البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثالث: الميراث.

59 views

يشتمل هذا الفصل على ثلاثة مباحث، وهي:

المبحث الأول: نظام الميراث في الإسلام.

المبحث الثاني: عدم التفرقة بين الذكر والأنثى في نظام الميراث.

المبحث الثالث: الفتوى ونظام الميراث.

 

 

المبحث الأول: نظام الميراث في الإسلام([1]).

من وسائل حماية الأسرة في الإسلام تنظيم المورد الاقتصادي للأسرة بعد وفاة أحد القائمين عليها؛ وذلك عبر نظام الميراث الذي يقوم على أن المورِّث لا سلطان له على ماله بعد وفاته إلا في حدود الثلث عن طريق الوصية فعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم؛ زيادةً في حسناتكم»([2])، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلا ابنةٌ لي واحدةٌ، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا»، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: «لا»، قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: «الثلث، والثلث كثيرٌ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةٌ يتكففون الناس»([3]).

وكذلك يؤخذ من التركة ما على المتوفى من حقوق وديون يقول الله تعالى: {من بعد وصيةٍ يوصين بها أو دينٍ} [النساء: 12]، ويقول تعالى: {من بعد وصيةٍ توصون بها أو دينٍ} [النساء: 12]، والدين هنا مقدم على الوصية، فعن علي رضي الله عنه أنه قال: «إنكم تقرءون الوصية قبل الدين، وقد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بالدين قبل الوصية»([4]).

والباقي بعد ذلك يوزع على الورثة، وقد استأثر الشارع الحكيم بتوزيع التركة بين أفراد الأسرة كل واحد حسب درجة قرابته توزيعًا محددًا بحصر المستحقين وتحديد نصيب كل منهم دون أي تدخل لإرادة المورث أو ورثته في هذا التحديد؛ بما يكفل المرونة والعدالة والتطبيق الصحيح ومواجهة التغيرات في كل حالة تقتضي ذلك مثل: شروط الإرث وأسبابه وموانعه وقواعد الحجب والحرمان من الميراث والردّ والعول والتخارج وغير ذلك.

يقول تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساءً فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدةً فلها النصف ولأبويه لكلٍّ واحدٍ منهما السدس مما ترك إن كان له ولدٌ فإن لم يكن له ولدٌ وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوةٌ فلأمه السدس من بعد وصيةٍ يوصي بها أو دينٍ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا فريضةً من الله إن الله كان عليمًا حكيمًا ، ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولدٌ فإن كان لهن ولدٌ فلكم الربع مما تركن من بعد وصيةٍ يوصين بها أو دينٍ ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولدٌ فإن كان لكم ولدٌ فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصيةٍ توصون بها أو دينٍ وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةٌ وله أخٌ أو أختٌ فلكل واحدٍ منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصيةٍ يوصي بها أو دينٍ غير مضارٍ وصيةً من الله والله عليمٌ حليمٌ} [النساء: 11، 12].

ويقول تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤٌ هلك ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولدٌ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوةً رجالًا ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيءٍ عليمٌ} [النساء: 176]، ويقول: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله إن الله بكلِّ شيءٍ عليمٌ} [الأنفال: 75].

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذكرٍ»([5])، وعن ابن مسعود رضي الله عنه في بنتٍ، وبنت ابنٍ، وأختٍ، قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السدس -تكملة الثلثين- وما بقي فللأخت»([6])، وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخال وارث من لا وارث له»([7]).

المبحث الثاني: عدم التفرقة بين الذكر والأنثى في نظام الميراث.

لقد حافظ نظام الميراث في الإسلام على التوازن الدقيق مع نظام النفقة فيه، فلكل مسلم حقان: حق في النفقة، وحق في الميراث، وكل حق في ناحية يقابله واجب في الناحية الأخرى، فلا يمكن فهم حق الفرد في الميراث إلا في ضوء فهم ما يجب عليه من الإنفاق على غيره من الأقارب؛ فهناك ارتباط وثيق بين ترتيب المستحقين ومقادير أنصبتهم وبين قواعد النفقة بين الأقارب، فمثلًا: إذا وجد شخص كبير فقير لا يقدر على الكسب، وكان له أب غني وإخوة أغنياء، فإن النفقة على هذا الابن الفقير هنا واجبة على الأب دون الإخوة، وكذلك إذا مات هذا الابن -غنيًا كان أم فقيرًا- وكان له أب وإخوة فإن الوارث هنا يكون الأب دون الإخوة؛ وذلك لأنه أقرب العصبات إلى الميت.. فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذكرٍ»([8])؛ وأيضًا لأنه المتكفل بالإنفاق على أبنائه إن كانوا فقراء محتاجين، وهكذا في ترتيب سائر المستحقين ومقادير أنصبتهم ترتبط بقواعد النفقة بين الأقارب، وعلى هذا الأساس جاءت القاعدة الفقهية تَنُصُّ على أن «الغنم بالغرم» ولا يخفى أن هذا يكون على الوجه العموم والأغلب فلا يخرم هذه القاعدة لو شَدَّتْ بعض الحالات عنها عملًا بالقاعدة الفقهية التي تنصّ على أن: «الحكم للأغلب، وأن النادر لا حُكم له»، وبذا يُكَوِّنُ كلا النظامين أساسًا متينًا للتكافل الاجتماعي في الإسلام.

ومن هنا فقد حدد نظام التوريث في الإسلام نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى في بعض الحالات التي يتساويان فيها في درجة وجهة القرابة يقول الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: 11]، وقال تعالى: {وإن كانوا إخوةً رجالًا ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكلٍّ شيءٍ عليمٌ} [النساء: 176]؛ فحين لا يكون للميت وارث إلا ذريته من ذكور وإناث فإنهم يأخذون جميع التركة على أساس أن للبنت نصيبًا واحدًا وللذكر نصيبين اثنين، وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس، إنما الأمر أمر توازن وعدل بين أعباء الذكر المالية وأعباء الأنثى في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي؛ فالرجل يتزوج امرأة ويُكَلَّف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كل حالة وهي معه وهي مطلقة منه، أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء، وليست مكلفة بالإنفاق على زوج ولا أو أبناء في أي حال، فالرجل مكلف على الأقل ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي، ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم.

والدليل على أن الأصل في نظام التوريث في الإسلام هو عدم التفرقة بين الذكر والأنثى إلا لداعٍ وأن القاعدة العامة هي المساواة بين الرجل والمرأة في تطبيق معايير التوزيع، أنه في غير الحالات السابقة لا يوجد أي فرق بين الذكر والأنثى في تحديد حق الميراث، فعلى سبيل المثال لا الحصر أن الأمّ وإن كانت تأخذ نصف الأب في حالة إذا لم يكن لابنهما المتوفى فرع وارث فإنهما يتساويان في حالات أخرى إذا كان لابنهما ولد واحد أو بنتان، كما يتساوى الأخ والأخت لأم في استحقاق السدس لكل منهما أو يشتركون بالسوية في الثلث إذا زادوا عن ذلك وهي حالة ميراث الكلالة؛ بأن لم يوجد فرع وارث للميت ولا أصل وارث، كما يتساوى كل من الذكر والأنثى في استحقاق كلّ التركة عند الانفراد: فرضًا أو ردًّا، وفي بعض الحالات يكون نصيب الأنثى فرضًا مثل نصيب الذكر تعصيبًا أو أكثر، كما أنه بالمقارنة بين المستحقات من النساء والمستحقين من الرجال، يتبين أن الأغلب الأعم من الوارثات من النساء يرثن بالفرض ولا يرث بالفرض من الرجال سوى نوعين فقط، والباقي من الرجال لا يرث إلا تعصيبًا؛ أي لا يرث إلا بعد استكمال توريث أصحاب الفروض وأغلبهم من النساء، ويتضح من ذلك أن المرأة أوفر حظًّا في الميراث؛ لأن الفُرَص التي تتاح لها أكثر بكثير من الرجال، وسبحان العليم الخبير الذي وسع كل شيء رحمة وعدلًا([9]).

إن نظام التوريث في الإسلام هو النظام العادل المتناسق مع الفطرة ابتداء ومع واقعيات الحياة العائلية والإنسانية في كل حال، ويبدو هذا واضحًا حين نوازنه بأي نظام آخر عرفته البشرية في القديم أو الحديث، في أية بقعة من بقاع الأرض على الإطلاق، إنه نظام يراعي معنى التكافل العائلي كاملًا ويوزع الأنصبة على قدر واجب كل فرد في الأسرة في هذا التكافل، فعصبة الميت هم أولى من يرثه بعد أصحاب الفروض: كالوالد والوالدة؛ لأنهم هم كذلك أقرب من يتكفل به ومن يؤدي عنه في الديات والمغارم.

فهو نظام متناسق ومتكامل، وهو نظام يراعي أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة؛ فلا يحرم امرأة ولا صغيرًا لمجرد أنه امرأة أو صغير؛ لأنه مع رعايته للمصالح العملية يراعي كذلك مبدأ الوحدة في النفس الواحدة؛ فلا يميز جنسًا على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي.

وهو نظام يراعي طبيعة فطرة الأحياء بصفة عامة وفطرة الإنسان بصفة خاصة؛ فيقدم الذرية في الإرث على الأصول وعلى بقية القرابة؛ لأن الجيل الناشئ هو أداة الامتداد وحفظ الجنس البشري، فهو أولى بالرعاية من وجهة نظر الفطرة السليمة، ومع هذا فلم يَحْرِمْ الأصول ولم يحرم بقية القرابات بل جعل لكلٍّ نصيبه من التركة مع مراعاة درجة القرابة.

وهو نظام يتوافق مع طبيعة الفطرة كذلك في تلبية رغبة الإنسان في أن نسله لن يُحْرَمَ من ثمرة عمله وجهده، وهو ما يدعوه إلى مضاعفة الجهد، مما يضمن للأُمَّة النفع والفائدة في مجموعها من هذا الجهد المضاعف مع عدم الإخلال بمبدأ التكافل الاجتماعي العام الصريح القوي في هذا النظام.

وأخيرًا فهو نظام يضمن تفتيت الثروة المُتَجَمِّعَة على رأس كل جيل وإعادة توزيعها من جديد؛ فلا يدع مجالًا لتضخم الثروة وتكدُّسِها في أيدٍ قليلة ثابتة كما يقع في الأنظمة التي تجعل الميراث لأكبر ولد ذكر أو تحصره في عدد قليل محدد، وهو من هذه الناحية أداةٌ متجددةُ الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة وردِّه إلى الاعتدال دون تدخل مباشر من السلطات، الذي يتنافر -غالبًا- مع الفطرة البشرية ولا ترضى به النفس الإنسانية؛ فأما هذا التفتيت المستمر والتوزيع المتجدد وفق الشرع الإلهي؛ فيتم والنفس به راضية؛ لأنه يلائم فطرتها وحرصها وشحها، وهذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله وتشريع الناس([10]).

المبحث الثالث: الفتوى ونظام الميراث.

حافظت الفتوى المنضبطة على دعم تطبيق نظام الميراث في الإسلام مع مراعاة تحقيق مقاصده الشرعية؛ ومن ذلك أنها دعمت جميع الوسائل التي تحقق إيصال الميراث للمستحقين؛ ومن ذلك:

أولًا: دور الفتوى في دعم سرعة إيصال الميراث للمستحقين:

لقد حَصَر التشريع الإسلامي نظامَ المواريث على أسباب مُحدَّدة؛ من أهمِّها الزوجيةُ والنَّسَب، كما حرص على تقسيم التركة وبيان الأنصِباء؛ قطعًا للنِّزاع بين أفراد الأسرة الواحدة ومنعًا لِمَا عساه يحدث من التغيير والتبديل في الوصية أو إثارة الحقد بين الوارثين نتيجة تقسيمٍ غيرِ عادل؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى آياتٍ تُبيِّن أنصبة الوارثين؛ يقول الله تعالى: {لِلرِّجَال نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أوْ كَثُرَ نَصِيبًا مفْرُوضًا} [النساء: 7]، ويقول تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أوْلادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]، وغيرها من الآيات التي بَيَّنَتْها السُّنَّة النبوية الشريفة وزادت عليها أحكامًا شكَّلت نظامَ المواريث الإسلامي الأبَدِيِّ الذي لا يَقبَل التعديل ولا التغيير من أي إنسانٍ كائنًا مَن كان.

ونظام التوريث في الشريعة الإسلامية يعتمد ابتداءً على ثبوت صلة الوارث بمُوَرِّثه فقد حدَّد الفقهاءُ القواعدَ اللازمة لإثبات هذه الصلة، والتي تعتمد الشهادة كنظام من إحدى النُّظُم الإسلامية للإثبات؛ يقول ابن قدامة: «وإذا شهد عدلان أن فلانًا مات، وخلَّف من الورثة فلانًا وفلانًا، لا نعلم له وارثًا غيرهما، قبلت شهادتهما. وبهذا قال: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، والعنبري. وقال ابن أبي ليلى: لا تُقبل حتى يبينا أنه لا وارث له سواهما. ولنا: أن هذا مما لا يمكن علمه، فيكفي فيه الظاهر، مع شهادة الأصل بعدم وارث آخر. قال أبو الخطاب: سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة، أو لم يكونا»([11]).

وفي العصر الحديث تمر إجراءات استخراج إعلامات الوراثة وتحديد الأنصبة الشرعية للوَرَثة تَمُرُّ بإجراءاتٍ عدة قد تَستغرق رِدحًا مِن الزمن لا يَتمكن خِلالَه أهلُ المُتَوَفَّى مِن الحصول على مُستحَقاتهم.

وقد وفرت سُبُل التكنولوجيا الحديثة المستندات الرسمية الموثوقَ بها التي تُحَدِّد أسماء أهل المُتَوَفَّى بيُسْرٍ وسهولةٍ إلى الحَدِّ الذي يمكن معه الاستغناء عن شهادة الشهود لتَحديد أسماء المُستَحِقِّين للميراث؛ فدعمًا لسرعة إيصال الميراث إلى مستحقيه أجازت الفتاوى المنضبطة استخدام هذه الوسائل كبديل معاصر عن شهادة الشهود؛ وذلك انطلاقًا من أن إيجاب الشريعة شهادة الشهود أمام القاضي لِتحديد ورثة المُتَوَفَّى إنما يُقصَد مِنْه الاسْتِيثاقُ مِن حَصْر الورثة؛ لِئَلَّا يدخلَ فيهم مَن لا يَستَحِق ولا يَخرجَ عنهم مُستَحِق؛ وهذا الاسْتِيثاق كَمَا يَحدُث بالشهادة أمام القاضي قد يَحدُث بِمَا يقومُ مَقامَها أو بِأيَّة وسيلةٍ أخرى مِن الوسائل الحديثة التي يُقِرُّها وَلِيُّ الأمر، وهذا مِمَّا لا تَأْباه مقاصدُ الشريعة إذا تأكَّد تحقيقُ هذه الوسائل لِمَا قُرِّر مِن أحكام؛ بل استخدام هذه الوسائل قد يكون مَرغوبًا فيه شرعًا إذا حَقَّق مصالِح العباد ويَسَّر عليهم أُمورَهم، فقد حَرِص الشرعُ الشريف على تحقيق مصالح العباد ونَدَب إلى مُراعاتها في كُلِّ حال([12]).

ثانيًا: دور الفتوى في تحريم الحرمان من الميراث:

إن التركة بعد موت المُوَرِّث حقٌ لعموم الورثة على المشاع -ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم-، فيستحق كل وارث نصيبه من التركة بعد أن يخصم منها نفقة تجهيز الميت وبعد قضاء الديون وإنفاذ الوصايا والكفارات والنذور ونحو ذلك. ولا يجوز لأي أحد من الورثة الحيلولة دون حصول باقي الورثة على أنصبائهم المقدَّرة لهم شرعًا بالحرمان أو بالتعطيل، كما لا يجوز استئثار أحدِهم بالتصرف في التركة دون باقي الورثة أو إذنهم، فمنع القسمة أو التأخير فيها بلا عذر أو إذن محرَّم شرعًا؛ ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]؛ ففي الآية أمر بالمسارعة إلى أسباب المغفرة ودخول الجنة؛ يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: «والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة وأسباب دخول الجنة، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات»([13]).

ومن أعظم أسباب دخول الجنة ونيل رضا الله أداء الحقوق مطلقًا، سواء كان حق الله أو حق الناس أو حتى حق النفس، ويدخل في أداء حقوق الناس أداء الولي أو المسؤول عن التركة حقوقَ باقي الورثة إليهم والمسارعة في ذلك واتقاء تأخيرها عن موعد استحقاقها بلا عذر أو إذن.

ومما يدل على حرمة حرمان الورثة أيضًا ما رواه ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فَرَّ مِن ميراث وارثِه، قَطَع الله ميراثَه مِن الجنة يوم القيامة»([14])؛ قال العلامة المُناوي معلقًا على الحديث: «أفاد أن حرمان الوارث حرام، بل قضية هذا الوعيد أنه كبيرة، وبه صَرَّح الذهبي وغيره»([15])، والفرار والحرمان كما يصدقان على الفرار التام والحرمان الكامل، فإن كلا منهما يتناول أيضًا المماطلة غير المبررة؛ لأن فيها نوع فرار وحرمان.

وروى البيهقي في الشُّعب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ، قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ»([16])، وهذا الحديث نَصٌّ في أن قَطْع الميراث عن أحد الورثة حرام؛ لأن الوعيد على الشيء دليلٌ على حرمته، والقطع الوارد في الحديث يدخل فيه المنع من الإرث مطلقًا، أو تأخيره عن ميعاد استحقاقه دون عذر أو إذن؛ لأن القطع كما يأتي في اللغة بمعنى الإبانة والفصل، فإنه يأتي بمعنى الحبس؛ فيقال انقطع الغيث؛ أي: احتبس، وانقطع النهر؛ أي: جف أو حبس([17])، وتعمد تأخير تسليم الشيء ضرب من ضروب حبسه.

وروى البيهقي والدارقطني عن حِبّان بن أبي جَبلة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بماله من والده ووَلَده والناس أَجمَعين»([18])؛ فهذا الحديث أصل في أن للإنسان أحقية التصرف فيما يملك. وملك الوارث لميراثه يحصل بمجرد موت مُوَرِّثِه، ولَمَّا ذكر الله تعالى أنصبة الورثة في سورة النساء بدأها بلام الملك؛ كما في قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقوله: { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} وقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وقوله: { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} وقوله:  {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ} وقوله: { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} وقوله: { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11، 12]، مما يؤكِّد أن كل واحد من الورثة مالك لنصيبه في التركة ملكًا لا يقبل التشارك وله أحقية التصرف في نصيبه دون تسلط من أحد عليه في ذلك، والأصل أنه لا يجوز للإنسان التصرف في ملك الغير أو الافتئات عليه فيه. ومنع التركة عن أحد الورثة أو تأخير القسمة بلا إذن من باقي الورثة تصرف في ملك الغير بلا إذن، فلا يجوز.

كما أن المنع أو التأخير بلا عذر أو إذن تعدٍ على حقوق الغير وهضم لحقه، وذلك من الظلم، والظلم من الكبائر المتوعَّد عليها، فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»([19])، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له مَظلمة لأخيه من عِرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذ منه بقدر مَظلمته، وإن لم تكن له حسناتٌ أخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه»([20]).

كما أن هذا المنع أو التأخير فيه أكل لأموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»([21]).

ومن هنا فقد نصت الفتوى المنضبطة على أن مماطلة أحد الورثة أو تأجيلُه قسمةَ الإرث أو تمكينَ باقي الورثة من نصيبهم بلا عذر أو إذن من الورثة محرَّم شرعًا، وصاحبه آثم مأزور، وعليه التوبة والاستغفار مما اقترفه، ويجب عليه رَد المظالم إلى أهلها؛ بتمكين الورثة من نصيبهم وعدم الحيلولة بينهم وبين ما تملكوه إرثًا([22]).

 

([1]) ينظر: الأسرة لأحمد حمد (ص198، 304).

([2]) أخرجه الطبراني في الكبير (20/ رقم 94). وأخرجه ابن ماجه (2709) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([3]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2742)، ومسلم (1628).

([4]) السرخسي، المبسوط، ج29، ص137.

([5]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (6732)، ومسلم (1615).

([6]) أخرجه البخاري (6742).

([7]) أخرجه أبو داود (2899).

([8]) تقدم تخريجه.

([9]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 400).

([10]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 397).

([11]) المغني (10/143).

([12]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (55) لسنة 2013م.

([13]) التحرير والتنوير (4/89).

([14]) أخرجه ابن ماجه (2703).

([15]) فيض القدير (6/ 186).

([16]) أخرجه البيهقي في الشعب (7594).

([17]) انظر: تاج العروس (22/ 24)، والمصباح المنير (2/ 508).

([18]) أخرجه الدارقطني في السنن (4568)، والبيهقي في الكبرى (15753).

([19]) أخرجه مسلم (2578).

([20]) أخرجه البخاري (2449).

([21]) أخرجه مسلم (2581).

([22]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (9) لسنة 2012م.

اترك تعليقاً