البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفتوى والإلحاد (1)

أهمية الفتوى ومكانتها

187 views

يأتي الكلام على أهمية الفتوى والإفتاء من خلال النظر إلى فضائله؛ فإن للإفتاء فضائل عظيمة ومنازل جليلة يمكن تحديدها من خلال بعض الأمور التي ننظر إليها على النحو التالي للمفتي، ومن خلالها سنلاحظ أهمية الفتوى ومكانتها وأهمية ذلك المنصب الجليل الذي يتصدره المفتي في جميع الأوقات والأزمنة والأمكنة.

1- المفتي موقع عن رب العالمين:

إذا شئنا الكلام عن تلك الفضائل فلا شك أنه سيدور الكلام عن كون المفتي موقعًا عن الله سبحانه وتعالى، فهذه منزلة عظيمة ينبغي على كل مفت أن يعيها جيدًا، ومنها أيضًا يعلم مدى الخوف في تصدره لها، ومنها أيضًا يُعلمُ أن من يتصدرون للفتوى بغير علم على خطر عظيم ومصيبة كبيرة تقع منهم في دين الله تعالى.

قال تعالى في كتابه العزيز في سورة النساء: {وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ}. فالله سبحانه وتعالى يخبر أنه الذي يفتي العباد، وأن الفتوى مهما كانت تصدر من الله، فهي خطاب منه عبارة عن حكم شرعي يأتي منه سبحانه وتعالى، وإذا كان الأمر كذلك في هذا الصدد فإن الإفتاء هو بيان أحكام الله تعالى، ومدى تطبيقها على أفعال الناس، وذلك البيان الذي يوضحه المفتي لأحكام الله تعالى هو ترجمة عن مراده تعالى كما عبر ابن القيم، قال رحمه الله: «وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات»([1]).

2- المفتي يعد وارثًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال منصبه:

وكذلك من فضائل الإفتاء أن المفتي يعد وارثًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم تولى ذلك المنصب في حياته بحكم رسالته التي بلغها للناس، وأيضًا بحكم البيان الذي كلفه الله تعالى به، قال تعالى: {وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ}، ومن ثَمَّ فالمفتي يُعدُّ خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أداء وظيفة البيان؛ فأي شرف أن يقوم المفتي بأمرٍ هو في الأصل يصدر عن رب العالمين سبحانه وتعالى، وباعتبار التبليغ يصدر عن سيد الخلق أجمعين سبحانه وتعالى. وقد تولى هذه الخلافةَ بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابُه الكرام، ثم أهل العلم بعدهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((العلماء ورثة الأنبياء))([2]). يقول ابن الصلاح رحمه الله عن هذا الحديث: «فأثبت للعلماء خصيصة فاقوا بها سائر الأمة، وما هم بصدده من أمر الفتوى يوضح تحققهم بذلك للمستوضح، ولذلك قيل في الفتيا: إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى»([3]).

وهذا التوقيع الذي ذكره ابن الصلاح يعد أيضًا من فروض الكفاية، فالإفتاء من فروض الكفايات التي إن فعلها البعض سقطت عن الآخرين، وفروض الكفايات هي التي يجب أن يوجد في الأمة مَن يقوم بها على الوجه الأكمل؛ لأن الإفتاء من الأمور العظام التي يتوقف عليها إقامة الدين، وعلى هذا فالمفتي ساعٍ في صيانة الأمة عن الوقوع في إثمِ تركِ هذه الفريضة.

ومن خلال هذا العرض يتبين لنا أن الإفتاء يعد كذلك من أرقى العلوم التي تناولتها الشريعة الإسلامية، وأفضل ما يكون في الفقه من علوم تلك التي تسعى لإيجاد حلول للناس وتعمل على راحتهم، يقول الشيخ محمد العباسي صاحب الفتاوى المهدية: «إنه من المعلوم لدى ذوي الفهوم أن من أجَل العلوم قدرًا، وأسْنَاها حِكمةً، وأدَقِّها سرًّا، وأشْمَخها رتبةً، وأعلاها وأعظمها قيمةً وأغلاها، وأفضلِ ما تَحَلَّتْ به العلماء، وامتازت بروايته النبلاء -علمَ الفقه؛ إذ عليه مدار صحة العبادات، وإليه المرجع في استقامة المعاملات، فكان مدرأة للمفاسد، مجلبة للمصالح والفوائد، به تصل الحقوق لأربابها، وتؤتى البيوتُ من أبوابها، وناهيك بفن أثنى عليه لسان النبوة، ونوَّه بذكره وأظهر شأنه وسُموَّه… ولما كان فن الفتوى من أكبر مزاياه الجليلة، وأنضر محاسنه الفائقة الجميلة، لم تزل الجهابذة في سائر القرون والأعْصَار، وعامة البلاد والأمصار، ناشرين لواءه بين الأنام، قائمين بحمل أعبائه أحمد قيام… فلعمري إن هؤلاء العصابة هم في الحقيقة أهل الإصابة؛ لعموم الحاجة إليه، واعتماد الخاصة والعامة في حوادثهم عليه؛ فجزاهم الله تعالى عن دينه أحسن جزائه، ووالى عليهم جليل إحسانه وجزيل نعمائه، حيث أوضحوا مَحجَّتَه، وأبرزوا حُجَّته، وميزوا بين الغث والسمين، والصدَف من الدُّر الثمين؛ خدمة منهم لتلك الخُطَّة الشريفة، وقيامًا بواجب الشريعة المُنيفة»([4]).

فإذن تتبين لنا مكانة الإفتاء وأهميته من كون أن الله تعالى يخبر عن نفسه أنه المتكفل بإفتاء العباد، ولذلك فالمفتي هو الموقع عن الله تعالى، وكذلك هو في منصب كان أفضل البشر وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه؛ فلذلك على المفتي أن يكون خبيرًا بثقل تلك المسؤولية التي وقعت على عاتقه، فهذا يعد فضيلة عظيمة لمن يتصدر للإفتاء وشرف للمفتي أن يقوم بأمر هو في الأصل يصدر عن رب العالمين، وباعتبار التبليغ يصدر عن سيد الخلق أجمعين، فالمفتي خليفة النبي في أداء وظيفة البيان، وقد تولَّى هذه الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه الكرام، ثم أهل العلم بعدهم، ومن ثم فإن هذه الدرجة ينبغي أن لا تدفع الناس للإقبال عليه، والإسراع في ادِّعاء القدرة عليه، سواء أكان ذلك بحسن نية وهي تحصيل الثواب والفضل، أم بسوء نية كالرياء والرغبة في التسلط والافتخار بين الناس.

([1]) إعلام الموقعين (1/ 10).

([2]) أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم (3641) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

([3]) فتاوى ابن الصلاح (ص7) تأليف: أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح- تحقيق: موفق عبد الله عبد القادر- مكتبة العلوم والحكم- الطبعة الأولى- 1407هـ.

([4]) الفتاوى المهدية (1/ 2) تأليف: الشيخ محمد العباسي الحنفي- المطبعة الأزهرية- الطبعة الأولى- 1301هـ.

اترك تعليقاً