البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الرابع: دور الفتوى في معالجة المشكلات الأسرية.

62 views

إن العلاقة الزوجية تُعدُّ من أسمى العلاقات البشرية، وقد اقتضت سنن الحياة أن تشوب هذه العلاقة بعض المشكلات والخلافات؛ فالمشكلات الزوجية أمر طبيعي لا مفر منه، فلم يخلُ بيتٌ منها حتى بيتُ النبوة.

وأسباب الخلافات الزوجية كثيرة ومتعددة، منها ما يتعلق بالإنفاق سواء من جانب الزوج أو الزوجة، ومنها ما يتعلق باختلاف الطبائع، ومنها ما يتعلق بسوء المعاملة والعِشْرة.

ومنها كذلك: قلة الثقة أو انعدامها بين الزوجين، وضعف الحوار بين الزوجين وقلة التواصل بينهما، وغير ذلك.

ولقد حرص الإسلام على القضاء على المشكلات الزوجية في مهدها قبل أن تستفحل حفاظًا على كيان الأسرة من الانهيار، وحمايةً لبنيانها من التصدع؛ فإن الأزواج العقلاء هم الذين يتجاوزون المشكلات بإيجاد أفضل الحلول لها من أجل استمرار بقاء الأسرة.

لقد جاء الإسلام بإرشادات سامية وتوجيهات سديدة تُسْهِم بشكل أساسي في حل المشكلات بين الأزواج يأتي في مقدمتها: المبادرة الفورية لحل المشكلة وعدم تجاهلها؛ فإن التزام الصمت والسكوت حيال الخلاف له أثر سلبي؛ إذ سرعان ما تتراكم المشكلات والخلافات وتتفاقم عبر الزمن.

ومن توجيهات الإسلام لحل المشكلات الزوجية: أن أولى الناس بحل المشكلة الزوجية هما الزوجان أنفُسهما وذلك بالمسارعة نحو الصلح؛ مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].

فإن لم يستطع الزوجان تدارك الخلاف بينهما ومعالجة المشكلة فإن الواجب على أقارب الزوجين السعي في الإصلاح بينهما مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]([1])؛ فإن الشارع متشوف إلى إصلاح ذات البين وقد رتَّب عليه الأجر الكبير؛ فروى الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة»، قالوا: بلى، قال: «صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» قال: «لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»([2]).

ومن الوسائل المعينة على حل المشكلات الزوجية كذلك: تحديد المشكلة، وعدم تجاوزها إلى خلافات سابقة؛ فلا تُفتح الملفات القديمة لأن ذلك من شأنه أن يشتت الفكر ويزيد المشكلة تعقيدًا.

ومنها أيضًا: إدارة الحوار الهادئ والهادف وإصغاء كل طرف للآخر باهتمام، فإن الحق مع أحدهما، وعلى الطرف المخطئ الاعتراف بخطئه والاعتذار عنه فلا يتكبر ولا يتعالى؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

ومن إرشادات الإسلام لحل المشكلات الأسرية أيضًا: غض الطرف عن الهفوات الصغيرة والزلات اليسيرة؛ فينبغي على كل من الزوج والزوجة أن يتحلى بخلق التغافل عن الزلات والهفوات اليسيرة؛ قال الإمام الشافعي رحمه الله: “اللبيبُ العاقلُ هو الفَطِن المتغافل”.

ومنها أيضًا: حسن المعاشرة بين الزوجين؛ فقد روى الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»([3])؛ فالزوج مطالَبٌ بحسن الخلق مع زوجته، ولقد تزوج الإمام أحمد رحمه الله عباسة بنت الفضل أم ولده صالح، وكان الإمام أحمد يثني عليها قائلًا: «أقامت أم صالح معي عشرين سنة فما اختلفت أنا وهي في كلمة».

ومنها: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في تعاملاته مع زوجاته؛ فقد كانت تعاملاته صلى الله عليه وسلم تتسم بالهدوء والحكمة ومراعاة الطباع المركوزة في فطرة المرأة، ومن ذلك ما جاء عند البخاري وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلَتْ إِليه إِحدى أُمهات المؤمنين بِصَحْفَة فيها طعام، فَضَرَبتِ التي هو في بيتها الصَّحفَة، فانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِلَق الصَّحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام، ويقول: «غَارتْ أُمُّكم، غارتْ أُمُّكم»([4]).

وللفتوى دور بارز في معالجة المشكلات الأسرية، وفيما يلي نتناول هذا الأمر، من خلال تمهيد وعدة مباحث، وهي:

المقدمة: في الاستفادة من الاختلاف الفقهي في فتاوى حل المشكلات الأسرية.

المبحث الأول: مشكلات ما قبل الزواج.

المبحث الثاني: الخلاف بين الزوجين.

المبحث الثالث: العنف الأسري.

المبحث الرابع: الدور المجتمعي لدور الإفتاء في حل المشكلات الأسرية.

 

تمهيد: في الاستفادة من الاختلاف الفقهي في فتاوى حل المشكلات الأسرية.

إن محاولة فهم ظاهرة “الاختلاف” في الفقه الإسلامي، لا يمكن أن تتم بمنأى عن فهم طبيعة الفقه وفلسفته.

فطبيعة موضوع علم الفقه الإسلامي وتعلقه بأفعال “المكلفين” من حيث أحكامها، فرض تداخلا واسعا بينه وبين سائر المعارف الإنسانية والاجتماعية، فمثّل علم النفس والاجتماع والقانون أيضا حضورا مباشرا أحيانا وغير مباشر في أحيان أخرى، بل تقاطع مع الفقه أيضا عدة معارف وعلوم أخرى كالانثربولوجيا والتاريخ وشكّلا سياقا هاما لا يمكن إغفاله في التكوين العلمي للفقه.

إن ذلك التداخل الكبير بين الفقه وبين سائر المعارف كان من شأنه أن يضفي طبيعة مرنة على المنتج النهائي لذلك العلم، بخلاف علم أصول الفقه على سبيل المثال، فاختلفت الفلسفة التي يقوم عليها كلا من العلمين، فعلم أصول الفقه قام على مجموعة قواعد كلية -وإن اختلفت درجة كليتها- ومثلت تلك القواعد جوهر العلم الحقيقي، وأداة الإعمال في النصوص والأدلة بوجه عام، أما علم الفقه فعلى الرغم من الحضور التقعيدي المختلف المراتب إلا أن طبيعة موضوعه جعل من عملية “الاستنباط” محورا لفلسفته، لا التقعيد كما في حالة أصول الفقه.

إن استنباط “الأحكام” في التشريع عبارة عن العملية التي يقوم بها “المجتهد” الذي لا يوصف بهذا النعت إلا بعد حوزته لمجموعة من الأدوات يتمكن من خلالها بإجراء عملية الاستنباط على الوجه الصحيح.

وبالنظر إلى تلك العملية التي تمثل جوهر فلسفة الفقه نجد أنها دائما ما تحركت في مسارين، أو سلطتين حاكمتين، سلطة النص وسلطة العقل؛ فالنص التشريعي كان له سلطة دلالية مرتبطة باللغة ارتباطا وثيقا، وسلطة العقل كان لها ارتباط بمبادئ التفكير، وأسس المنطق، وفي ذلك الإطار أفرز الاستنباط منتجا فقهيا مرنا ومتنوعا، فرضته محددات عملية الاستنباط ومساراتها.

ولذلك فإن التأريخ لنشأة الاختلاف الفقهي لا يتعدى كونه رصدًا للمواطن التي برز فيها الاختلاف الفقهي وبدأ في التَّشكل كظاهرة، لأن طبيعة الفقه كما بيّنا تجعل من ذلك الاختلاف أمرا لازما له، فعلى سبيل المثال لو تطرقنا للفقه في العهد النبوي، نجد أن الاتصال المباشر مع مصدر التشريع قلَّص من دور الاستنباط بشكل كبير، ومع نهاية ذلك الاتصال المباشر بموت النبي صلى الله عليه وسلم، بدأت عملية الاستنباط في التطور وفق مسارتها السابقة، وبدأت المدارس الفقهية تختلف تبعا لاهتمامها ومنطلقاتها، فنشأ الخلاف الفقهي نتيجة لتنوع المدارس الفقهية كما عرف قديما بمدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي([5]).

فالخلاف بين المدرستين الذي أنتج تنوعا فقهيا كبيرا كان انطلاقا من فلسفة كل منهما في الاستنباط، ومدى حاكمية سلطة الدلالات اللغوية والمبادئ المنطقية والعقلية، ثم سار الاختلاف الفقهي في ذلك المساق لينشأ داخل المدارس الواحدة أيضا؛ لعدم الاتفاق وحصول الاختلاف حتى داخل الاتجاه الفقهي أو المذهب الواحد.

يقول العلامة ابن خلدون: «اعلم أنّ هذا الفقه المستنبط من الأدلَّة الشرعية كثُر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافًا لابدَّ من وقوعه لما قدَّمناه، واتَّسع ذلك في الملة اتساعًا عظيمًا، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا منهم، ثمّ لمّا انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار وكانوا بمكان من حسن الظن بهم اقتصر الناس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته وتشعب العلوم التي هي موادُّه باتصال الزمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة.

فأقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة وأجري الخلاف بين المتمسكين بها والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية»([6]).

وبجانب تلك المذاهب ظهرت مذاهب أخرى أيضا تبعا لأصولها في الاستنباط إلا أنها لم تنل ذات الشهرة كمذهب أبي دواد الظاهري، وغيرها([7]).

ولذلك يمكن القول أن الاختلاف الفقهي نشأ في نفس الوقت الذي نشأ فيه الفقه نفسه نتيجة لطبيعة الفقه وعمليه “الاستنباط”.

أسباب الاختلاف الفقهي:

تقدم أن المحددات التي يعتمدها الفقيه أو المدرسة الفقهية في الاستنباط تُنتج تنوعا فقهيا لازما، لاعتماد الفقيه على معارفه الشخصية وقدراته العقلية مما يجعل من اتحاد الأقوال عند جميع الفقهاء أمرا محالا.

وإذا حاولنا الاقتراب أكثر من تلك الأسباب الفرعية التي ينشأ عنها الاختلاف الفقهي نتيجة لما قررناه سابقا، نجد أن أهم تلك الأسباب:

اختلاف الفقهاء في ثبوت النص مناط الاستنباط:

فقد يثبت نص الحديث النبوي الشريف عند بعض الفقهاء ولا يثبت عند البعض الآخر، أو يشك في ثبوته، أو لا يعلم به من الأصل، مما يترتب عليه بالضرورة تنوعا في الحكم الفقهي بناء على ذلك الاختلاف.

وقد وقع ذلك بين الصحابة رضوان الله عليهم، أقرب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعلمهم بسنته، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها أنّ الجدّة جاءت على أبي بكر تسأله ميراثها، (فقال لها أبو بكر: “ما لكِ في كتاب الله شيء، وما علمتُ لكِ في سنَّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس”، فقال المغيرة بن شعبة: “حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطاها السدس”، فقال أبو بكر: “هل معكَ غيرك”؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصدّيق) ([8]).

وعلى هذا النسق نشأ نوع من الخلاف الفقهي المبني على إدراك النص من الأصل من جهة الثبوت سواء كان المؤثر في ذلك الإدراك عدم علم أو النسيان أو الشك أو اعتقاد عدم الصحة، ونحو ذلك، فأيا من تلك الأسباب كان مؤثرا في حدوث نوع من الخلاف الفقهي.

وينبغي التنبيه هنا أن ذك الاختلاف الناشئ عن مثل ذلك السبب يعد في جانب كبير منه تنوعا صوريا، لأن ذلك الاختلاف كان سيتقلص بشكل كبير على فرض وصول النص النبوي لجميع الفقهاء وعلمهم به، نعم يظل جزء منه اختلافًا حقيقيا، مثل الجزء الناشئ عن عدم التسليم بصحة الحديث، إلا أنه الجانب الأكبر منه سيظل صوريا

أما السبب الأهم في الاختلاف الفقهي، فهو ما يعود:

أولا: إلى تعامل الفقيه مع النص نفسه، سواء في فهم النص وطريقة الاستدلال به على الحكم، أو في طريقة التعامل مع النصوص المتعارضة والترجيح بينها كما في الحادثة المشهورة واختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يصلينّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة([9])» في غزوة الأحزاب، فقد اختلفوا في دلالة النص، وهل هي على ظاهرها، أم أن المراد الحث على الإسراع وإنجاز المهمة الموكلة إليهم.

الثاني: يعود إلى اختلافهم في الاستنباط واستخراج العلل المنوط بها الأحكام الشرعية فيما لا نص فيه، وهذا باب واسعٌ من أبواب الاختلاف بين الفقهاء، إذ من الثابت أنّ النصوص محدودة، والوقائع كثيرة ومتجدّدة، وقد تتماثل بعض هذه الوقائع مع حادثة جرت في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان له فيها حكم، وقد تختلف عنها اختلافًا بيّنًا، وهذا ما حدا بأبي بكر رضي الله عنه إلى أن يجمع رؤوس الناس وفقهاء الصحابة كلّما حدثت حادثة من هذا القبيل، فيتشاوروا حتى يجدوا لها حكمًا ([10]).

وقد زاد ذلك الاختلاف مع استقرار النظريات الفقهية المختلفة كنظرية التكليف والمصالح ونظرية الحق، فارتسمت في ضوء تلك النظريات العديد من القواعد التي أثرت بشكل مباشر في عملية الاستنباط، وهو ما انعكس على الاختلاف الفقهي الغزير من بعد القرن الثاني خصوصا.

سمات الاختلاف الفقهي:

إن الاختلاف بوجه عام، ما هو إلى تجلٍّ للهوية البشرية، وتعبيرًا عن أخصّ ما يميزها، وبالتالي فإن أي محاولة لتجاوز ذلك الاختلاف أو فرض نوعٍ من الثقافة الأُحادية هو تجنٍّ مباشرٍ على حق إنساني أصيل.

وعلى الرغم من أن الاختلاف يُعد تعبيرا عن الهوية الإنسانية، إلا أن فلسفة ذلك الاختلاف كان لها جوانبها ومنطلقاتها المختلفة بين الحضارات الحاضنة لذلك الاختلاف، وبالنظر إلى الفكر والحضارة الإسلامية، نجد أن الاختلاف كان له منطلقات وسمات خاصة.

ففلسفة الاختلاف أو التنوع الفقهي في الإسلام، ليست كما يحلو للبعض أن ينظر إليها من وجهة نظر حداثية تقليدية، مجرد انفتاح على الثقافات الأخرى، أو على الرأي الآخر فحسب، بل إن الاختلاف الفقهي في الإسلام، وإن كان قد ارتكز منذ البداية على قضية التحرر العقلي والتعايش وقبول الرأي الاخر والتفاعل معه، إلا أن هذا الاختلاف والتنوع عمل على الحفاظ على هوية العقول المنتجة له، وصد محاولات الهيمنة الفكرية على العقل المسلم والعربي خصوصا.

إن الاختلاف الفقهي قام بدور الحائل الذي يحول دون الهيمنة الثقافية للاتجاه الرأس مالي الغربي الحديث وفرض منظومته القيمية والثقافية، ذلك نتيجة للثراء الذي خلفه ذلك الاختلاف، والمساحة المتحررة التي تركها لعمليات التجديد والتطوير للخطاب والفكر بوجه عام.

كما أن فلسفة الاختلاف في الفقه الإسلامي تقوم في الأصل على الانطلاق من دافعية الذات الإنسانية نحو التحرر وترك العنان للعقل في التفكير والاستنباط وفق أدواته الخاصة به والتي تختلف من عقل إلى عقل.

وذلك أن الإسلام لم يعطي جذرا معينا سلطة تحريك النفس والاجتماع والعقل، فبينما حاولت بعض الفلسفات إخضاع التحرك البشري لعنصر واحد كما فعلت الشيوعية مع المكون الاقتصادي، وفرويد بإزاء المحرك والدافع الجنسي، كان الإسلام يرى أن ثمة دوافع كثيرة ومتراكبة تؤثر في تحريك الاجتماع البشري، ولذلك كان لاختلاف المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأيضا البقاع الجغرافية وما يتبع ذلك من اختلاف في الأنماط الحياتية دوره في الاختلاف الفقهي.

هذا بالإضافة إلى أن فلسفة الاختلاف الفقهي في الإسلام أعلت من شأن الاختلاف الفقهي بوصفة قيمة وحق إنساني، لا بوصفه سلعة تستخدم كمروج لنسق حضاري محدد كما فعلت القوى الغربية بعد انتهاء الحرب الباردة، فإن القوى الغربية أصبحت تدشن لنمط ثقافي موحد وتبشر بذلك عن طريق الدفع بالتنوع والخلاف كأحد السمات المميزة للفلسفة الغربية الحديثة، ففرغت مضمون الخلاف والتنوع من مضمونه، وتحول إلى سلعة، بل في حقيقة الأمر تحول إلى أداة لقتل التنوع وتقويضه لصالح نسق ثقافي واحد، بخلاف الاختلاف الفقهي الذي عبر عن فلسفة الإسلام الحقيقية إزاء قضية الاختلاف وعموما، وبرهن على أصالة الطرح الإسلامي للمفهوم الاختلاف والتنوع ودواعه وارتباطه بالهوية والذات الإنسانية، فكان الاختلاف مسوغا لعد تقييد الشخص العادي (المقلد) وإلزامه باتباع رأي واحد (مجتهد- مذهب) بل كان له اختيار ما يراه وما يطمئن إليه قلبه، وهذا على جانب الشخص العادي، أما المنظرين أنفسهم او الفقهاء، فلم يكن لأحد منهم التقيد برأي غيره، بل على العكس كان يجب عليه الاجتهاد وبذل الوسع بنفسه لاستنباط ما يمليه عليه عقله.

الاختلاف الفقهي مصدر ثراء وتعدد:

لقد كان من آثار الاختلاف الفقهي في المسائل الفرعية سعة الشريعة الإسلامية ومرونتها لتتنَزَّلَ أحكامها على الوقائع والأحداث المتجددة وغير المتناهية، فيكون في نصوص الشريعة وعلى ألسنة أئمتها المجتهدين ما يضمن تطبيق الأحكام في ظل الشرع الحنيف، وهذا ما فهمه الصدر الأول من هذه الأمة المتمثل بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يختلفون في فهم النصوص فتختلف تطبيقاتهم للأحكام فيكون الجميع عاملًا بالنص ومتسربلًا بالشرع، كما تقدم من حالهم في فهمهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة([11])»؛ فقد كان اختلافًا في تطبيقه اختلافًا سائغًا، كل فريق كان له مشربه الصحيح فيه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأقر الجميع، وكما في اختلافهم في أسرى بدر، وفي غنائمها وغير ذلك كثير.. فما كان الاختلاف إلا أسلوبًا عمليًّا لتطبيق الاجتهاد في فهم النص، أو استنباط الحكم بالقياس على نص، وقد كان هذا الاختلاف جامعًا للأمة في فسطاط الإسلام حتى في الأصول كالعقائد، وكبريات الفروع كالدماء([12]).

توظيف الخلاف الفقهي في حل المشكلات الزوجية:

يمكن لمن يتصدر للإفتاء فيما يخص المشكلات الزوجية أن يتخير من أقوال الفقهاء المتنوعة ما يتوافق مع مصلحة الأسرة وما يناسب ظروف العصر التي تغيرت عن العصور السابقة، وهذا يدل على مرونة الشريعة، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

1-فعلى سبيل المثال: يمكن الاستفادة من مذهب الحنابلة فيما يتعلق بمخالفة أحد الزوجين لشرط من الشروط الخاصة التي يتم الاتفاق عليها وتدوينها في وثيقة الزواج. فالحنابلة يرون جواز فسخ عقد الزواج إذا لم يوف الزوج بالشروط الصحيحة التي يتضمنها العقد؛ فرأي الحنابلة يحقق مصلحة الأسرة والمجتمع بحثِّ الزوجين على الالتزام بشروط العقد الصحيحة للحفاظ على كيان الأسرة وحماية حقوق المرأة.

قال ابن قدامة عند حديثه على الشروط في النكاح: «ما يلزم الوفاء به وهو ما يعود إليها نفعه وفائدته مثل أن يشترط لها ألَّا يخرجها من دارها أو بلدها ولا يسافر بها أو لا يتزوج عليها… فهذا يلزمه الوفاء لها به، فإن لم يفعل فلها فسخ النكاح. يُروَى هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد وطاووس والأوزاعي وإسحاق»([13]).

ومما يدل لهذا القول عموم النصوص الشرعية الآمرة بالوفاء بالعهد كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: 1]. ومما يدل عليه أيضًا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»([14]). وقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً»([15]).

وقد اتجهت غالب قوانين الأحوال الشخصية إلى الأخذ بمذهب الحنابلة لما يقضي به التطور الاجتماعي والزمني، وتتحقق به المصلحة ضمن نطاق الشريعة الغراء التي أمرت بالوفاء بالعقود والعهود.

2-ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما يتعلق بزواج القاصرات فالمختار للفتوى هو منع هذا الزواج، وهو ما أخذ به القانون المصري رقم 126 لسنة 2008 الذي نص على «ألا يجوز توثيق عقد زواج لمن لم يبلغ من الجنسين 18 سنة ميلادية».

ويمكن الاستفادة من الخلاف الفقهي في هذه المسألة بالأخذ بقول بعض الفقهاء كابن شبرمة([16])، وعثمان البتي([17]) من فقهاء التابعين، ويستند هذا الرأي إلى دليل منقول ودليل معقول:

فالمنقول: قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] فالمقصود من قوله تعالى: {بَلَغُوا النِّكَاحَ} صلاحية كل من الزوج والزوجة للزواج وتحمل مسئولياته وتبعاته، وهذا ما ذهب إليه العديد من المفسرين، كما ذهبوا إلى أن البلوغ كما يكون بالعلامات الطبيعية فكذلك يكون بالسن([18]).

المعقول: في إطار جلب المصلحة ودرء المفسدة الملاحظ وقوعها، حيث قالوا: إن زواج الصغار سبب في ارتفاع معدلات الطلاق، وفي الإضرار بالزوجة الصغيرة التي ما تزال من الناحية النفسية بحاجة إلى العيش في أسرتها، ولا تستطيع تحمل مسئوليات الزواج والاعتماد على النفس في ظروف تعقد الحياة الاجتماعية الحديثة، فضلًا عن تهيئة المناخ الطبيعي لسعادة الأسرة وحصول القدرة على إنجاب نسل قوي والعناية به، فضلًا عن أنه إضناء للشباب ومنع الفتاة من نموها الطبيعي ودراية الشباب لتلك المسئولية الكبيرة.

بالإضافة إلى أنَّ تقييد سن الزواج بسن معينة لا يُعد من الأمور التي فيها مخالفة للشرع، بل هو من باب تغير الفتوى بتغير الزمان والعرف والحال؛ فإنَّ من القواعد الفقهية المعمول بها عند الفقهاء: “لا يُنكر تغيُّر الأحكام بتغير الزمان”، علاوة على أنَّ تحديد سن الزواج من ولي الأمر مشروط بالمصلحة التي يتوخاها التشريع، ويدفع المفسدة عن القاصرات؛ لأن تصرفه منوط بالمصلحة كما نصَّ الفقهاء.

وسنتعرض لهذه المسألة بشيء من التفصيل في المبحث الأول.

3-ومن أمثلة ذلك: الأخذ برأي ابن تيمية أن الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، لفظًا أو إشارة، لا يقع إلا طلقة واحدة. وهو خلاف المعتمد عند المذاهب الأربعة، حيث رأى الجمهور أن الطلاق يقع بالعدد الذي تلفظ به. لكن ابن تيمية قال: «إذا طلقها ثلاثًا بكلمة، أو كلمات في طهر واحد، فلا يقع إلا طلقة واحدة»([19]).

وأصبحت هذه الفتوى لابن تيمية معتمدة في القانون المدني المصري، حيث جاء في المادة (3) من القانون المصري رقم 25 لسنة 1929، المعدل بالقانون 100 لسنة 1985 ما نصه: «الطلاق المقترن بعدد -لفظًا أو إشارة- لا يقع إلا واحدة». مثل ذلك ما ورد أيضًا في مدونة الأسرة المغربية في المادة (92)، وقانون الأحوال الشخصية الأردني المادة (89)، وفي النظام الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون الخليجي، المادة (85)([20]).

وهذا الرأي الفقهي لابن تيمية هو الموافق لمقاصد الشريعة في حفظ كيان الأسرة؛ فإن إيقاع ثلاث طلقات بهذه الصيغة مخالف لمقاصد الشريعة في باب الطلاق من التروي وعدم الاستعجال، وترك فرصة للرجل لإرجاع المرأة إلى عصمته في أثناء العدة أو بعدها بعقد جديد؛ فإيقاع الثلاث دفعة واحدة شر بلا خير.

كما أن إيقاع الطلاق الثلاث ذريعة لوقوع الناس في نكاح التحليل المحرم عند انسداد باب إرجاع الزوجة إلى عصمة زوجها، فلم يجز أن تُزال مفسدة بمفاسد أغلظ منها، بل جعل الثلاث واحدةً في مثل هذه الحال كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أولى.

 

 

 

 

المبحث الأول: مشكلات ما قبل الزواج:

ونتناول فيه أهم مشكلتين فيما قبل الزواج، وهما زواج القاصرات والعدول عن الخطبة.

المطلب الأول: زواج القاصرات([21]):

راعى الإسلام الغرائز الفطرية في الإنسان فلم يكبتها ولم يُقِم أمر الدين على الرهبانية، وفي ذات الوقت شرع الزواج ورفع شأنه؛ لينأى بالبشر عن استغلال الغريزة واللهاث خلف الشهوة، وليقرر كرامة الأنثى ويُعلِيَ شأنها؛ فأقام العلاقة الزوجية على المودة والرحمة، وراعى من أجل استمرار ذلك المواءمةَ والتوافقَ بين الزوجين؛ فتكلم الفقهاء عن اشتراط الكفاءة بين الزوجين، واختلفوا في تفصيلاتها -التي قد تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة والأعراف والثقافات- ولكنهم لم يختلفوا في أصل مشروعيتها؛ ضرورةَ كونها سببًا مهمًّا من أسباب حصول المودة والرحمة والاحترام المتبادل بين الزوجين وعاملًا مساعدًا على أداء الحقوق المتقابلة بينهما؛ فتَحَقُّقُ أصلِ الكفاءة في عقد الزواجِ مطلبٌ شرعيٌّ وغرضٌ دينيٌّ؛ فإذا زُوِّجَت البنتُ من غير كفء من غير رضاها فلها خيار الفسخ عند أكثر الفقهاء.

ونحن هنا أمام مشكلة اجتماعية خطيرة تفتقد في مظاهرها وممارساتها معنى الزواج السويِّ ومقومات استمراره؛ بدءًا من أسلوب الوساطة فيه الذي يحصل بعرض الفتيات القاصرات معًا ليختار الرجل مَن تَرُوق له منهن بطريقة رخيصة كلها امتهان للكرامة وإلغاء للآدمية وكأنهن جوارٍ وإماءٌ أو سِلَعٌ تُباع وتُشتَرى، مع علم الجميع أن هذا استمتاعٌ مؤقَّتُ الأجل، فيما يُشبه الدعارة المقنَّعة، ومرورًا بسوء المعاملة الجنسية مِمَّن تزوجها، وانتهاءً برحيله عنها الذي تدركه مُسبقًا من غير ما يضمن لها حقوقها أو نسبة طفلها الذي قد يكون في رحمها من هذا الرجل، لتُعرَض بعد ذلك مع مَن يُعرَضْنَ مِن الفتيات الأخريات مرة أخرى على رجل جديد … وهكذا … لتبدأ دورة جديدة من هذا الاستغلال القذر لبناتنا اللواتي لا حول لهن ولا قوة، دون اعتبار بانتهاء عدة أو غيره، مع ما يستتبع ذلك من المضار النفسية والاجتماعية، وما يجره من تهديد الأمن الاجتماعي، وما يفرزه ذلك من أولاد الشوارع المساكين الذين لا يعرفون لهم نسبًا ولا آباءً، ليصبحوا بعد ذلك قنابل موقوتة تهدد الأمن والسلام الاجتماعيين.

وإذا كان العقلاء لا يختلفون في أن مثل هذا النمط من الزيجات هو ضرر محض على المستوى الفردي والاجتماعي، وأنه يفتقد أدنى معايير الكفاءة بل الكرامة الآدمية في الزواج، فإن في قواعد الشريعة الإسلامية وأحكامها ما هو كفيل بمنعه وردع مُمَارسه وتجريم الوساطة فيه، بل وإلغاء ولاية الأب على ابنته القاصر إذا زجَّ بها في هذا الحمأ من الاستغلال الجنسي والانتفاع المادي على حساب كرامتها وحقوقها.

فقد نصَّ الفقهاء على أن الكفاءة حقٌّ أصيل للمرأة، لا يجوز حملُها على إسقاطه ولا إكراهُها على التنازل عنه، ثم منهم مَن جعله شرطًا من شروط عقد الزواج، يكون باطلًا بدونه، ومنهم من يصححه ويجعل لها حق الفسخ إذا بلغت، أي أنهم متفقون على أنه شرط في الزواج، إما في انعقاده، أو في لزومه، فالعقد بدونه دائرٌ بين البطلان وقابلية الإبطال، وإذا كان بعض الفقهاء قد جعلوا السِّنَّ من خصال الكفاءة بين الزوجين، فلم يجعلوا الشيخ كفئًا للشابة، كما صححه الإمام الروياني من الشافعية.

قال العلامة الشهاب أحمد الرملي الشافعي: «قال الروياني: والشيخ لا يكون كفؤًا للشابة، والجاهل للعالمة. قال صاحب الروضة: وهو ضعيف، قال في الأنوار: وهذا التضعيف في الجاهل والعالمة ضعيف؛ لأن علم الآباء إذا كان شرفًا للأولاد فكيف بعلمهم، ولأن الحرفة ترعى في الزوجة مع أنها لا توازي العلم، وقد قطع بموافقة الروياني شارح مختصر الجويني وغيره، قال شيخنا: والمعتمد ما في الأنوار»([22]).

وهذا القول وإن كان المصحح عند الشافعية خلافه -وخالفه الجمهور أيضًا- فإن مثل هذا النمط من زواج القاصرات لا يجوز أن يُختلَف في كونه منعدمَ الكفاءة جملةً وتفصيلًا، وإذا كان الشرع قد جعل للقاصر ذمةً ماليةً مستقلةً، وجعل تصرف الوصي في ماله منوطًا بالمصلحة بحيث لا يجوز التصرفُ في ماله إلا بما فيه المنفعة المحضة له، فإن اعتبار المصلحة في زواجه أشدُّ تأكدًا وأوجبُ شأنًا؛ لأن العرض أكرم من المال.

قال الإمام النووي الشافعي في «المنهاج»: «ويَجْرِي القولان في تزويج الأبِ بِكْرًا صغيرةً أو بالغةً غيرَ كُفْءٍ بغير رضاها، ففي الأظهرِ باطلٌ، وفي الآخر يصحُّ وللبالغة الخيارُ، وللصغيرةِ إذا بَلَغَتْ»؛ قال العلامة الخطيب الشربيني شارحًا له: «(ففي الأظهر) التَّزوِيجُ المَذكُورُ (باطلٌ) لأنه على خلاف الغِبْطَةِ؛ لأن وليَّ المال لا يصِحُّ تصرُّفُه بغيرِ الغِبْطَة، فوليُّ البُضعِ أوْلَى»([23]).

وإنما جعل الإسلامُ الأبَ أصيلًا في الولاية على بنته لأن داعيةَ الطبع التي جُبِلَ عليها تدعوه إلى الشفقة عليها، واختيار من يلائمها، وتدفعه للعمل على ما فيه مصلحتُها وأمنُها وسلامُها، فأما إذا كانت البنت قاصرًا فيرى بعض الفقهاء أنه لا يجوز تزويجُها، وهو قول الإمام عثمان البتي([24])، وهو أيضًا قول الإمام ابن شبرمة وأبي بكر الأصم([25])، وحجتهم في ذلك قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم}[النساء: 6]. «فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة، ولأن ثبوت الولاية على الصغيرة لحاجة المولى عليه، حتى إن فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات، ولا حاجة بهما إلى النكاح؛ لأن مقصود النكاح طبعًا هو قضاء الشهوة، وشرعًا النسل، والصغر ينافيهما، ثم هذا العقد يُعقَدُ للعمر وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ، فلا يكون لأحد أن يلزمهما ذلك؛ إذ لا ولاية لأحد عليهما بعد البلوغ»([26]).

ولا شك أن مثل هذه الطريقة في الزواج التي لا اعتبار للكفاءة فيها، بل المفتقرة لأدنى مؤشرات احترام الآدمية، هي من أدلِّ الشواهد على فسق الولي، وقد نص الفقهاء على أن تزويج الأب بنتَه من غير كفء يجعله فاسقًا، والفاسق ساقط العدالة لا تجوز ولايته عند جمهور العلماء، فيكون معدومًا حكمًا؛ أي أن وجوده في عقد الزواج كعدمه، فتسقط ولايته بذلك عند الجمهور لفسقه، فيكون العقد باطلًا. وتسقط ولايته عند الحنفية أيضًا لوضوح المجانة والفسوق في اختياره؛ حيث تحوَّل من معنى الولاية -الثابتة له على أساس الشفقة الطبعية الدافعة إلى الحرص على مصلحة موليته ورعاية أمرها في صغرها ومستقبلها وحسن الرأي وتخير أوجه النفع لها- إلى إنسان جشع لا علاقة له بشيء من هذه المعاني، وانمحت منه عاطفة الأبوة، ليتحوَّل هو وأمُّها إلى آلة صمَّاء هَمُّها جمعُ المال على حساب كرامة بنتهما وأمنها من غير أن يقيما وزنًا لمصلحةٍ ولا دينٍ ولا خلقٍ ولا عرفٍ، بل لم يَقُمْ أحدٌ منهما باختيارٍ أصلًا؛ وإنما عرضا بنتهما كالأمة أو كالسلعة التي تُباع وتُشتَرَى على ذلك الرجل ضمن الفتيات اللاتي عُرِضْنَ عليه، وأقرَّا بزواجها على هذا النحو المهين، مع علمهما بكل هذه المحاذير والمخاطر التي تكتنف ذلك، وزادا على ذلك أن أعرضا عن نصرة بنتهما في استنصارها إياهما واستغاثتها بهما من سوء المعاملة الجنسية التي تَلْقاها ممن ابتلياها به، بل وتهدد من أجلها بالانتحار، فقد تخلف عن وليِّها الوصفُ الذي مِن أجله أقامه الشرع وليًّا.

ومن هنا فقد نصت الفتوى المنضبطة على منع زواج القاصرات؛ ففي فتاوى دار الإفتاء المصرية: «إنا نختار -والحالة كما شرحنا- من مذاهب الأئمة التي تؤكد أننا نميل إلى بطلان هذا النمط من عقود الزواج لعدم توافر الشروط والأركان الحقيقية للزواج؛ حيث لا يَزُجُّ بابنته في مثل هذه المسالك إلا فاسقٌ ظاهرُ المجانةِ ساقطُ العدالةِ، فهو زواجٌ من غير ولي مُعْتَدٍّ به شرعًا، فيكون باطلًا، كما نميل إلى اعتبار هذه الوقائع لمآلاتها استغلالًا جنسيًّا ينبغي أن يعاقَب عليه فاعلُه والوالدان والوسيط وكل من سهله أو سعى في إتمامه على هذا النحو الذي لا يرضاه الله ولا رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا المؤمنون»([27]).

المطلب الثاني: العدول عن الخطبة([28]):

لعل من أكبر المشكلات الأسرية فيما قبل الزواج مشكلة العدول عن الخطبة؛ فالأصل أنه لا ينبغي لأيّ من الخاطب والمخطوبة أن يتحلّل من الخطبة إلا لمصلحة مشروعة؛ كنقص ظهر له في دين الآخر أو خلقه أو اعوجاج مسلكه أو لأمر نفسي يصعب احتماله. وحكم هذا العدول والتحلل هو الكراهة الشرعية؛ وذلك لما فيه من خُلْفِ الوعد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤْتُمِنَ خان»([29])، وعن عبد الله بن عمروٍ -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤْتُمِنَ خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»([30])، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُمَارِ أخاك ولا تُمَازِحْهُ، ولا تعده موعدةً فَتُخْلِفَهُ»([31])، وقد أجمع الفقهاء على أن من وعد إنسانًا شيئًا -ليس بمنهي عنه- فينبغي أن يفي بوعده، كما ينبغي عدم التحلّل من هذا الوعد حذرًا من الدخول في الوعيد الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ»([32]).

ويترتب على العدول عن الخطبة بعد تقديم الخاطب بعض الأشياء العينية لخطيبته إشكالًا في استحقاق أيٍّ منهما هذه الأشياء([33])، وتنظِّم فتوى كل بلدٍ هذا الاستحقاق بما يتوافق مع أعرافها؛ حيث إن العرف في هذا السياق هو مصدر الحكم؛ فجاء في فتاوى دار الإفتاء المصرية على سبيل المثال: “إن الخِطبة وقراءة الفاتحة وقبض المهر وقبول الشبكة والهدايا كل ذلك من مقدمات الزواج ومن قبيل الوعد به ما دام عقد الزواج لم يتم بأركانه وشروطه الشرعية، وقد جرت عادة الناس بأن يقدموا الخِطبـة على عقد الزواج لتهيئة الجو الصالح بين العائلتين.

فإذا عدل أحد الطرفين عن عزمه ولم يتم العقد فالمقرر شرعًا أن المهر إنما يثبت في ذمة الزوج بعقد الزواج، فإن لم يتم فلا تستحق المخطوبة منه شيئًا، وللخاطب استرداده، أما الشبكة التي قدمها الخاطب لمخطوبته فقد جرى العرف على أنها جزء من المهر؛ لأن الناس يتفقون عليها في الزواج، وهذا يخرجها عن دائرة الهدايا ويلحقها بالمهر، وقد جرى اعتبار العرف في التشريع الإسلامي؛ لقوله تعالى: {خُذِ العَفوَ وأمُر بالعُرفِ} [الأعراف: 199]، وقد جاء في الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه: “ما رَأى المُسلِمُونَ حَسَنًا فهو عندَ اللهِ حَسَنٌ، وما رَأَوا سَيِّئًا فهو عندَ اللهِ سَيِّئٌ” أخرجه أحمـد والطيالسي في مسنديهما، فالشبكة من المهـر، والمخطوبة المعدول عن خطبتها ليست زوجة حتى تستحق شيئًا من المهر، فإن المرأة تستحق بالعقد نصف المهر وتستحق بالدخول المهر كله.

وبناءً على ذلك فإن الشبكة المقدمة من الخاطب لمخطوبته تكون للخاطب وله استردادها إذا عدل الخاطبان أو أحدهما عن عقد الزواج، وليس للمخطوبة منها شيء، ولا يؤثر في ذلك كون الفسخ من الرجل أو المرأة.

وأما تكاليف حفلة الخطبة فالأصل أنها تبرعٌ ممن تكلف بها ما لم يتم الاتفاق على المشاركة فيها تحسُّبًا لما قد يحصل بعد ذلك من العدول عن الزواج، فإن لم يحصل الاتفاق بين الطرفين على المشاركة في تحمل تكاليفها فهي هبةٌ ممن قام بها لا يُلزم الطرف الآخر منها بشيء.

ولما كانت الخِطبة مجرد وعد بالزواج غير مُلزِم بإتمامه لأيّ من الطرفين، وكان كل طرف له كامل الحق بالتراجع وقتما يرى ذلك مناسبا له، لما كان الأمر كذلك وجب احتراسُ كلِّ طَرَفٍ مِن تراجع الطرف الآخر، بمعنى أنه إن أنفق شيئا فهو ينفقه وهو متبرعٌ به؛ لاحتمال تراجع الطرف الآخر، فإذا أراد أن يكون الطرف الآخر مشاركا له في التكاليف فعليه اشتراط ذلك قبل الإنفاق؛ ليكون الطرف الآخر حينئذٍ ملزما بمقتضى موافقته على المشاركة في التكاليف، لا بمجرد الوعد بالزواج القابل للتراجع بلا نكيرٍ من الشرع أو العرف”([34]).

 

 

المبحث الثاني: الخلاف بين الزوجين:

ويشتمل على مطلبين:

المطلب الأول: ضوابط التعامل عند الخلاف بين الزوجين.

المطلب الثاني: الإصلاح بين الزوجين.

 

 

المطلب الأول: ضوابط التعامل عند الخلاف بين الزوجين:

إن النفوس البشرية مختلفة بطبائعها؛ وهو ما قد يؤدي إلى الخلاف بين الأفراد، وخاصة عند التلاقي والاحتكاك المباشر المتكرر، وكثيرًا ما يحدث هذا بين الزوجين للصلة الدائمة بينهما؛ ولذا كان من الأهمية بمكان وجود ضوابط تحكم هذا الخلاف حرصًا على العلاقة الزوجية من الانهدام والتفكك، وحرصًا على الحدّ الأدنى من العلاقات الإنسانية بين الطرفين، وقد وضعت الشريعة ضوابط للخلاف بين الزوجين؛ منها أنه لابد في وسائل التعبير عن النفس بين الزوجين من عفة اللسان عن التقبيح والشتم؛ قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} [الحجرات: 11]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «… لا تقولوا هجرًا»، يعني لا تقولوا سوءًا([35]). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان الفحش في شيءٍ إلا شانه، وما كان الحياء في شيءٍ إلا زانه»([36])، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء»([37])، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة، إن الله لا يحب الفاحش المتفحش»([38]).

كما لا يجوز استعمال العنف في الخلاف بين الزوجين؛ فالثابت في الأحاديث النبوية وتطبيقاتها العملية أن الضرب في البدء كان حكمه التحريم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بعدم ضرب النساء، فعن إياس بن عبد الله بن أبي دباب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تضربوا إماء الله»، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن([39]) النساء على أزواجهن؛ فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ يشكون أزواجهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد طاف بآل محمدٍ نساءٌ كثيرٌ يشكون أزواجهن: ليس أولئك بخياركم»([40]).

إن الطريقة الصحيحة للتعامل مع الخلافات الزوجية أنه يجب أن يبقى الخلاف بعيدًا عن نظر الأطفال؛ حرصًا على سلامة تربيتهم النفسية والسلوكية، وأن تبقى الأسرار الزوجية سرًا مكتومًا بينهما لا يطلع عليه أحد، ثم يحاولان حلّ هذه الخلافات بالتفاهم بينهما، ولا تستبدّ بهما العواطف وتجرّهما إلى العزة بالنفس دون الحفاظ على رابطة الأسرة، وقد جعل الإسلام العشرة بالمعروف فريضة على الرجال -حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة- فما يدريه أن هنالك خيرًا مخبوءًا كامنًا فيما يكره، لعله سيلاقيه -إن كظم انفعاله واستبقى هدوءه- قال الله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} [النساء: 19]، هذا الصبر والتأني المؤدي للحفاظ على عقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر أو نزوة([41]).

المطلب الثاني: الإصلاح بين الزوجين([42]):

إن عجز الزوجان عن التوافق واستحكم الخلاف فما زال هناك طاقة أمل للحفاظ على رابطة الأسرة من التفكك -وهي وسيلة عزيزة في الإسلام- وذلك بإرسال حكمين ذكرين عدلين فقيهين عالمين بالجمع والتفريق: حكمٍ من أهلها ترتضيه، وحكمٍ من أهله يرتضيه، يجتمعان في هدوء، بعيدين عن الانفعالات النفسية، التي كدرت صفو العلاقات بين الزوجين، حريصين على سمعة الأسرتين، مشفقين على الأطفال الصغار، بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر، راغبين في الإصلاح وإزالة أسباب الشقاق، مؤتمنين على أسرار الزوجين؛ لأنهما من أهلهما، ولا مصلحة لهما في التشهير بها.

فيجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح، فإن كان في نفسي الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح، فإنه بمساعدة الرغبة القويّة في نفس الحكمين، يقدِّر الله الصلاح بينهما والتوفيق، قال الله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما إن الله كان عليمًا خبيرًا} [النحل: 125].

إن أسباب الخلاف والنزاع بين الزوجين كثيرة، ولكن غالبًا ما تكون هذه الخلافات في بداياتها اختلافات سهلة يسيرة في وجهات نظر ويمكن تلافيها لو أحسن الزوجان التصرف وراعوا حق الآخر واتبعوا أوامر الله سبحانه وتعالى، ولكن الشيطان لا يدع ابن آدم، ويجري منه مجرى الدم، وهذه فرصة لا يفوتها، ولا يتوانى هو وأعوانه من النفس الأمارة بالسوء والهوى المتبع وأهل الإفساد والشر والنميمة في إيقاع البغضاء بين الناس وإذكاء نار العداوة حتى تتحول هذه الشرارة إلى فتنة عظيمة وشر مستطير لها عواقبها الوخيمة؛ فيعمل الشيطان على نشر سوء الظن فيقع الإثم وتحل القطيعة ويفرق الشمل، بل بسبب أمثال هذه الخلافات قد تهتك الأعراض وتسفك الدماء وتنتهك الحرمات ويتحول الحال؛ فبعد المحبة تكون العداوة، وبعد القرب تكون القطيعة، ويصبح الإخوة أعداء، والأزواج متفرقين، وأصدقاء الأمس أعداء اليوم والمستقبل، ويفسد ذات بينهم وتقع الحالقة التي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والطريق الذي شرعه الله سبحانه وتعالى وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى منع أمثال هذه النزاعات من الوصول إلى هذا الحال هو اتباع سبيل إصلاح ذات البين؛ يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا} [النساء: 114].

وإصلاح ذات البين هو السعي والتوسط بين المتخاصمين لأجل رفع الخصومة والاختلاف عن طريق التراضي والمسالمة تجنبًا لحدوث البغضاء والتشاحن وإيراث الضغائن، وإنما يكون السعي بين الناس بغرض الإصلاح بأن ينمي الساعي خيرًا ويقول خيرًا، وهو بذلك يكون عكس النمام الذي يسعى بين الناس بغرض الإفساد.

ويجب أن نعرف الفرق بين الإصلاح بين الناس والوساطة؛ فهما كلمتان متطابقتان في المعنى؛ إلا أن الإصلاح مصطلح شرعي والوساطة مصطلح إداري قانوني، وكل منهما يناسب أن يعرَّف به الآخر، وقد ذكرنا معنى الإصلاح، أما الوساطة بتعريفها الإداري فهي أسلوب من أساليب الحلول البديلة لفض النزاعات يقوم بها شخص محايد يهدف إلى مساعدة الأطراف المتنازعة للاجتماع والحوار وتقريب وجهات النظر وتقييمها لمحاولة التوصل إلى حل وسط يقبله الطرفان.

وبذلك نعرف أن الوساطة هي قيام شخص محايد من أصحاب الخبرة والكفاءة والنزاهة بتوظيف مهاراته المستحدثة في إدارة المفاوضات من خلال مجموعة من الإجراءات السرية لمساعدة أطراف النزاع على تقريب وجهات نظرهم وتسوية نزاعاتهم بشكل ودي قائم على التوافق والتراضي بعيدًا عن التقاضي؛ فهي مهمة تسهيل الاتصال بين الأفراد لإيجاد الحلول لنزاعاتهم.

ويقوم الصلح على تنازل من الطرفين عن بعض الحق لأجل الإصلاح، ويبين القاضي إياس بن معاوية المعنى الدقيق للإصلاح بين الناس والفرق بينه وبين ما يشبهه من ألفاظ؛ فقد ورد عن بعض جلسائه أنه قال: كنت جالسًا عند إياس بن معاوية؛ فأتاه رجل فسأله مسألة فطول فيها؛ فقال إياس: إن كنت تريد الفتيا فعليك بالحسن معلمي ومعلم أبي، وإن كنت تريد القضاء فعليك بعبدالملك بن يعلى، وإن كنت تريد الصلح فعليك بحميد الطويل، وتدري ما يقول لك؟ يقول لك: حط شيئًا. ويقول لصاحبك: زده شيئًا؛ حتى نصلح بينكما. وإن كنت تريد الشغب فعليك بصالح السدوسي، وتدري ما يقول لك؟ يقول لك: اجحد ما عليك. ويقول لصاحبك: ادع ما ليس لك وادع بينة غيبًا([43]).

أولًا: أفضلية الصلح على القضاء:

إن القضاء كما هو معلوم من أهم الطرق لإنهاء الخصومة وقطع النزاع وتأدية الحقوق إلى أهلها في كثير من الحالات؛ ولكن هذا السبيل محصور في فئة القضاة، ولا يسمح به إلا لهم، وعددهم قليل، وقضاياهم لا حصر لها، ولا مجال للتطوع فيه أو المبادرات.

كما أن القضاء له أماكن معينة وإجراءات كثيرة وعلانية غير محببة إلى أطراف النزاع؛ والتي بسببها قد يفضل المتخاصمين القطيعة أو الهجر وإبقاء الخصومة وتأجيل المصالحة أو أية سبل أخرى على رفع أمرهم إلى القضاء.

وكذلك كثيرًا ما يزيد رفع الخصومة إلى القضاء في القطيعة خاصَّةً بين الأقارب أو الجيران؛ قال عمر رضي الله عنه: “إن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن”([44]).

كما أن القاضي لا يتدخل ولا ينظر في القضايا إلا بعد رفع الدعاوى من أحد الخصوم؛ أما قبل ذلك فلا، وكما هو معلوم ليس كل من تقع بينهم العداوات والخصومات يرفعونها إلى القضاء.

والسبيل الأمثل إذا حدثت خصومة أو عداوة بين أقارب المسلم أو جيرانه أو أصدقائه من حوله وخاف تفاقم الأمر وساءه ما يرى وحرص على تصفية القلوب ولم يكن قاضيًا وأراد سبيلا للتدخل بستر ومراعاة لخصوصية البيوت والأشخاص؛ فالسبيل الأمثل إلى ذلك هو طريق المصلحين؛ فهذا سبيل في متناول الجميع وليس محصورًا بأحد، ولا يرد عنه راغب سواء كان قريبًا أو جارًا أو صديقًا أو أيًّا كان.

فيستطيع المسلم التدخل بسرية ومراعاة للخصوصية مستعينًا بالله وملحًّا له بالدعاء أن يوفقه لتسوية النزاع ويرزقه الإخلاص في القول والعمل لوجهه تعالى متسلحًا بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والنصيحة الصادقة؛ فيلطف الأجواء ويصفي القلوب ويزيل أسباب الخصام ويوفق بين الآراء حتى يكون الاتفاق ويحل الوفاق ويتم التراضي والوئام.

وهذا السبيل سبيل المصلحين وله آثار أفضل على المتخاصمين في إنهاء الخصومة بالتراضي أفضل بكثير من القضاء في كثير من الحالات، وله إلزامية الحكم ونفوذه مثل حكم القاضي إذا اتفقوا وتراضوا بشرط مكتوب موثق بعد التصالح إذا كانت هناك أية استحقاقات؛ فيكفي أن تُعتمد فقط من طرف القاضي.

ثانيًا: أهمية إصلاح ذات البين وفضله:

لأن الإسلام حرص على وحدة المسلمين وأكد على أخوتهم وأمر بكل ما فيه تأليف لقلوبهم ونهى عن كل أسباب العداوة والبغضاء فقد أمر بالسعي وإصلاح ذات البين بين المتخاصمين وحث عليه وجعل درجته أفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة؛ قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} [الحجرات: 10]، وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم السعي في الإصلاح بين الناس، وكان يعرض الصلح على المتخاصمين، وقد باشر الصلح بنفسه حين تنازع أهل قباء فندب أصحابه وقال: “اذهبوا بنا نصلح بينهم”([45])، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي من يوليه ويقول: “ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن”([46])، وكذلك كان السلف رحمهم الله حريصين على هذا الخير ساعين فيه؛ يقول الأوزاعي رحمه الله: “ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين”([47])، وكان الرجال العظام والمشايخ وأصحاب الجاه في السابق من أفراد كل قرية يندبون أنفسهم لهذا العمل ويعتبرونه من تمام الشرف والعز.

وفي هذا الزمان تتأكد أهمية السعي لإصلاح ذات البين الذي كان وظيفة الأنبياء والعلماء والصالحين، والذي كان عادة للمشايخ والرجال العظام، وكان هدفًا ومقصدًا لكل صالح مصلح محب للخير بين الناس، وذلك لأن السعي لإصلاح ذات البين يقطع النزاع وينهي العداوة والبغضاء ويجلب المودة والتآلف بين القلوب.

إن رفع القضايا إلى المحاكم خاصة إذا كانت بين ذوي قربى أو ذوي هيئات من الناس له ضرر كبير؛ لأنه قد يحل النزاع المادي، ولكن يبقى النزاع النفسي قائمًا بين المتخاصمين، وتبقى البغضاء والكراهية والعداوة، أما السعي للإصلاح، وخاصة إذا كان بين ذوي القرابة والجوار، والمبادرة إلى التدخل والإصلاح بين الناس إذا عُلم بخصومة بينهم، وعدم تركهم لأهل الشر والإفساد والنميمة، وتشجيع الناس عند حضور الخصومة إلى التصالح والوفاق، كل ذلك طريق إلى حل النزاع مع نشر المودة والإخوة بين أفراد المجتمع.

وليتم ذلك يجب إدراك كيفية الإصلاح بين المتخاصمين بالعدل، ومراعاة قواعد وآداب الإصلاح بين الناس، والتعرف على أساليب وطرق ومهارات السعي بالإصلاح.

ومن الآيات التي جاءت في فضل الإصلاح بين الناس قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر اللّه فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنّ اللّه يحبّ المقسطين إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا اللّه لعلّكم ترحمون} [الحجرات: 9، 10]، وقال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} [النساء: 114]، وقال تعالى: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} [الأعراف: 170].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الإصلاح بين الناس: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى. قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة؛ لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين”([48]).

ويقول عليه السلام: “اشفعوا تؤجروا”([49])، ويقول صلى الله عليه وسلم: “كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة”([50]) أي تصلح بينهما بالعدل، ويقول: “أفضل الصدقة إصلاح ذات البين”([51]).

وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما عمل ابن آدم شيئًا أفضل من الصلاة وصلاح ذات البين وخلقٍ حسن»([52])، وفي الحديث المشهور: «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كُرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»([53]).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء»([54]).

ثالثًا: ضوابط الإصلاح بين الزوجين:

إن مجالات وميادين الإصلاح بين الناس كثيرة، وحيثما يكون خلاف فإن الإصلاح مندوب؛ سواء كان الخلاف بين أزواج أو أقارب أو جيران أو أصدقاء أو مجموعات من عائلات أو غيرها، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من نماذج الإصلاح بين الناس يمكن الاسترشاد بها في تحديد مجالات وميادين الإصلاح وضوابطه وآداب المصلح.

ولقد عرفت الشريعة الإسلامية نظام الوساطة والتحكيم منذ أربعـة عشـر قرنـًا، وقبـل الجهود الدولية الحديثة كطرق سلميَّة لحل النزاعات الناشئة بين الأفراد والجماعات والـدول، فقـد اسـتخدم الرسـول صلى الله عليه وسلم أسـلوب الحـوار والنقـاش والجـدل بـالتي هـي أحسن.

ومن أكثر الميادين أهمية وأكبرها تأثيرًا على استقرار المجتمع مجال الإصلاح بين الأزواج والزوجات.

وتعتبر الوساطة الأسرية من الوسائل البديلة لتسوية النزعات الأسـرية؛ حيـث تعتـبر آلية لحل النزاعـات بشـكل ودي، ومرحلـة متقدمـة مـن مراحـل التفـاوض تسـهل التفـاهم والتواصـل والحوار بين الطرفين المتنازعين؛ سعيًا للوصول إلى تسوية النزاع.

وتحدث الوساطة الأسريَّة عندما يتم الجمـع بـين الـزوجين المنفصـلين الـذين لا يسـتطيعان الاتفـاق علـى مـا يجـب أن يحـدث أثنـاء الانفصـال أو الطـلاق للتفـاوض والتوصـل إلـى اتفـاق، ويـدير الاجتمـاع وسـيط محـترف، ويسـتمع الوسـيط إلـى كـلا الجانبين، ويحاول مساعدة الزوجين على التوصل إلى اتفاق يناسب جميع المعنيين. ويمكـن أن تسـاعد هذه الوسـاطة في حـل المشـاكل قبـل وصـولها إلـى المحكمـة.

والأصل في جواز الوساطة قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].

قال السرخسي: «والصحابة رضي الله عنهم كانوا مجمعين على جواز التحكيم»([55]).

قال الإمام الصاوي المالكي: «ثم إن استمر الإشكال والنزاع بعث الحاكمُ حكمين من أهلهما: أي حكمًا من أهله، وحكمًا من أهلها إن أمكن لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطيب للإصلاح، ونفوس الزوجين أسكن إليهما، فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض، وإرادة الفرقة أو الصحبة، فإن لم يمكن فأجنبيين»([56]).

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى في الصلح بين الأزواج وفض النزاعات بينهم؛ فمن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما جاء إلى بيت فاطمة فلم يجد عليًّا في البيت فقال: “أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: «انظر أين هو». فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: «قم أبا تراب، قم أبا تراب»([57]).

وعلى نحو السعي في هذا المجال العمل كذلك لوصل قطع الرحم بإزالة الخلاف وإعادة الالتحام والمودة بين الأسر المتناحرة.

ومن مجالات الإصلاح بين الناس أيضًا السعي بالصلح بين الجماعات، وهو مجال واسع، وفي أيامنا هذه نرى الكثير من النزاعات بين الجماعات والعائلات، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهب لفض النزاعات بين الجماعات والصلح بينهم؛ ومن ذلك ما حدث بين أهل قباء؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة؛ فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: “اذهبوا بنا نصلح بينهم”([58]).

ومن نماذج إصلاحه صلى الله عليه وسلم في النزاع والخصومات ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهم، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء وهو يقول: والله لا أفعل. فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟” فقال: أنا يا رسول الله وله أيُّ ذلك أحب ([59]).

ومثال الإصلاح في ميدان الأموال والدماء والخصومات في زماننا فض المنازعات في قضايا الأموال والأراضي والعقارات والتعديات، والقضايا الزوجية والأسرية وغيرها.

ويُشرع السعي في الإصلاح إذا أشكل الحق على القاضي ولم يتبين المصيب من المخطئ منهما وتقاربت الحجتان، وكذلك إذا كانت الخصومة بين فئات كبيرة من الناس كالعائلات وخشي من فصل القضاء تعاظم المشكلة، وكذلك إذا علم أن القضاء أو الحكم القضائي بغير الإصلاح لا ينهي الإشكال ولا يعود بفائدة على الخصوم.

ويمتنع الصلح إذا تبين أن أحد الخصوم ظالم ومعتد في خصومته وأن قصده الإضرار بالآخرين ونهب حقوقهم؛ فعندئذ يحرم السعي في الصلح إلا أن يراد النصح والتخويف بالله؛ فإن أبى فيجب أن يترك للقضاء حتى يرتدع الظالم عن فعله ويعاقب؛ وذلك لأن الصلح تنازل من الطرفين وتجاوز عن بعض الحق فإذا أعطي الظالم وتنازل له المظلوم عن بعض حقه نكون قد أعنا الظالم على المظلوم وكافأناه على ظلمه، وكان في هذا الصلح سبيل للتحايل لأخذ حقوق الناس بغير وجه حق.

 

خامسًا: صفات المصلح وآدابه.

على الساعي بالإصلاح أن يستشعر أن هذا الإصلاح عبادة يقوم بها استجابة لأمر الله {وأصلحوا ذات بينكم} [الأنفال: 1] ومخلصًا له وطالبًا لمرضاته {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا} [النساء: 114] ومحتسبًا الأجر من الله فإن الله لا يضيع أجر المصلحين.

ويجب أن يكون هذا الساعي متخلقًا بالخلق الحسن والدين محافظًا على نفسه من الوقوع في المحرمات أو المجاهرة فيها تقيًّا متصفًا بالأخلاق الكريمة مبتعدًا عن الأخلاق السيئة لا يغتاب ولا ينم؛ لأن الغيبة والنميمة إفساد، والإفساد والإصلاح لا يجتمعان.

وأن يتصف بروح المبادرة والحرص على نشر الخير من تلقاء نفسه وعدم انتظار دعوة للتوسط، وأن يتحلى بالحلم وسعة البال والصبر والتأني وعدم العجلة.

وأن يكون ذا علم شرعي عالم بما يحل ويحرم والشروط والأحكام خاصة في مجال الخصومة؛ خبيرًا في مجال النزاع عالمًا بالوقائع محيطًا بالقضية وملابساتها باحثًا عن مسبباتها عارفًا بطرق معالجة المشكلات ووضع الحلول والتسويات العادلة المقترحة؛ سواء كانت في مجال المشاكل الزوجية أو العقار أو الديون.

ويجب أن يتمتع الساعي بالإصلاح بين الناس بمهارات ممتازة في التواصل مع الآخرين وفي التعامل مع الناس بمختلف فئاتهم ومستوياتهم، وكذلك بالقدرة على الإقناع والتأثير على الآخرين،
مع حسن الاستماع والإنصات وتقديم النصيحة والمشورة.

ويجب على المصلح أن يتحرى الحياد والموضوعية، وهذه من أهم الصفات وأكثرها تأثيرًا في عملية الإصلاح؛ لذلك وجب أن يحرص على أن ينظر إليه الطرفان بوصفه شخصًا محايدًا لا يميل مع أيهما حتى لو كان أحدهما قريبًا أو صديقًا أو ذا علاقة معه، وإذا كانت له علاقة مع أحدهما فيجب أن يوضح من البداية أن هذه العلاقة لا دخل لها ولا تأثير في هذا النزاع، ويجب أن يسعى إلى ترسيخ هذا المفهوم؛ لأن الميل يفقده الفاعلية والقدرة على الإقناع والتأثير.

وعليه أن يتحرى العدل؛ قال تعالى: {فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9]، وذلك لأن كثيرًا من الناس لا يعتمد العدل في الصلح بل يصلح صلحًا جائرًا ظالمًا فيصلح بين القادر المعتدي والخصم الضعيف المظلوم بما يرضى به القادر صاحب الجاه ويكون له فيه الحظ، ويقع الظلم على الضعيف ويظن أنه بهذا قد أصلح.

ومن آداب الساعي بالإصلاح بين الناس أن يكون لطيفًا وأن يحرص على استعمال الأسلوب الحسن والحكمة والبصيرة والبعد عن العبارات الجارحة حتى مع العصاة؛ فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم، والقصد من التلطف هو إصلاح العوج وسد الخلل وبيان الصواب والقيام بواجب الإصلاح من غير أذى.

ومن آداب المصلح أيضًا: المحافظة على أسرار المتخاصمين؛ فذلك من الأخلاق التي يجب على المصلح أن يأخذ بها وألا يسمح لنفسه بالتفريط في شأنها؛ أما إذا احتاج إلى إفشاء شيء من ذلك لمن يعنيه الأمر أو لمن يمكن الإفادة من رأيه فذلك داخل في الإصلاح.

سادسًا: المبادئ العامة للسعي بالإصلاح:

إن هناك عدة قواعد وأساسيات يجب على الساعي بالإصلاح بين طرفي خصومة ما أن يتبعها عند العلم بالخصومة وقبل البدء بالسعي في الإصلاح، وهذه المبادئ العامة إجمالا هي العلم بجوانب الخصومة ومراعاة آداب الإصلاح بين الطرفين وإيمان المصلح بين الطرفين بعمله وإصراره عليه مع رضاه بالنتيجة التي يقدرها الله سبحانه وتعالى وإيمانه بأن توفيقه لا يكون إلا من الله عز وجل.

  • العلم بجوانب الخصومة.

أول الأساسيات التي يجب على المصلح أن يتبعها قبل البدء في السعي لحل الخصومة بين أطراف النزاع أن يتيقن وقوع الخصومة؛ فلابد على الراغب في الإصلاح بين الخصوم أن يكون على علم متيقن بوقوع الخصومة، ولا يهب للإصلاح بمجرد خبر جاءه؛ فإن غالب الناس لا يحب أن يتدخل أحد في شئونه، وقد يسبب خطؤه هذا وقوع إشكالات اجتماعية بين الأفراد المحيطين بالطرفين اللذين أراد السعي للإصلاح بينهما.

وكذلك على الساعي في الإصلاح بين الناس إذا أراد الدخول في قضية ما أن يكون على تصور عام بها؛ إذ كيف يدخل في مجاهل وإشكالات لا يدرك أبعادها ولا يحيط بمسالكها علمًا؟!

فيجب ألا يعتمد المصلح إلا على الحقائق الثابتة لا على العواطف والتخمينات والآراء والإشاعات أو المشاعر؛ فهذه رغم أنها أشياء مؤثرة في القضية إلا أنها تعتبر ثانوية للمشكلة في حد ذاتها وعرضة للإنكار والرفض؛ أما الحقائق فمن الصعب الجدل بشأنها.

ويجب أن يضع في حسبانه دائمًا أن السبيل إلى الإصلاح بين المتخاصمين وإنهائه تمامًا هو معرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى نشوب الخصام؛ فإن استطاع أن يعرفها ويعالجها بشكل يرضي الطرفين كان ما بقي سهلا وضمن بذلك أن يدوم الصلح بينهما؛ أما إذا قام فقط بوعظهم ونصحهم والإلحاح عليهم بمكانته عندهم فقد يستجيبون له حياء ويتصالحون صلحًا صوريًّا ثم ما يلبث أن يرجع الخصام مثلما كان وأشد.

ومما يجب التنبيه إليه أن أطراف النزاع قد يجدون صعوبة في تقديم المعلومات أو إيضاح الأسباب الحقيقية التي ليست في صالحهم؛ فعليه اكتشافها بنفسه واختبار المعلومات المقدمة له بطريقته.

فلابد إذًا من تصور القضية ومعرفة أطرافها وأحوال أصحابها، وما يحيط بها من غموض وظروف، ثم بعد ذلك ينظر في إمكانية الدخول فيها.

وإمكانية الدخول في القضية من القواعد التي يجب على المصلح أن يراعيها قبل البدء بالسعي في الإصلاح؛ فإذا تصور المصلح القضية تصورًا عامًّا نظر في إمكان الدخول فيها، وجدوى السعي في حلها، وقد يحتاج إلى الاستشارة والاستخارة؛ فربما تكون القضية فوق طاقته، وربما يكون دخوله فيها كعدمه، بل ربما لحقه ضرر دون أدنى فائدة، ومن هنا كان التحري والتروي وحسن النظر واجبًا قبل الدخول في القضية.

  • مراعاة آداب الإصلاح.

هذا بخصوص الإحاطة بجوانب الخصومة، أما المبدأ الثاني الذي يجب أن يتبعه الساعي في الخصومة بين الناس قبل البدء في السعي فهو مراعاة آداب الإصلاح، وهي آداب كثيرة؛ تبدأ باختيار الوقت المناسب للصلح وعدم العجلة؛ فيجب على المصلح اختيار الوقت المناسب للصلح بين المتخاصمين حتى يؤتي الصلح ثماره ويكون أوقع في النفوس، وأحيانًا يفضل أن لا يبدأ بالإصلاح حتى تبرد القضية وتخف حدة النزاع وينطفئ نار الغضب، ثم بعد ذلك يصلح بينهما؛ لكن إذا تطلب الأمر أن يتدخل سريعًا فعليه بتهدئة النفوس وجبر الخواطر ونزع فتيل الغضب أولا.

ويجب أن يكون الحديث والسعي في الإصلاح على مراحل متدرجة وجرعات تبدأ خفيفة ثم تكثف بعد ذلك؛ فيستحسن التمهيد للموضوع وجس النبض، ثم المعاودة بعد مدة من الزمن، ثم يكثف الجهد بعد ذلك؛ ويتأكد التدرج في القضايا المستعصية والخصوم المتعنتين.

وإن كلَّ طرف من الأطراف يزعم أنه على حق وأن صاحبه على باطل؛ فيحتاج كلُّ واحد منهما إلى مَنْ يَستمع إليه ويرفق به ويأخذ ويعطي معه؛ بل إن بعض الخصوم يكفيه أن يفرغ ما في نفسه من غيظ أو كلام؛ فيشعر بعد ذلك بالراحة ويكون مستعدًّا لما يُراد منه.

وإن من الخير في باب الإصلاح بين الناس أن يسلك به المصلح مسلك المسارّة فإن من الناس من يصر على أن تكون المبادرة من خصمه وآخر يتأذى من نشر مشاكله أمام الناس، ومن المعلوم أنه كلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه فلذلك تفضل النجوى في الإصلاح؛ قال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء: 114].

ويجب على المصلح أن يتحلى بالوضوح والصراحة تجاه طرفي النزاع؛ والمقصود بالصراحة ألا يساير أحدًا من الخصمين على باطل، وألا يَعِدَ أحدًا منهما وعدًا وهو غير قادر على إنفاذه، إلى غير ذلك مما يستلزم الوضوح والصدق. وليس من شرط ذلك أن يشتد المصلح أو أن يواجه الخصوم بما يكرهون بحجة أنه صريح؛ بل يحرص على أن تكون صراحته مغلفة بالأدب واللباقة، وأن تكون كلماته خفيفة؛ كما لا ينافي الصراحةَ تنميةُ الخير، واستعمال المعاريض والعبارات الواسعة التي تُصلح وتقرب؛ بل قد أذن الشارع للمصلح بنوع من الكذب في العبارات وفي الأمور التي توفق وتقرب وتخفف من شدة العداوة وتحببهم إلى بعضهم البعض؛ قال صلى الله عليه وسلم: “ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا”([60]).

ومن أمثلة ذلك أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقوالهما بما يحقق التقارب ويزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأحيانًا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما، وينسب إلى كل منهما من الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله؛ مثل أن يقول: “فلان يسلم عليك ويحبك وما يقول فيك إلا خيرًا” ونحو ذلك؛ فيجب على المصلح مراعاة الخواطر وتهدئة النفوس؛ ويندرج تحت ذلك أمور كثيرة، وربما كان بعضها صغيرًا لكنه قد يغير مسار القضية تمامًا.

ومن باب تهدئة نفوس أطراف النزاع تجنبُ بعضِ الكلمات الجافية المثيرة واستعمالُ العبارات اللائقة الجميلة التي تبهج النفس وتشرح الصدر، ويدخل في ذلك اللمسةُ الحانيةُ والبسمةُ الصادقة ويدخل فيه استثارة النخوة وتحريك العاطفة؛ بل قد يدخل فيه العتب والغضب إذا كان ذلك في محله وممن يليق منه ذلك، ويدخل في ذلك مراعاة العادات وفهم الطبائع والنفسيات؛ فهذه الأمور وما جرى مجراها من جملة ما يحتاجه المصلح.

ومن آداب التعامل مع أطراف النزاع إنزالهم منازلهم ومناداتهم بأحب أسمائهم إليهم، والحذر من انتقاصهم أو الحطّ من أقدارهم، وكذلك الحذر من الوقيعة بأحد الخصمين عند الآخر حتى لو كان ذلك مجاملة ومسايرة لخصمه؛ فهذا مناف لما يجب على المصلح أن يتصف به، وهو ضرب من الغيبة المحرمة، ولأنهما ربما اصطلحا فأخبر كل واحد منهما بما قاله المصلح في صاحبه؛ فيحصل المصلح على الضرر من غير ما فائدة، وقديمًا قيل:

كم صاحبٍ عاديتَه في صاحبٍ               فتصالحا وبقيتَ في الأعداء

وفي كل الحالات على المصلح دائمًا الوعظ والنصيحة وتذكير الخصوم بعاقبة الخصومة وما تجلبه من الشقاق وتوارث العداوات واشتغال القلوب وغفلتها عن مصالحها. ويذكرهم كذلك بالعاقبة الحميدة للصلح في الدنيا والآخرة ويسوق لهم الآثار الواردة في ذلك كقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، وكقوله: {وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ} [آل عمران: 134]، وكقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. ويسوق لهم قصصًا لأناس عفوا فحصل لهم من العز والخير ما حصل؛ فذلك يبعث النفوس إلى الإقصار عن التمادي في الخصام. ولا بأس بالإطالة في النصح والوعظ والإكثار من ذكر الآيات والأحاديث إذا دعت الحاجة لذلك.

  • الإيمان بالعمل والرضا بنتيجة السعي.

وليعلم الساعي أن الناس تختلف أحوالهم في تعاملهم عند النزاع والخصومة فمنهم المتعنت الصلب ومنهم اللين السهل ومنهم الصادق ومنهم الكاذب ومنهم من يتأثر بالمواعظ والأحاديث وثواب الآخرة ومنهم من تؤثر فيه المصالح الدنيوية أو المال أو الإكرام والتقدير وهكذا؛ فيجب على المصلح مراعاة ذلك ومعاملة كل خصم بما يؤثر فيه، وليصبر على أطراف النزاع ولا يتعجل النتيجة؛ فربما حاول المصلح المحاولة الأولى وبذل وسعه في معالجة المشكلة فأخفقت؛ فإن كان قصير النَّفَس ضيق الصدر يأس من العلاج وترك المحاولة إلى غير رجعة؛ فيجب أن يحذر المصلح من يأسه هذا وليأخذ بسياسة النفس الطويل ويتدرّج في مراحل العلاج مرحلة مرحلة؛ فبذلك سيوشك على الوصول لمبتغاه.

وفي كل الأحوال على المصلح المتابعة حتى النهاية لحل النزاع وعدم تركه معلقًا فيترك للشيطان الفرصة الذهبية ليعيد الخلاف والنزاع فتذهب الجهود سدى.

ولكن التوفيق أولا وآخرًا بيد الله سبحانه وتعالى فعلى المصلح بذل الوسع واستنفاد الطاقة ثم بعد ذلك يوطّن نفسه على أن محاولاته ربما لا تفلح؛ فلا يكبر عليه ذلك، ويجب أن يتيقن بأنه مأجور مثاب، وليس من شرط الإصلاح إدراك النجاح، ويجب أن يتمثل في نفسه دائمًا بقوله تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]؛ فمهما بلغ الإنسان من الكياسة والفطنة والسياسة وحسن التصرف فإنه لا يستغني عن توفيق الله ولطفه وإعانته؛ فليلجأ المصلح إلى ربه وليسأله التوفيق والتسديد واللطف؛ فإنه عز وجل يجيب من دعاه، ويعين من استعان به {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60].

ولا يكن في ظنك أن سبيل الإصلاح بين الناس ممهد ومتيسر لكل مصلح وأنه سيستجاب لك في كل ما تطلبه وتنصح به؛ بل عليك أن تعود نفسك وتوطنها على مواجهة الصعوبات والعقبات والمعوقات الكثيرة؛ والتي منها على سبيل المثال لا الحصر: تعنت الخصوم أو أحدهما وعدم تنازلهم أو تقبلهم للإصلاح، أو عدم تجاوب الخصمين أو أحدهما في إبداء الأسباب الحقيقة للنزاع، أو عدم الحضور لمحاولة تقريب وجهات النظر بينهما، أو تدخل الأقارب أو المعارف بين المتخاصمين بحسن أو بسوء نية، أو محاولة الخداع والكذب والخلط في الدعاوى.

وقد يحتاج المصلح إلى تطبيق كل خطوة من خطوات السعي في الإصلاح وإلى تجريب كل وسيلة وقد لا يحتاج إلا إلى نصيحة وكلمة طيبة فقط كل ذلك يعتمد على توفيق الله ثم تقبل الخصوم واستعدادهم للصلح وإلى طبيعة المشكلة.

سابعًا: منهج الإصلاح بين الزوجين:

إن الإصلاح بين الزوجين وبين الناس بصفة عامة له قواعد وإجراءات يحسُن بالساعي بينهم بالصلح أن يتبعها حتى يحقق هدفه ويصل إلى مبتغاه في الإصلاح بين الأطراف المتنازعة، وبقدر التزامه بهذه القواعد والآداب والإجراءات تكون نتيجة سعيه في الإصلاح بعد توفيق الله سبحانه وتعالى.

فعند البدء في الإصلاح والاتصال المبدئي بالأطراف والاجتماع بهم يجب التأكد من التعامل مع الخصوم المعنيين بالقضية أو الموكلين بمهمة التفاوض فقط، وكذلك التأكد من أن يكونوا كاملي الأهلية؛ لأن التصالح مع الصغير أو المجنون أو السكران لا يقبل، ويجب كذلك التأكد من صحة وكالة الوكيل، وأن يكون ذا علم متيقن بهم حتى لا يقع في الخطأ فيعقد الصلح مع شخص فضولي لا دخل له فيكون وجود الصلح كعدمه.

وعلى الساعي بالإصلاح تحييد وإبعاد كل من لا يريد الإصلاح أو يقف حائلا دونه وإبعاد كل من ظهر منه شغب في الخصومة ممن لا أهمية لوجوده، مع الاستعانة بمن يفيد ويرغب في إنهاء النزاع؛ سواء من أقارب الأطراف أو من أصدقائهم أو معارفهم أو من له تأثير عليهم. ويُراعى في ذلك أن يكون أولئك من ذوي الرأي والبصيرة والحكمة خاصة من عرف حرصه ورغبته في الإصلاح وحسنت نيته وصدق حاله.

وينبغي استقبال الخصوم بالبشاشة واللين ومحاولة التخفيف من حدة غضبهم والتغاضي عن الإساءات التي قد تحصل من بعضهم، واتباع الطرق الصحيحة في مناقشتهم؛ وذلك باختيار الآيات والأحاديث المناسبة والكلمات التوجيهية.

ويقوم المصلح في الاتصال المبدئي بالخصوم بمعرفة شخصيات الخصوم ونفسياتهم؛ فإن شعر بأن كل طرف يتعامل مع الحقائق ويحترم الطرف الآخر فهذا يعني أن هناك فرصة جيدة للتوصل إلى صلح سريع؛ أما إن ركز كل طرف جهده على النيل من الطرف الآخر فهذا يعني أن المصلح سيبذل جهدًا مضنيًا في مهمته.

وليكن هدف المصلح الأساسي هو الإصلاح بين الخصوم؛ والسعي إلى تحقيق ذلك يكون باتباع عدة إجراءات عملية أولها إعادة الحوار بين الطرفين؛ خاصة أن كثيرًا من الخصومات يحصل فيها قطيعة وهجر وانعدام للتواصل وبالتالي سوء فهم للمواقف.

وبعد ذلك على المصلح إقناع أطراف الخصومة بضرورة التوصل إلى حل وسط مرضي وتوضيح أن ذلك هو سبيل الإصلاح؛ أي أن يخرج الجميع متصالحين ومحققين مكاسب من اتفاقهم، والتأكيد على أن أساس الصلح وقاعدته هو تنازل من الطرفين عن بعض حقوقهما حفاظًا على بقاء حبل المودة وإزالة لأسباب العداوة والضغينة. وحمل الطرفين على التركيز على المصالح المتبادلة والأهداف المشتركة والعلاقات الوثيقة والتركيز على نقاط الاتفاق بدلا من الصراعات.

كما يجب على المصلح أن يهيئ لأطراف النزاع تفريغ كل المشاعر السلبية في منتهى السرية، مع إبداء شيء من التعاطف مع كلا الطرفين بهدف تضميد الجراح وتهدئة النفوس.

وذلك مع دفع الجانبين إلى التركيز على القضايا والحقائق بدلا من العواطف والأقاويل والإشاعات، وحمل الطرفين على التقدم بحلول مقترحة للنزاع يرضى بها الطرفان وتقريب وجهات النظر وإيجاد مربع اتفاق بين الخصوم، وإقناع الطرفين بأن الطرف الآخر يمكنه أن يرضى ويتواءم مع الاتفاق النهائي.

أما عند بداية اللقاءات فيمكن للمصلح الانفراد بكل طرف على حدة؛ فاللقاء الفردي بكل واحد من الأطراف ربما يحسن في بعض الحالات؛ حتى لا يحصل الصراع والعراك في بداية الأمر فيتعذر الإصلاح؛ فإذا حصل اللقاء الفردي كان ذلك سببًا لأن يقف المُصْلِحُ على حقيقة الأمر وما يريده كل طرف من الآخر. وعليه اختيار المكان المناسب لهذه الجلسات.

ومن أهداف الجلسات الانفرادية بين المتخاصمين إعطاء فرصة للاستماع للخصم ومراعاة مشاعره والتخفيف منها وإبداء التعاطف مع كلا الطرفين وتليين قلبيهما إلى قبول الصلح مع الثناء على لسان أحدهما على الآخر، ومحاولة المصلح تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقوالهما بما يحقق التقارب ويزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأحيانًا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما وينسب إلى كل منهما من الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله.

وينبغي أن يطرح المصلح في هذا اللقاء الأسئلة التي تساعد على فهم قضية النزاع وتصورها تصورًا كاملا لإيجاد الحل المناسب والعادل لهما؛ فيسأل عن قضية النزاع وكيف نشب النزاع بين الطرفين ومتى وما هي أسبابه وما هي التبعات التي حدثت وأثرت عليهما أو زادت من حدة النزاع.

ويسأل عن شكل الخسارة والأضرار التي لحقت بهما وتعرض لها كلا الطرفين من جراء هذا النزاع، وعن الأمور التي يسعى الطرفان لحلها، وكذلك التسوية أو الحل المقترح من وجهه نظر كل طرف وما هو الذي يطلبه كل طرف وما الذي يمكن أن يقبل به.

وبعد ذلك يجلس الساعي بالإصلاح جلسات انفرادية أخرى ليوقف الطرفين على بعض الأسباب التي أدت إلى نشوب النزاع مع تبرير بعض التصرفات التي قد تزيد الخصومة، وكذلك يبين لكل طرف مطالب الطرف الآخر، مع التأكيد على أهمية التركيز على الحقائق لا العواطف، كما يجب أن يشعرهما بأنهما يسيران في الطريق الصحيح لإنهاء خصومتهم وحل قضيتهم بما يرضي الطرفين.

ويجب أن يذكِّر كل طرف بأنه يجب أن يسعى لأن يكون أكثر تجاوبًا وأكثر اعتدالا في مطالبه وشروطه، وأن يبرز أهمية المرونة والتسامح لتجنب الطرق المسدودة فيما بعد؛ وهو ما يعد أحد العوامل الأساسية لإنجاح الصلح. وفي هذا المجال يجب أن يحرص على عدم مواجهة بعضهم بعضًا بما يدعيه كل منهما على الآخر منعًا لزيادة الفرقة والشقاق بينهما.

ويجب أن يعرف المصلح ليس فقط ما يرغبه كل طرف ولكن أيضًا ما يمكن أن يقبل به، وأيضًا ما هو مستعد على التخلي عنه أو المقايضة به أو المساومة بشأنه بحيث يمكن للطرفين التحرك في اتجاه مربع الاتفاق. وكذلك يجب عليه معرفة ما يمكن أن يُطلب عوضًا إذا ما قرر ووافق الطرفان على استخدام أسلوب المساومة.

وحين يطرح الساعي بالإصلاح الاقتراحات من كلا الطرفين وحين يتم إيجاد مربع اتفاق يرضى به الطرفان نكون قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة ذات أهمية وهي مرحلة الجلسات المشتركة.

وفيها ينعقد الاجتماع المبدئي بين الخصوم في مقر المصلح؛ فإن لم يكن ففي أي مكان محايد، مع التأكد من حضور الخصوم وكل من له علاقة بالقضية أو يلحقه ضرر من الصلح الذي سيتم.

ويجب التأكد من المحافظة على آداب المجلس؛ بأن يطلب المصلح من الحضور عدم التطاول على بعضهم البعض أو استخدام الألفاظ غير اللائقة أو خلط الدعاوي والحجج.

ويبادر المصلح عند بداية الاجتماع بالحديث وافتتاح الحوار ويبدأ بخطبة الصلح، ويُفضل أن يطيل فيها للتأثير، ويحسُن بالمصلح في هذه الخطبة أن يُذكِّر الأطراف المتخاصمة بعاقبة الخصومة وما تجلبه من الشقاق، وتوارث العداوات، واشتغال القلوب وغفلتها عن مصالحها.

ويذكرهم كذلك بالعاقبة الحميدة للصلح في الدنيا والآخرة، ويسوق لهم الآثار الواردة في ذلك كقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، وكقوله: {وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ} [آل عمران: 134]، وكقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، ويسوق لهم قصصًا لأناس عفوا فحصل لهم من العز والخير ما حصل، وهكذا.

ومما يحسن بالمصلح أن يؤكد عليه أن الصلح في غالب أحواله فيه تضحية وتنازل من الجانبين ونزول عن بعض الحق المدعى؛ لذلك فهو يغلب عليه عدم الرضا الكامل والباطن بين المتصالحين أو أحدهما إلا أنه بمقابل ذلك يبين لهم ما يحصل للمتصالحين بعد إبرامه من إنهاء النزاع واستحقاق لما اتفق عليه مما ينتج عنه من استقرار للأملاك والحقوق وزوال الخصومات واختصار للجهد والوقت وإصلاح ذات البين.

ويجب أن يؤكد أنه ليس قاضيًا أو حكمًا وأن هدفه الإصلاح وأنهم لم يجتمعوا في هذا المكان كي يسعى أحد الأطراف لإقناعه أو إقناع الطرف الأخر بأنه هو المصيب وأن الأخر هو المخطئ، كما يجب أن يخبرهم أن الصلح لن يؤتي ثماره إن أصر أحد الطرفين على التعنت والتمسك بوضعه المبدئي في محاولة لإثبات خطأ الطرف الآخر.

وبعد ذلك يبدأ كل طرف بعرض وبيان موقفه، وهي إحدى النقاط بالغة الأهمية؛ وذلك لأن الخلاف قد يكون نشب بين الجانبين منذ شهور كما أنه يرجح أن يكون الاتصال قد انقطع بينهما؛ أما الآن فقد أصبح كل طرف قادرًا على شرح قضيته مباشرة للطرف الآخر، وهي نقطة نفسية وحساسة وبالغة الأهمية بالنسبة للطرفين؛ إذ إن كل طرف سيشعر بالارتياح بعد أن أفرغ كل ما عنده، وهذا يعني أن الحالة المعنوية لكلا الطرفين قد صارت مرتفعة وأن الطريق قد أصبح ممهدًا للتوصل إلى حل وسط.

فإذا تم الاتفاق والتراضي والوصول إلى حل مقبول من الطرفين فيجب التنبه إلى أمور؛ منها: الحذر من إلحاق الضرر بأيٍ من الخصوم، وذلك بالحرص على ألا يترتب على الإصلاح إضرار بأحد الأطراف؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”([61])، ولابد حتى في الصلح من مراعاة العدل وعدم الظلم والتعدي؛ قال تعالى: {فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9].

ويجب التنبه إلى ضرورة الرضا على ما تم الاتفاق عليه من قبل الخصوم؛ لأن المقصود من الصلح هو إنهاء الخصومة وقطعها؛ فإذا انعدم التراضي وأجبر أحد الطرفين على ما لا يريد ظل النزاع قائمًا ولم تحصل فائدة جهود الإصلاح؛ ثم إن الصلح يكون فيه غالبًا تنازل عن بعض حق المدعي، وهذا تبرع، والتبرع لا يكون إلا برضا من الشخص؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه”([62]).

وحيث إن هذا الإصلاح سبب من أسباب درء الخصومات وقطع المنازعات؛ فيجب التنبه إلى أن غالب الخصومات ترجع إلى عدم وجود بينة عند أحد الخصوم أو كليهما، فمن المشروع هنا توثيق هذا الصلح بعد الاتفاق والتصالح، وينبغي عند توثيق الصلح الذي تم مراعاة كتابة أسماء المتصالحين كاملة وأن تشتمل الوثيقة على الإشارة إلى نوع المصالحة والأمور التي اشتملت عليها وذكر الشروط والمستثنيات ونحو ذلك، وكذلك ذكر من قام بالمصالحة فيما بينهم وأن يذكر الشهود بأسمائهم ويشير إلى حضورهم إن كانوا حاضرين وقت كتابة الوثيقة، وأن تشتمل الوثيقة على ذكر التاريخ وتوقيع أطراف النزاع والشهود ومن قام بالإصلاح وكاتب الوثيقة، وينبغي أن يُجعل للوثيقة أكثر من نسخة كأن يكون للخصمين نسختان ويحتفظ المصلح بنسخة عنده.

ويجب أن ينبه الجميع أنه إذا وقع الصلح بشروطه فمن شأنه أن يسقط الحقوق والدعاوى التي جرت من أجلها المصالحة، وأن يؤمن لكل من الطرفين ملكية الأشياء التي سلمها إليه الفريق الآخر أو الحقوق التي اعترف بها؛ مع العلم بأن أثر الصلح يقتصر على الحقوق التي تناولها وحسم الخصومة فيها دون غيرها.

ولابد في الصلح المبرم بين طرفين أو أكثر من إلزام بما اتُفق عليه وتنفيذ لآثاره المترتبة على ذلك؛ حيث إن وقوع الصلح مجردًا عن آثاره المترتبة على وقوعه وإبرامه وعدم تنفيذها يجعله قريبًا من الصلح الأجوف.

وفي حالة وقوع الصلح بين المتصالحين والانتهاء من إبرامه وإمضاءه ولم يحصل من ذلك تنفيذ عملي للصلح؛ كأن تحدث مماطلة وظلم من أحد أطراف الخصومة للآخر؛ فإنه يجوز للآخر أن يطلب إما تنفيذ الصلح المتفق عليه مع الإمكان أو فسخ الصلح؛ لأنه تبيّن بذلك ظلم الخصم الآخر وإيراده المشاقة وإيقاع الضرر بخصمه، والضرر يزال.

ويجب التأكيد على أطراف الخصومة بعدم التحدث بما حصل من الخصومة، وألا يذكراه لكائن من كان، وأن يحتسب كل منهما ذلك عند الله تعالى، وكذلك ألا يغتاب خصمه أو يسبه أو يشتمه في حضوره أو غيابه.

وأن يطلب المصلح من الطرفين بعد الاتفاق الإبراء عن كل حق رضوا بتجاوزه في الدنيا والآخرة.

 

 

المبحث الثالث: العنف الأسري:

إن الرفق ونبذ العنف هما الأصل في كافة معاملات المكلفين المخاطبين بأحكام الشرع الحنيف؛ عملًا بما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»([63])؛ وعن فضل الرفق وفوائده قال الإمام النووي: “وفي هذه الأحاديث: فضل الرفق، والحث على التخلق به، وذم العنف. والرفق سبب كل خير… وقال القاضي: معناه: يتأتَّى به من الأغراض ويسهل من المطالب ما لا يتأتى بغيره”([64]).

والعنف إذا وجد في الأسرة من فرد فيها أو أكثر فإنه قلما ينجو عضو من الأسرة من آثاره، بحيث إن جميع أفراد الأسرة عادة يصبحون ضحايا له بصور ودرجات مختلفة، وتكون النتيجة إعاقة حركة الأسرة، ويكون من الصعب عليها أن تقوم بوظائفها.

ويتناول هذا المبحث قضية العنف الأسري في سبعة مطالب:

المطلب الأول: أسباب العنف في نطاق الأسرة.

المطلب الثاني: آثار العنف على الفرد والأسرة والمجتمع.

المطلب الثالث: علاج العنف الأسري في الإسلام.

المطلب الرابع: تدابير التشريع للحد من العنف الأسري.

المطلب الخامس: مشكلة ضرب الزوجة.

المطلب السادس: مشكلة العنف ضد الأبناء.

المطلب السابع: الفتوى والحد من العنف الأسري.

 

المطلب الأول: أسباب العنف في نطاق الأسرة:

إن للعنف في نطاق الأسرة أسبابًا ودوافع إما ذاتية أو اقتصادية أو اجتماعية.

فأما الأسباب والدوافع الذاتية؛ فإنها تتمثل في بعض (الجينات) التي يرثها الطفل عن أبويه، وتجعله أكثر ميلا إلى العنف والعدوانية، ويمثل العلماء لهذا باضطراب إفراز هرمون الغدة الدرقية، وزيادة هرمون الذكورة سواء عند الرجل أو المرأة أو الطفل، وهو ما يجعل الإنسان أكثر ميلا إلى العدوانية والعنف.

وأما الأسباب والدوافع الاقتصادية؛ فإنها تشمل الفقر، والضغوط الاقتصادية التي تواجهها الأسرة وعدم الحصول على عمل يتكسب منه الفرد فيها، والظروف المعيشية السيئة كازدحام أفراد الأسرة داخل المسكن الضيق الذي يؤدي إلى الضجر والمشاجرات ويؤدي إلى تولد الحقد والغضب والشعور بالدونية والمرارة وهو ما يؤدي إلى العنف في كثير من الأحوال.

وأما الأسباب والدوافع الاجتماعية فمنها أسلوب التنشئة الاجتماعية الذي يتخذه الآباء والأمهات في تربية أولادهم؛ فإنه مؤثر مهم في غرس القيم والسلوكيات عند الأولاد فيجعلهم يؤمنون بقيم دون أخرى، ومما يبين هذا التأثير ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”.

ومما يسبب تنشئة الأولاد على العنف سماح الآباء والأمهات ومساعدتهم لأطفالهم بشراء بعض اللعبات المحرضة على العنف، فإنه بتكرار هذه الألعاب يصبح الطفل مهيأ نفسيًّا لممارسة هذا السلوك في حياته.

ومنها ترك الأولاد مع الشغالات والمربيات، ففي كثير من الأحوال يعامل الشغالات هؤلاء الأطفال بقسوة وعنف حتى يتعودوا على خشيتهم والتزام الصمت إزاء ما يحدث أمامهم من الشغالات أو المربيات من أمور لو علمها آباؤهم أو أمهاتهم لاستغنوا عنهم، ثم ينقلب هذا إلى سلوك عدواني لتنفيس ما يتلقونه من خوف وكبت للمشاعر.

كما أن الأطفال الذين يربون في وسط عائلي يحدث فيه كثيرًا صراخ الأب وشتمه أو ضربه للأم أمام أطفالها، أو يصدر منه ذلك نحو أطفاله مباشرة، كل ذلك مؤثر خطير في الأطفال، والحرمان الأسري من الوالدين أو من أحدهما، وعلى وجه الخصوص حرمان الطفل من الأم، كل ذلك يؤدي إلى تنشئة الأولاد على العنف.

وكذلك انخفاض مستوى تعليم الأبوين فإنه من الأسباب التي تؤدي إلى سوء معاملتهما للبنات، وهو ما يؤثر عليهن في الاتجاه إلى العنف.

والزيادة السكانية وأزمة الإسكان في بعض المجتمعات، يؤدي إلى نقص الخدمات التي تؤديها الدولة كالمدارس والمستشفيات ووسائل المواصلات وفرص العمل فتزيد هذه الأمور من إحساس الأفراد بالعجز، وتدفعهم إلى أن يتكالبوا على أن يكتسبوا الأموال فيصابون بالقلق والتوتر، ويصبح سلوك العنف رد فعل لهذا القلق والتوتر، فيظهر استعمال القوة والعنف في التعامل بين أفرد الأسرة الواحدة.

والتفاوت الطبقي الشاسع بين أفراد المجتمع يؤدي إلى إيجاد مشاعر عدم الرضا عند الطبقة الفقيرة، وهذا من شأنه أن يجعل بعض أفراد الأسرة في بعض الأحيان يلقي بمسئولية سوء أحواله على أحد أطراف الأسرة، ويزيد من حدة الشقاق والخلاف في نطاق الأسرة الواحدة ويمهد ذلك السبيل إلى استخدام العنف.

وغياب دور الأسرة، وانصراف الأبوين عن تربية أولادهما تربية سليمة، فالأب منشغل جدًّا بالمال فيمضي يومه في الحصول عليه، أو يقضي معظم سنوات عمره في السفر والغربة طمعًا في تكوين ثروة، والأم كذلك انشغلت بالعمل خارج بيتها وأعطته معظم وقتها دون أن تخصص من وقتها وقتًا كافيًا لرعاية أولادها وملاحظتهم وتوجيههم ونصحهم، فإن كل ذلك يهيئ الطريق أمام اكتساب صفة العنف والانحراف في الأولاد.

المطلب الثاني: آثار العنف على الفرد والأسرة والمجتمع:

إن آثار العنف كثيرة بحيث يصعب استيعابها، وسنذكر هنا بعض الآثار الواضحة المتكررة عادة في الأسر المترتبة على العنف التي يعاني منها أفراد الأسرة ويعاني منها المجتمع.

فإن العنف يؤدي في تربية الأسرة لأولادها إلى بذر بذور الحقد وكراهية الأولاد لوالديهم.

والعنف في التربية للأولاد في الأسرة يربي فيهم الخوف والانعزال عن الناس، والأشخاص المتصفون بالعنف يكونون أكثر من غيرهم شعورًا بعدم الأمان.

ويؤدي العنف في الأسرة إلى اتجاه الأولاد نحو التشرد والهروب من البيت وهذا بدوره يؤدي إلى الانحراف؛ فالتشرد والهروب من البيت هو أحد الموارد التي يجيء عن طريقها ما يسمون بأولاد الشوارع وتلصق بهم صفة الانحراف.

ومن آثار العنف أنه يؤدي إلى إعاقة النمو الاقتصادي للمجتمع، حيث يؤدي إلى إضعاف رأس المال البشري فيه، وينتج عن هذا قلة الاستثمار وضعف الاقتصاد. وتكون المحصلة النهائية هي ضعف الخدمات التي تقوم بها الدولة لأفراد المجتمع.

ويؤدي اكتساب كثير من الأفراد لصفة العنف إلى انحرافات اجتماعية كثيرة، كالقتل، والنهب، والضرب، والاعتداء على الآخرين، وإتلاف الممتلكات، وتعاطي المخدرات، وغير هذا من انحرافات في السلوك.

والشخصية العنيفة يظهر فيها روح الاندفاع والتهور، وعدم النضج الانفعالي والاجتماعي، كما يغلب على كثير من الشخصيات العنيفة العجز عن التفكير في أنفسهم كأفراد، أو في القيم الأخلاقية والاجتماعية التي تسود مجتمعهم.

ويميل الشخص العنيف إلى الشغب والمشاكسة؛ فيسهل على الشخص العنيف أن يرتكب جريمة السرقة حتى من أقرب المقربين إليه كالوالدين والأخوة وسائر القرابات. بل وتؤدي نزعته إلى السرقة إلى ارتكاب جريمة القتل في بعض الأحيان لهؤلاء الأقارب، ويشجعه اتصافه بالعنف على أن لا يبالي بالقرابات وحرمة التعدي على صلات الأرحام فلا يكون لها مراعاة عنده، فلا يزعه وازع الدين أو صلة الرحم عن ارتكاب جريمته، كما هو واضح في بعض الجرائم التي تنشرها وسائل الإعلام.

ويؤدي التعرض للعنف إلى آثار متعددة فسيولوجية وبدنية ضارة، فإن معدَّل نبض القلب وإفراز بعض الهرمونات يزيد نتيجة للنزاعات التي تحدث بين الزوجين؛ وخصوصًا في الربع ساعة التي تلي النزاع، وتبين الدراسات أن النساء أكثر تأثرًا من الرجال في هذه الناحية.

كما أن ضحية العنف في بعض الأحيان يتعرض للانتحار نتيجة للعنف الواقع عليه، واليأس من تغير الحال السيئ سواء في ذلك الأولاد أو الزوجة.

ومن آثار العنف الاجتماعية والنفسية السلبية حدوث الطلاق، وهو أحد الأسباب الخطيرة المؤدية إلى تفكك الأسر، فتضعف العلاقات الاجتماعية داخلها.

والعنف الأسري أحد عوائق خطط التنمية في الدولة، فإن مشاكل الأسرة هي إحدى المعوقات المستمرة والمتزايدة في هذه الناحية، فمن المعروف أن المجتمع يتكون من الأسر، وإذا كثرت الأسر التي يسود فيها العنف فإن ذلك يؤثر في المجتمع كله، فالأسرة هي التي يتكون منها النظام الاجتماعي والحياة الاجتماعية، وقد قدرت الرابطة الطبية الأمريكية في أوائل التسعينيات من القرن الماضي أن العنف الأسري نجم عنه خسائر بلغت عشرة مليارات من الدولارات، تمثلت في نفقات العلاج الطبي والنفسي، والشرطة، وإجراءات التقاضي، وتوفير المأوى والدعم والرعاية، والتغيب عن العمل، ونقص الإنتاجية.

ولهذا فإن من اللازم لعمليات التنمية التعرف على أسباب العنف الأسري، ووضع الحلول له ضمن الخطط والبرامج التي تهدف إلى تحصيل التنمية واستمرارها.

المطلب الثالث: علاج العنف الأسري في الإسلام:

يحتاج علاج العنف في نطاق الأسرة إلى تضافر جهود جهات متعددة، ومؤسسات مجتمعية كثيرة، ومن الطبيعي أن تكون الأسرة هي البداية في علاج عنف أولادها، فتعمل على غرس القيم الدينية والخلقية فيهم، كما تُكثر من مجالسة الأولاد، وإجراء الحوارات المتعددة معهم، وإتاحة الفرصة لشغل أوقات الفراغ عندهم بالأعمال المفيدة.

ولابد من الإشراف الدائم من الأبوين على سلوك الأولاد، وملاحظة ما يتغير من سلوكهم، حتى يمكن تدارك الأمر في مهده بطريقة غير منفرة للأولاد إذا حدث اختلال سلوكي من أحدهم.

كما يجب أن تكون المناهج الدراسية وافية بإشباع حاجات التلاميذ والطلاب النفسية والاجتماعية، وتهدف إلى غرس القيم الدينية والأخلاقية والتربوية.

والتسوية في المعاملة بين الأولاد تعالج العنف قبل أن يقع، لأن عدم التسوية مثير للأحقاد والضغائن، وهذا مما يؤدي إلى العنف، روي عن النعمان بن بشير قال: تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي فرد تلك الصدقة([65]).

فإذا غلب على ظن أحد الوالدين أن ما يهبه لأحد أولاده مؤد إلى حدوث النفرة بينهم ووقوع الخلاف والعداوة فإن ذلك يكون حرامًا، لأنه سيؤدي في هذه الحال إلى الحرام، وبهذا نتحاشى الخطر قبل أن يحدث وهو العنف بين الأولاد، نتيجة زرع الحقد والعداوة بينهم.

وللمؤسسات الدينية دورها المهم في تدعيم القيم الدينية والأخلاقية عند الناشئة وغيرهم، فيمكن أن يقوم أئمة وخطباء المساجد بدور لا يستهان به في الدعوة إلى حسن الأخلاق، والبعد عن التطرف في الأفكار، والعنف في علاقات الناس بعضهم ببعض.

كما أن للإعلام بكافة صوره تأثيرًا كبيرًا في حياة الأفراد والجماعات، ويمكن للصحافة أن يكون ضمن أهدافها إشاعة روح الأمن في المجتمع وإبعاد الشباب عن العنف في إبداء الرأي واحترام آراء الآخرين.

كما أن القنوات التليفزيونية لها تأثير كبير في علاج العنف بعرض البرامج المتعددة دينية واجتماعية وثقافية والبعد في برامج الأطفال عن مناظر العنف، والإكثار من القصص التي تشجع على مكارم الأخلاق، وخاصة قصص الأنبياء والمرسلين والزعماء والعلماء والمصلحين.

ومن المعروف أن من أسباب العنف في الأسرة وغيرها تدني المستوى الاقتصادي للأسرة وعدم الحصول على العمل المناسب ليتكسب منه الشباب، الذين يرغبون في الزواج وتكوين الأسرة، وهو ما ينعكس سلبًا على سلوكهم مع أسرتهم ومع أفراد المجتمع، ولهذا فإن علاج العنف في الأسرة ولو لم يوجد بعد، يقتضي أن تتيح الدولة فرص العمل أمام الشباب، لإبعادهم عن السلوك العدواني بينهم وبين أفراد أسرهم، وبينهم وبين أفراد المجتمع الذي يعيشون فيه، وهو أمر تحتمه أحكام الشرع على الحكام الذين لم يولوا مناصبهم إلا لتحقيق مصالح الناس، ولهذا فإن الدولة ملزمة بأن تعمل على تهيئة الظروف المناسبة للعمل الشريف لكل أفراد الشعب ومنها الظرف المناسب لكي يعمل الناس عملا شريفًا يتكسبون منه.

المطلب الرابع: تدابير التشريع للحد من العنف الأسري:

إن إرادة الله عز وجل شاءت أن يخلق من كل شيء زوجين، قال الله تبارك وتعالى: {وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45]، وقال عز وجل: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} [الذاريات: 49]، وليس هناك شك أن يكون الرجل والمرأة داخلين في عموم النصوص التي جاءت في القرآن الكريم مبينة زوجية المخلوقات.

ولابد في العقل السليم أن تكون الزوجية في كل الأشياء عاملا من العوامل التي تؤدي إلى التلاؤم والتناغم بين المخلوقات، وأداء وظيفة كل مخلوق لمهمته على الوجه الأكمل، ولا يتصور أن تكون الشدة والعنف بين كل زوجين مثمرة للثمرة المرجوة من خلق الأشياء زوجين، ولذلك جاء التشريع مبينًا أن اجتماع الذكر والأنثى من أفراد الإنسان تحت السقف الشرعي وهو عقد الزوج، أحد الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى حدوث السكن النفسي بين الرجل والمرأة والمودة والرحمة، وهو نعمة من نعم الله على الإنسان بنوعيه؛ قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم: 21].

أولًا: حث النصوص الشرعية على الرحمة والرفق:

إن الرحمة سمة من سمات الشرائع الإلهية التي أرسلها الله تبارك وتعالى لهداية البشر، لتنظيم علاقاتهم ببعض وتنظيم علاقاتهم قبل ذلك بالخالق تبارك وتعالى، قال عز وجل مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]، فالرحمة صفة سمى لله عز وجل بها نفسه، فمن أسمائه الحسنى الرحمن الرحيم، وليس من المستغرب أن تكون أول عبارة في كتاب الله الكريم هي {سم الله الرحمن الرحيم}.

ولا تجتمع الرحمة مع العنف، فمن الواضح الذي لا يحتاج إلى تأكيد أن الرحمة تناقض العنف، لأن العنف ضد الرفق، فإذا قلنا مثلا: عامل إنسان غيره بعنف فإن معناه عامله بشدة وقسوة، ولا يقتصر التعبير بالعنف على التعامل بقسوة بين البشر، بل يتصف بالعنف أيضًا من عامل الحيوان بدون رفق به، وكما يكون العنف في الأفعال يكون في الأقوال.

وإذا كان العنف هو أخذ الغير بالشدة والقسوة، فإن الرحمة بخلاف ذلك، فهي معاملة الغير بالرقة له والعطف عليه.

وقد حثت نصوص الشرع على الرحمة، وحببت في التعامل بها حتى مع الحيوان، ويشهد لهذا الحديثُ الشريف «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها، إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»([66]).

وإذا كانت الرحمة مطلوبة في التعامل مع المخلوقات حتى الحيوانات، فلابد أن تكون مطلوبة في تعامل الإنسان مع الإنسان.

ومن أقوى صور التعامل الإنساني، وأشدها لصوقًا بين طرفين، هو تعامل الرجال مع النساء، وصلاتهم بهن في أطوار وحالات متعددة، فالمرأة زوجة للرجل، وهي ابنة له، أو حفيدته، وهي أمه، أو جدته، وأخته، وعمته، وخالته، وقد دلت النصوص الشرعية على الإحسان بكل هؤلاء، ففي الأم نجد الإحسان إليها مأمورًا به في قول الله عز وجل: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريمًا} [الإسراء: 23]، وقال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا} [النساء: 36]. والأم هي أحد الوالدين اللذين أمرنا ربنا تبارك وتعالى بالإحسان إليهما وعدم الإساءة إليهما ولو بكلمة (أفٍ).

وفي بقية النساء نجد الشرع يأمرنا بصلة الأرحام، ومن الواضح أن الإحسان إليهن هو من صلة الأرحام، قال تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} [النساء: 1].

وفي الزوجات نجد الله عز وجل يأمرنا أن نعاملهن بالمعروف، فقال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19]، ويحبب إلى الأزواج أن يبقوا على زوجاتهم في عصمتهم حتى لو كرهوا شيئًا منهن، قال تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} [النساء: 19].

ويوصينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء عامة، فيقول: “استوصوا بالنساء خيرًا”([67]).

ثانيًا: عقوبة التعزير واستخدامها للحد من العنف.

لا يخلو اجتماع الأفراد مع بعضهم البعض من خلافات وإشكالات، ولو حتى داخل الأسرة الواحدة من والدين وأبناء، ولا تخلو النفس البشرية من ميل إلى الإساءة والعنف، ولابد من وسيلة للحد من هذا العنف؛ وقد وضع التشريع عدة تدابير جزائية للحد من أشكال العنف في الأسرة تدخل في مجال العقوبات التعزيرية، فمن المعروف أن العقوبات التي من حق القاضي أن يحكم بها في القانون الإسلامي ثلاث عقوبات هي القصاص، والحدود، والتعزيرات، فأما القصاص فهو عقوبة مقدرة وجبت حقًّا للآدمي؛ فقتل النفس يوجب فيه الإسلام القصاص وهو قتل القاتل.

وأما الحدود فهي عقوبات مقدرة وجبت حقًّا لله عز وجل، وإن كان فيها حق للآدمي؛ كجلد الزاني غير المتزوج، وقطع يد السارق.

وأما التعزير فهو: تأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة؛ فهو عقوبة غير مقدرة في الشرع وإنما هي متروكة للحاكم والمجتمع يقرران فيها ما يريانه من عقوبة زاجرة في الجرائم التي ليست من جرائم القصاص والحدود، وذلك كالضرب بغير حق ومضايقة الناس، وما أشبه ذلك من المعاصي التي لا حد فيها ولا قصاص.

ونحن نتكلم هنا عن التدابير الجزائية للحد من العنف التي لا تدخل عقوبته في مجال القصاص أو الحدود، وإنما تدخل في مجال عقوبة التعزير.

ومجال عقوبة التعزير مجال واسع لم يحدده الشرع كتحديده للقصاص والحدود، فقد يأخذ التعزير صورة الضرب أو الحبس أو الغرامة المالية أو التوبيخ أو الحرمان من الحقوق السياسية أو غير ذلك مما يراه القاضي مناسبًا للمخالفة الشرعية التي حدثت في نطاق الأسرة.

والعنف في نطاق الأسرة كما هو متصور الوقوع من جانب أحد الزوجين إما نحو الآخر أو نحو الأولاد، فإنه أيضًا متصور الوقوع من جانب الأولاد نحو أحد والديهم أو كليهما، أو من بعضهم نحو البعض الآخر.

فإذا كان العنف من جانب الأولاد نحو والديهم فإن باب التعزير مفتوح، لأنه عقوبة تكون مناسبة للدرجة التي وصل إليها العنف، كالضرب بشرط ألا يزيد عن الحد الأعلى للتعزير وهو عشرة أسواط.

كما يجوز أن يكون الحبس عقوبة من العقوبات التي توقع على الأولاد الذين يتعاملون مع والديهم بالعنف، وقد ثبت في السنة ما يجيز بالحبس على بعض المعاصي التي لا تصل إلى درجة الحدود، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلًا في تهمة ثم خلَّى عنه([68]).

كما يجوز أيضًا العقوبة بالغرامة المالية إذا كانت رادعة للأولاد عن العنف.

وعلى ذلك فإننا نقول في مجال اتخاذ التدابير الجزائية التي تتخذ للحد من سلوك الأولاد الذين يتعاملون مع والديهم بالعنف إنه ينبغي أن تصل العقوبة التعزيرية إلى أشدها، لما هو معروف أن عقوق الوالدين من الكبائر، ولا شك أن العنف من أولادهما صورة واضحة من صور العقوق لهما، ولا أرى ما يمنع في الشرع من تغليظ العقوبة التعزيرية التي ستطبق على من يعامل والديه بالعنف، كما يصح أن يجمع في العقوبة بين الضرب في حدود عدد الضربات التي تبينها السُّنة وهو الأسواط العشرة وبين الحبس، فلا يوجد ما يمنع في الشريعة من تنوع العقوبة التعزيرية وكذلك لا مانع من تطبيق الحد الأعلى لعدد الأسواط في تأديب أحد الأولاد الذي تعدى على أحد أفراد أسرته من إخوته أو أخواته، أو غيرهم من أفراد العائلة التي ينتمي إليها، ولا مانع هنا أيضًا من الجمع في العقوبة بين الضرب والحبس أو غيره من العقوبات التعزيرية.

ثالثًا: وسائل الحد من العنف بين الزوجين في الإسلام:

إن العنف بين الزوجين إما أن يكون من جهة الزوجة أو من جهة الزوج، فإذا كان العنف من قبل الزوجة فإن الوسائل الثلاث التي بينتها الآية الكريمة: {واللاتي تخافون نشوزهن} [النساء: 34] وهي الوعظ، والهجر في المضجع، والضرب بضوابطه يمكن أن تعالج هذا العنف.

قال ابن العربي: من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فينظران ممن الضرر([69]).

والحكمان لابد أن يكونا من أهل الزوجين، أحدهما من قبل الزوج والآخر من قبل الزوجة، إلا إذا لم يوجد في أهله وأهلها من يصلح أن يكون حكمًا، فيُختار حكمان من غير أهل الزوجين.

وإذا توقعت الزوجة النشوز من زوجها فلهما أن يتصالحا بأي نوع من أنواع الصلح المباحة، قال الله عز وجل: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا، والصلح خير} [النساء: 128]؛ فيرى الفقهاء أنه إذا خافت المرأة نشوز زوجها أو إعراضه لرغبته عنها، إما لكونها مريضة، أو لكبر سنها أو لعدم جمالها، أو غير ذلك، فلا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها تسترضيه بذلك.

فإذا حدث العنف من الزوج بتعديه عليها بالضرب أو غيره بلا سبب يدعوه لذلك، فقد اجتهد الفقهاء في هذه المسألة اجتهادات مختلفة، فجمهورهم يرون أن للقاضي أو الحاكم أن يأمر بتوقيع عقوبة تعزيرية على الزوج.

ونرى أن علاج ذلك يكون بعيدًا عن العقوبة البدنية على الزوج، ويوجد عقوبات أخرى كالعقوبة بالمال أو إبعاد الزوجة عن زوجها فترة يراجع فيها نفسه فيما يسلكه تجاهها من العنف، ولا يعفى من النفقة الواجبة لزوجته، بل يدفعها مع كونها ليست في مسكنه فليس من السهل على الزوجين أن يعيشا معًا المعيشة العادية بين كل زوج وزوجة مع أن الزوج وقعت عليه عقوبة الضرب أو الحبس أو غيرهما.

وبذلك تبين أنه يجب أن يعاقب مصدر العنف في الأسرة بما يقرره الشرع؛ فإذا كان الأولاد مصدر العنف في الأسرة جاز أن يعاقبوا بإحدى العقوبات التعزيرية، ويجوز أن تكون العقوبة بالضرب الذي يمكن أن يصل إلى عشرة أسواط.

وإذا كان العنف من جهة الزوجة، ولم تفلح الوسائل التي بينها الشرع في تأديبها، فإن من المستحب اللجوء إلى الخلع.

ولا يصح أن يكون الضرب أو الحبس وسيلة لتأديب الزوج إذا كان العنف من جهته.

المطلب الخامس: مشكلة ضرب الزوجة:

إن الإسلام هو دين الرحمة، وقد وصف الله تعالى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رحمة للعالمين فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وأكد الشرع على حق الضعيف في الرحمة به، وجعل المرأة أحد الضعيفين؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَينِ: اليَتِيم، وَالمَرْأةِ» رواه النسائي وابن ماجه([70]) بإسناد جيد، والمرأة أحق بالرحمة من غيرها؛ لضعف بنيتها واحتياجها في كثير من الأحيان إلى من يقوم بشأنها؛ ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم النساء بالزجاج في الرقة واللطافة وضعف البنية، فقال لأنجشة: «ويحكَ يا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ بِالقَوَارِيرِ» متفق عليه([71]).

وقد فهم ذلك علماء المسلمين وطبقوه أسمَى تطبيق حتى كان من عباراتهم التي كوَّنت منهج تفكيرهم الفقهي: «الأنوثة عجز دائم يستوجب الرعاية أبدًا».

وأمر الإسلام الزوج بإحسان عشرة زوجته، وأخبر سبحانه أن الحياة الزوجية مبناها على السكن والمودة والرحمة فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم معيار الخيرية في الأزواج قائمًا على حسن معاملتهم لزوجاتهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ، وأنا خيرُكُم لأهْلِي» رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها([72])، وحض الشرع على الرفق في معالجة الأخطاء، ودعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفق في الأمر كله؛ فقال: «إنَّ الرِّفقَ لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزَعُ مِن شيء إلا شانَه»([73]).

ولم يضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدًا من زوجاته أبدًا، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا ضَرَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا، إِلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطّ فينتقم من صاحبه، إلاّ أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم» أخرجه مسلم([74])، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الأسوة الحسنة الذي يجب على الأزواج أن يقتدوا بسيرته الكريمة العطرة في معاملة زوجاتهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وورد ذكر ضرب النساء في القرآن في موضع واحد في قوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]، والنشوز: مخالفة اجتماعية وأخلاقية، تمتنع فيه المرأة عن أداء واجباتها، وتلك الواجبات هي حقوق الزوج، كما أن واجبات الزوج تعتبر حقوقا للزوجة. وفي تلك المخالفة الاجتماعية والأخلاقية أرشد الله الرجال لعدة بدائل في تقويم نسائهم؛ حسب ما تقتضيه طبيعة كل زوجة من جهة، وطبقًا للعرف السائد والثقافة البيئية التي تربت عليها المرأة والتي من شأنها أن تكون أكثر تأثيرًا في إصلاحها من جهة أخرى، أي أن هذا البدائل لا يتعين فيها الترتيب، بدليل أن السياق جاء بواو العطف وليس بـ”ثم”، فعلى الزوج أن يتعامل مع زوجته بالوعظ، وهو لين الكلام وتذكيرها بالله وحقه الذي طلبه الله منها، كما أباح له الشرع أن يهجرها في الفراش في محاولة منه للضغط عليها للقيام بواجباتها من غير ظلم لها ولا تعدٍّ عليها، وشرطه أن لا يخرج إلى حدّ الإضرار النفسي بالمرأة.

وأما خيار الضرب المذكور في الآية: فقد أجمع الفقهاء على أنه لا يقصد به هنا إيذاء الزوجة ولا إهانتها، وإنما جاءت إباحته في بعض الأحوال على غير جهة الإلزام وفي بعض البيئات التي لا تعد مثل هذا التصرف إهانة للزوجة ولا إيذاءً لها، وذلك لإظهار عدم رضا الزوج وغضبه بإصرارها على ترك واجباتها؛ وذلك بأن يضربها ضربة خفيفة على جهة العتاب والإنكار عليها بحيث لا تترك أثرا، ويكون ذلك بالسواك وفرشة الأسنان وغيرهما مما ليس أداة فعلية للضرب، فأخرج ابن جرير عن عطاء قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: ما الضرب غير المُبَرِّح؟ قال: (بالسواك ونحوه)([75]).

وفارق كبير بين هذا (الضرب بالسواك على غير جهة الإيذاء) وبين العنف أو الجلد أو الأذى أو الإهانة، وقد نص الفقهاء على أن هذا الضرب -مع كونه رقيقًا غير مبرح- يجب أن يكون آخر ما يمكن أن يلجأ إليه الزوج، وأنه لا يجوز الهجر ولا الضرب بمجرّد توقّع النشوز قبل حصوله اتّفاقًا، ويحرم هذا الضرب غير المبرح إذا علم أنها قد يصلحها غيرُه، بل نصوا على تحريمه أيضًا إذا علم أنه لا يفيد في إصلاحها، أو أنه يمكن أن يؤذيها أو يترك فيها أثرًا، قال الإمام الحطاب المالكي: [وإذا غلب على ظنه أن الضرب لا يفيد لم يجز له ضربها، انتهى. وفي الجواهر: فإن غلب على ظنه أنها لا تترك النشوز إلا بضرب مَخُوفٍ لم يَجُزْ تعزيرُها أصلًا، انتهى. وقبله ابن عرفة]([76]).

بل نصوا على أن الزوج يُضرَب ويُؤَدَّب كذلك إذا أخطأ في حق الزوجة، كما إذا قام بإزالة بكارة زوجته بإصبعه، قال الإمام الدردير: [وإزالة البكارة بالإصبع حرام، فيُؤَدَّبُ الزوجُ عليه]([77]).

وقد أكد الفقهاء على هذا المعنى؛ فمنهم من نص على أن ضرب الزوجة لا يجوز أن يكون بالسوط والعصا ونحوهما، بل يكون باليد أو السواك فقط تعبيرًا عن اللوم وإظهارًا للعتاب، كما سبق عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن الحسن البصري أنه فسر الضرب غير المبرح بغير المؤثر، ولا يجوز أن يكون الضرب بقصد الانتقام بل التأديب، ونصوا على أنه يجب عليه أن يَتَّقِيَ المَقَاتِلَ ويبتعد عن الأماكن الحساسة والأماكن الشريفة التي يُشعِر الضرب فيها بالمهانة، كالوجه والرأس والنحر والفرج والقفا؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه([78])، ولا يجوز أن يكون الضرب مبرِّحًا ولا مُدمِيًا ولا مؤذيًا بحال من الأحوال.

وعلى ذلك يُحمَل الضرب الذي ورد ذكره في القرآن والسنة، فهو في الحقيقة نوع من إظهار العتاب واللوم وعدم الرضا عن الفعل، وليس ذلك إقرارًا للجلد أو العقاب البدني؛ بل إن وُجِدَ فهو من جنس الضرب بالسواك الذي لا يُقصَد به حقيقة الضرب بقدر ما يُراد منه إظهار العتاب واللوم.

وهذا الضرب إنما أباحه الشرع بقيوده في بعض البيئات الثقافية التي تحتاج المرأة إلى ذلك وتراه بنفسها دلالة على رجولة زوجها، وهذه البيئات الثقافية لا يعرفها الغرب ولم يطلع عليها، والقرآن جاء لكل البشر ولكل زمان ومكان، ولكل الأشخاص إلى يوم الدين، فشملت خصائصه كل أنواع البيئات والثقافات المختلفة التي إذا لم تُرَاعَ أدى إلى اختلال ميزان الاستقرار في الأسرة وهدد بفشلها وانهيارها، فكان هذا للتقويم والإصلاح.

ومما يدل على صحة هذا الفهم للآية وأن إباحة ضرب الزوجة ليس على إطلاقه في كل الأحوال وفي جميع الأزمنة والبيئات: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صح عنه أنه نهى عن ضرب النساء بقوله: «لاَ تَضْرِبُوا إمَاء الله»، فجاء عُمَرُ رضي الله عنه إِلَى رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه تمرد النساء على أزواجهن فرخَّص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الضرب الذي هو على هيئة العتاب، ففهم بعض الصحابة خطأً أن ذلك ترخيص في مطلق الضرب، فذهبت زوجاتهم للشكوى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعند ذلك عنف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وغضب منهم، وقال لهم: «لَقَدْ أطَافَ بِآلِ بَيتِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كثيرٌ يَشْكُونَ أزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أولَئكَ بخيَارِكُمْ» رواه أبو داود في سننه([79]).

وهذا يشير إلى أن الضرب ليس مباحًا على جهة الإطلاق، بل هو ممنوع قطعًا إن كان على جهة الإهانة أو الإساءة أو الإيذاء وهو المعنى في منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه في أول الأمر، ثم رخص فيه على جهة العتاب وإظهار الغضب فقط بما ليس أداةً للضرب كالسواك (فرشة الأسنان) ونحوه على ما هو المعهود في البيئة الثقافية عند العرب في هذه الحالات، ثم غضب آخر الأمر من فعل بعض الصحابة له على جهة الإيذاء والإساءة للزوجات وسلَب الخيرية ممن يفعله بزوجته، فدل النهي عنه أولًا والترخيص فيه ثانيًا ثم استهجان فعله ثالثًا على أن محل الإباحة الشرعية له هو ما يعده العرف عتابًا وإظهارًا لعدم الرضى، ومحل الحرمة ما يكون فيه إيذاء وإساءة للزوجة، وهذا قد يكون في البيئة التي يدخل مثل هذا التصرف في مكونها الثقافي ولا يعد فيها إهانة ولا إساءة، ومع ذلك فلا يفعله كرماء الرجال ونبلاؤهم.

قال الطاهر بن عاشور في تفسيره “التحرير والتنوير: [وعندي أنّ تلك الآثار والأخبار مَحْمَل الإباحة فيها أنّها قد روعي فيها عُرْفُ بعض الطبقات من الناس، أو بعض القبائل، فإنّ الناس متفاوتون في ذلك، وأهل البدو منهم لا يعُدّون ضرب المرأة اعتداءً، ولا تعدّه النساء أيضًا اعتداء.. فلا جرم أنّه أذن فيه لقوم لا يعُدّون صدوره من الأزواج إضرارًا ولا عارًا ولا بدعًا من المعاملة في العائلة، ولا تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إلا بشيء من ذلك]([80]).

كما أنه يجوز للحاكم أن يقيد هذا المباح ويمنع الأزواج من ضرب الزوجات عند إساءة استخدامه ويوقع العقوبة على ممارسه (فقد أجاز الشارع للحاكم تقييد المباح للمصلحة)؛ حيث يتخذه بعض الأزواج تُكَأَةً للضرب المبرح، أو للتنفيس عن غضبهم وانتقامهم لا بغرض الإصلاح، فيحدث ما لا تُحمَد عقباه من نشر الروح العدوانية في الحياة الأسرية، ولذلك فللحاكم أن يَمنَعه سدًّا للذريعة، أو حتى عند عدم صلاحيته كوسيلة للإصلاح كما هو الحاصل الآن في أكثر البيئات؛ حيث أصبح الضرب في أغلب صوره وسيلة للعقاب البدني المبرح بل والانتقام أحيانًا، وهذا مُحَرَّمٌ بلا خلاف بين أحد من العلماء.

قال الطاهر بن عاشور: [وأمّا الضرب فهو خطير وتحديده عسير.. بيد أنّ الجمهور قيّدوا ذلك بالسلامة من الإضرار، وبصدوره ممّن لا يعدّ الضرب بينهم إهانة وإضرارًا، فنقول: يجوز لولاة الأمور إذا علموا أنّ الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعَها، ولا الوقوفَ عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أنّ من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع]([81]).

وهذا هو المعنى الذي من أجله صرح جماعة من الفقهاء بمنع الضرب، كما قاله التابعي الجليل المفسر عطاء بن أبي رباح -فيما نقله عنه القاضي ابن العربي المالكي في “أحكام القرآن”، حيث قال: “لا يضربها وان أمرها ونهاها فلم تطعه، ولكن يغضب عليها”([82])، وتأولوا الآية على معنى إظهار عدم الرضا، ووافقه على ذلك جمع من العلماء، قال ابن الفرس: وأنكروا الأحاديث المرويَّة بالضرب([83]).

ولا شك أن الضرب المبرح أو الجلد أو العقاب البدني (وهو ما يطلق عليه: العنف الأسرى) محرم بالإجماع، ويجب على جميع البشر الوقوف ضده، وممارسة العنف ضد الزوجة لا علاقة لها بالإسلام، بل المصادر التشريعية للمسلمين تحثهم على الرحمة والمودة في الحياة الزوجية ولا تدعوهم بحالٍ إلى ضرب النساء وظلمهن، يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، وفقهاء المسلمين يقفون ضد هذا الضرب والعنف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين أن العلاقة بين الرجل والمرأة تقوم على المودة والرحمة، وهذا يتنافى مع الضرب والإيذاء، ولذلك يستنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك استنكارا شديدا فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم؟» أخرجه البخاري في صحيحه، والبيهقي في سننه الكبرى واللفظ له([84]). وفي ذلك رد على من زعم أن الإسلام أهان المرأة وأباح للرجل ضربها.

والأصل في الشرع حرمة الإيذاء بكل صوره وأشكاله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: «ألا أُخْبِرُكُم بِالمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ على أموالِهِم وأنفُسِهِم، والمُسلِم مَن سَلِمَ النَّاسُ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ» أخرجه الإمام أحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، وغيرهما([85]). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ظَهْرُ المؤمنِ حِمًى إلاّ بِحَقِّه»، رواه الطبراني في “المعجم الكبير” من حديث عصمة بن مالك الخطمي([86])، وبوب عليه البخاري في صحيحه: (باب ظهر المؤمن حِمًى إلا في حد أو حق)([87]).

قال الحافظ ابن حجر: [(حِمًى) أي مَحْمِيٌّ معصوم من الإيذاء، قوله (إلا في حدٍّ أو في حق) أي لا يُضرَب ولا يُذَلُّ إلا على سبيل الحد والتعزير تأديبًا]([88]). (ومن المعلوم أن هذا من سلطة القانون والنظام لا الأفراد).

وما يوجد في المجتمعات الإسلامية من ذلك فهو ناتج عن عدم التزام الأزواج بتعاليم دينهم الحنيف، ولا يجوز أن ينسب إلى الإسلام ولا علاقة له بتعاليمه من قريب أو بعيد، وقوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في بلاد العالم الإسلامي اليوم والمستقاة من الشريعة الإسلامية، تجرم العنف ضد الزوجة، وتجعل ذلك ضررًا يعطي الزوجة الحق في طلب التعويض الجنائي والنفسي ويعطيها الحق في طلب الطلاق مع أخذ حقوقها كاملة غير منقوصة.

المطلب السادس: مشكلة العنف ضد الأبناء:

أولًا: تاريخ العنف ضد الأطفال:

لم تعترف المجتمعات البشرية القديمة بحقوق الطفل كاملة؛ مما عرضه للإساءة والعنف؛ فلقد كان الإسبارطيون يقتلون كل طفل ذكرًا كان أم أنثى إذا لم يكن ذا بنية قوية([89])، وفي أثينا عندما يولد الطفل كان يعرض على أبيه وهو الذي يقرر وأده أو الإبقاء عليه([90])، وتبنى هذا المسلك عمالقة الفلاسفة اليونانيين؛ فقد دعا أفلاطون في جمهوريته إلى عزل أطفال المواطنين الأقل مرتبة الذين يولدون وفي أجسامهم عيب أو تشويه في مكان خفي بعيد عن الأعين([91]).

وكذلك في مصر أمر فرعون مصر بقتل كل مولود ذكر لبني إسرائيل، وفي القرون الوسطى حرمت الطفولة عمومًا في أوروبا من أبسط حقوقها؛ فقد عومل الطفل وفق المبدأ القائل بأن الشر كامن في طبيعته، وعلى ذلك فإن الطفل يرهَّب ويعاقب ويحرم لكي يطرد الشر منه([92]). وكان يجب على الآباء في كثير من الشعوب البدائية وغيرها قتل أولادهم أو بعضهم لاعتبارات دينية أو اقتصادية أو عرفية.

وفي جزيرة العرب كان الطفل قبل الإسلام يُعَدُّ من ممتلكات أبيه وله أن يفعل فيه ما يشاء، ويظهر هذا جليًّا في ظاهرة وَأْدِ العرب فيما قبل الإسلام للبنات، وقد رصد القرآن ذلك بصورة واضحة فقال تعالى: {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} [التكوير: 8-9]، وكان العربيُّ يتعامل مع الأطفال كما يتعامل مع ما يملك من أنعام؛ فقد انتشرت بين العرب في الجاهلية قبيل الإسلام ظاهرة النذر بذبح الأولاد.

والعنف ضد الأطفال يمارس في كل مكان وفي كل المجتمعات بشكل أو آخر، وبينما تظل بعض أعمال العنف غير متوقعة ومعزولة؛ فإن العنف ضد الأطفال غالبًا ما يمارس من قبل أفراد يعرفونهم ويثقون بهم؛ كالآباء أو الأمهات أو الأصدقاء أو المدرسين.

ثانيًا: أسباب العنف ضد الأطفال وآثاره عليهم:

إن للعنف ضد الأطفال سواء داخل الأسرة أو خارجها أسبابًا ودوافع إما ذاتية أو اقتصادية أو اجتماعية؛ فأما الأسباب والدوافع الذاتية؛ فإنها تتمثل في بعض (الجينات) التي يرثها الإنسان عن أبويه، وتجعله أكثر ميلا إلى العنف والعدوانية، وأما الأسباب والدوافع الاقتصادية؛ فإنها تشمل الفقر، والضغوط الاقتصادية التي يواجهها أفراد المجتمع وعدم الحصول على عمل يتكسب منه الفرد، والظروف المعيشية السيئة كازدحام أفراد الأسرة داخل المسكن الضيق الذي يؤدي إلى الضجر والمشاجرات ويؤدي إلى تولد الحقد والغضب والشعور بالدونية والمرارة وهو ما يؤدي إلى العنف في كثير من الأحوال.

وأما الأسباب والدوافع الاجتماعية فمنها أسلوب التنشئة الاجتماعية الذي يتخذه الآباء والأمهات في تربية أولادهم؛ فإنه مؤثر مهم في غرس القيم والسلوكيات عند الأولاد فيجعلهم يؤمنون بقيم دون أخرى. والزيادة السكانية وأزمة الإسكان في بعض المجتمعات يؤدي إلى نقص الخدمات التي تؤديها الدولة كالمدارس والمستشفيات ووسائل المواصلات وفرص العمل فتزيد هذه الأمور من إحساس الأفراد بالعجز، وتدفعهم إلى أن يتكالبوا على أن يكتسبوا الأموال فيصابون بالقلق والتوتر، ويصبح سلوك العنف رد فعل لهذا القلق والتوتر، فيظهر استعمال القوة والعنف في التعامل بين أفرد الأسرة الواحدة وبين أفراد المجتمع ككل.

وآثار العنف كثيرة بحيث يصعب استيعابها، فإن العنف يؤدي إلى بذر بذور الحقد وكراهية الأطفال للمجتمع ككل، ويربي فيهم الخوف والانعزال عن الناس، والأشخاص المتعرضون للعنف يكونون أكثر من غيرهم شعورًا بعدم الأمان.

ويؤدي العنف إلى اتجاه الأطفال نحو التشرد والهروب من البيت وهذا بدوره يؤدي إلى الانحراف؛ والتشرد والهروب من البيت هو أحد الموارد التي يجيء عن طريقها ما يسمون بأولاد الشوارع وتلصق بهم صفة الانحراف.

ومن آثار العنف أنه يؤدي إلى إعاقة النمو الاقتصادي للمجتمع، حيث يؤدي إلى إضعاف رأس المال البشري فيه، وينتج عن هذا قلة الاستثمار وضعف الاقتصاد. وتكون المحصلة النهائية هي ضعف الخدمات التي تقوم بها الدولة لأفراد المجتمع. كما يؤدي التعرض للعنف إلى آثار متعددة فسيولوجية وبدنية ضارة.

إنه من اللازم لعملية التنمية التعرف على أسباب العنف ضد الأطفال، ووضع الحلول له ضمن الخطط والبرامج التي تهدف إلى تحصيل التنمية واستمرارها.

ثالثًا: تدابير التشريع للحد من العنف ضد الأطفال:
  • حث النصوص الشرعية على الرحمة والرفق.

إن الرحمة سمة من سمات الشرائع الإلهية التي أرسلها الله تبارك وتعالى لهداية البشر، لتنظيم علاقاتهم ببعض وتنظيم علاقاتهم قبل ذلك بالخالق تبارك وتعالى، وقد حثت نصوص الشرع على الرحمة، وحببت في التعامل بها حتى مع الحيوان. وإذا كانت الرحمة مطلوبة في التعامل مع المخلوقات حتى الحيوانات، فلابد أن تكون مطلوبة في تعامل الإنسان مع الإنسان، وخاصة إذا كان طفلا.

  • العقوبات واستخدامها للحد من العنف.

لقد وضع التشريع عدة تدابير جزائية للحد من أشكال العنف تدخل في مجال العقوبات التعزيرية.

والتعزير هو: تأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة؛ فهو عقوبة غير مقدرة في الشرع وإنما هي متروكة للحاكم والمجتمع يقرران فيها ما يريانه من عقوبة زاجرة في الجرائم التي ليست من جرائم القصاص والحدود.

ومجال عقوبة التعزير مجال واسع لم يحدده الشرع كتحديده للقصاص والحدود، فقد يأخذ التعزير صورة الضرب أو الحبس أو الغرامة المالية أو التوبيخ أو الحرمان من الحقوق السياسية أو غير ذلك مما يراه القاضي مناسبًا للمخالفة الشرعية التي حدثت.

وفي موضوع العنف ضد الأطفال فتح التشريع باب التعزير؛ لأنه عقوبة تكون مناسبة للدرجة التي وصل إليها العنف، وذلك بالحبس مثلا؛ وقد مرَّ أنه ثبت في السنة ما يجيز الحبس على بعض المعاصي التي لا تصل إلى درجة الحدود، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلًا في تهمة ثم خلَّى عنه([93]). كما يجوز أيضًا العقوبة بالغرامة المالية إذا كانت رادعة.

  • الشروط التي وضعتها الشريعة لتأديب الأطفال:

اهتمت الشريعة بتحديد نطاق التأديب وبيان وسائله وشروطه لما له من أثر في استقرار المجتمع الإسلامي بأسره. فقد قرر الإسلام أمورًا لابد من التزامها في تأديب الأطفال؛ منها البعد عن التعامل معهم بأية صورة من صور العنف؛ فالقوامة هي قيام بمصالحهم، وليست استبدادًا؛ فلا يجوز التعسف من ولي الأمر في استعمال هذا الحق.

وعليه فينبغي أن يكون أولى الناس بالرفق والشفقة على الأبناء أبوهم وأمهم، حتى يقبلوا ما يبذلونه لهم من تأديب وتعليم، وما يُسدياه إليهم من نصح؛ وإن كان التحصيل العلم أحد أهم أسباب العنف ضد الأبناء فقد ورد في البيان النبوي الشريف ما يدل ويؤكد على كمال وحسن التعليم بالرفق واللين، وينهَى عن انتهاج أسلوب الضرب والتعنيف في التعليم؛ وذلك فيما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّيَاهْ، ما شأنكم؟ تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصَمِّتُونَنِي لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»([94]).

قال القاضي عياض: “وقوله: (فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ) فيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليم من الرفق بالجاهل، وترك الغضب عليه، إذا لم يقصد مخالفة”([95])، ولنحو ذلك ذهب الملا علي القاري، فقال: “( -فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي- مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ)، أي: اشتغل بتعليمي بالرفق وحسن الكلام… (فَوَاللهِ، مَا كَهَرَنِي)، أي: ما قهرني وزجرني… (وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي): أراد نفي أنواع الزجر والعنف”([96]).

وهذا الحديث أصل في وجوب انتهاج أسلوب الرفق واللين في التعليم، ومن ثمَّ ينبغي أن يستقي كل معلم من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته السمحاء في حسن التعليم.

وتأسيسًا على ما سبق؛ فلا يصح الاستدلال على ضرب الأبناء بسبب فشلهم في الدراسة؛ بما ورد في البيان النبوي الشريف، فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ»([97])؛ لأن الأمر بالضرب خرج مخرج الزجر للتنبيه على أهمية الحفاظ على الصلاة باعتبارها عمود الدين وركنه الركين؛ أخرج الإمام الترمذي في سننه عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟» قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ»([98])؛ ولكون الصلاة أيضا من دون كلِّ العبادات التي فرضها الله تعالى لا تسقط عن المسلم في أيِّ حالٍ من أحواله، لا في سفره، ولا إقامته، ولا مرضه، ولا حتى عند لقائه الأعداء، وأنها أول ما يحاسب به العبد؛ ولهذا قال تعالى: {وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَا} [طه: 132].

وقد أشار إلى الدلالة التي انطوى عليها الأمر بالضرب المباركفوري فقال: “محافظة لأمر الله تعالى؛ لأن الصلاة أصل العبادات”([99])؛ وأوضح ما انطوى عليه الأمر من معانٍ وليُّ الله الدهلوي فقال: “وأمارة تَمَامه العَشْر؛ فَابْن العَشْر عِند سَلامَة المزاج يكون عَاقِلا يعرف نَفعه من ضَرَره… والصلاة لها اعتباران: فباعتبار كونها وسيلة فيما بينه وبين مولاه منقذة عن التردي في أسفل السافلين أمر بها عند البلوغ الأول، وباعتبار كونها من شعائر الإسلام يؤاخذون بها”([100]).

كما أن الراجح الثابت من أقوال الفقهاء أن الأمر في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: «واضربوهم» محمولٌ على الندب لا على الوجوب؛ أشار إلى ذلك الإمام الحطاب فقال: “إذا قلنا: إن الأولياء هم المأمورون أو الأمر لهم وللصبيان؛ فهل الولي مأمورٌ على سبيل الوجوب أو الندب؟ قولان: المشهور: الندب، وأنه لا يأثم بترك الأمر، كما قاله الْجُزُولِيُّ والشيخ يوسفُ بْنُ عُمَرَ وَالْأَقْفَهْسِيُّ وغيرهم”([101]).

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن الضرب الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ»؛ إنما يراد به الضرب الخفيف غير المبرح الذي يُشعر بالتأنيب، وهذا الضرب يكون من جنس الضرب بالسواك أو الطرق على اليد طرقا خفيفا بالأصابع وهو في الحقيقة نوعٌ من التربية والترويض والتأديب النفسي، الذي يُقصَد به إظهارُ العتاب واللوم وعدم الرضا عن الفعل؛ ومن ثمَّ لا يعد ذلك إقرارًا للعقاب البدني، وقد أشار إلى ذلك المعنى العلامة المواق فقال: “نقل ابن عرفة في التأديب أنه يكون بالوعيد والتقريع”([102]).

ومع أن الضرب الخفيف الذي يُشْعِرُ باللوم والتأنيب جائز للتأديب إلا أن تركه أولى؛ يشهد لذلك ما ثبت من سيرة نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما ضرب امرأة ولا صبيًّا ولا خادمًا للتأديب مهما استدعى الأمر، بل كان يترفع عن ذلك؛ أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا»([103])؛ قال الملا علي القاري: “خُصَّا بالذكر اهتماما بشأنهما… وضربهما وإن جاز بشرطه، فالأولى تركه”([104])؛ وقال العدوي: “وإذا علم أن الضرب لا يفيد، فإنه لا يفعله؛ إذ الوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصدها، لا تشرع”([105])؛ فيعلم من ذلك أن غاية أمر الضرب المراد في الحديث الشريف، هو إعلام الصبي المُصرِّ على ترك الصلاة، وإشعاره بأنه إذا لم يلتزم بالصلاة بعد بلوغه؛ فإنه سيكون معرضًا لعقاب حسي أليم في الآخرة.

ولما كان الإسلام دين الرحمة، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصفه الله تعالى بأنه رحمة للعالمين؛ فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107[، كان الأبناء الصغار هم أَوْلَى الناس بالرحمة؛ لضعفهم واحتياجهم الدائم إلى من يقوم بشؤونهم، لا سيما وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عدم الرحمة بالصغير؛ فقال فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي -وصححه واللفظ له- من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرنَا»([106]).

المطلب السابع: الفتوى والحد من العنف الأسري:

عملت الفتوى المنضبطة على الحد من العنف الأسري بجميع أشكاله؛ فقد نصت الفتاوى المنضبطة على أن ضرب الزوج لزوجته واعتداءه عليها وتهديدها وترويعها وكذلك الأولاد من الأمور التي أجمع المسلمون على تحريمها، ولا علاقة لها بتعاليم الإسلام ولا بالشريعة الإسلامية، وفاعل ذلك آثم شرعًا([107]).

كما نصت الفتاوى المنضبطة على أنه ينبغي أن يترفق المعلِّم من أب وأم وغيرهما بالمتعلم، فالرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه؛ وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: «وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ» مقصور على التقصير في الصلاة، ولا يتعداه لغيره؛ وهو أمر مندوب وليس بواجب، والمقصود به الضرب الخفيف غير المُبَرِّحِ، المشعر بالتأنيب، إذا علم أنه يفيد؛ بيد أن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم خيرٌ من ذلك، فإنه لم يضرب امرأة ولا خادمًا، ولا ضرب أحدًا أبدًا قصَّر في تعليمه([108]).

وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي قرار رقم 180 (19/6) بشأن العنف في نطاق الأسرة: «يراعى عند معالجة الخلافات الزوجية وبخاصة ما يتعلق بنشوز الزوجة وخروجها على طاعة زوجها أن تكون وفقًا للضوابط الشرعية الآتية:

(1) تجنب الشتم والسب والتحقير.

(2) الالتزام عند المعالجة المباشرة مع الزوجة بالمنهج الشرعي المعتمد، بدءًا من الوعظ، ثم الهجر، وانتهاءً بالضرب غير المبرح الذي يكاد أن يكون أقرب إلى التلويح به دون فعله، واللجوء إليه خلاف الأولى، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولن يضرب خياركم)، واقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم الذي لم يضرب امرأة قط.

(3) اللجوء إلى الحكمين عند استفحال الخلاف.

(4) اللجوء إلى نظام الطلاق وفق القواعد التي قررتها الشريعة في ضبط درجاته (الرجعي، البائن بينونة كبرى أو صغرى، وأوقات إيقاعه)، واعتباره من أبغض الحلال عند الله تعالى.

رابعًا: يؤكد المجمع على ما يلي:

(1) على الصعيد الأسري:

(أ) التركيز على التربية الإيمانية سبيلًا للنشأة الاجتماعية.

(ب) التأكيد على الثوابت الشرعية المتعلقة بالبناء الأسري من التعاون والمودة والرحمة والسكن والبر والإحسان والمعاشرة بالمعروف فيما بين الزوجين.

(ج) اعتماد الحوار منهجًا لحل القضايا الأسرية الداخلية.

(2) على صعيد المؤسسات والدوائر الرسمية:

(أ) عقد دورات وورش عمل لتوعية الأسر لمخاطر العنف، وتأصيل المنهج الحواري.

(ب) مطالبة المؤسسات التربوية بتدريس ما يعالج قضايا العنف الأسري بمختلف صوره وأشكاله.

(ج) التنسيق بين الوزارات والإدارات المختصة من أجل اعتماد سياسة موحدة لا تعارض فيها للحفاظ على ثوابت الأمة في مواجهة التيارات التغريبية المتعلقة بالأسرة.

(د) توجيه أجهزة الإعلام لتحمل مسؤولياتها في إطار التنشئة الاجتماعية الراشدة.

(3) على صعيد الدول الإسلامية:

(أ) ضرورة عرض كافة الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة والطفل، وكذلك مشروعات القوانين على أهل الاختصاص من علماء الشريعة والقانون، قبل إصدارها والتوقيع عليها؛ لضبطها بميزان الشرع، ورفض ما يتعارض منها مع أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها. ودعوة الحكومات الإسلامية إلى مراجعة الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها للوقوف على البنود التي تتعارض مع الأحكام الشرعية، ورفض تلك البنود، دون الإخلال بما اشتملت عليه من جوانب إيجابية متوافقة مع الشريعة الإسلامية.

(ب) رفض ما يخـالف نصوص الشريعة الإسلامية في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، والتي تدعو إلى إلغاء الفوارق الفطرية بين دور الرجل والمرأة في المجتمع، والدعوة إلى المساواة التامة بين الذكر والأنثى في كل درجات الميراث، والإساءة إلى نظام الطلاق في الشريعة الإسلامية، وتدعو إلى إلغاء قوامة الرجل في الأسرة، وغير ذلك مما هو ثابت في الشريعة الإسلامية.

(ج) رفض كافة البنود التي اشتملت عليها الاتفاقيات التي تبيح ما فيه مخالفة لقوانين الشرع والفطرة: كإباحة الزواج المثلى، والعلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج الشرعي، والاختلاط بالصورة الممنوعة شرعًا، وغير ذلك من بنود تتصادم مع أحكام الشريعة الإسلامية.

(د) الطلب من الجهات التشريعية سن قوانين تجرم كل صور العنف بين أفراد الأسرة باعتبار أن الشريعة قد حرمت ذلك.

(ه) حصر سلطة التنفيذ في الجهات القضائية المختصة.

(و) التأكيد على التزام خصوصية الثقافة الإسلامية، والأحكام الشرعية، واحترام التحفظات التي تبديها الحكومات الإسلامية وممثلوها حيال بعض البنود المتعارضة مع الشريعة الإسلامية في المواثيق والاتفاقيات المتعلقة بالأسرة.

(ز) تشكيل لجنة لإعداد مدونة تضبط فيها حقوق أفراد الأسرة وواجباتهم، ينبثق عنه وضع مشروع لقانون الأسرة متوافق مع الشريعة الإسلامية»([109]).

أشكال العنف ضد الأطفال في العصر الحديث ومواجهة الفتوى لها:

تتعدد أشكال العنف ضد الأطفال، ومع تفاوت آثار هذه الأشكال عليهم إلا أن العواقب عليهم وعلى المجتمع ككل في معظم الأحيان تكون خطيرة وضارة.

وقد قررت المادة 19 من اتفاقية حقوق الطفل التصرفات التي تعد عنفًا ضد الأطفال؛ فقد نصت على أنه يشمل: كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية والإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمال أو إساءة المعاملة أو الاستغلال بما في ذلك الإساءة الجنسية.

وعَرَّفت معظم القوانين العنف بأنه: “كل فعل ظاهر أو مستتر، مباشر أو غير مباشر، مادي أو معنوي، مُوجَّه لإلحاق الأذى بالذات أو بآخر أو جماعة أو ملكية واحد منهم، وهذا الفعل مخالف للقانون، ويُعرض مرتكبه للوقوع تحت طائلة القانون لتطبيق العقوبة عليه”.

ويرى علماء النفس أن العنف هو سلوك غريزي مصحوب بالكراهية وحب التدمير، هدفه تصريف الطاقة العدائية المكبوتة تجاه الآخرين، كذلك قد يكون العنف نتيجة للإحباط الشديد ولعدم قدرة الشخص على التسامي أو لإعادة ضبط النفس.

للعنف ضد الأطفال أشكال عديدة؛ ولكن يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع رئيسية:

1- العنف الجسدي:

الاعتداء أو الضرر أو الأذى الجسدي هو أي اعتداء يُلحق الأذى بجسم الطفل سواء باستخدام اليد أو بأية وسيلة أخرى، ويحدث على أثر ذلك رضوض أو كسور أو خدوش أو حروق أو جروح، وقد يصل الأمر في الاعتداء الجسدي إلى الخنق أو القتل. وهو يشمل الضرب والرفس والخض وجر الشعر والعض والقرص وغير ذلك من الاعتداءات سواء تركت آثارًا على جسم الطفل أم لم تترك. وأسوأ أشكال هذا النوع هو الاعتداء الجنسي.

وفي هذا السياق صدرت الفتاوى المنضبطة بتحريم البلطجة بجميع صورها؛ ويدخل فيها العنف الجسدي ضد الأطفال؛ فأصدرت دار الإفتاء المصرية فتواها بشأن هذا الموضوع، وفيه تكلمت عن أن استخدام العنف والقوة لترويع الناس أو أخذ ممتلكاتهم من الكبائر، وأن انتشارها يقضي على الأمن والاستقرار الذي هو من مقتضيات مقاصد الشريعة الإسلامية، وأن ذلك يدخل في باب “الحرابة” و”قطع الطريق”.

ثم ذكرت أن الإسلام يوجب مساعدةَ الإنسان لأخيه وإنقاذه من الاعتداء عليه، وأن مَن مات في ذلك فهو شهيد، وعدَّ الشرع الإحجامَ والنكوصَ عن النصرة والنجدة لمن يستطيع ذلك -ولو بالإبلاغ عن البلطجية المفسدين- تقاعسًا يُلحق الوزر بصاحبه، بل وإعانةً على الظلم.

كما أوجب الشرع على الأفراد والمجتمعات أن يقفوا بحزم أمام هذه الممارسات الغاشمة؛ حتى لا تتحول إلى ظاهرة تستوجب العقوبة العامة، وتمنع استجابة الدعاء.

ثم نبهت الفتوى على أن كثيرًا من المظاهر السلبية في المجتمع الآن يُعَدُّ ضربًا مِن البلطجة؛ كالاعتداء على المنشآت العامة، أو التسبب في تعطيلها، أو قطع طرق المواصلات العامة، أو شل حركة المرافق الحيوية التي تعتبر شريانًا لحياة الناس في حراكهم المعيشي اليومي وعجلة حياتهم المستمرة([110]).

2- العنف النفسي:

الاعتداء أو الأذى النفسي هو إلحاق الضرر العاطفي والاجتماعي بالطفل، وذلك من خلال ممارسة سلوك ضد الطفل يشكل تهديدًا لصحته النفسية؛ بما يؤدي إلى قصور في نمو الشخصية لديه واضطراب في علاقاته الاجتماعية بالآخرين. وهو أي تصرف ينتج عنه تشويه لنفسية الطفل أو نموه الاجتماعي.

وهذا النوع من الاعتداء لا يستلزم اللمس ولكنه يمارس عبر تصرفات أو كلمات جارحة تقال للطفل، ويشمل: الصراخ والشتم وإطلاق الأسماء المكروهة على الطفل والمقارنة السلبية بالغير والتفوه بجمل تحط من شخصية الطفل.

3- الإهمال:

الإهمال نمط سلوكي يتصف بإخفاق أو فشل أو ضعف في الأسرة والمدرسة في إشباع كل من الاحتياجات البيولوجية؛ مثل: الحاجة إلى المأكل والمشرب والملبس والمأوى، والاحتياجات النفسية؛ مثل: الحاجة إلى الأمن والأمان والرعاية.

ومن أشكال هذا الإهمال: إهمال تقديم الرعاية الصحية للطفل، والإخفاق في تقديم الغذاء المناسب والكافي والملبس والمأوى، وعدم الاهتمام بالاحتياجات التعليمية والتربوية للطفل؛ مما يحرم الطفل من حقه في التعليم وحقه في تنشئة اجتماعية سليمة.

وقد انتشر في العصر الحديث عدة من مظاهر العنف ضد الأطفال، ومن أكثر هذه المظاهر انتشارًا:

أ- عدم العناية بالصحة البدنية للطفل.

إن صحة الطفل البدنية لا تلاقي الكثير من العناية في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، وهذا يعد مظهرًا من مظاهر الإهمال السلوكي، يؤثر على الطفل في مراحل حياته المختلفة، ورغم عناية التشريع الإسلامي بصحة الطفل البدنية إلا أن كثيرًا من البلدان الإسلامية لا تلتفت إلى ذلك.

لقد كفل الإسلام للطفل حقه في العناية بصحته البدنية حتى قبل خروجه إلى الدنيا؛ فقد أعطى الإسلام الجنين حقًّا في العناية به وبأمه، أما العناية به فقد منع كل أذى يصل لأمه أثناء حملها فيه فمنع إيقاع العقوبة عليها التي تودي بحياتها أثناء الحمل، فقد أرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على الغامدية حتى تلد، وما كان ذلك إلا حفاظًا على حق العناية بالجنين أثناء حمله.

وسبق القول أن الفقه الإسلامي قد أجاز للأم الحامل أن تفطر في رمضان؛ وذلك لحرص الإسلام على سلامة الجنين وتغذيته تغذية جيدة.

ومن حق الولد على أمه بعد ولادته أن تقوم بإرضاعه من حليب ثديها الذي جعله الله غذاء كاملا له لذلك أوجب الإسلام على الأم أن ترضع أولادها، وزيادة في حرص الإسلام على رضاع الطفل شرع النفقة والأجرة للأم على إرضاعها ولدها بعد عدة الطلاق أو الوفاة وذلك تشجيعًا للوالدات على إطالة فترة الرضاع. وعلى المولود له أن يؤجر له من يرضعه إن لم ترضعه أمه.

واستمرارًا لحق الطفل في العناية بصحته البدنية رسم الشرع الشريف المسئوليات المفروضة على والده فأوجب نفقة الأولاد على الوالدين أو المربين ليوفر للأولاد أول عناصر التربية البدنية وهي توفير القوت، ويؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته”([111]).

ومن تمام النفقة المأمور بها الوالد تهيئة الغذاء الصالح لأولاده والمسكن الصالح والكساء الصالح.

ومما طلبه الشارع من الوالدين الحفاظ على أبنائهم من الأخطار، ومن ذلك تجنيبهم الأمراض والأوبئة وذلك من خلال تعليمهم القواعد العامة الصحيحة لتصبح عادة لديهم وتكون بمثابة الوقاية لهم من الإصابة والأمراض، وكذلك أمر بالتداوي وتعويد الأطفال الرياضة، وهذا واضح في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ب- عدم العناية بالصحة النفسية للطفل.

يعد عدم العناية بصحة الطفل النفسية من مظاهر العنف التي لا يُلتفت لها في معظم المجتمعات العربية والإسلامية؛ فيظن كثير من الأفراد أن كفالتهم المأكل الحسن والملبس الحسن والمأوى الحسن كافيًا في بناء نفسية سوية للطفل، ولذلك يقعون في كثير من التصرفات التي تؤثر على صحة الطفل النفسية؛ كإهانته وتسميته بما يكره ومعاتبته أمام غيره ونحو ذلك.

وقد حرص التشريع الإسلامي على صحة الطفل النفسية من لدن ولادته فندب رسول الله إلى تحسين الأسماء، وكان من سننه صلى الله عليه وسلم تغيير الأسماء السيئة إلى أسماء حسنة، ولقد جاء نص اتفاقية حقوق الطفل موافقًا لما دعا إليه الإسلام من تسمية الأولاد وأحقيتهم في ذلك.

ولما كانت للعادات التي يكتسبها الطفل في الصغر أثر كبير في تكوين أخلاقه وسلوكياته وجب على الوالدين أن يُعودا أولادهما على العادات الحسنة التي تكون سببًا في سعادتهم في دنياهم وآخرتهم واستقرار صحتهم النفسية.

ومن المشاعر النبيلة التي أودعها الله في قلوب الآباء والأمهات شعور الرحمة بالأولاد والرأفة بهم والعطف عليهم، وهو شعور كريم له في تربية الأولاد وتكوينهم النفسي أثره العظيم؛ ولهذا نجد الشريعة في جميع التشريعات ترسخ مشاعر الرأفة والرحمة وتحضُّ الكبار من الآباء والأمهات عليها.

4- مسألة ختان الإناث.

يظن كثير من الناس أن قضية ختان الإناث قضية جديدة أثيرت في أيامنا هذه، وبعضهم يدعي أنها قد أثيرت بعد مؤتمر السكان بالقاهرة، والأمر ليس كذلك، فختان الإناث أثاره الشيخ رشيد رضا في مجلته المنار في سنة 1904م.

وفي سنة 1951م أرسل معالي وزير الصحة المصري إلى فضيلة العلامة الشيخ محمود شلتوت عضو هيئة كبار العلماء وأستاذ الشريعة بالأزهر الشريف (والإمام الأكبر فيما بعد) يسأله عن قضية الختان؛ خاصة ختان الإناث، فيقول بكل وضوح: “والشريعة تقرر مبدأ عامًّا، وهو أنه متى ثبت بطريق البحث الدقيق لا بطريق الآراء الوقتية التي تلقى تلبية لنزعة خاصة أو مجاراة لتقاليد قوم معينين أن في أمر ما ضررًا صحيًّا أو فسادًا خلقيًّا وجب شرعًا منع ذلك العمل؛ دفعًا للضرر أو الفساد، وإلى أن يثبت ذلك في ختان الأنثى فإن الأمر فيه على ما درج عليه الناس وتعوده في ظل الشريعة الإسلامية وعلم رجال الشريعة من عهد النبوة إلى يومنا هذا، وهو أن ختانها مكرمة وليس واجبًا ولا سنة”.

وتتوالى آراء المشايخ على ذلك، ويتبين من كل ذلك أن المسألة قديمة، وأن هذا الأمر عند كبار العلماء متعلق بالمعارف الطبية اليقينية، ولما كانت المعارف الطبية السائدة في العصور الأولى تقول بنفعه، فقد قال الفقهاء: بأنه مكرمة، وكلمة “مكرمة” تنفي أنه واجب، بل وأنه سنة، وتجعله عادة يمتثل الناس لمعارفهم العلمية في كل عصر.

وقد أخذت المعارف الطبية في التطور والرصد للحالات والبحث الدقيق حتى استقرت الآن على الضرر البليغ لختان الإناث فيما هو إجماع بين المتخصصين في هذا الشأن، وكان الطبيب الذي يخالف هذا الإجماع تراه غير متخصص فيه، وتراه يتكلم بطريقة غير علمية، وقد تتعلق بأمر آخر غير العلم من ثقافة سائدة أو ظن أن الشريعة تأمر به، فيكون متحرجًا أو غير ذلك.

والختان أربعة أنواع: النوع الأول منه يتم فيه نوع من القطع أي الجرح وليس الاستئصال، والأنواع الأخرى يتم فيها الاستئصال، والنوع الأول هو الذي أقره الأطباء قديمًا، وأما الأنواع الثلاثة فهي عدوان يستوجب القصاص أو الدية، والنوع الأول وهو أخفها إنما هو من العادات المرتبطة بالمعارف الطبية، وحيث أجمع الأطباء المتخصصون أهل الفن الكبراء وأطبقت كلمتهم على ضرر هذا الفعل، فقد وجب القول بمنعه وتحريمه وتجريمه، وليس في ذلك تجريم لسنة قد تركها لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم كما يدعي بعضهم.

ومما ذكرناه وجب أن تطبق كلمة العلماء الشرعيين على تحريم هذه الفعلة؛ واعتبارها مظهرًا من مظاهر العنف ضد الأطفال.

وهذا ما أقرته الفتوى المنضبطة، فقد ذهبت فتوى دار الإفتاء المصرية إلى أنَّ ختان الإناث لا موجب له من الشرع الشريف، وكل ما ورد فيه من أحاديث إنما دلت على تقييده بُغية الوصول إلى منعه، وبيان عظيم شره، والتحذير من انتهاك جسد المرأة بهذه العادة، في سياقٍ يؤكد عدم جواز الادعاء بأن فعلها عبادة، بل هو سقف معرفي، وصل إليه حينذاك العقل البشري، فإذا ما ارتفع هذا السقف المعرفي، وترتب عليه تغير المدرك العقلي، أو تغيرت أحوال الناس واختلفت البيئات، لزم أن يتغير بناءً على ذلك ما استقر لدى هذه المجتمعات، من تلك العادات، وهذا ما أقره الشرع في قواعده والأصول واستحسنه، وتواردت نصوصه على أن الأحكام المترتبة على العادات تتغير بتغيرها.

وأنه قد تقرر شرعًا أنه “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”، وثبت ما في هذا الفعل من ضررٍ حسيٍّ ومعنويٍّ، يلحق بالأنثى على المستوى الشخصيّ والأسريّ، دون أدنى فائدة مرجوة، تعود عليها بالمسرة، أو على زوجها بالحظوة، بل هو عكس ذلك؛ يُورِد المهالك، ويَنهَك المسالك، ويُذهِب كمال الانتفاع؛ فوجب لأجل ذلك القول بتحريمه، واعتباره جريمة، على ما جرت به قواعد الشريعة الإسلاميـة، ومقاصدهـــا الـمرعية.

وأضافت الفتوى: أن المشرع المصري استند في قطع دابر هذا الفعل الإجرامي إلى أقوال أهل العلوم والخبرة الطبية؛ تطبيقًا لما أمرت به نصوص الشريعة الإسلامية، فأصدر من القانون ما يَمنَعُ به هذه الفِعلة الشنعاء، ويَعُدُّها جريمة نكراء، ويغلِّظ العقوبة على مُرتَكِبِها. وأوردت الفتوى نصوص قانون العقوبات المصري نصَّت على عقوبات بالسجن لكل من أجرى ختانًا لأنثى بإزالة أي جزء من أعضائها التناسلية الخارجية بشكل جزئي، أو تام، أو ألحق إصابات بتـلك الأعضاء، فإذا نشأ عن ذلك الفعل عاهة مستديمة تكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن سبع سنوات، أما إذا أفضى الفعل إلى الموت تكون العقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن عشر سنوات.

وتقضى المحكمة فضلًا عن العقوبات المتقدمة بحرمان مرتكبها من الأطباء ومزاولي مهنة التمريض من ممارسة المهنة مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على خمس سنوات، تبدأ بعد انتهاء مدة تنفيذ العقوبة، وغلق المنشأة الخاصة التي أجرى فيها الختان([112]).

5- العنف الجنسي ضد الأطفال.

ويقصد به استخدام الطفل لإشباع الرغبات الجنسية لشخص آخر، ويبدأ الاعتداء الجنسي من التحرش الجنسي إلى ممارسة الجنس بشكل كامل مع الطفل، وهذا سيؤدي بلا شك إلى عدة آثار سلبية خطيرة على الطفل؛ كإفساد أخلاق الطفل وتهتك الأعضاء الجنسية لدى الطفلة وحرمان الطفلة من الحمل والولادة في المستقبل.

وقد وقف الإسلام ضد الممارسات الجنسية المنحرفة وقفة صارمة أراد من خلالها أن يحفظ للطفولة كرامتها وبراءتها التي يسلبهما الاستغلال الجنسي الذي لا يدل على أدنى معاني الكرامة الإنسانية لدى المتجرئ عليه، حيث يصبح الطفل بفعل هذا الاستغلال آلةً أو لعبةً يلعب بها أُناس نزعت من قلوبهم الرحمة والعفة والحياء.

وقد عمل الإسلام على حفظ حق الطفل والطفولة ضد كل ما يساعد على الانحرافات الأخلاقية والجنسية، فمهد له طريق العفة والحياء من أول إدراكه لمعنى الحياة؛ فأمر الوالدين بالتفريق بين الأطفال في المضاجع وأمر الأطفال بالاستئذان عند إرادة الدخول على الوالدين والأهل لكي يجنب الأطفال مفسدة الاطلاع على العورات في مثل هذه السن المبكرة. ولا شك أن الإسلام وهو يحيط الأطفال بهذه الرعاية التامة فإنه يمنع منعًا قطعيًّا استغلالهم استغلالا جنسيًّا أو منحرفًا.

ومن أشكال الاستغلال الجنسي الشائع زواج القاصرات؛ فهو يعتبر استغلالا جنسيًّا للأطفال يجب معاقبة من يفعله أو يقوم به سواء الأبوين أو المحامين أو الوسطاء، والأب الذي يزوج ابنته القاصر لرجل في عمر جدها يعتبر فاسقًا، وتسقط ولايته على أبنائه، ولابد من عقاب كل من الأب والأم والوسيط والمحامي والزوج، وأن يكون العقاب رادعًا لمواجهة هذه الظاهرة التي تنتشر بقوة فى بعض البلاد العربية والقرى المصرية.

وهكذا التقى التشريع الإسلامي في مسألة الاستغلال الجنسي مع الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي تنص على منع استغلال الطفل في جميع أشكال الاستغلال الجنسي والانتهاك الجسمي.

وقد نصت الفتاوى المنضبطة على تحريم التحرش الجنسي بجميع صوره؛ ومن ذلك فتاوى دار الإفتاء المصرية؛ وفيها: ” التحرش الجنسي جريمة وكبيرة من كبائر الذنوب وفعل من أفعال المنافقين، وقد أعلن الإسلام عليه الحرب، وتوعد فاعليه بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، وأوجب على أولي الأمر أن يتصدوا لمظاهره المُشينة بكل حزم وحسم، وأن يأخذوا بقوة على يد كل من تُسَوِّل له نفسُه التلطخَ بعاره”([113]).

6- التنمر:

يدور المعنى اللغوي للتَّنمُّر حول التوعُّد والتهدُّد؛ يقال: تنَّمر فلانٌ لفلانٍ، إذا أظهرَ تهدُّدًا، وتَنمَّر له: أي عَبَس وتَغيَّر وجهه، وأصله من شراسة الخُلق، وبه سمِّي النَّمِر السَّبُع المعروف([114]).

وهذا المعنى اللغوي مُلاحَظٌ في التعريف الاصطلاحي له؛ فيُعرَّف التَّنَمُّر عند علماء النفس بأنَّه: إيقاع الأذى على فردٍ أو أكثر؛ بدنيًا أو نفسيًا أو عاطفيًا أو لفظيًا، ويتضمن كذلك التهديد بالأذى البدني أو الجسمي بالسلاح والابتزاز، أو مخالفة الحقوق المدنية، أو الاعتداء والضرب، أو العمل ضمن عصابات، ومحاولات القتل أو التهديد([115]).

والمعنى الجامع لكل صور التنمر: أنَّه سلوك عدواني يهدف للإضرار بشخصٍ آخر عمدًا؛ سواء كان العدوان جسديًّا أو نفسيًّا؛ وهو بهذا الوصف عمل مُحَرَّم شرعًا، ويَدُل على خِسَّة صاحبه وقلة مروءته؛ وذلك لأنَّ الشريعة الإسلامية حَرَّمت الإيذاء بكل صوره وأشكاله؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» متفق عليه([116]).

والتَّنَمُّر يشتمل على جملة مِن الإيذاءات النفسية أو الجسدية الحاصلة من الـمُتَنَمِّر، والتي يحصل بسببها ضررٌ على الـمُتَنَمَّر عليه، وقد جاءت الشريعة الإسلامية لحماية الإنسان مِن كل ما يمكن أن يصيبه بالضرر؛ ففي الحديث الذي رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»([117])؛ فحَرَّمت الشريعة عليه كل ما يضره، وجرَّمَت إيصال الضرر إليه بشتى الوسائل؛ والإيذاء والاعتداء الحاصل من الـمُتَنَمِّر تجاه الآخر هو من الإضرار بالغير الممنوع شرعًا.

يضاف لذلك: أَنَّ التَّنَمُّر يشتمل -بناءً على تعريفه السابق- على السخرية واللمز والاحتقار؛ وهي أفعال مذمومة؛ جاء الشرع الشريف بالنهي عنها صراحة في القرآن الكريم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].

فهذا نهي عن هذه الأفعال الثلاثة، وأولها: السخرية، وهي في معنى الاستهزاء والاحتقار؛ يقول الإمام القرطبي: «ينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال، أو ذا عاهة في بدن، أو غير لبق في محادثته، فلعله أخلص ضميرًا أو أنقى قلبًا ممن هو على ضد صفته؛ فيظلم نفسه بتحقير مَن وقره الله، والاستهزاء بمَن عظمه الله، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمر بن شراحبيل: “لو رأيت رجلًا يرضع عنزًا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع”، وعن عبد الله بن مسعود: “البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبًا”([118])، قال عليه السلام: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»([119])»([120]).

وأما الاحتقار؛ فالنهي عنه صريحٌ في حديث الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»([121]).

ففي هذا الحديث شَدَّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن الاحتقار، والمعنى: أي يكفي الإنسان من الشر وشدته أن يحقر أخاه المسلم، فلا أشر من ذلك شر؛ قال الإمام الملا على القاري: «وقوله: «أن يحقر أخاه» خبره أي: حسبه وكافيه من خلال الشر ورذائل الأخلاق تحقير أخيه المسلم»([122]).

وأما اللمز ومعه الهمز؛ فهما بمعنى العيب والطعن، والهمز يكون بالفعل واللمز يكون بالقول، وقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن أن يعيب بعضنا البعض، وأن يطعن بعضنا البعض؛ قال الإمام ابن كثير: «وقوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أي: لا تلمزوا الناس. والهماز اللماز من الرجال مذموم ملعون، كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1]، فالهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي: اللمز بالمقال؛ ولهذا قال هاهنا: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}، كما قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضا»([123]).

كما أنَّ التَّنَمُّر قد يشتمل على السب وبذاءة اللسان، وهو مَحرَّمٌ شرعًا، ومُوجِبٌ لفسق صاحبه؛ ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»([124]).

قال الإمام ابن بطال: «سباب المسلم فسوق؛ لأن عرضه حرام كتحريم دمه وماله، والفسوق في لسان العرب: الخروج من الطاعة، فينبغي للمؤمن أن لا يكون سبَّابًا ولا لعَّانًا للمؤمنين، ويقتدي في ذلك بالنبي عليه السلام؛ لأنَّ السب سبب الفرقة والبغضة»([125]).

وقال الإمام النووي: «وأما معنى الحديث: فسب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة وفاعله فاسق»([126]).

والسب والتعدي على أعراض الإنسان وإيذاؤه بالضرب أو القتل ونحوه كل ذلك سبب لإفلاس الإنسان يوم القيامة؛ فقد أخرج الإمام الترمذي في “سننه” عن أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»([127]).

ومن هنا فقد عملت الفتوى المنضبطة على منع التنمر بجميع صورة؛ ومن ذلك ما صدر عن دار الإفتاء المصرية من أن: «التَّنَمُّر بجميع صوره مذمومٌ شرعًا، ومَجَرَّمٌ قانونًا؛ وذلك لما يشتمل عليه من الإيذاء والضرر الـمُحَرَّمين، إضافة لخطورته على الأمن المجتمعي من حيث كونه جريمة، وتناشد دار الإفتاء المصرية جميع فئات المجتمع بالعمل على التصدي لحل هذه الظاهرة، ومواجهتها، وتحَمُّل المؤسسات التعليمية والدعوية والإعلامية دورها من خلال بيان خطورة هذا الفعل والتوعية بشأنه؛ بإرساء ثقافة الاعتذار في المجتمع، ومراعاة حقوق الآخرين»([128]).

وقال مرصد الأزهر العالمي للفتوى: «مشكلة التنمر من السُّلوكيَّات المرفوضة التي تُنافي قيمتي السَّلام وحُسن الخُلق في شريعة الإسلام. وتوضح المطوية أن التَّنمُّر هو: شَكل من أشكال الإساءةِ والإيذاءِ والسخريةِ يُوجَّه إلى فرد أو مجموعة أضعف من قِبِل فرد أو مجموعة أقوى بشكلٍ مُتكرر، مشددة على أن وجوده في أماكن تلقِّي العلم، من مدارس وجامعات، أشد خطرًا، وأعظم ضررًا، لكونه يتنافى مع دَوْر التَّعليم في تهذيب السُّلوك وسمو الوجدان، ولأنَّ أغلب أضراره تقع على أطفال في مُقتبل أعمارِهِم.

ووجه المرصد النصح للوالدين بأن ينتبها لحال الطفل في البيت، وصحَّته النَّفسيَّة؛ فقد تصدر منه تصرفات تدل على تعرُّضه للتَّنمُّر في مدرستِه أو مُجتمعه بشكلٍ عام، ومن أشهر هذه التصرفات:

اعتكاف الطِّفل في غرفته لأوقات طويلة، ورفضه الجلوس على مائدةٍ واحدة مع أسرتِه، أو ظهور تغيّر واضحٍ في سلوكه كتوتّره، أو تعلُّقه الزَّائد بالأهل، أو ظهور تغيُّر في عاداتِه اليوميّة كرفضه الأكل في مكانٍ مُعين، أو التَّراجُع المُفاجئ في مُستواه الدِّراسي وصُعوبة تركيزه، أو شكواه من أمورٍ لم يكن ينتبه إليها، أو يشكو منها كشيء في شكله، أو اسمه، أو مكان مُعين.

كما نبّه على بعض الحلول للوقاية من التنمر وأضراره ومنها:

غرس التواضع والحلم وحب الآخرين في الطفل منذ صغره، وتربية الطفل منذ صغره على توقير الكبير والعطف على الصغير، وإيجاد بيئة اجتماعية جيدة للطفل من خلال انتقاء صحبة صالحة تعينه على فعل الخير، وحسن الخلق، بالإضافة إلى تقويم الطفل وعدم تبرير أخطائه حتى لا يختل ميزان الخطأ والصواب لديه، مع مراعاة الرفق واللين، وأيضا إبعاد الطفل عن مشاهدة العروض والمشاهد التلفزيونية العنيفة، بما في ذلك أفلام الكرتون وألعاب الفيديو التي تنمي العنف»([129]).

المبحث الرابع: الدور المجتمعي لدور الإفتاء في حل المشكلات الأسرية:

لدور الإفتاء المعتمدة في العالم الإسلامي دور كبير في حل المشكلات الأسرية، ومن ذلك ما قامت به دار الإفتاء المصرية من إنشاء مركز خاص لـ”الإرشاد الزواجي” ويُعد هذا المركز أولَ مركزٍ متخصص في هذا الشأن في جمهورية مصر العربية، ثم تلاه إنشاء الكيانات الحكومية الأخرى التي تقوم بدورٍ قد يتشابه مع دور مركز الإرشاد الزواجي بدار الإفتاء المصرية في الهدف ولكنه يختلف عنه في الأدوات والمنطلَقات والآثار؛ حيث يقوم مركز الإرشاد الزواجي بدار الإفتاء المصرية بدورين؛ أحدهما: وقائيٌّ يتعلق بتدريب المقبلين على الزواج، والثاني: علاجيٌّ يتعلق بتلقي وحل المشكلات الأسرية.

وفي هذا المركز يتم تلقي المشكلات من خلال قيام دار الإفتاء المصرية بمهمتها الأساسية في الإفتاء؛ وذلك بتحويل الفتاوى التي تتعلق بها مشاكل أسرية إلى المركز؛ ومن هنا عُدَّ الإفتاء رافدًا أساسيًّا للحالات التي يُعالجها مركز الإرشاد الزواجي؛ حيث تستقبل الدار ما يزيد على (1000) سؤال يوميًّا؛ ولذلك كان مركز الإرشاد الزواجي التابع لدار الإفتاء المصرية أقربَ لتصورِ ومعرفةِ أسباب المشاكل الأسرية وأكبر تأثيرًا وأقدر على علاجها، وهو مركز ضروريٌّ لأداء دار الإفتاء المصرية لوظيفتها الأساسية.

وفي مواجهة قضية الطلاق المبكر أنشأت دار الإفتاء المصرية جملةً من المبادرات لعلاج هذه الظاهرة، منها وحدة للإرشاد الزواجي تحال إليها المشكلات من إدارات الفتوى المختلفة وفض المنازعات الأسرية، وفي هذه الوحدة لجنة مشتركة من الطب النفسي والمتخصص في الشريعة وغيرها من الجوانب.

ويعمل مركز الإرشاد الزواجي بها على تحقيق الاستقرار الأسري بحل النزاعات الزوجية؛ فيختص بحل المشكلات بين أفراد الأسرة الواحدة، وخاصة مشكلة الطلاق، كما يعمل على الحد من المشاكل الزوجية والاستقرار الأسري وتوعية الشباب غير المتزوج ومساعدته على الاختيارات؛ وذلك باستخدام الطرق التوعوية الحديثة من الإرشاد النفسي والشرعي.

وكذلك طورت دورات لتأهيل المقبلين على الزواج لتدعيم الشباب بالمعارف والخبرات والمهارات اللازمة لتكوين حياة زوجية وأسرية ناجحة، وهذه الدورات لا تغطي الجانب الشرعي فقط، ولكن يدخل فيها الجانب النفسي والاجتماعي.

كما أطلقت دار الإفتاء المصرية مبادرة كوسيلة لمواجهة أزمة الطلاق والزواج المبكر في مصر، وهي الأولى من نوعها لتدريب المأذونين على التحقق من أسباب الطلاق قبل عقده بين الطرفين، بالتعاون مع وزارة العدل.

وتهدف المبادرة إلى معرفة سبب الطلاق وتدخل الجهات المعنية بالأمر مثل المؤسسات الدينية ومراكز الأبحاث الاجتماعية وعلماء الاجتماع والنفس؛ لبحث أسبابه وطرق علاج هذه الظاهرة بأسلوب احترافي عن طريق تدريب وتعليم المأذونين على الأحكام الفقهية الخاصة بالطلاق.

 

([1]) انظر: المشكلات الأسرية وعلاجها من خلال جهود مكاتب الإصلاح بوزارة العدل (ص46).

([2]( أخرجه أبو داود (4919)، والترمذي وصححه (2509) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

([3]( تقدم تخريجه.

([4]( أخرجه البخاري (5225).

[5])) ينظر: شرح الشيخ الخرشي على المختصر (1/ 48)، والتقريب والتيسير للنووي (ص 95)، وتدريب الراوي للسيوطي (2/ 699).

[6])) المقدمة، ط. دار الفكر (1/ 578)، مع تاريخ ابن خلدون.

[7])) ينظر في تفصيل ذلك: تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري بك، والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للشيخ محمد بن الحسن الحجوي، ومذكرات في تاريخ الفقه للأستاذ الشيخ محمد فرج السنهوري، والمدخل لدراسة الفقه الإسلامي للدكتور محمد مصطفى شلبي، والمدخل للفقه الإسلام للأستاذ الدكتور محمد سلَّام مدكور.

[8])) أخرجه أبو داود (2894)، والترمذي وصححه (2101)، وابن ماجه (2724).

[9])) أخرجه البخاري (946)، ومسلم (1770).

([10]) انظر: أثر الاختلاف في القواعد الأصوليّة في اختلاف الفقهاء، الخن، (ص 119).

([11]) تقدم تخريجه.

([12]) راجع في مواكبة الاجتهاد الفقهي لما يستجد من حوادث. كتاب فضيلة مفتي الديار المصرية الأستاذ الدكتور شوقي علام: “تحديد الجنس وتغييره بين الحظر والمشروعية”، مكتبة الوفاء، (ص 3).

([13]) المغني لابن قدامة (7/93).

 ([14])أخرجه البخاري، (2721)، ومسلم (1418).

([15]) أخرجه أبو داود، رقم (3594)، والترمذي، رقم (1352)، وقال: حسن صحيح.

([16]) انظر: المبسوط للسرخسي (4/212).

([17]) انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني (2/240)، ط. دار الكتب العلمية.

([18]) انظر: تفسير المراغي للشيخ أحمد مصطفى المراغي (4/188)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة، زهرة التفاسير للشيخ محمد أبو زهرة (3/1591)، دار الفكر العربي.

([19]) انظر: الفتاوى الكبرى، ابن تيمية (3/278)، دار الكتب العلمية.

([20]) انظر: موافقة قوانين الأحوال الشخصية لاختيارات ابن تيمية، للدكتور مساعد بن عبد الله الحقيل، بحث بمجلة قضاء من إصدار الجمعية العلمية القضائية السعودية، العدد التاسع، ذو الحجة 1438هـ (ص162-166).

([21]) انظر: الأحوال الشخصية للشيخ محمد أبو زهرة (ص108)، أحكام الأسرة في الإسلام للدكتور محمد مصطفى شلبي (ص144).

([22]) حاشية الرملي على أسنى المطالب شرح روض الطالب لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (3/139).

([23]) مغني المحتاج للخطيب الشربيني (3/164).

([24]) حكاه عنه الإمام الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع (2/240).

([25]) حكاه عنهما الإمام أبو بكر الجصَّاص في أحكام القرآن (2/346)، والإمام السرخسي في المبسوط (4/212).

([26]) المبسوط للسرخسي (4/212).

([27]) المبسوط للسرخسي (4/212).

([28]) ينظر: الأسرة لأحمد حمد (ص44)، نظام الأسرة في الإسلام للدكتور مصطفى ديب البغا (ص55)، أحكام الأسرة في الإسلام للدكتور محمد مصطفى شلبي (ص82).

([29]) ينظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (38/ 259-266).

([30]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58).

([31]) أخرجه الترمذي (1995).

([32]) تقدم تخريجه.

([33]) ينظر في هذه المسألة: أحكام الزواج والطلاق في الإسلام لبدران أبو العينين (ص39).

([34]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (86) لسنة 2012م.

([35]) أخرجه أحمد (11606).

([36]) تقدم تخريجه.

([37]) أخرجه الترمذي وحسنه (1977).

([38]) أخرجه أبو داود (4792).

([39]) ذئرن: نشزن وتجرأن وساء خلقهن.

([40]) أخرجه أبو داود (2146).

([41]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 216).

([42]) انظر: المشكلات الأسرية وعلاجها من خلال جهود مكاتب الإصلاح بوزارة العدل (ص63)، وما بعدها.

([43]) عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري (1/128)، دار الكتب العلمية-بيروت، 1418هـ.

([44]( أخرجه عبد الرزاق في المصنف (15304).

([45]( أخرجه البخاري (2693) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

([46]( تقدم تخريجه.

([47](الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/385)، ط. عالم الكتب.

([48]) تقدم تخريجه.

([49]( أخرجه البخاري (1432) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

([50]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2707)، ومسلم (1009) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([51]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (13/ رقم 31)، والبيهقي في الشعب (10581) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

([52]) أخرجه البيهقي في الشعب (10580) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([53]) أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([54]) أخرجه الترمذي (1319) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([55]) المبسوط للسرخسي (21/62).

([56]) انظر: بلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي (2/513)، دار المعارف.

([57]) متفق عليه: أخرجه البخاري (441)، ومسلم (2409).

([58]( تقدم تخريجه.

([59]( متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2705)، ومسلم (1557).

([60]( متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2692)، ومسلم (2605) من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.

([61]( تقدم تخريجه.

([62]( أخرجه أحمد (20695) من حديث أبي حرة الرقاشي، عن عمه رضي الله عنه.

([63]( أخرجه مسلم (2593).

([64](انظر: شرح النووي على مسلم (16/ 145)، ط. دار إحياء التراث العربي.

.

([65]( تقدم تخريجه.

([66]( متفق عليه: أخرجه البخاري (3482)، ومسلم (2242).

([67]( تقدم تخريجه.

([68]( أخرجه أبو داود، رقم (3630)، والترمذي (1417).

([69]( أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي (1/535)، دار الكتب العلمية-بيروت.

([70]( أخرجه النسائي في الكبرى (9104)، وابن ماجه (3678) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([71]( أخرجه البخاري (6149)، ومسلم (2323) من حديث أنس رضي الله عنه.

([72]( تقدم تخريجه.

([73]( تقدم تخريجه.

([74]( أخرجه مسلم (2328).

([75]( أخرجه الطبري في التفسير (6/711).

([76]( مواهب الجليل للحطاب (4/15، 16).

( [77](انظر: بلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي (4/ 392).

([78]( أخرجه البخاري (2559)، ومسلم (2612).

([79]( تقدم تخريجه.

( [80](التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (5/41، 42)، ط. دار سحنون تونس.

( [81](التحرير والتنوير (5/44).

([82]( أحكام القرآن لابن العربي (1/536).

([83]( انظر: التحرير والتنوير (5/43).

([84]( أخرجه البخاري (5204)، والبيهقي في الكبرى (14780) من حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه.

([85]( أخرجه الترمذي وصححه (2627)، وأحمد (8931)، وصحَّحه ابن حبان (180) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([86]( أخرجه الطبراني في الكبير (17/ رقم476).

([87]( صحيح البخاري (8/ 159).

([88]( فتح الباري (12/85)، ط. دار المعرفة.

([89]) دراسة مقارنة لتاريخ التربية لعبدالغني عبود، ص130، ط. دار الفكر، الطبعة الأولى، 1978م.

([90]) تربية الطفل بين الماضي والحاضر لفتحية حسن سليمان، ص44، ط. دار الشروق، 1979م.

([91]) جمهورية أفلاطون، ترجمة ودراسة فؤاد زكريا، ص360، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974م.

([92]) تربية الطفل بين الماضي والحاضر، ص13.

([93]) تقدم تخريجه.

([94]) أخرجه مسلم (537).

([95]) إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (2/ 462)، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع-مصر.

([96]) مرقاة المفاتيح (2/ 775).

([97]) تقدم تخريجه.

([98]) أخرجه الترمذي وصححه (2616).

([99]) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 278).

([100]) حجة الله البالغة (1/ 316).

([101]) مواهب الجليل (1/ 414).

([102]) التاج والإكليل (2/ 57).

([103]) تقدم تخريجه.

([104]) مرقاة المفاتيح (9/ 3716).

([105]) حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي (1/ 221).

([106]) تقدم تخريجه.

([107]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (1638) لسنة 2009م.

([108]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (48) لسنة 2018م.

([109]) ينظر: موقع مجمع الفقه الإسلامي الدولي.

https://iifa-aifi.org/ar/

([110]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (586) لسنة 2011م.

([111]) أخرجه مسلم (996) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

([112]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (16487)، بتاريخ: 10 نوفمبر 2021م.

([113]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (49) لسنة 2013م.

([114]) ينظر: “الاشتقاق” لابن دريد (ص: 148، ط. دار الجيل، بيروت)، و”شمس العلوم ودواء العرب من الكلوم” لنشوان الحميري (10/ 6763، ط. دار الفكر).

([115]) ينظر: “سلوك التنمر عند الأطفال والمراهقين” د. على موسى الصبحيين، د. محمد فرحان القضاة (ص: 8، ط. جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض).

([116]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

([117]) تقدم تخريجه.

([118]) ذكره البغوي في شرح السنة (13/ 141- المكتب الإسلامي- بيروت).

([119]) أخرجه مسلم (2564).

([120]) تفسير القرطبي (16/ 325).

([121]) أخرجه مسلم (2564).

([122]) مرقاة المفاتيح (7/ 3106).

([123]) تفسير ابن كثير (7/ 376).

([124]) أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64).

([125]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 241).

([126]) شرح صحيح مسلم للنووي (2/ 54).

([127]) تقدم تخريجه.

([128]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (15627) لسنة 2020م.

([129]) مرصد الأزهر العالمي للفتوى، مقال بتاريخ الأربعاء: 29 رجب 1443 هـ/02 مارس 2022 م عن ظاهرة التنمر مع الأطفال ومواجهتها.

اترك تعليقاً