البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

أسباب الإلحاد

131 views

تعرضنا في بداية بحثنا للأسباب التي رصدت سببًا للإلحاد في هذا العصر، وتتعدد أسباب الإلحاد في هذا الزمان، فالإلحاد “ليس تيارًا جديدًا ظهر نتيجة للتقدم العلمي والتطور التكنولوجي في مجال الدراسات المادية والعلمية كما يعتقد البعض، بل هو وسيلة قديمة للتعبير عن الأنا في مواجهة ما يصعب في الظاهر أو فهمه أو نقده، سواء كان ذلك الآخر هو الوجود، أو المجتمع، أو سلطات رجال الدين كما في أورُبا، أو الضغوطات المادية أو التضييقات السياسية، أو حتى آليات الإنسان المحدودة في تفسير هذا الكون وفهم دقائقه.

فيتجه صاحب هذا الفكر إلى رفض هذه الضغوط أو بعضها في صورة رفضه للشكل الثابت لمصدرها جميعًا، وما ذلك إلا كتعبير الطفل دون الثالثة عن تمرده على أبويه بسبب عدم الاهتمام أو السيطرة المطلقة برفضه للطعام، رغم أن الطعام ليس هو ما شكل له هذا الضغط، ولكنه هو الشيء الذي باستطاعته رفضه.

إلى جانب ذلك فإننا لا ننكر أن الإلحاد قد يكون نتيجة لإعمال العقل وحده في مواطن تحتاج إلى مساندة من خالق هذا العقل ومُمِدِّه بالهداية، فتصوُّر الإنسان ككائن مستقل معزول عن دائرة النظام الكوني تصوُّرٌ ناقص، إذ لو كان كذلك لما كان مخلوقًا، لكنَّ الخالق سبحانه نظم هذا الكون نظمًا متكاملًا، فكما يحتاج الإنسان إلى الهواء والطعام والشراب وغيرها من مقومات البدن والحياة يحتاج أيضًا إلى مقوماتٍ ومكملاتٍ للعقل وللروح، وأظهر تلك المقومات والمكملات هو الوحي (النبوة) الذي يأخذ بيد الإنسان من أولى درجات سلم الإدراك ليصعد معه لفهم الحقائق وتحقيق مراد الذات العلية([1]).

1- الجهل المُركَّب بحقائق الأشياء: الجهل كما يقول العلماء نوعان؛ فمنه الجهل البسيط، وهو عدم العلم أصلًا، والجهل المرُكَّب وهو المعرفة الخاطئة عن الأشياء.

وهذا الجهل المركَّب في عصرنا الحاضر مع عدم توفر الردود المناسبة من الأوساط حول الشخص السائل أو المستفهِم، أو الشاك، أو المرتاب، سلك به طريق الإلحاد.

ونحن نرى هذا الجهل في هذا العصر فاضحًا! والناس الآن وقد تعقدت عندهم عقدة الغرب، فيقرأ الإنسان العربي ما يكتبه الغربي مثلًا -وهو محتوى مليء بالمغالطات- على أنه شيء مُسلَّم.

يتحدث الملحد ديفيد رامسي ستِيل عن صفات الإله مثلًا فيقول: “إن من صفات الله سبحانه وتعالى أنه “في كل مكان! فليس مخصصًا بمكان، فالله -على سبيل المثال- في الغرفة معك حيث تقرأ هذه الكلمات؛ كما يقول القرآن -يقصد في سورة ق- أقرب إليك من حبل الوريد، إنه حاضرٌ هناك في مركز الشمس، على السطح المتجمد لبلوتو، وفي كل ذَرَّةٍ من سديم رأس الحصان على بُعْدِ ألفٍ وستمائة سنة ضوئية”([2]).

فهذا المعنى الذي ينسبه هذا الرجل الملحد للقرآن الكريم لم يقله القرآن، بل لم يقُلْهُ أحدٌ من مفسري القرآن، بل لم يَقُلْ به أحد من المسلمين، والقائلُ به خارجٌ عن الملة بالاتفاق!

فانظر إلى هذا الجهل المركب، والذي سيتقبله القارئ غير الواعي بنصوص القرآن، هكذا بدون تفحُّص، وسيجعله عقيدة عنده حول القرآن.

إن مثل هذه الأمور تحدث كثيرًا لدى الملحدين العرب، خاصةً في ظل قراءات خاطئة من قِبَل بعض المسلمين -والتي سنتطرق لها- للنصوص القرآنية.

وهناك نوع آخر من الجهل حاصله أن كثيرًا من الشباب يستحضر ما حصل في أورُبا من الإلحاد الذي كان سببه عقلانيًّا نوعًا ما، وذلك نتيجة لتصادم بين العلم وتعاليم الكنيسة، فيستحضره إلى العالم العربي، وهذا ليس بحاصل هنا!

فالنص القرآني نصٌّ واسعٌ لم يحصل بينه وبين العلم التجريبي نوع من التصادم، وفي الوقت الذي كانت الكنيسة تنص فيه على أن الشمس -مثلًا- تدور حول الأرض، وأن الأرض مركز الكون، وهو ما سبَّب الكثير من المشاكل والصراعات بين العلماء وبين الكنيسة، وكان سببًا لظهور العلمانية والإلحاد، كان علماء العرب لديهم رحابة فكرية حول إمكانية هذا الأمر!

يقول الإمام الإيجي في المواقف مع عبارة السيد الشريف: “(وهي إما على فلك) شامل للأرض (مركزُهُ خارجٌ عن مركز العالم أو على) فلك (تدوير يحمله فلك موافق المركز)”([3]).

فالصراع الذي كان قائمًا بين العلم والكنيسة كانت له أسبابه، وكانت له نتائجه، والمشكلة الكبرى هو أن يجترَّ المعاصرون ناتج هذه الصراعات إلى بلادنا، فينشأ صراعًا وهميًّا!

2- الثورة النفسية: حيث يتعرض الكثيرون -خاصةً الشباب- لكثير من الضغوطات الحياتية التي لا يملكون منها مخرجًا، سواءٌ أكانت تلك الضغوطات ضغوطًا اقتصادية، أم اجتماعية، أم دينية، فيشعر الإنسان وكأنه مسجون داخل أسوار من الضيق، ويقارِن بين نفسه وبين كثير من أقرانه الذين يعيشون ظروفًا أحسن من ظروفه وأرقى، فيشعر باختلال ميزان العدل في الكون، ويعتقد أن المسؤول عن كل هذه المعاناة هو هذا الإله؛ فيثور من داخله على هذه الضغوطات في صورة الثورة على الدين وعلى الإله، بل وعلى الثوابت أحيانًا.

وكم من واحد عبَّر بالإلحاد عن رفضه لنوعٍ ما من الضغوط؛ فالدكتور إسماعيل أدهم -مثلًا- يتحدث عن بعض أسباب إلحاده فيقول: الواقع أنني دَرَجْتُ على تربية دينية لم تكن أَقْوَمَ طريقٍ لغرس العقيدة الدينية في نفسي، فقد كان أبي من المتعصبين للإسلام والمسلمين، وأمي مسيحية بروتستانتية ذات ميل لحرية الفكر والتفكير، ولكنْ سوء حظي جعلها تتوفى وأنا في الثانية من سِنِي حياتي، والواقع أني قد حفظت القرآن وجوَّدْتُهُ وأنا ابن العاشرة، غير أني خرجت ساخطًا على القرآن لأنه كلفني جهدًا كبيرًا كنت في حاجة إلى صرفه لِمَا هو أحب إلى نفسي، وكان ذلك من أسباب التمهيد لثورة نفسية على الإسلام وتعاليمه.

فالضغط النفسي وسوء استخدام أساليب التربية الصحيحة، إلى جانب فقدان الاستقرار الأسري والنفسي أحيانًا كثيرة، تكون أحد أهم الأسباب

([1]) انظر: أجوبة كلامية على الأسئلة العقدية للإلحاد المعاصر (ص 21، 22) للدكتورة سونيا لطفي الهلباوي، مركز إحياء للبحوث والدراسات.

([2]) Atheism Explained from folly to philosophy p:7.

([3]) انظر: المواقف مع شرحها للسيد الشريف (6/ 114).

اترك تعليقاً