التصرفات المقررة شرعًا فيما تملكه، فلها أن تبيع وتشتري وتقايض وتهب وتوصي وتُقْرِض وتقترض… إلخ، وتصرّفاتها نافذة بإرادتها الذاتية ولا يتوقّف شيء من ذلك على رضا أبٍ أو زوجٍ أو أخٍ([172])؛ قال الله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعضٍ للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيءٍ عليمًا} [النساء: 32]، والاكتساب هنا هو العمل كما ذكر المفسرون([173])، ويقول الله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروفٍ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} [الطلاق: 6]، ومن هذه الآية ومعناها يُعرف أن المرأة يمكن أن تكون طرفًا في عقد الإجارة التي موضوعها إرضاع طفلٍ لقاء أجرٍ معيّن، ويقاس على تأجير المرأة نفسها لإرضاع طفل سائر الإجارات المباحة شرعًا، ويقول أيضًا سبحانه وتعالى: {من بعد وصيةٍ يوصين بها أو دينٍ} [النساء: 12] فالآية صريحة في جواز الوصية من المرأة، وأن تنفيذ وصيتها يسبق قسمة التركة على الورثة، وعبارة: «أو دين» متضمّنة قيامها بالاقتراض وهذا دليل على أهلية المرأة في إجراء التصرفات المالية.

وقد ورد في قصّة بريرة -رضي الله عنها- أنها كانت جارية مملوكة وقد كاتبت أسيادها على عتقها، فطلبت من السيدة عائشة -رضي الله عنها- مساعدتها، فاستجابت لذلك إلا أن أسياد بريرة اشترطوا أن يكون الولاء([174]) لهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال؟: «اشتري وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق»([175])، فهذا دليل صريح صحيح من السنة على جواز تصرف المرأة في مالها؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اشتري وأعتقي»، قال شراح الحديث تعليقًا على هذا الحديث: «وفيه -أي: في الحديث- أن المرأة الرشيدة تتصرف بنفسها في البيع وغيره ولو كانت مُزَوَّجَة، وجواز تصرّف المرأة الرشيدة في مالها بغير إذن زوجها»([176]).

وكانت أمّ المؤمنين السيدة زينب بنت جحش -رضي الله عنها- تُدْعى (أمّ المساكين) سمّاها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت تغزل الصوف وتدبغ وتخرز وتبيعه في السوق وتتصدّق بالثمن على المساكين([177])، فكل هذه تصرّفات ماليّة من قبل (أمّ المساكين) من بيع وصدقة وما إلى ذلك.

وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أنها: أعتقت وليدةً([178]) كانت لها دون أن تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرت له صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك»([179]).

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: «قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى، فبدأ بالصلاة ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلالٍ، وبلالٌ باسطٌ توبه يُلْقِي فيه النساء الصدقة»([180])؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل النساء المتصدقات هل صدقتهن بإذن أزواجهن؟ وهل هذه الصدقة تخرج من ثلث مالها أم لا؟، ولو اختلف الحكم بذلك لسألهن النبي صلى الله عليه وسلم، فترك السؤال عن هذا التفصيل يدلُّ على عموم دلالة الحديث كما يقرر علماء الأصول([181]).

وباعتبار تمتّع المرأة بالأهلية الشرعية والقانونية الكاملة فمن حقها الاحتفاظ باسم أسرتها، وباستقلال شخصيتها الذاتية عن شخصية الزوج، وهو أمر مستقرّ عليه بإجماع المسلمين من لدن عهد الرسالة والخلفاء الراشدين حتى الآن.

 

المبحث الخامس: مراعاة الصحة البدنية والنفسية للزوجين:

من جوانب حماية الحياة الزوجية في الشريعة الإسلامية مراعاة الصحة البدنية والنفسية للزوجين، وبيان ذلك في مطلبين:

المطلب الأول: مراعاة الصحة البدنية للزوجين.

المطلب الثاني: مراعاة الصحة النفسية للزوجين.

 

 

المطلب الأول: مراعاة الصحة البدنية للزوجين:

وضع الشرع الصحة البدنية على رأس اهتماماته الخاصة بالحياة عامة والحياة الزوجية بصفة خاصة؛ فعلى مستوى الصحة البدنية للزوجين وضع الشرع عددًا من الضوابط للتلاقي الجنسي بين الزوجين؛ فحرَّم إتيان المرأة في أثناء حيضها أو نفاسها؛ قال الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذًى فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222]، وعن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»([182]).

كما حرَّم الشرع إتيان المرأة في دبرها؛ قال الله تعالى :{نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين} [البقرة: 223]، وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، هلكت»، قال: «وما أهلكك)، قال: «حوَّلت([183]) رحلي([184]) الليلة»، قال: فلم يَرُدَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، قال: فأُنْزِلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم}، «أقل وأدبر واتق الدبر والحيضة»([185]).

ومن هنا منعت الفتوى المنضبطة إتيان المرأة في فترة الحيض([186])، وفي فتاوى دائرة الإفتاء الأردنية: «وقوع الجماع فترة الحيض له حالتان:

أولًا: إما أن يقع نسيانًا أو خطًأ بأن يغلب على ظن الزوجة أنها قد طهرت، والحقيقة أنها ليست كذلك، ففي هذه الحالة يرجى ألا يؤاخذ الله تعالى الزوجين به، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» رواه ابن ماجه. ولا يلزم الزوجين شيء في هذه الحالة.

ثانيًا: أما إذا وقع الجماع من عامدٍ مختارٍ عالمٍ بالتحريم فالواجب حينئذٍ التوبة والاستغفار من هذه المعصية. يقول الخطيب الشربيني رحمه الله: “ووطء الحائض في الفرج كبيرة من العامد، العالم بالتحريم، المختار…” انتهى([187]).

ويستحب في هذه الحالة التكفير بإخراج قيمة دينار ذهب (أي وزن 4,25 غرام من الذهب الصافي عيار 24) إذا وقع الجماع أول الحيض، وبنصف دينار إذا وقع آخره.

يقول الإمام الرملي رحمه الله: “يستحب للواطئ -مع العلم وهو عامد مختار- في أول الدم تصدق ولو على فقير واحد بمثقال إسلامي من الذهب الخالص، أو ما يكون بقدره، وفي آخر الدم بنصفه” انتهى([188]).

وفي الحالتين لا يجب على الزوجة الاغتسال من الجنابة، وإنما يكفي الاغتسال بعد الطهارة من الحيض عن الحدث الأكبر»([189]).

ومن هنا أيضًا منعت الفتوى المنضبطة إتيان الحامل إن كان هنا ضرر عليها([190]).

وفي جواز الإجهاض إن كان يسبب ضررًا بدنيًّا للزوجة جاء في فتاوى مكتب الإفتاء بسلطنة عمان: «إن كان استمرار الحمل ينذر بالخطر على حياتها فلها التخلص منه لأن المحافظة على الأصل أولى»([191]).

المطلب الثاني: مراعاة الصحة النفسية للزوجين:

كما قيل في الصحة البدنية اهتم الشرع الشريف بالصحة النفسية للمسلم عامة وللزوجين بصفة خاصة؛ فعلى مستوى الصحة النفسية للزوجين أمر الشرع الشريف –كما سبق تقريره- بحسن العشرة بين الزوجين وحثَّ على الرفق في المعاملة والإحسان فيها والملاطفة بين الزوجين وغير ذلك كثيرٌ ما له أكبر الأثر الإيجابي على الصحة النفسية للزوجين.

وقد اعتبرت الفتوى المنضبطة مراعاة الصحة النفسية للزوجين؛ ويتضح ذلك في أمرين:

أولًا: مسألة تعدد الزوجات:

مما يتعلق بمراعاة الصحة النفسية للزوجة ما أمر الشارع به الزوج من العدل بين الزوجات حين التعدد؛ فقد أباح الشرع تعدد الزوجات؛ فقال الله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} [النساء: 3]؛ فقد علّقت الآية إباحة التعدد عند الأمن من الظلم بين الزوجات في القسم والجماع والنفقة عند التعدّد، فهو أقرب إلى عدم الوقوع في الظلم؛ فصيغة الأمر هنا بشرطه تفيد الإباحة كما تقرَّر في الأصول([192]).

ويُصار إلى التعدد عند وجود دواعيه؛ تحقيقًا لمصلحة شرعية أو اجتماعية، ومن هذه المصالح معالجة قلة الرجال وكثرة النساء أو أن المرأة عقيمًا لا تلد، أو أنَّ بها مرضًا منفِّرًا؛ فيكون من الأفضل والأرحم ومن المروءة أن تظلّ هذه الزوجة في رباط الزوجية؛ لأنه أكرم لها وأحبّ إلى نفسها، وتعطى للرجل فرصة الزواج بثانية، وقد يزول العقم والمرض مع مرور الزمن، إلى غير ذلك من المصالح الشرعية والاجتماعية، حتى وإن كانت مجرد طغيان الشهوة عند الرجل وعدم كفاية الزوجة الواحدة له.

ويُشترط لإباحة التعدد: تحقيق العدالة بين هؤلاء الزوجات: بالمساواة التامة في المسكن والمأكل والملبس والمبيت وكلِّ شئون الحياة؛ فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقهُ ساقطٌ»([193])، وفي رواية: «من كانت له امرأتانٍ فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقهُ مائلٌ»([194])، ويقصد بالعدل هنا في هذا الشرط: العدل في الأمور المادية المقدور عليها لا في الميل القلبي؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»، قال أبو داود: يعني القلب([195]). ولكن مع ذلك راعت الشريعة الصحة النفسية للزوجة في حال التعدد؛ فحثت على التوازن النفسي بعدم المبالغة في إظهار الحب والميل القلبي لإحدى الزوجات؛ وذلك حرصًا على العلاقة الزوجية ومراعاة لنفس وشعور بقية الزوجات، وإذا كان الميل القلبي لا يتحكم فيه الإنسان، فإن إظهار هذا الميل يمكن السيطرة عليه والتحكّم فيه فلا ينبغي المبالغة في إظهاره([196]).

ولمزيد مراعاة الصحة النفسية للزوجة فقد اختارت الفتوى المنضبطة الحكم بأنه إذا لم تقبل نفسية الزوجة أن يكون لها ضرة فإن لها أن تشترط في عقد الزواج ألا يتزوج عليها زوجها، وأن تحدّد الجزاء المترتِّب على مخالفة هذا الشرط؛ ففي فتاوى دائرة الإفتاء الأردنية: «لقد أباح الله تعالى للرجل أن يتزوج بأكثر من زوجة بشرط العدل في النفقة والمبيت؛ فإذا احتاج إلى الزواج بالثانية على أساس الالتزام بإعطاء الحقوق الشرعية لجميع الزوجات فلا حرج في ذلك؛ ما لم تكن الزوجة قد شرطت على زوجها في عقد الزواج ألًّا يتزوج عليها؛ فإن لم يف الزوج عندها بالشرط فلها طلب فسخ العقد ومطالبته بسائر حقوقها الزوجية»([197]).

ثانيًا: إجهاض الجنين المشوه إذا كان قبل مائة وعشرين يومًا:

لقد اتفق الفقهاء على أنه إذا بلغ عمر الجنين في بطن أمه مائة وعشرين يومًا -وهي مدة نفخ الروح فيه- فإنه لا يجوز إسقاط الجنين ويحرم الإجهاض قطعًا في هذه الحالة؛ لأنه يعتبر قتلًا للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق؛ لقوله تعالى: {ولا تَقتُلُوا أَولادَكم مِن إملاقٍ نحن نَرزُقُكم وإيّاهم} [الأنعام: 151]، ولقوله تعالى: {ولا تَقتُلُوا النَّفسَ الَتي حَرَّمَ اللهُ إلاّ بالحَقِّ} [الإسراء: 33]، أما إذا لم يبلغ عمر الجنين في بطن أمه مائة وعشرين يومًا فقد اختلف الفقهاء في حكم الإجهاض: فبعضهم قال بالحرمة، وهو المعتمد عند المالكية والظاهرية وبعض الشافعية، وبعضهم قال بالكراهة مطلقًا، وهو رأي بعض الحنفية والمالكية وقول محتمل عند الشافعية، وبعضهم قال بالإباحة لعذر فقط، وهو حقيقة مذهب الحنفية، وبعضهم قال بالإباحة مطلقًا، وهو رأي بعض الأحناف وقول عند الحنابلة والرملي الشافعي إذا كانت النطفة من زنا، وقال به اللخمي من المالكية وأبو إسحاق المروزي من الشافعية قبل الأربعين يومًا.

ومن باب مراعاة الصحة النفسية للأم أباحت الفتوى المنضبطة إجهاض الأجنة المصابة بعيب خِلقي يحول دون اكتمال حياة الجنين بعد الولادة كعدم وجود مخ أو الكليتين إذا تم الإجهاض قبل مائة وعشرين يومًا؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إنَّ أَحَدَكُم يُجمَع خَلقُه في بَطن أُمِّه أربعين يَومًا، ثُمَّ يَكون عَلَقَة مِثلَ ذلك، ثم يَكون مضغة مِثلَ ذلك، ثُمَّ يَبعَثُ الله مَلَكًا فيُؤمَر بأَربَع كَلِمات، ويُقالُ له: اكتُب عَمَلَه ورِزقَه وأَجَلَه وشَقِيٌّ أو سَعيد، ثُمَّ يُنفَخ فيه الرُّوح”([198])، فهذا الحديث الشريف دالٌّ على أن نفخ الروح في الجنين يكون بعد مضي مائةٍ وعشرينَ يومًا على الحمل.

وعليه فإن الجنين الذي تتحقق إصابته بعيب خِلقي يحول دون اكتمال حياته بعد الولادة عادة إذا مَرَّ على حمله ما دون المائة والعشرين يومًا، فإن القواعد الشرعية لا تَمنع الأم من القيام بعملية إسقاطه والحالة هذه، ما دام لا يوجد ضرر محقق أو راجح على الأم من جَرّاء الإجهاض.

وقد نصت الفتاوى المنضبطة على أن اختيارها إباحة هذا الإجهاض إنما هو -إلى جانب كونه رفعًا لمتاعب الحمل ومشاق الولادة ومخاطرها عن الأم مع ما يصاحب ذلك من كلفة مادية نظير المتابعات الطبية وإجراء عملية الولادة- لتجنيب الأم ما يكون من آلام الفقد بعد الأمل والتعلق([199]).

 

([1]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 145).

([2]) ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 496).

([3]) أخرجه أبو داود (2175).

([4]) انظر: كتاب فضيلة مفتي الديار المصرية الأستاذ الدكتور شوقي علام “الحقوق السياسية للمرأة المسلمة.. دراسة تأصيلية تطبيقية مقارنة في الفقه الإسلامي”، دار الوفاء، الطبعة الأولى، 2010م، (ص 4).

([5]) أخرجه مسلم، رقم (206).

([6]) سبق تخريجه.

([7]) أخرجه ابن ماجه (1874) من حديث بريدة رضي الله عنه.

([8]) انظر: الحقوق السياسية للمرأة المسلمة لفضيلة مفتي الديار المصربة الأستاذ الدكتور شوقي علام (ص44).

([9]) المصدر السابق (ص77).

([10]) انظر: الأحوال الشخصية للشيخ محمد أبو زهرة (163).

([11]) ينظر: أحكام الزواج والطلاق في الإسلام لبدران أبو العينين (ص202).

([12]) أخرجه أبو داود (2578).

([13]) ينظر: أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد أحمد سراج (ص282)، دار المطبوعات الجامعية-الإسكندرية، 1999م.

([14]) الناضح: الجمل الذي يسقى عليه الماء.

([15]) أخرز: أخيط.

([16]) الغرب: الدلو.

([17]) وفي رواية لمسلم: «وأكفيه مؤنثه وأسوسه وأدق النومي لناضحه وأعلفه»، وفي رواية لمسلم أيضًا: «كنت أخدم الزبير خدمة البيت، وكان له فرس وكنت أسوسه فلم يكن من خدمته شيء أشد علي من سياسة الفرس كنت أحش له وأقوم عليه».

([18]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (5224)، ومسلم (2182).

([19]) تقدم تخريجه بلفظ: «لا يفرك».

([20]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 206).

([21]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (8369).

([22]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (5891)، ومسلم (257) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([23]) رد المحتار (6/ 373).

([24]) الفواكه الدواني (2/ 306).

([25]) الفواكه الدواني (2/ 314).

([26]) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (1/ 407).

([27]) الفروع (1/ 158).

([28]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (4886)، ومسلم (2125) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

([29]) انظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (13927) بتاريخ 11 يوليه 2017م.

https://www.dar-alifta.org/

([30]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (306) لسنة 2017م.

https://www.dar-alifta.org/

([31]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 209).

([32]) أخرجه مسلم (2543).

([33]) ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 97- دار إحياء التراث العربي- بيروت).

([34]) أخرجه البخاري (6138).

([35]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (4830)، ومسلم (2554).

([36]) أخرجه الحاكم في المستدرك (3826- دار الكتب العلمية)، وصححه على شرط الشيخين.

([37]) أخرجه البخاري معلقا (6/ 158).

([38]) ذكره ابن حجر في فتح الباري (8/ 659- دار المعرفة- بيروت) وعزاه لعبد الرزاق.

([39]) أخرجه أبو داود (1308).

([40]) أخرجه مسلم (223).

([41]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (10)، ومسلم (40).

([42]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

([43]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (902)، ومسلم (847).

([44]) أخرجه الترمذي (2799).

([45]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (6018)، ومسلم (47).

([46]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (11)، ومسلم (42).

([47]) أخرجه البخاري (6474).

([48]) أخرجه مسلم (1015).

([49]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (1427)، ومسلم (1034).

([50]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

([51]) أخرجه مسلم (2553).

([52]) تقدم تخريجه.

([53]) ينظر: حكمة الله في أحكام الأسرة المسلمة لزكريا البري (ص29)، الأسرة والتوافق الأسري للدكتور كمال إبراهيم مرسي (ص74، 75)، دار النشر للجامعات-القاهرة.

([54]) أخرجه مسلم، رقم (1437).

([55]) شرح صحيح مسلم (10/8).

([56]) انظر: موقع دائرة الإفتاء الأردنية، رقم الفتوى (1907)، لسنة 2011.

https://www.aliftaa.jo/

([57]) أخرجه الترمذي، رقم (3895).

([58]) أخرجه مسلم، رقم (2594).

([59]) أخرجه مسلم، رقم (2328).

([60]) انظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (35/166-177)، القاهرة، 2010م.

([61]) موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (16522) لسنة 2018.

https://www.dar-alifta.org/

([62]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، فتوى الدكتور نصر فريد واصل، بتاريخ 30 أبريل 2001.

([63]) أخرجه أبو داود، رقم (2178).

([64]) تقدم تخريجه.

([65]) انظر: موقع دائرة الإفتاء الأردنية، الفتوى رقم (674) لسنة 2010.

https://www.aliftaa.jo/

([66]) متفق عليه. أخرجه البخاري، رقم (3237)، ومسلم، رقم (1436).

([67]) أخرجه ابن ماجه في سننه، رقم (1853).

([68]) الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (6/1965)، ط. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1980م.

([69]) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/92).

([70]) الدرر البهية من الفتاوى الكويتية (8/140، 141).

([71]) ينظر: الأحوال الشخصية لمحمد أبو زهرة (ص 172)، أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد أحمد سراج (ص161)، أحكام الزواج والطلاق في الإسلام لبدران أبو العينين (ص139)، أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية لعبد الوهاب خلاف (ص74)، وما بعدها.

([72]) تقدم تخريجه.

([73]) الوكس: البخس والغش.

([74]) الشطط: الجور والظلم.

([75]) أخرجه الترمذي (1145) وقال: حسن صحيح.

([76]) تقدم تخريجه.

([77]) أخرجه أبو داود (2106)، والنسائي (3349).

([78]) فتاوى اللجنة الدائمة (19/34، 40).

([79]) انظر: الأحكام الشخصية للشيخ محمد أبو زهرة (ص243).

([80]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، فتوى الدكتور علي جمعة، تاريخ الفتوى: 07 أغسطس 2011م.

https://www.dar-alifta.org/

([81]) انظر: الأحكام الشخصية للشيخ محمد أبو زهرة (ص231)، أحكام الزواج والطلاق في الإسلام لبدران أبو العينين (ص175)، أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية لعبد الوهاب خلاف (ص104) وما بعدها.

([82]) النشوز: هو معصية المرأة لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له عقد النكاح كما لو امتنعت عن فراشه، أو خرجت من منزله بغير إذنه.

([83]) المجموع شرح المهذب للنووي بتكملة السبكي ونجيب المطيعي، مكتبة الإرشاد، جدة (20/ 132).

([84]) أخرجه مسلم (1218).

([85]) الأم للشافعي (5/ 107).

([86]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (55)، ومسلم (1002).

([87]) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (9/ 623).

([88]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2211)، ومسلم (1714).

([89]) أخرجه أبو داود (2142)، والحاكم (2764).

([90]) ينظر: زاد المعاد لابن قيم الجوزية (4/ 243)، المكتبة القيمة، القاهرة، 1410هـ، 1989م، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 526)، دار الكتب العلمية، بيروت.

([91]) تفسير ابن كثير (1/ 291).

([92]) تقدم تخريجه.

([93]) رد المحتار (2/ 462).

([94]) المختصر (ص: 136).

([95]) التاج والإكليل لمختصر خليل (5/ 541).

([96]) الوسيط (2/ 203).

([97]) مغني المحتاج (5/ 151).

([98]) كشاف القناع (5/ 460).

([99]) المغني (8/ 199)، ط. مكتبة القاهرة.

([100]) كشاف القناع (5/ 463).

([101]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/ 510).

([102]) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج (7/ 195).

([103]) منح الجليل (4/ 392).

([104]) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (1/ 460).

([105]) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب للقرطبي (4/ 1883)، وأسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (7/ 186)، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني (8/ 233).

([106]) أخرجه البخاري (5725)، ومسلم (2210) من حديث عائشة رضي الله عنها.

([107]) تكملة المجموع شرح المهذب (18/ 256).

([108]) نهاية المطلب (15/ 449).

([109]) روضة الطالبين (9/ 50).

([110]) فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (424) لسنة 2017م.

https://www.dar-alifta.org/

([111]) ينظر: موقع دائرة الإفتاء الأردنية.

https://www.aliftaa.jo/

([112]) فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (12963) لسنة 2003م.

https://www.dar-alifta.org/

([113]) فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (15534) لسنة 2002م.

([114]) ينظر: أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد أحمد سراج (ص286)، أحكام الزواج والطلاق في الإسلام لبدران أبو العينين (ص195)، أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية لعبد الوهاب خلاف (ص119).

([115]) أخرجه النسائي في الكبرى (9103).

([116]) أخرجه الترمذي وحسنه (1159).

([117]) أخرجه ابن ماجه (1853).

([118]) آلو: أي أقصر وأتوانى.

([119]) أخرجه أحمد (19003).

([120]) أخرجه الترمذي وحسنه (1161).

([121]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (4340)، ومسلم (1840).

([122]) أخرجه أحمد (1095).

([123]) أخرجه ابن ماجه (2341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

([124]) ينظر: موقع دائرة الإفتاء الأردنية.

https://www.aliftaa.jo/

([125]) الدرر البهية في الفتاوى الكويتية (8/131).

([126]) ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 257- دار الكتب العلمية- بيروت).

([127]) أخرجه ابن ماجه، رقم (1857).

([128]) تقدم تخريجه.

([129]) انظر: المغني لابن قدامة (8/201).

([130]) أخرجه البخاري، رقم (2066).

([131]) أخرجه أبو داود، رقم (1687).

([132]) أخرجه أبو داود، رقم (3547)، والنسائي، رقم (2540).

([133]) أخرجه الترمذي، رقم (670).

([134]) انظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (30/25، 26)، القاهرة، 2010م.

([135]) أخرجه البخاري، رقم (5364).

([136]) الفتوى رقم (15566) بتاريخ 19 مارس 1985م.

([137]) ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 262).

([138]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم (1661).

([139]) بث مباشر على صفحة دار الإفتاء المصرية على فيس بوك بتاريخ 27 يوليو 2021م.

([140]) ينظر: الأسرة لأحمد حمد (ص130)، أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد كمال إمام (ص13)، دار المطبوعات الجامعية-الإسكندرية، 1999م.

([141]) أخرجه أبو داود (2177).

([142]) سبق تخريجه.

([143]) تقدم تخريجه.

([144]) تقدم تخريجه.

([145]) أخرجه أبو داود (2226)، والترمذي وحسنه (1187).

([146]) أخرجه الطبري في تفسيره (6/ 721- دار هجر).

([147]) أخرجه البيهقي في الكبرى (14789- دار الكتب العلمية).

([148]) ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 155).

([149]) راجع: كتاب فضيلة مفتي الديار المصرية الأستاذ الدكتور شوقي علام “الطلاق السني والبدعي حقيقة وحكمًا.. دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي”، دار الوفاء، الطبعة الأولى، 2013م، (ص14).

([150]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (604) لسنة 2010م.

https://www.dar-alifta.org/

([151]) ينظر فيما يلي: أحكام الطلاق بين الواقع المصري والفقه الإسلامي لفضيلة مفتي الديار المصرية شوقي علام، دار الإفتاء المصرية، 1443هـ، 2022م.

([152]( تقدم تخريجه.

([153]) تقدم تخريجه.

([154]) المجموع للنووي (16/ 268).

([155]) موقع دائرة الإفتاء الأردنية.

([156]) موقع مكتب الإفتاء بسلطنة عمان.

https://iftaa.om/

([157]) راجع في ذلك كتاب فضيلة مفتي الديار المصرية الأستاذ الدكتور شوقي علام: “التفريق القضائي بين الزوجين للعلل أو العيوب عند الفقهاء.. دراسة مقارنة”، دار الوفاء، الطبعة الأولى، 2010م.

([158]) أخرجه البخاري (5273).

([159]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (106) لسنة 2012م.

([160]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (24) لسنة 2012م.

([161]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (53) لسنة 2012م.

([162]) ينظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس (1/ 150)؛ ولسان العرب لابن منظور (11/ 30) مادة (أهل)، والقاموس المحيط للفيروزآبادي (3/ 342)، ومختار الصحاح لأبي بكر الرازي (ص 31).

([163]) ينظر: التعريفات للجرجاني (ص 22)، وأصول الفقه الإسلامي لبدران أبو العينين (ص 317)، ومباحث الحكم عند الأصوليين لمحمد سلام مدكور (ص 237).

([164]) كما تستعمل الأهلية في مجال القانون المدني الوضعي بنفس المعنى تقريبًا؛ وهو: صلاحية الشخص لأن تثبت له الحقوق ويتحمل الالتزامات، والقدرة على إجراء عمل أو تصرف يرتب عليه القانون أثرًا معينًا. ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص196).

([165]) ينظر: البديع لابن الساعاتي (ص 116)، وفتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم (3/ 80)، وأصول الفقه الإسلامي لبدران أبو العينين (ص 317)، ومباحث الحكم عند الأصوليين لمحمد سلام مدكور (ص 238).

([166]) وكل إنسان يُعدُّ شخصًا من الناحية القانونية، وتتوافر فيه أهلية الوجوب، وتثبت له هذه الأهلية من وقت ميلاده، بل وقبل ذلك –من بعض الوجوه– عندما يكون جنينًا، إلى وقت موته، بل وبعد ذلك حين تصفية تركته وسداد ديونه.

وكذلك الشخص الاعتباري شخص قانوني تتوافر فيه أهلية الوجوب؛ لأن الشخصية الاعتبارية ليست في الواقع إلا القابلية لامتلاك الحقوق وتحمل الواجبات.

ومن أمثلة الشخص الاعتباري المؤسسات، والشركات، والهيئات التي تكون لها صفة الإلزام والالتزام.

ينظر: علم أصول الفقه لعبدالوهاب خلاف (ص 135) وما بعدها، وأصول الفقه لأبي زهرة (ص 329) ط. دار الفكر العربي، والوسيط في شرح القانون المدني (مصادر الالتزام) للسنهوري (ص 220).

([167]) ينظر: كشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري (4/ 237)، وشرح التلويح للتفتازاني (2/ 321)، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج (2/ 165)، ومرآة الأصول لمنلا خسرو (ص321)، وعلم أصول الفقه لعبدالوهاب خلاف (ص 136) ط. مكتبة الدعوة؛ وأصول القانون لعبدالمنعم فرج الصده (ص457)، ط. دار النهضة العربية 1978م.

([168]) ينظر: فتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم (3/ 81)، وأصول الفقه الإسلامي لبدران أبو العينين (ص 318)، ومباحث الحكم عند الأصوليين لمحمد سلام مدكور (ص 251).

([169]) ينظر: فتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم (3/ 82).

([170]) ينظر: فتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم (3/ 82)، وأصول الفقه الإسلامي لبدران أبو العينين (ص 318)، ومباحث الحكم عند الأصوليين لمحمد سلام مدكور (ص 253) وما بعدها.

([171]) ينظر: الوسيط في شرح القانون المدني (مصادر الالتزام) للسنهوري (ص222).

([172]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 198).

([173]) انظر: تفسير الطبري (2/ 71).

([174]) الولاء: رابطة بين شخصين كرابطة النسب من أسبابها الإحسان بالعتق، وتكون بينهما حقوق وعليهما واجبات، ومن هذه الحقوق: حق المعتق -بكسر التاء- في وراثة العبد المعتق -بفتح التاء- عند انعدام الورثة الأصليّين.

([175]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1504).

([176]) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (5/ 241).

([177]) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني (7/ 21).

([178]) وليدة: جارية.

([179]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2592)، ومسلم (999).

([180]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (978)، ومسلم (885).

([181]) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/ 992): «استُدِلَّ بهذا الحديث على جواز صدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها».

([182]) أخرجه مسلم (302).

([183]) كناية عن الإتيان في القُبل من الدبر.

([184]) كناية عن الزوجة.

([185]) أخرجه الترمذي وحسنه (2980).

([186]) ينظر: موقع مكتب الإفتاء بسلطنة عمان، فتوى بعنوان “حكم الوطء في الحيض”.

https://iftaa.om

([187]) مغني المحتاج للخطيب الشربيني (1/ 110).

([188]) نهاية المحتاج للرملي (1/ 332).

([189]) ينظر: موقع دائرة الإفتاء الأردنية في فتوى بعنوان: “حكم الجماع وقت الحيض وكفارته”.

https://www.aliftaa.jo/

([190]) ينظر: موقع دائرة الإفتاء الأردنية في فتوى بعنوان: “هل يجوز إتيان الزوجة وهي حامل؟”.

https://www.aliftaa.jo/

([191]) ينظر: موقع مكتب الإفتاء بسلطنة عمان في فتوى بعنوان “حكم إجهاض الجنين إذا كان في بقائه خطر على المرأة”.

https://iftaa.om/

([192]) ينظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 277)، وحاشية الصاوي على الجلالين، (1/ 190)، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1360هـ، 1941م.

([193]) أخرجه الترمذي (1141) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([194]) أخرجه أبو داود (2133) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([195]) أخرجه أبو داود (2134) من حديث عائشة رضي الله عنها.

([196]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 270) .

([197]) ينظر: موقع دائرة الإفتاء الأردنية.

https://www.aliftaa.jo/

([198]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643).

([199]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (34) لسنة 2012م.

اترك تعليقاً