البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثاني: دور الفتوى في حفظ العلاقة بين الأبناء والآباء

الفصل الأول: مسئوليات الولد تجاه والديه.

83 views

إن علاقةَ الولد بوالديه مسألةٌ تتعلق بالإنسانية المَحْضَة فضلًا عن أن تكون مسألةً تحث عليها الشرائع؛ فليس هناك نظامٌ اجتماعيٌّ على مَرِّ التاريخ لم يتمسك بهذه القيمة؛ لذا قال تعالى محذِّرًا مِن المَسَاس بهذه العلاقة مهما يكُن مِن شيءٍ: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233].

وللوالدين على أولادهما حقوقًا عظيمة تضمنتها كثير من نصوص الشريعة الإسلامية من كتاب وسنة، وقرنت حقوقهما بحقوق الله في القرآن الكريم لأهميتها؛ يقول تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23- 24]، بل وقَرَنَ ذلك بعبادته، وقرن عقوقهما بالشرك به سبحانه؛ قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وقَرَن الشكرَ لهما بشكره سبحانه وتعالى بقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وأكد على ذلك كلِّه حتى في حال أمرهما لولدهما بالشرك؛ قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، ولَمَّا امتدح اللهُ تعالى سيدَنا يحيى عليه السلام قال: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14]، وإنما لَم يأمر الوالدين بمِثل ذلك للاستغناء بالطبع عن الشرع؛ فعلاقة الوالدين بولدهما هي علاقة طَبَعِيَّة جُبِلَت عليها الفطرة السوية.

والبر بالوالدين فرضُ عينٍ؛ فهو عبادةٌ لا تقبل النيابة؛ قال العلَّامة برهانُ الدين ابنُ مازه البخاري الحنفي: «وطاعةُ الوالدين وبِرُّهُما فرضٌ خاصٌّ لا يَنُوبُ البعضُ فيه عن البعض»([1])، بخلاف رعايتهما؛ فإنها فرضُ كفايةٍ.

والسبب في عناية الإسلام بحقوق الوالدين أنهما السبب المحسوس المباشر في وجود الولد، ومن كان سببًا في وجودك فحقه عليك عظيم، ولذا نرى القرآن الكريم يجمع بين حق الله وحقهما كما قلنا، ولما كان الله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات وهو مصدر وجود المخلوق كان حقه مقدمًا على كل أحد.

وكذلك اعتنى الإسلام بحقوق الوالدين لما يعانيانه من المشقات في القيام على مصالح أولادهما، من حمل ووضع وإرضاع من قبل الأم، ومن تربية وإنفاق وتنظيف وتمريض وإشفاق من قبلهما معًا، وقد أشارت الآيات القرآنية إلى ذلك كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].

وقال تعالى ـ بعد أن أمر الولد بالإحسان إليهما ونهاه عن أدنى ما يمكن أن يصدر عنه من عقوق لهما: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].

وبالتأمل في الآيات القرآنية يظهر أن الوالدين يشتركان في تربية الولد الدينية والعقلية والجسمية، وإن كان بعضهما ألصق ببعض هذه الأمور، ولكن الأم تختص بتحمل المشاق التي لا يشاركها فيها الأب، كالحمل والوضع والإرضاع ومن هنا كان حق الأم آكد على الولد من حق الأب، وقد أوضحت ذلك السنة الصحيحة تمام الإيضاح؛ فقد سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال: (أمك). قال: ثم من؟ قال: (أمك). قال: ثم من؟ قال: (أمك). قال: ثم من؟ قال: (أبوك)([2]).

وتتمثل مسئولية الابن تجاه أمه في عدم عقوقها والحرص على إرضائها ورعايتها حق الرعاية في كبرها فيطعمها مما يطعم ويكسوها مما يلبس ويلزم إرضاءها فيما لا يغضب الله عز وجل.

وقد دلت السنة أن حق الوالدين آكد على ولدهما من الجهاد ففي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: “جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: (أحي والداك؟) قال: نعم. قال: (ففيهما فجاهد)([3]).

وتتمثل مسئولية الولد تجاه والديه في صحبتهما بالمعروف ولو كانا على غير دينه أو مذهبه، عدم عقوقهما، ولا يرفع صوته عليهما ولا ينهرهما ولا يؤذيهما أدنى إيذاء ولو بالإشارة، ويلزمه الإحسان إليهما، وإكرامهما والقيام بحقوقهما، ورعايتهما حق الرعاية في كبرهما فيطعمهما مما يطعم ويكسوهما مما يلبس ويلزم إرضاءهما فيما لا يغضب الله عز وجل.

كما يلزمه رعاية حقوقهما بعد وفاتهما بالدعاء والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما ووصيتهما وإكرام صديقهما وصلة رحمهما.

وقد قامت الفتوى المنضبطة بدور كبير في بيان حقوق الوالدين على أولادهما، والفتاوى في هذا الشأن من الكثرة بمكان، نذكر منها: فتوى بحثية لدائرة الإفتاء الأردنية بيَّنت حقوق الوالدين على أبنائهم، فقد جاء فيها: «دعا الإسلام إلى البر بالوالدين والإحسان إليهما، ومساعدتهما بكل وسيلة ممكنة بالجهد والمال، والحديث معهما بكل أدب وتقدير، وعدم التضجر وإظهار الضيق منهما، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24]، ولهذا يعتبر الإسلام البر بالآباء والأمهات من أفضل أنواع الطاعات التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، فهما سبب وجود الأبناء، وتربيتهم الصالحة سبب سعادتهم في الحياة الدنيا والآخرة، قال عليه الصلاة والسلام: “أفضل الأعمال الصلاة لوقتها، وبر الوالدين([4])“.

ولذلك أوجب الإسلام لهما حقوقاً ينبغي على الأبناء مراعاتها حتى لو كانا مشركين، ما لم يأمرا بمعصية، قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].

ومن جملة الحقوق الواجبة على الأبناء تجاه آبائهم الاحترام المطلق في جميع الأوقات، فلا يتفوه بكلمة تغضبهما أو تسيء إليهما أو تعكر مزاجهما، ولا يرفع صوته بحضرتهما، كما أكد الدين الحنيف على وجوب الإنفاق على الوالدين وتحقيق رغبتهما، وتلبية طلباتهما بقدر الاستطاعة، دون تأفف أو ضجر.

وقد حذرت الشريعة الإسلامية من عقوق الوالدين وعصيانهما في شؤونهما، بل جعلته موجباً لسوء الخاتمة، وتوعدت العاق بتعجيل العاقبة في حياته قبل موته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل الذنوب يؤخر الله ما شاء منها إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين، فإن الله تعالى يُعَجِّلُهُ لصاحبه في الحياة قبل الممات”([5])»([6]).

ومن هذه الفتاوى أيضًا: فتوى دار الإفتاء المصرية التي بيَّنت بر الوالدين بعد الموت، فقد جاء فيها: «الأمر بالبر بالوالدين في آيات القرآن الكريم لا يحصر برهما في حال دون حال، ولا في زمان دون آخر، فيجب على الولد أن يبر والديه حال حياتهما، وإن فاته ذلك في حياتهما فلا أقل من أن يبرهما بعد وفاتهما؛ روى أبو داود في “سننه” عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي عليَّ من بر أبويَّ شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما»([7]).

فعلى من تُوفي والداه أن يكثر من الدعاء والاستغفار لهما؛ قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤]. وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في “صحيحه” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَة..» وذكر منها: «وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له»([8]).

وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري في “الأدب المفرد” عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “ترْفَع للميت بعد موته درجة، فيقول: أي رب، أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك”([9]).

إذا أوصى الوالدان أو أحدهما بشيء، أو عَهِدَا عهدًا، فمن البر تنفيذ الوصية، والوفاء بالعهد، ومن البر أيضًا صلة رحمهما والإحسان إليهم.

ومن برهما أيضًا: إكرام صديقهما ومواساته إذا كان فقيرًا، وتعهده بالسؤال وإن لم يكن فقيرًا؛ ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في “صحيحه” عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا خرج إلى مكة، كان له حمار يتروَّحُ عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يومًا على ذلك الحمار، إذ مَرَّ به أعرابي، فقال: ألست ابنَ فلان؟! قال: بلى، فأعطاه الحمار، فقال: اركب هذا، والعمامةَ، وقال: اشدُد بها رأسك، فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابيَّ حمارًا كنت تَرَوَّحُ عليه، وعمامةً كنت تَشُدُّ بها رأسك؟! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أبَرِّ البِرِّ صِلَةَ الرجل أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّي»، وإن أباه كان وُدًّا لعمر([10]).

ومن بر الوالدين كذلك أن يتصدق ويهب ثواب الصدقة لهما، لا سيما إذا كانت صدقة جارية؛ فإن ذلك يصل إليهما؛ روى الإمام البخاري في “صحيحه” عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي تُوُفيَتْ، أينفعها إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: «نَعَمْ»، قال: فإن لي مَخْرَفًا، فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها([11]).

ومن البر بالوالدين بعد موتهما أيضًا: قضاء صوم النذر أو الكفارة عنهما؛ فقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»([12]).

وكذلك زيارة قبرهما؛ فعن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإن في زيارتها تذكرةً»([13]).

وأيضًا قراءة القرآن لهما، والأحاديث في ذلك صحيحة صريحة؛ روى عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجْلَاجِ عن أبيه قال: قال لي أبي -اللَّجْلَاجُ أبو خالد–: “يا بُنَيَّ، إذا أنا متُّ فأَلْحِدْني، فإذا وضَعْتَني في لَحدي فقل: باسم الله، وعلى مِلَّة رسول الله، ثم سُنَّ عليَّ التراب سنًّا (أي ضَعْه وضعًا سهلًا)، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها؛ فإني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ ذلك”([14])»([15]).

 

 

([1]) المحيط البرهاني في الفقه النعماني (5/386).

([2]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([3]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (3004)، ومسلم (2549).

([4]) أخرجه مسلم (85).

([5]) أخرجه الحاكم في المستدرك، رقم (7263).

([6]) موقع دائرة الإفتاء الأردنية، الفتوى رقم (3090)، بتاريخ 08-07-2015م.

https://www.aliftaa.jo/

([7]) أخرجه أبو داود، رقم (5142).

([8]) أخرجه مسلم، رقم (1631).

([9]) الأدب المفرد، رقم (36).

([10]) أخرجه مسلم، رقم (2552).

([11]) أخرجه البخاري، رقم (2770).

([12]) متفق عليه: أخرجه البخاري، رقم (1952)، ومسلم (1147).

([13]) أخرجه أبو داود، رقم (3235).

([14]) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» رقم (491)، قال الهيثمي: ورجاله موثوقون.

([15]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (15820)، بتاريخ 29 ديسمبر 2020م.

https://www.dar-alifta.org/

اترك تعليقاً