البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الخامس: الفتوى واجتماعيات الأسرة.

الفصل الرابع: التكافل الاجتماعي.

77 views

يشتمل هذا الفصل على مبحثين:

المبحث الأول: التكافل الاجتماعي في الإسلام.

المبحث الثاني: الفتوى والتكافل الاجتماعي.

 

 

المبحث الأول: التكافل الاجتماعي في الإسلام:

إن الإنسان كائن اجتماعي مفطور على العيش في جماعة، ولا يستطيع أن يحيا منفردًا، ولذا كان التكافل بين الأغنياء والفقراء، وإعانة بعضهم بعضًا في الضرّاء والمشاركة في السرّاء من أهم القواعد الأساسية لبناء التضامن الاجتماعي وتحقيق الوحدة والأخوة الإنسانية بين البشر.

والتكافل: مصدر تكافل، أي تحمل عنه فهو كافل، أي: يعول إنسانًا وينفق عليه([1])، وهي تتضمن معنى المفاعلة والمبادلة، فالتكافل: تبادل الإعانة والنفقة والمعونة، وتكافل المسلمين: رعاية بعضهم بعضًا بالنصح والنفقة وغير ذلك([2]).

والتكافل الإنساني من أهم المقاصد العامة، والأهداف الأساسية في الإسلام، فالإسلام يسعى لأن تتوافر لكل إنسان -وإن كان غير مسلم- كل حاجاته الأساسية في الحياة الإنسانية من مسكن ومأكل ومشرب وأمان وعفة بالزواج وغيرها، وما كل هذا إلا لأن يتحرر الإنسان من أيّ قيد يمنعه من حرية التفكير والاعتقاد والرأي، فلا يتبنى أيّ رأي تحت قيد الحاجة الإنسانية.

ويُعد التكافل منطلَقًا لكثيرٍ من التشريعات والنظم التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي والتي تعرف بالعبادات المالية كالزكاة والنفقات بين ذوي القربى، والأمر بصلة الرحم، ونظام العاقلة وهي مشاركة أقارب الجاني من العصبات في تحمل دية القتل الخطأ، والأمر بعدالة توزيع الدخل القومي بين الأغنياء والفقراء والقرض الحسن والكفارات والنذور وغيرها.

والأساس الذي يقوم عليه مبدأ التكافل أو ما يستهدفه التكافل هو مصلحة الجماعة ووحدتها وتماسكها، والأخوة الإنسانية الشاملة.

وتتّسع فكرة التكافل في الإسلام في دوائر متماسكة الحلقات حتى تستوعب المجتمع كله، فتشمل التكافل المالي والمعنوي والاجتماعي بكل صوره بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الأسر وبعضها، وبين الجماعة وأولي الأمر، وله آليات عديدة لتحقيقه ما بين فرديّة وجماعيّة، وما بين تطوعيّة وإلزاميّة، ومثال الفردية: كفريضة الزكاة والنذور والكفارات والأضاحي وصدقة الفطر وإسعاف الجائع والمحتاج، ومثال الجماعية وتتضمن معنى الإلزامية كجباية الزكاة والاستفادة من تنظيم وسائل التكافل الفردي والاستفادة من أموال الأغنياء عند الحاجة، ووضع خطة لكيفية توزيع المال على المستحقين، ومثال التطوعية كالوقف الذري والوصية والضيافة والعارية والإيثار والهدية أو الهبة.

والإسلام لم يُعْنَ بتوفير الحاجات للمسلمين وحدهم، بل تعدَّى ذلك إلى غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية انطلاقًا من كون التكافل الاجتماعي إنسانيًا بالدرجة الأولى قبل أن يصطبغ بدين، ولأن غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية إنما هم في ذمّة المسلمين، وأن الحاكم المسلم مسئول عنهم كما هو مسئول عن المسلمين([3])، وقد جاء في كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطأة: «وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه»([4]) ([5]).

وحدود التكافل تمثل الحاجات الأساسية لكل فرد من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وهي المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، فحدوده هي الحاجات الأساسية في المسكن والمأكل والملبس والعلاج والتعليم، ويكون ذلك بالقدر الكافي لحاجة الشخص المعتاد من أواسط الناس ليس بأدناهم ولا أعلاهم، وقد رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ولي لنا شيئًا فلم تكن له امرأة فليتزوج امرأةً، ومن لم يكن له مسكنٌ فليتخذ مسكنًا، ومن لم يكن له مركبٌ فليتخذ مركبًا، ومن لم يكن له خادمٌ فليتخذ خادمًا… فمن اتخذ سوى ذلك كنزًا جاء يوم القيامة غالًّا أو سارقًا»([6]).

إن التكافل في الإسلام ليس صدقة طوعية متروكة لإرادة الأفراد إن شاءوا أدّوها أو منعوها، بل جعله الإسلام حقًّا في مال الأغنياء واجب الأداء إلى مستحقيه دون منٍّ ولا أذى، وشرع لضمان وصوله إليهم نظامًا دقيقًا يجمع بين مسئولية الأغنياء ومسئولية وليّ الأمر؛ يقول الله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]، وقال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليمٌ حكيمٌ} [التوبة: 60]، قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33]، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبلٍ حين بعثه إلى اليمن: «… فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم..»([7])، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»([8]).

والمستحقون للتكافل في الإسلام هم كافة فئات المجتمع غير القادرة على الوفاء باحتياجاتها الأساسية، المقيمون في الدولة الإسلامية بصفة دائمة أو بصفة مؤقتة طارئة، من اليتامى والضعفاء والفقراء والمساكين ومن أصابتهم الكوارث، أو تحملوا أية ديون في مصالح مشروعة ولا يستطيعون سدادها، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

المؤسسات الأهلية:

لعله من المناسب الإشارة إليه تحويل التكافل الاجتماعي إلى مؤسسات فاعلة وثابتة ومستقرة فلا تقوم على المجهود الفردي المشتت وحسب، بل تنتقل به إلى طول العمل الجماعي المنظم، وهي أيضًا مؤسسات مستقلة عن الدولة، فهي أهلية المنشأ والتكوين والتمويل؛ وينبغي أن يراعى في هذه المؤسسات التنوع والشمول لاحتياجات الأسرة، في كل مربع جغرافي حتى لا يحصل التضاد بينها، وقد ذكرت المادة بعض الأمثلة لهذا التنوع.

والتفاعل التنظيمي يقتضي وجود هيكل إداري له قيادة وأعضاء، وتحكمه نظم ولوائح، كما أن العامل في المؤسسات الأهلية متطوع بعمله أو يتقاضى أجرًا رمزيًّا على هذا العمل وهي بالنسبة له «عمل طوعي».

وتبرز أهمية العمل المؤسسي في كونه يعمل على الاستمرارية في العمل من خلال عمل جماعي منظَّم، ودون الاعتماد على شخص يتوقف بتوقفه، كما يعمل على توحيد الجهود والأموال والأوقات وتنظيمها، ويكون له القدرة التأثيرية العالية على المجتمع، ويعمل على مساعدة الدولة في نهضة المجتمع (من قبل المؤسسات الأهلية) ([9]).

المبحث الثاني: الفتوى والتكافل الاجتماعي.

سعت الفتوى المنضبطة إلى تنمية التكافل الاجتماعي في جميع أوساط المجتمع؛ فمن ذلك ما ورد في فتوى دار الإفتاء المصرية من جواز إخراج الزكاة إلى المحتاجين والفقراء من المرضى والعاملين بالمستشفى؛ وفيها: “مصارف الزكاة تكون للأصناف الثمانية الذين نصّ الله تعالى عليهم في كتابه الكريم بقوله سبحانه: {إنَّما الصَّدَقاتُ للفُقَراءِ والمَسَاكِينِ والعَامِلِينَ عليها والمُؤَلَّفةِ قُلُوبُهم وفي الرِّقابِ والغارِمِينَ وفي سَبِيلِ اللهِ وابنِ السَّبِيلِ فَرِيضةً مِنَ اللهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، والمعنى في الزكاة أنها لبناء الإنسان قبل البنيان؛ وقد اشترط العلماء فيها التمليك إلا حيث يعسر ذلك، أما الصدقات فإن الباب فيها أوسع يشمل كل نفع يعود على المجتمع جماعات او أفرادًا.

وعلى ذلك، وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز إخراج الزكاة إلى المحتاجين والفقراء من المرضى والعاملين بالمستشفى؛ لاندراجهم تحت مسمى الفقراء أو المساكين الوارد نصًّا ذكرهم في الآية الكريمة، كما يجوز إخراجها لشراء الأجهزة الطبية إذا عدم من الصدقات ما يفي بذلك”([10]).

ومن ذلك أيضًا فتوى دار الإفتاء المصرية بشأن الإنفاق من لجان الزكاة على فصول محو الأمية، وقد ذكرت هذه الفتوى أن جماعة من العلماء قد جعلوا الإنفاق على طلبة العلم داخلا ضمن مصرف في سبيل الله، وعليه فيجوز الإنفاق من هذا المصرف على العملية التعليمية من نفقات للطلبة والأساتذة، ولا يدخل في ذلك الأبنية، وكذلك يجوز العمل على محو الأمية من هذا الباب، وهو من المقاصد الشريفة الداخلة تحت مصرف في سبيل الله، فيجوز الإنفاق عليه من الزكاة والصدقة جميعًا([11]).

ومن ذلك أيضًا فتواها بشأن إقراض الصدقة لعمل مشروعات للأسر الفقيرة([12]).

 

([1]) المصباح المنير للفيومي، ص736، مادة (كفل).

([2]) د. محمد رواس قلعه جي، ود. حامد صادق، معجم لغة الفقهاء، ص142.

([3]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص 356).

([4]) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في الأموال (119- دار الفكر- بيروت).

([5]) انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم، ج1، ص144.

([6]) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في الأموال (653) من حديث المستورد بن شداد الفهري.

([7]) تقدم تخريجه.

([8]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).

([9]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص163).

([10]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (35) لسنة 2013م.

([11]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (327) لسنة 2005م.

([12]) ينظر: فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (852) لسنة 2008م.

اترك تعليقاً