البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

أنواع الإلحاد

128 views

كان ظهور الإلحاد في العالم المعاصر وليد أسباب متعددة، أثَّرت في ظهوره وانتشاره، وتنوَّعت بين كونها أسبابًا نفسية أو اجتماعية أو علمية أو فلسفية، وترتب على هذا الاختلاف في النشأة والأسباب تعدُّد مظاهر الإلحاد؛ فلم يقتصر على كونه إنكارًا لوجود الإله، أو ترددًا وشكًّا في وجوده، وإنما صار الإلحاد تعبيرًا عن حال الملحدين ورؤيتهم للوجود عمومًا وللأديان خصوصًا، وأحيانًا يكون تعبيرًا عن حال الملحد في نفسه إزاء أحداثٍ مرَّ بها سواء في حياته الشخصية أو في محيطه الأسري أو الاجتماعي.

ومن خلال هذه الرؤية للإلحاد في العالم المعاصر تعددت أنواع الإلحاد وتباينت أسبابه وآثاره، كما سيأتي في هذا العرض الإجمالي لهذه الأنواع.

  • إلحاد الاستغناء:

وهو إلحادٌ قائمٌ على عدم إرادة الملحد أن يشغل نفسه بقضية الألوهية والدين؛ لأنه لا يشعر بحاجة إلى الإيمان بهما؛ فهو يرى نفسه في حالة من الاستغناء عن الاحتياج إلى مدبِّر للكون، أو إلى دين ينظم شؤونه الاجتماعية والأخلاقية، وهذا الحال منشؤه شعور الإنسان بالطغيان من خلال إيمانه بالقوة المادية، وبقدرته على تحقيق ما يريد في هذا العالم دون سلطة الإله أو الدين، أو هو شعور بعدم جدوى الدين في حياته، خصوصًا في حال كان يرى نفسه سعيدًا ومحقِّقًا لمنجزاته دون اختلال، ويستمر في هذه الحال غير مدرك لفساد المعيار الذي ربط حياته به، أو لمعنى السعادة التي يجدها، وذلك لأنه جعل تحقيق الغايات الدنيوية أو الأهواء النفسية والشخصية أقصى الغايات المنشودة في الحياة، وإذا كانت مقاصد الدين أمورًا روحية وكثير منها غيبي فهي بالنسبة له غير مؤثرة ويمكن الاستغناء عنها، ويمكن القول إن أصحاب هذا النوع لَمَّا افتقدوا المعاني الحقيقية للأشياء، وربطوا المعاني السامية بالأهداف والغايات الجزئية آلَ بهم الأمر إلى إنكار كل ما لا تعلُّق له بهذه الغايات، فهو إنكار غير مبني على برهان أو شبهة وإنما أساسه تلك الحالة الشعورية([1]).

  • إلحاد الإله الآخر:

وهو إمعان بعض الملحدين في العبثية بأن يقول: ما أدراني أن الله الذي تدعوني إلى عبادته هو الخالق الرازق والشافي… إلخ؛ لِمَ لا يكون الفاعل لهذه الأشياء إلهًا آخر، أو آلهةً متعددين، وهو ما يسمى باللاأدرية، وهي حالة من الشك والحيرة، فهي في حقيقتها ليست إيمانًا بإله آخر على خلاف دين معين، وإنما هي شك مطلق في أمر الألوهية وفي كل ما يتعلق بها في جميع الأديان، وهي ليست مبنية على شك حقيقي، وإنما مبناها في إطار الإلحاد المعاصر على نوع من الشك العبثي دون محاولة الوصول إلى الحقيقة([2]).

  • إلحاد الإله الظالم القاسي:

وهو إلحاد قائم على ادعاء البعض أنه كيف يعاقب إلهكم الرحمن الرحيم الإنسانَ على معاصٍ يرتكبها في حياته القصيرة -وإن كثرت- بعذابٍ أبدي لا يحتمله بشر، وهو نوع ينطلق من محاولة إطلاق العنان للتصرفات البشرية بلا سقف أخلاقي أو قيمي، ومحاولة إلصاق تهمة الظلم والقسوة بالأديان؛ لأنها في نظر أصحاب هذا النوع تقييد للإنسان بقيم دينية وأخلاقية تجعله في معاناة دائمة تجاه أهوائه النفسية، أو هو حالة من الشعور بالظلم والقسوة في الأديان نتيجة لقصور التصور؛ لأن الملحد يبني هذه النتيجة على تصوراته للمخلوقين، فما يعتبره منهم قسوة وظلمًا فهو يراه كذلك بالنسبة للإله، وهو لا يستحضر أن الخالق لا تحكمه تلك الأمور النفسية والعوارض البشرية التي تجعل بعض البشر ظالمين، وينسى كذلك أن الله -سبحانه وتعالى- عالِمٌ ومدبر لخلقه، فكما أنه يعاقبهم في حياتهم القصيرة على المعاصي فهو يثيبهم كذلك ثوابًا أجزل من أعمالهم، وأن العقاب قد سبقه التحذير من خلال الرسالات، فالثواب والعقاب في حقيقتهما إذا تصوَّرَهما هذا الملحد من الخالق المدبر فَهُمَا تجلٍّ للعدالة الإلهية([3]).

 

  • إلحاد الإله المخادع:

وهو إلحاد قائم على جهل بعض الملحدين أنه كيف ندَّعي أن الإسلام هو الدين الحق، والإله قد أرسل لأقوام رسلًا بديانات فاسدة، أو ركَّز الديانات في منطقة الشرق الأوسط مثلًا، وهو نوعٌ ناشئٌ من شعور بالتناقض بين الديانات، وادعاء أصحاب كل دين أنهم على الحق، فأدى هذا الشعور إلى حالة من الإنكار؛ لأن الحقيقة المطلقة قد غابت، وهذه الحالة نشأت من الغفلة عن الحقيقة الواحدة التي صدرت منها الرسالات، وأن الدين واحد من أول الخلق، وأنَّ تعدُّدَ الرسالات لم يكن تعددًا للحقائق، والملحد في هذا النوع غَفَلَ عن حقيقة أنه حتى في الدين الواحد تحدث تصورات خاطئة من بعض المنتمين إليه، ولا يستدل من خلالها على فساد الدين نفسه، أو فساد أصل وجوده.

  • الإلحاد الإيجابي:

وهو أي نوع من الإلحاد يؤكد فيه الملحد على نفي وجود أيِّ إله، وهذا النوع تندرج تحته كل الأحوال التي تنتهي بالملحد إلى هذا النوع من الإنكار والنفي المطلق لوجود الإله، فيعتبر هذا النوع أعم أنواع الإلحاد بمعنى نفي الألوهية، سواء كان هذا النفي صادرًا عن حالة من الاستغناء، أو وجود شبهات، أو شعور بالتناقض أو الظلم، فهو بمثابة المعنى الجامع والمشترك بين الأنواع الأخرى المعبرة عن الحالة الشعورية التي أدت إلى هذا النفي المطلق.

  • إلحاد البساطة:

وهو اعتقاد الملحد عدم أهمية اللجوء للمعرفة الغيبية والروحية، وأن الحياة شديدة البساطة، وأن المتدينين ينظرون إلى الإنسان نظرة شديدة التعقيد؛ ويُدخِلُونه في دهاليز غيبية وصلت بهم إلى افتراض تواصله مع إله خالق؛ بينما هو كائن بسيط مثل باقي الحيوانات يعمل وينتج ويستهلك ويستمتع فقط، ومنشأ هذا النوع قد يكون أحيانًا هو اعتقاد أن العلم قادر على تفسير كل شيء ببساطة، أو أن الصدفة هي تفسير منطقي لأحوال الكون، أو أن الإنسان هو تطور من تطورات الأحياء، وأن تفسير منشئه وأفعاله يرتكز على هذا التطور، وتُعَدُّ نظرية التطور الداروينية أقرب فكرة متصلة بهذا النوع من الإلحاد، ولذلك تشترك هذه المنطلقات في هذا النوع من الإلحاد كمحاولة لإقصاء كل ما هو معرفة غيبية عن تفسير أي شيء في الكون أو الوجود، وإذا انتفى هذا النوع من المعرفة انتفت الأديان التي يُعَدُّ الغيب من مرتكزاتها الأساسية، كذلك نجد أن هذا النوع مرتكِز على تصوُّرٍ مادي بحت، لا قيمة فيه لأي مكونات مركبة أو خفية للنفس البشرية، ولعل هذا التصور والاعتقاد نشأ عن محاولة الإنسان السيطرة على ذاته وعلى الطبيعة من حوله، فهو يحاول أن يجعل كل الموجودات تحت تحكمه، ولا يتأتى له ذلك إلا إذا كان ما يحاول التحكم فيه بسيطًا، أما إذا كان مركبًا فهو سيجد صعوبة في السيطرة عليه، بل إنه سيحتاج إلى مزيد من المعرفة التي تشرح هذا التركيب والتعقيد، ولعل كثيرًا من هذه المعرفة لن يجدها إلا في الدين، حيث إن الدين يمثل مخاطبة الله لخلقه بحقيقتهم التي يجهلونها، والتسليم للخالق في معرفة حقيقة النفس البشرية وتركيبها وتعقيدها سيجعل مسألة السيطرة على البشر وعلى الطبيعة أمرًا مستحيلًا، وهو ما يناقض الفكرة الأساسية التي يسعى إليها الملحدون من هذا النوع([4]).

  • إلحاد التعنت والسَّفَه:

وهو إلحاد قائم على ادعاء بعض الملحدين: كيف يعطيني الإله غرائزَ ثم يطالبني ألا أستعملها، وكيف يطالبني أن أخسر نقودي باسم الزكاة، وأن أخسر وقتي وجهدي باسم الصلاة، وهذا النوع هو نتاج إنكار العبودية للخالق، واعتقاد الحرية المطلقة بلا سقف ديني أو أخلاقي، وهو شعور بالتناقض بين المطالب الدينية وبين حقيقة التركيب البشري القائم على التحرر ووجود الغرائز، أنتج هذا الشعورُ نفيًا للوجود الإلهي؛ لأنه -في زعمهم- لا يمكن أن يكون من خلق هذا المعاني في النفس البشرية هو مَنْ قيَّدها بعد ذلك بوضع الدين والأخلاق، ومن هنا كان هذا التعنت في التصور والإدراك القاصر لحقيقة الوجود الإلهي، ولحقيقة النفس البشرية، مدخلًا لهذا النوع من الإلحاد، وهو نوع يرسخ لبهيمية الإنسان وعبثية وجوده في هذه الحياة، والمنتمون إلى هذا النوع يبذلون من أموالهم وأوقاتهم في ما يخالف الأديان؛ لأن الحقيقة التي لا ينكرها أحد أنه لا يستطيع الإنسان الحياة بهذا المفهوم حتى ولو كان ملحدًا، وإنما تظهر هذه الحالة العبثية حين يتعلق الأمر بالدين فقط([5]).

  • إلحاد التمرد:

وهو إلحاد قائم على جهل الملحد بالفارق بين المخلوق والخالق عزَّ وجلَّ الذي لا يحده زمان ولا مكان ولا منظومة الأسباب، حيث يصير الملحد في هذا النوع كأنه يحاكم الإله إلى منطقه وحدوده العقلية المحدودة، ويتفرع منه إلحاد المراهقين الذي يرجع إلى ما يمر به بعض المراهقين من التمرد ورفض آراء مَنْ يكبرهم سنًّا، وكذلك إلحاد النِّدية والكبر الذي ينظر فيه الملحد إلى الإله باعتباره رجلًا ذا قدرات خارقة؛ فيحكم على الإله بمقارنته بأفعاله هو، ويترتب على ذلك مثلا تساؤل الملحد عن ما يستفيده الإله من عبادتنا له طوال عمرنا، وهذه الأنواع ناتجة عن حالة رفض دائم للأوامر والنواهي الإلهية، وتساؤلات عن جدوى العبودية والانصياع للأمر الإلهي، وهي رؤية مبنية على جهل بالذات والصفات الإلهية، ويعد التمرد والرفض من أقوى الدوافع لهذا النوع من التساؤلات، وقد تكون الشهرة وطلب الجاه وذيوع الصيت دافعًا لهذا النوع من الإلحاد، وهو ما يسمى بإلحاد خَالِفْ تُعْرَف([6]).

  • إلحاد الجبر والتسيير:

وهو قول بعض الملحدين: كان ينبغي على الإله أن يأخذ رأيي قبل أن يخلقني، وبأيِّ حق يحاسبني إن لم أعبده، ألست حرًّا، وفي هذا النوع يرى الملحد نفسه مجبرًا في هذه الحياة، وأنه لا يوجد أمر اختياري، وهو بزعمه يرى ذلك مناقضًا لمبدأ الحرية، وبناءً على ذلك فهو يجد ذلك دليلًا على نفي وجود إله يصدر عنه ذلك التناقض المزعوم، والحرية التي يطلبها ذلك الملحد هي حرية مطلقة، وهو في الحقيقة يريد إرادة مطلقة في التصرف في هذه الحياة، وهو ما يتنافى مع القدرة البشرية المحدودة، فهو لا يجد في نفسه موضعًا للقناعة بالدين الذي يجعله مجبورًا في ما لا يدخل تحت قدرته، ويجعله مسيَّرًا في ما هو في نطاق القدرة البشرية، فيختار الإلحاد كوسيلة للحرية والاختيار المطلق.

  • الإلحاد الحسي:

وهو ادعاء بعض الملحدين أن قضية الوجود الإلهي قضية في منتهى الأهمية؛ ولذا لا بد من وجود دليل حسيٍّ أو تجريبي عليها، ومنشأُ هذا النوع هو طغيان المادية على تفكير أصحاب هذا النوع، أو تأثُّرهم بمنطق العلم التجريبي وحده دون أي مصدر آخر من مصادر المعرفة، وهم لا يؤمنون بأي أفكار أو أديان قائمة على تصورات غير مادية، ويتفرع منه إلحاد عدم التصور، وهو إلحاد قائم على ادعاء الملحد عدم قدرته تصوُّر الإله الموجود الذي لا موجد له، ولا الموجود الأزلي الأبدي …إلخ، ويزعمون بناءً على ذلك عدم وجود الإله؛ لأنه إذا لم يتصور في نظرهم فهو غير موجود، إن الملحد في هذه الأنواع يعاني أزمة منهجية في مصادر المعرفة التي يعتمد عليها، فهو يرى -بلسان حاله وإن لم يُعبِّر عن ذلك بقوله- أن مصادر المعرفة منحصرة في الحسيات والتجريبيات، أو أنها على الأقل أقوى المصادر المعرفية، وهذا الإهدار لمصادر أقوى في الدلالة كالعقل والوحي هو الذي نأى به عن اعتقاد وجود إله حكيم مدبر للكون؛ لأنه لم يشاهده، ولم يتعرف عليه من خلال نظرته الضيقة لمصادر المعرفة([7]).

  • الإلحاد السلبي:

ويُطلَق عليه الإلحاد الضعيف وهو أيُّ نوع من الإلحاد حيث لا يؤمن الشخص بوجود أي إله؛ ولكنه لا يؤكد صراحة أنه لا يوجد إله، وهو نوع يقابل الإلحاد الإيجابي الذي يدخل فيه كل أنواع الرفض المطلق للوجود الإلهي، كذلك هذا النوع يدخل تحته كل أنواع الشك والتردد، حيث لا يستطيع الملحد أن يجزم بحقيقةٍ يعتقدها في جانب نفي وجود الإله، ولكنه مع ذلك لا يؤمن بوجود إله للكون، بل يفضل البقاء في حالة غير إيمانية، فهو في حقيقة أمره متشكك، لكنه يرجح جانب السلب في اعتقاده الشخصي، فلا يؤمن، ويرجحه كذلك في حق غيره، فلا ينفي وجود الإله الذي يعتقدونه صراحة.

 

  • إلحاد الشبهات:

حيث يركز كثير من الملاحدة في هجومهم على الأديان بشبهات علمية أو تاريخية تتعارض مع بعض نصوصه، أو بشبهات تَرِدُ على حياة الأنبياء وأفعالهم، وغير ذلك، وهذا النوع شديد الانتشار، حيث تعد الشبهات الناتجة عن الفهم الخاطئ للدين، أو الرؤية الخاطئة للكون والوجود هي الدافع لهذا الاتجاه الإلحادي، وقد يقع هذا النوع موقع الاستغلال من بعض الفئات التي تدرك أن هذه الشبهات التي يتهم بها الدين هي نتيجة تصورات مغلوطة، ولكنها تثير عقل الكثير من المتشككين الذين لم يسبق لهم الوقوف على رد هذه الشبهات ودفعها، ومن خلال نشر هذه الشبهات ينفتح بابٌ لانتقال فئات من مجرد الشك وسوء الفهم إلى دائرة الإلحاد، وتدور هذه الشبهات بين عدة دعاوى متكررة، حيث نجد العلاقة بين العلم والدين ومدى تصور الملحد لهذه العلاقة تشكل مصدرًا لعدة شبهات مطروحة، وكذلك تدور بعض الشبهات حول علاقة الأديان بالخرافة أو الأساطير أو الاقتباس من فلسفات قديمة؛ فنجد مثلًا أن أغلب الشبهات المتعلقة بالقصص القرآني مرتبطة بهذا النمط من الدعاوى، وهكذا تدور الشبهات بين دوائر الفهم المغلوط للنصوص، أو سوء تصور لعلاقة الأديان بالعلوم، أو تأثر بتفسيرات معينة للحوادث والوقائع التاريخية على سبيل المثال([8]).

  • إلحاد الشهوات:

وهو إلحاد قائم على تَوَقَان البعض للخروج عن النمط المجتمعي الديني، إلى نمط حياةٍ يخول له أن يفعل ما يريد، والملحدون من هذا النوع يرغبون في الخروج عن القيود الدينية، وإطلاق العنان للغرائز والشهوات؛ فالإلحاد بالبعد عن الدين والخالق هو أسهل طريق لعدم الشعور بالذنب عند الإغراق في الشهوات الإنسانية، فالعصاة في كل الأديان يشعرون بالتقصير ويطلبون المغفرة رغم تقصيرهم؛ لاعتقادهم بأنهم دومًا تحت سلطة الإله الخالق المدبر، أما الملحد فقد رفع عن نفسه -من خلال نفي وجود الإله ونفي آثار ذلك من الثواب والعقاب- ما يراه عناءً من التفكير في عواقب اتباع الغرائز([9]).

  • الإلحاد الصبياني:

وهو طرح إلحادي مشهور قائم على تساؤل صبياني مفاده: إذا كان الله قد خلق الكون، فمن خلق الله، وقد أقام الملحد ريتشارد دوكينز كتابه “وهم الإله” على هذا التساؤل الصبياني، حيث يعتمد هذا الطرح على تصورات ساذجة للإله، وبناء سلسلة من التساؤلات الساذجة نتيجة هذه التصورات، ويمكن أن يقال إن هذا النوع فرع عن عدم تصور الذات والصفات الإلهية على وجه يليق بها، ودخول الملحد في حالة من عدم استطاعة الإجابة عن هذه الأسئلة الوهمية، ويستكمل الملحد طرحه الصبياني بأن عدم قدرته على الإجابة دليل على نفي الأديان ونفي الخالق.

  • إلحاد المحامي الفاشل:

وهو إلحاد قائم على خطأ منهجي، يحمِّل فيه الملحد الإسلامَ وزر الممارسات الخاطئة التي يقوم بها بعض من ينتسبون إليه، وأغلب الملحدين في هذا النوع من الغرب المتأثرين بالإسلاموفوبيا، أو العرب الذين عانوا من وطأة التيارات الإسلامية المتشددة، لكنه بدلًا من أن يتحقق من كون الممارسات هي نتاج فهم صحيح أو خاطئ للدين، حمَّل الملحدُ الدِّينَ الوزرَ، ولم يفرق بين الدين وبين المنتسبين إليه، ولما كانت هذه الأفعال الصادرة عن المتطرفين لا يمكن أن تكون مرجعيتها الدينية منضبطة، فقد اتجهوا بدلًا من محاولة تبرئة الدين إلى نفيه جملة وتفصيلًا، وأن ما يسمى بالدين هو محض أفعال بشرية غير سوية لمجموعة من المتطرفين.

  • إلحاد تحصيل الأهداف:

وهو إلحاد قائم على دعوى عدم جدوى الدين، حيث إننا نجد أممًا ملحدة تلتزم بتعمير الأرض وبالأخلاق الحسنة التزامًا أكثر من كثير من المتدينين، مع أن هذه الأهداف أهداف دينية، وهذا النوع وإن لم يكن أكثر معتنقيه متأثرين بالفلسفة، وإنما أثر فيهم الواقع المُشَاهَد في العالم المعاصر؛ إلا أنه نابع من سؤال فلسفي عن مصدر الأخلاق، ونجد أن هذا النوع قد جعل الغاية المقصودة من الدين هي الأخلاق، وأنه إذا كانت هذه الغاية متحققة بغيره سواء من خلال الضمير الإنساني أو غيره فلا داعي لوجود الأديان، وهم يشبهون أصحاب النوع السابق من حيث اعتبار القصور الأخلاقي عند بعض المتدينين وارتفاع السقف الأخلاقي عند البعض من غيرهم دليلًا على أن الأديان لا تقدم جديدًا في المنظور الأخلاقي والقيمي([10]).

  • إلحاد عقدة النقص:

وهو إلحاد مردُّه لشعور البعض أن الملحدين يتَّسِمُون بالحكمة والعلم، بخلاف المتدينين وعلماء الدين الذي لا يُحسِنُون إلا ترديد ما جاء في التراث، وهذا النوع غالبًا ما يصدر عن حالة شعورية من عدم الرضا عن المجتمعات المتدينة، أو شعور بالتخلف الحضاري والعلمي لهذه الأمم، وهو ناشئ عن انبهار بالحضارة الحديثة والمنتجات العلمية التجريبية، وازدراء للعلوم النظرية والمعارف الروحية والدينية، ويُعَدُّ التفوق العلمي والمادي عند هؤلاء الملحدين مقياسًا للحقيقة والحكمة، وعدم تحقُّق هذا المقياس في زعمهم دليل على عدم صلاحية الأديان لمجاراة أنماط التقدم والحضارة والعلم الحديث، وهذا النوع يغلب عليه كذلك حصر التقدم الحضاري والعلمي في المنجزات التجريبية والحسية، حيث لا مكان للنظر العقلي في الأمور المجردة، ولا مكان للروح في تحقيق الكمال الإنساني، فأي معرفة أو منتج حضاري يغلب على منجزه المعرفة العقلية أو الروحية فهو عندهم إما نوع من الإغراق في الأمور غير العملية، أو هو خرافة لا تستحق المشاركة في منجزات العالم الحديث([11]).

  • إلحاد نقض العهد:

وهو قول الملحد: تدَّعون أن إلهكم أخذ علينا عهدًا في يوم الذر بأن نعبده، لكننا لا نذكر هذا العهد، فكيف يجعل الإله هذا العهد الذي تركَنَا ننساه حجةً علينا ويُدخِلُنا النار إن خالفناه، مع الغفلة عن كون الرسالات والأديان تذكيرًا بهذا العهد، وأن العقاب على المخالفة لا يتعلق بالعهد وإنما بالخطاب الإلهي الذي وصل إلى المخاطبين به من البشر، فهم يجعلون نسيان البشر حجةً لعدم وجود الأديان، وأن التكليف مع نسيان العهد تناقض، وبما أن الدين يطالبنا بالتكليف فقد وقع هذا التناقض الذي لا يليق بالإله -على حسب زعمهم-، وهم يهدرون قيمة الفطرة الإنسانية التي تدرك وجود إله للكون([12]).

  • الإلحاد الإبستمولوجي:

أو الإلحاد الفلسفي، وقد أدرجناه أخيرًا لأنه يحتاج إلى بعض التفصيل الخاص به، فنقول:

مفهوم الإلحاد الإبستمولوجي:

أولا: معنى كلمة إبستمولوجي:

الإبستمولوجيا لفظ مركب من لفظين: أحدهما إبيستما، وهو العلم، والآخر لوغوس، وهو النظرية أو الدراسة.

فمعنى الإبستمولوجيا إذَن نظرية العلوم، أو فلسفة العلوم، أعني دراسة مبادئ العلوم، وفرضياتها، ونتائجها، دراسة انتقادية توصل إلى إبراز أصلها المنطقي، وقيمتها الموضوعية([13]).

فتشير كلمة إبستمولوجي إلى نظرية العلم أو المعرفة، وأدوات المعرفة إما الحس أو العقل أو الاستقراء أو التجربة.

أولًا- الطريق الأول، الحسُّ: والمقصود به الحواس الخمس الظاهرة، السمع والبصر واللمس والشم والذوق، وهذه الحواس هي آلات الاتصال بالمدركات الحسية أي الأصوات والمبصرات والروائح والمطعومات وغيرها، ولا ينكر أحد أثر الحسِّ في عملية المعرفة، فالحواسُّ الخمس ما هي إلا آلات ناقلة لبعض الصور الخارجية، والمُدرِك على الحقيقة هي النفس الناطقة أي المفكرة للإنسان.

وهذا معناه أن الحس هو قبول النفس لصورة المحسوس لا مادته، فكما يقبل الشمع الساخن صورةَ الخاتم أو المفتاح حين يوضع فيه ويُزال، فكذلك الذي ينطبع في نفس الإنسان ليس مادة الكتاب أو مادة الحجر بل صورته.

والمعرفة الحسية المتحصلة من هذه الأدوات والقوى الخاصة بها هي أُولَى معارف الإنسان اكتسابًا، وهي التي يكوِّن بها الإنسانُ إدراكَه عن ماهيات الأشياء التي تسمى عند الفلاسفة والمتكلمين بالمعقولات الأولى، فالعقل في بداية الأمر يعقل ماهيات الأشياء بوساطة المحسوسات الجزئية، التي تنقل الصور الجزئية إلى النفس، فمثلًا إذا رأى الإنسان كتابًا معينًا فإنه يرتسم في ذهنه، وكذلك إذا رأى كتابًا آخَرَ يحدث نفس الأمر، ثم يجرد العقل معنًى كليًّا من هذه الصور الجزئية المتحصَّلة.

وتتميز هذه المعرفة الحسية بعدة خصائص:

1- أنها معرفة جزئية -كما قلنا- فهي لا تتجاوز موضوعها الخاص، سواء كان مرئيًّا أو مسموعًا أو ملموسًا وغيرها، فالمرء لا يحكم بحسه إلا على المحسوسات التي أدركها بالفعل، فالحكم عليها هو حكم جزئي، كالحكم أن طعم هذه الليمونة لاذع، أو أن هذه النار مُحرِقَة، أو أن هذا الصوت حادٌّ، لكن الحكم على الجنس بأكمله بما يقع تحته من الأفراد كقولنا: (الليمون حامض)، أو (النار محرقة) فهو حكم عقلي وليس للحس.

2- أنها معرفةٌ محدودة وليست مطلقةً، فهي مقيدة بما هو واقع في مجال الحس ومرماه، فالحس يقف على الكيفيات الظاهرة والأعراض الواضحة للأجسام: كاللون، والرائحة، والشكل، والليونة، والخشونة، ونحوها، وأما الخارج عنها فلا، كقانون السببية، وقانون العِليَّةِ وغيرها؛ فإنها معانٍ عقلية خارجة عن أفق الحس ودائرته.

3- أن المعرفة الحسية محدودة بالزمان والمكان، فالحس واقف على الأشياء المتحققة في الحال، وليس ما تحقق فيما مضى أو ما هو آت من الزمان، وإن كانت أشياء محسوسة، بل لابد في إدراك الماضي والمستقبل من أداة أخرى.

4- أن المعارف الحسية متفاوتة شدةً وضعفًا؛ فقوة البصر واتساع مداه يختلف من إنسان لآخر، وكذلك السمع واللمس وغيرها؛ بل هناك قوى حسية تكون في بعض الحيوانات أقوى وأشد منها في الحيوان عن الإنسان، فمثلًا حاسة الشم عند الكلاب أكثر قوة منها عند البشر، كما أن المحسوسات نفسها تختلف في صفاتها شدةً وضعفًا وإن اشتركت في المعنى العام، فمعنى البياض مشترك بين بياض اللبن والعاج والورق، لكنه مختلف بينها شدةً ووضوحًا.

أما المعارف العقلية -كما سيأتي- فهي تختلف اختلافًا رئيسيًّا عن المعرفة الحسية فيما سبق، فالمعرفة العقلية معرفة كلية لا جزئية، وتتعلق بمفاهيم خارجة عن الحس، كما أنها غير مقيدة بالزمان والمكان والجهة، فهي واقعة في كل الحقول والعوالم، كما تتميز المعرفة العقلية بأنها معارف مطلقة لا تفاوت في صحتها ووقوعها في الخارج عما هي عليه بالفعل؛ نعم قد يقع التفاوت في سرعة الوصول إليها بالذكاء أو البلادة والغباء، لكنَّ نفس المعرفة لا تفاوُت فيها؛ فليس هناك واسطة بين الحق والباطل والصدق والكذب.

يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله([14]): “المحسوسات كقولنا: القمر مستدير، والشمس منيرة، والكواكب كثيرة، والكافور أبيض، والفحم أسود، والنار حارة، والثلج بارد، فإن العقل المجرد إذا لم يقترن بالحواس لم يقضِ بهذه القضايا، وإنما أدركها بواسطة الحواس، وهذه أوليات حسية.

ومن هذا القبيل علمنا بأن لنا فكرًا وخوفًا وغضبًا وشهوةً وإدراكًا وإحساسًا، فإن ذلك انكشف للنفس أيضًا بمساعدة قوى باطنة، فكأنه يقع متأخرًا عن القضايا التي صدَّق بها العقل من غير حاجة إلى قوة أخرى سوى العقل، ولا شك في صدق المحسوسات إذا استُثْنِيَت الأمور العارضة، مثل ضعف الحس وبُعد المحسوس وكثافة الوسائط”. اهـ

ثانيًا- الطريق الثاني، العقل: هو الوسيلة الثانية والسبب الثاني من أسباب العلم والمعرفة، وسمي بذلك تشبيهًا له بعقال الناقة، لأنه يمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل، كما يمنع الناقة من الشرود.

ويطلق عند الفلاسفة والمتكلمين بإطلاقات متعددة خلاصتها، أنه جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها، ورسومها، وهو جوهرٌ مجرد عن المادة في ذاته مقارِن لها في فعله([15])، فالمبادئ والمعاني الأولية التي يكشف عنها الفكر موجودة في العقل قبل اتصاله بالحس، كمجموع المبادئ القبلية المنظمة للمعرفة، كمبدأِ عدم التناقض، ومبدأ السببية، ومبدأ الغائية، فهي ملازمة للعقل لا تفارقه.

فالعقل يدرك المبادئ الضرورية، والفكرُ يدركها بارتباطها بالزمان والفكر؛ لأنَّ الفكر هو حركة النفس في المعقولات.

أما الاستدلال فهو النظر في شروط انطباق هذه المبادئ على موضوعات الفكر لاستخراج النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة.

المبادئ العقلية القبلية

المقصود بالمبادئ العقلية هي: القواعد الأولية التي يشترك في إثباتها كل العقلاء، وبدونها تقع المعرفة البشرية في سفسطة لا نهاية لها، وهي التي ذكرنا من قبل أن بُرْهَانَها فيها، فيصدق بها العقل بمجرد إدراك طرفيها، وقد كشف أرسطو أن هذه المبادئ القبلية في أربعة أمور.

1- مبدأ الهوية: يقضي أن الشيء هو هو، ولا يمكن أن يكون إلا هو، أي أن الشيء يكون مطابقًا لذاته.

2- مبدأ عدم التناقض: مضمونه أن النقيضين لا يجتمعان، فالقضية لا تصح إن جمع فيها النفي والإثبات مع الاتحاد في النسبية الحكمية كأن تقول: زيد عالم ولا عالم.

3- مبدأ الثالث المرفوع: مضمونه أن لا وجود لِحَدٍّ وسط بين نقيضين، فالشيء إما أن يكون أو لا يكون.

4- مبدأ العِلِّيَّة: وهو أن لكل حادث سببًا، فما دام الشيء ليس واجبًا أو مستحيلًا؛ فلا بد أن يكون هناك سبب لوجوده، لاستحالة ترجح جانب الإثبات على النفي أو العكس بدون مرجح.

والذي نريد أن نبينه بعد تلك المقدمة السابقة عن العقل أمران:

الأول: مدى قدرة العقل على اكتساب المعارف النظرية، ومطابقة هذه المعارف للواقع.

الثاني: حدود العقل المحض ومجالاته في أمور الغيب ومباحث الإلهيات.

فأما الأمر الأول: فنحن ندَّعِي أن كثيرًا من المعارف النظرية تُكتسب بالعقل بشرط أمرين:

الأول: أن يتوصل إلى هذه العلوم بواسطة قياس صورته صحيحة، والقياس هو القضية اللازمة لذاتها من قضيتين أخريين، كقولنا: الحديد معدن، وكل معدن عنصر بسيط. فهاتان القضيتان يلزم عنهما لذاتهما قضية أخرى، وهي أن الحديد معدن بسيط، وبقية الصور الصحيحة المنتجة للأقيسة منصوص عليها في علم المنطق، وكذلك براهين كونها منتجة وصحيحة.

الثاني: أن تكون المواد المدمجة ضمن مقدمات القياسين الأولين يقينية، وهي جملة اليقينيات التي ذكرناها أولًا، أو تكون إحدى مقدمات القياس قضية قد ثبتت صحتها بقياس صحيح المادة والصورة من قبل.

ثالثًا- الطريق الثالث، الخبر الصادق.

ومعناه إخبارُ مَنْ ترسَّخ وثبت لدينا صدقه بأمر من الأمور، وهذا الطريق في الحقيقة مكون من الوسيلتين السابقتين: الحس والعقل معًا، لكنها أُفرِدَت لأهميتها، ولكثرة العلوم المستفادة منها.

والخبر الصادق على نوعين: 1- الخبر المتواتر. 2- خبر الواحد المؤيَّد بالمعجزة، وهو النبي.

فأما الخبر المتواتر: فهو الذي تحيل العادة على ناقليه أن يتواطؤوا على الكذب.

ولتوضيح معنى كون المتواتر مركبًا من الحس والعقل معًا، فهناك معارف تبدو أنها حسية، مع أنها في الحقيقة معارف عقلية، -فمثلًا- نحن نعتقد بوجود الإسكندر المقدوني ذلك الفاتح العالمي، ووجود نابليون بونابرت ذلك القائد العسكري، ونعتقد أن معرفتنا بوجودهما معرفة حسية، ولكنَّ الواقع أنها معرفة عقلية؛ إذ نحن لم نر أيًّا منهما، ولا شاهدنا شيئًا من بطولاتهما وفتوحاتهما، وإنما قرأنا ذلك في الكتب؛ فالمحسوس لنا في الحقيقة هو المكتوب والمقروء لا نفس الرجلين وما قاما به من أعمال، ونحن نحتمل وراء ذلك أن يكون كل ما نقرؤه ونسمعه عنهما باطلًا وكذبًا، غير أن العقل يدفع هذا الاحتمال، ويقول إنه من الممتنع أن تكون تلك الأخبار متضافرة كاذبة؛ إذ من المحال أن يتواطأ عبر القرون جميع المؤرخين على اختلاف مشاربهم، على جعل الأكاذيب حول الرجلين. فعند ذلك نُذْعِنُ بصحة وجودهما، وبطولتهما وآثارهما([16]).

وأما خبر الواحد المؤيَّد بالمعجزة: فإن المعجزة قد دلت على صدقه فيما يخبِر به عن الله من الوحي، وقد ثبتت العصمة للأنبياء بموجب هذا الوحي والرسالة، لئلا يجوز الكذب في حق الله سبحانه إذ هو محال.

فلا يجوز في حقهم الكذب في التبليغ عن الله أو الذهول عن أداء الرسالة، وإن جازت في حقهم العوارض البشرية، كالنسيان أو المرض وغيرها، مما لا يَعْرَى عنه إنسان، فالمحال في حق الرسل فقط إنما هو الكذب فيما يخبر به مبلِّغًا عن الله مما يتعلق بالغيب أو بالأحكام الشرعية.

فالمعارف التي يدركها الإنسان، واليقين الذي يتحصَّل عليه ليوصله للحقائق المجرَّدة إما أن يكون مصدرها الحسُّ أو العقل أو مركَّب بينهما وهو الخبر الصادق لتعطي كلُّ واحدة منها دلالةً يقينيَّة على صحِّة ما تطرحه.

وأول هذه اليقينيات هي الأوليات: وهي القضايا التي يصدق العقل بها لذاتها، أي بدون سبب خارج عن ذاتها، كأن يكون تصور الطرفين كافيًا في الحكم والجزم بصدق القضية، من قبيل قولنا: النقيضان لا يجتمعان، وأن الكل أكبر من الجزء، وأن الشيء هو هو، وأن لكل حادث سببًا.

ولا يُعقل أن يُطلَب دليل على هذه الأوليات، ولذا فكما قلنا دليلُها فيها، وكذلك بطلان معارضتها فيها، فإن قال قائل: إن اجتماع النقيضين جائزٌ أو غير محال لزم من هذا القول أنْ يكون هذا القول باطلًا، فكما أن دليل صحة هذه الأوليات آكدُ فيها، كذلك دليل بطلان مخالفتها فيها آكد.

وثانيها المحسوسات: وهي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة الحس، والحس على قسمين ظاهر وباطن، فالقضايا المتيقنة بواسطة الحس الظاهر تسمى الحسِّيَّات: كالعلم بأن هذه النار حارَّة ومُحرِقة، وبأن الشمس مضيئة، وأن الثلج بارد، والحديد صلب.

وهناك قضايا متيقنة بواسطة الحس الباطن تسمى بالوجدانيات، كالعلم بأن لنا أَلَمًا، وخوفًا، ومحبةً، وغيرها، وهذه يقول عنها حجة الإسلام الإمام الغزالي: “وذلك كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وفرحه وسروره وجميع أحواله الباطنة التي يدركها مَنْ ليس له الحواس الخمس، وهذه ليست مُدرَكَة بالحواس الخمس، ومجرد العقل لا يكفي في إدراكها، بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل”([17]).

الثالث من هذه اليقينيات: المتواترات، وهي قضايا تسكن إليها النفس سكونًا يزول معه الشك ويحصل معه الجزم القاطع، وذلك بواسطة إخبار جماعة من يمتنع تواطؤهم على الكذب بشرط أن يكون مستند انتهائهم الحس.

فعِلمُنا بوجود البلاد النائية والأمم العظيمة البائدة حاصلٌ عن طريق النقل بالتواتر، وهذا علم لا يتطرق إليه الشك، ولا يحتاج لبحث في أحوال وصفات المخبرين به لكثرتهم كثرةً تُحيل العادة اجتماعهم على الكذب أو النسيان أو وجود أدنى احتمال للخطأ.

فاليوم لا يستطيع أي إنسان أن يُكَذِّبَ بوجود دولة مثل أستراليا مثلًا أو نيجيريا، رغم أنه لم يَزُرهما، وكذلك لا يستطيع أي شخص التكذيب بوجود النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه عاش في مكة، ولا ينكر كذلك أنه ظهر عالم اسمه آينشتاين كان عبقريًّا في الفيزياء، وأن له نظرياتٍ تفرَّد بها ولم يُسبق إليها، وغيرهم من الشخصيات العظيمة الواسعة التأثير في الدنيا والعالم؛ رغم أنه لم يشاهِد بنفسه هذه الأماكن وهؤلاء الأشخاص، ومن يُكَذِّبُ مثل ذلك فإنه مجنون مكابر لا يُلتفت إليه، والعلم بهذه الأمور كلها مستفاد مما أسميناه (الخبر المتواتر).

ويُعد الخبر المتواتر في الحقيقة وسيلةَ معرفةٍ مركبةٍ من الحسِّ والعقل معًا.

الأمر الرابع من اليقينيات: الفطريات، وهي المعروفة بالقضايا التي قياساتها معها، أي أن العقل لا يصدق بها بمجرد تصور طرفيها كالأوليات، بل لا بد لها من وسط، إلا أن هذا الوسط ليس مما يذهب عن الذهن حتى يحتاج إلى طلب وفكر، فكلَّما حضر المطلوب في الذهن حضر التصديق به لحضور الوسط معه، مثل حكمنا بأن الاثنين نصف العشرة، فهذا حكم بديهي لكنه معلوم بوسط، وهو كون الاثنين عدد قد انقسمت العشرة إليه وإلى أربعة أقسام أخرى تساويه، وكل ما ينقسم عدد إليه وإلى أربعة أقسام أخرى كل منها تساويه فهو خُمسُ ذلك العدد، فالاثنان خُمس العشرة، وهذا قياس حاضر في الذهن لا يحتاج إلى نظر.

هذه الأربعة -الأوليات، المحسوسات، المتواترات، الفطريات- هي جملة اليقينيات وبالتعرف عليها يمكننا التعرف على وسائل الإدراك ومصادر المعرفة البشرية التي تحققت بها، وهذا يعيدنا إلى السؤال المهم عن كيفية وصولنا للحقائق ومعرفتها معرفة جازمة على ما هي عليه في نفس الأمر بلا زيادة ولا نقصان؛ فإن معرفة مقدمات اليقين والمعرفة في غاية الأهمية؛ إذ يتوصل بها إلى كل قضية نظرية يحصل التردد فيها، وتحتاج إلى نظر، وبدونها تسقط المعارف البشرية كلها في سفسطة ولاأدرية لا تنتهي، بل لا يبعد أن نقول إنه يستحيل التواصل البشري بدون تأسيس هذه اليقينيات الأولية، حتى إن المناطقة قد سموها مواد الأقيسة لأنها مقدمة أيِّ قياس يتوصل به إلى الحقائق والمعارف الجازمة.

رابعًا- الطريق الرابع، التجريبيات:

هناك طريق آخر لإثبات المعرفة وتحصيل العلم لدى الإنسان، وهو ما يُعرف بـ(التجريبيات).

ومعناها، هي الأمور أو القضايا التي تحصلت المعرفة بها عن طريق التجربة والفرض والمشاهدة والملاحظة والاختبار، ولكي تكون طريقًا لثبوت الشيء بها لا بدَّ أن تنطبق عليها شروط العملية العلمية، وقد وضع العلماء التجريبيون شروطًا للحكم على المتحصِّل، وإطلاق صفة (النظرية العلمية) كالتالي:

1- الملاحظة: أي ملاحظة الظاهرة المتكررة التي تتطلب حكمًا أو قانونًا عامًّا، مثل ملاحظة سقوط الأجسام من أعلى لأسفل وليس العكس، وملاحظة أن الجسم يتمدد بالحرارة وغيرها، وكما ترى فإن هذه الملاحظات مبنية على الحس، أي الأمور المُشاهَدَة أو المسموعة أو الملموسة وغيرها، مما يقع تحت الحس مباشرة أو بوسائط.

2- وضع الفرضيات: أي محاولة وضع أيِّ وصفٍ لسبب الظاهرة، وهذا الوصف قابل للصحة أو للخطأ بناء على التجربة.

3- التوقُّع: وذلك باستخدام تلك الفرضيات في محاولة توقُّع النتيجة مسبقًا، أو وضع عدد من التوقعات لتلك الفرضيات.

4- الاختبار: أي اختبار تلك التوقعات والتنبؤات تجريبيًّا مرات عديدة ومن خلال كثرة صدق النتائج على التوقع المسبق، ومحاولة استقراء النتائج مع طول التجربة في ظروف مختلفة، ومع صدق أحد التوقعات بواسطة هذا الاختبار في تفسير الظاهرة وانطباقها على الواقع، يمكن أن نقول إن هذه نظرية علمية صحيحة.

فيتضح أن مجالات التمييز والحكم بالصدق في العلوم مختلفة، فلكل علم مجالٌ خاصٌّ به، وهذا المجال هو الذي يضع الشروط اللازم توفُّرها لصحة وصدق المعارف المُستنتَجَة في هذا العلم، وكون التجربة أو القابلية للنفي والدحض بواسطة التجربة دليلًا على صدق قضيةٍ ما لا يستلزم بالضرورة أن يكون معيارًا لصدق أي قضية أخرى، إلا إذا تحكم صاحب الرأي وقال إن العلم ليس إلا ما أثبتته التجربة، وهو غير صحيح.

لذا ينبغي العلم أن مبدأ (القابلية للنفي Falls ability) مقتصر على وصف النظريات العلمية التجريبية، وهو مخرج للميتافيزيقا من وصف العلم لكنه لا يستلزم رفض أي حكم إلا إن كان قابلًا للتكذيب، حتى عند بعض الوضعيين لأن هذا يستلزم إبطال كثير من الآراء التي يبنون عليها كلامهم مثل أحكام الرياضيات، والمبادئ الضرورية: كاستحالة اجتماع النقيضين وغيرها، فمعيار صحة القضايا وكونها (علمية) ليس محصورًا فقط في إمكانية التفنيد.

مفهوم الإلحاد الإبستمولوجي:

إن هذا النوع من الإلحاد يعني جعلَ وجود الله سبحانه وتعالى لا يمكن معرفته إبستمولوجيا بأحد وسائل المعرفة المتقدمة عقلًا كان أو تجريبيًّا، حتى وإن سلَّم به عبر بوابة الإيمان، وأن أي جهد إبستمولوجي يُبذَل لمعرفة الله، أو التدليل على وجوده لَهُوَ عبثٌ لا جدوى منه([18]).

وهذا النوع من الإلحاد ظهر عند ديفيد هيوم، ومن منطلقات هذا النوع من الإلحاد عنده رفض المعجزة كوسيلة للوصول إلى الله، وعدُّها نتاجًا طبيعيًّا لخبث وحماقة البشر، وإن كان لا ينكر إمكانية وقوعها طبقًا لرؤيته الشهيرة في تهافت العلية، لكنه يرفض إمكانية البرهنة الإبستمولوجية على وقوعها على النحو المبين بالأديان، ومن المنظور نفسه نقد هيوم الطقوس والشعائر، ونفى القول بخلود النفس لتعذُّر البرهنة الإبستمولوجية على الخلود([19]).

ومن ركائز هذا النوع أنه من أراد أن يفسح مجالًا للإيمان فعليه بهدم المعرفة، والعكس صحيح أيضا([20]).

وينطلق هيوم في بناء موقفه من الإلحاد الإبستمولوجي من منطلقاتٍ معرفية خالصة حيث كان يشعر شعورًا عميقًا باندفاع العقل فيما يقوم به من استدلالات في مجال التجربة، ولم يكن له أملٌ ما في الوصول إلى معرفة ثابتة عن أي شيء ما لم يتبع منهج التفكير العلمي الدقيق، ذلك المنهج الذي اتبعه من قبل في دراساته في الأخلاق والسياسة والتاريخ والاقتصاد، فتوسم فيه خيرًا في مجال اللاهوت والدين، فقد كان هيوم قلقًا بشأن الحال الذي آلت إليه الفلسفة في عصره؛ إذ إنها لم تكن من وجهة نظره سوى مناقشات جدلية عقيمة لا تؤدي إلى نتائج سليمة يتفق حولها الجميع، كما هو الحال في العلوم الأخرى، ولذلك رأى أن العلاج الناجع لهذا الداء الذي يؤرق مضجع الفلاسفة يكمن في شيئين: أولهما تحديد الموضوع المدروس بدقة، وثانيهما استخدام منهجٍ دقيقٍ ملائمٍ لهذه الموضوعات ومناسبٍ لها، ومن ثم حاول هيوم إدخال المنهج التجريبي للاستدلال في الموضوعات الدينية، حيث رأى أن هذه الموضوعات التي تتعلق بالعلوم الإنسانية شأنها شأن أي علم وضعي لا مكان فيها للمبادئ والمسائل التي تتخطى نطاق الملاحظة والتجربة، ومن ثم بدأ هيوم بإحلال المنهج التجريبي محلَّ المنهج العقلي في تناول الموضوعات الدينية، فكان الموضوع الرئيسي الذي يشغل هيوم هو التساؤل الذي ما زال إلى اليوم يمثل رافدا أساسيًّا في فلسفة الدين بصيغه المتعددة، وهو: هل يدعم العقلُ الاعتقادَ الديني؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب فكيف يكون ذلك؟ أم أن هناك أدلة مكافئة ضد ذلك؟ وإلى أي مدى يمكننا حسم هذا الجدل؟ أم أن أمر الاعتقاد الديني برمته يقع خارج نطاق العقل تماما؟! لينتهي إلى التسليم للسؤال الأخير الذي يرد عليه بالإيجاب قائلًا: إن ديانتنا المقدسة تتأسس على الإيمان لا على العقل([21]).

([1]) انظر: وهم الإلحاد (ص 139- 140) د. عمرو شريف، هدية مجلة الأزهر لشهر المحرم، 1435هـ.

([2]) انظر: الإلحاد: المفهوم والأنماط (ص130)، محمود أحمد عبد الله، المجلة الاجتماعية القومية- المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، العدد 3، 2016.

([3]) انظر: وهم الإلحاد: (ص 143- 144).

([4]) انظر: وهم الإلحاد (ص 150).

([5]) انظر المرجع السابق (ص 145).

([6]) انظر: الإلحاد (مفهومه وأسبابه والموقف منه) (ص 16)، د. إبتسام بنت عبد الرحمن الفالح، مجلة معالم الدعوة الإسلامية- جامعة أم درمان الإسلامية، العدد 9، 2016.

([7]) انظر: الإلحاد في العالم العربي: الأسباب والعلاج (ص 46)، حنان عطية الله المعبدي، مجلة الجامعة العراقية، العدد: 44، 2019.

([8]) انظر: وهم الإلحاد (ص 152- 153).

([9]) انظر: الشباب العربي والإلحاد الخفي (ص 82)، د. آندي حجازي، مجلة الوعي الإسلامي، العدد: 606، 2015.

([10]) انظر: وهم الإلحاد (ص 147).

([11]) انظر: مطرقة البرهان وزجاج الإلحاد، د. عدنان إبراهيم، مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام، 2014.

([12]) انظر: وجود الله تعالى بين الفطرة والإلحاد (ص 16)، فتح الرحمن يوسف عمر أبو عاقلة، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد 81، 2020.

([13]) انظر: المعجم الفلسفي (1/ 33).

([14]) معيار العلم (ص 187).

([15]) التعريفات للجرجاني (ص 151).

([16]) لتوضيح المعنى أكثر، يُنظر: (عناصر عقلية في المعارف الحسية) ضمن كتاب: نظرية المعرفة، حسن محمد مكي العاملي، ص 200.

([17]) محك النظر (ص 103) للإمام الغزالي، تحقيق: د/ رفيق العجم، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م.

([18]) الإلحاد الإبستمولوجي (ص 2) د/ غيضان السيد علي، مجلة الدراسات الإنسانية والأدبية، جامعة كفر الشيخ، كلية الآداب، ع 15، مج 1.

([19]) المرجع السابق، نفس الصفحة.

([20]) المرجع السابق (ص 5).

([21]) المرجع السابق (ص 6، 7).

اترك تعليقاً