البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية ودورها في تطور أطروحات الإلحاد في الغرب

58 views

قامت في الغرب حركات اجتماعية فكرية سياسية شاملة، نفضت غبار الماضي، وثارت على كل قديم، ونتج عنها من المصنفات الأدبية التي اشتملت على آراء جديدة، واحتدمت نيران الصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة، والقوى القديمة التي يمثلها الإقطاع وطبقات النبلاء والحكام، وانحازت الكنيسة للقوى القديمة، بينما كانت القوى الجديدة تطالب بالحريات والمساواة، وتغيير نمط الحياة، وترفع شعار حقوق الإنسان، فالتفَّت الشعوب والجماهير حول القوى الجديدة الداعية إلى التقدم الاجتماعي والتطور الفكري والسياسي، وتأثرت هذه الشعوب بما كتبه المفكرون في تلك الفترة، وكان يدعم هذا التوجه ما عانت منه هذه الشعوب من ظلم وعبودية واستغلال بشع في ظل الإقطاع وسلطة الكنيسة، وكانت العلمانية اللادينية هي الراية التي اجتمعت القوى الشعبية الجديدة تحتها، وبانتصار هذه القوى انتصرت العلمانية، وأخذت القوى الجديدة تبشر بعصر جديد يسعد فيه الإنسان، وتُحَلُّ جميع مشكلاته، مُقدِّمَةً من نفسها أنها طريق الخلاص للبشرية، تحقق لها السلام والرفاهية والرخاء لجميع الشعوب، وهو ما لم يتحقق إلا بعضه.

فكما أدى طغيان الكنيسة في الجانب السياسي إلى خروج آراء تطالب بالفصل بين الدولة والكنيسة كمارسيل البدواني، خرج المطالبون بالفصل بين ما هو عقلي وما هو ديني. تقول كارين آرمسترونغ في كتابها النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام: “كانت الحياة تتحول إلى العلمنة ببطء في أورُبا وحركة الإصلاح البروتستانتية، بالرغم من قوة دافعها الديني، كانت تتخذ صبغة علمانية أيضًا. زعم المصلحون أنهم يعودون من قوة دافعها الديني، كانت تتخذ صبغة علمانية أيضًا. زعم المصلحون أنهم يعودون إلى المنبع الرئيسي إلى الكتاب المقدس، لكنهم كانوا يقرؤونه بطريقة حديثة. كان على المسيحي من أنصار الإصلاح أن يقف وحيدًا أمام الله معتمِدًا على إنجيله فقط. لكنَّ هذا لم يكن ممكنًا قبل اختراع الطباعة؛ كي تجعل الإنجيل متوفرًا بين أيدي جميع المسيحيين، أو قبل أن تُمكِّنَهم الحركة التعليمية الناشئة من قراءته. كان الكتاب المقدس يُقرَأُ حرفيًّا من أجل المعلومات التي ينقلها، تمامًا بنفس الطريقة التي كان يتعلم بها البروتستانت الحداثيون قراءة نصوص أخرى. إن قراءةً صامتةً منفردةً ستساعد في تحرير المسيحيين من أساليب التفسير التقليدية، ومن إشراف الخبراء الدينين تأكيدُ الإيمان الفردي سوف يساعد أيضًا على جعل الحقيقة تبدو ذاتية، وسمةً مميزة للذهنية الغربية الحديثة باطراد.

لقد شدد لوثر على أهمية الإيمان، لكنه رفض العقل بشدة. يبدو أنه أحس أن العقل قد يكون غير مناسب للدين. ففي مؤلفاته يمكننا أن نرى أن النظرة القديمة القائلة بتكامل العقل والميثولوجيا وهي تتهاوى. ففي أسلوبه المحارب المعتاد تحدَّث لوثر عن أرسطو بحقد، وكان يكره إيراسموس -أحد المنادين باستعمال العقل في أمر الخلاص وفي حل المشاكل الدينية داخل الكنيسة وخارجها ومحاولة التوفيق-؛ بدعوى أنه نموذج للعقل الذي يؤدي إلى الإلحاد كما اعتقد لوثر. كان لوثر من أوائل الأورُبيين الذين يُعَلْمِنُون الدين في دفع العقل خارج عالم الدين”. ثم تَابَعَ قائلًا: “إن بلوغ معرفة الله عن طريق التفكير في نظام الكون العجيب -مثلما فعل اللاهوتيون والمدرسيون- لم يكن أمرًا مسموحًا. هؤلاء اللاهوتيون كانوا هدفًا لغضب لوثر الشديد. وفي مؤلفات لوثر كان الله قد بدأ ينسحب من العالم المادي الذي لم يعد له أهمية إطلاقًا آنذاك. وبالتالي فقد عَلْمَنَ لوثر السياسةَ أيضًا. وبما أن الحقيقة الدنيوية كانت نقيضًا تامًّا للحقيقة الروحية، فإن الكنيسة والدولة يجب أن تعملا مستقلتين عن بعضهما، وأن تحترم كلٌّ منهما العالمَ الملائم لنشاطها.

رؤية لوثر الدينية المتحمسة جعلته من أوائل الأورُبيين المدافعين عن فصل الكنيسة عن الدولة، علمنةُ السياسة بدأت كطريقة جديدة للتدين. نَبَعَ فَصلُ الدين عن السياسة عند لوثر من مقته لأساليب الإكراه التي كانت تتبعها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية التي استخدمت الدولة كي تفرض عقيدتها ومبادئها”([1]).

فها هو غيوم الأوكامي أيضًا الذي أيَّد الفصل بين الإيمان والعقل، مع كونه أيضًا منحازًا لفكرة مارسيل البدواني من احتدام النزاع بين الكنيسة والمناهضين لآراء أرسطو الفيزيائية كديكارت وباسكال وغيرهم([2]).

ما سبق من الطغيان الكَنَسِي كان شرًّا مستطيرًا فيما بعد على الأديان بوجه عام وعلى الكنيسة بوجه خاص.

الثورة الفرنسية:

في عام 1789م اشتعلت نيران الثورة الفرنسية التي سرعان ما سيتبين للناس أنها لم تكن ثورة على الملكية وحدها، وإنما فضلًا عن ذلك كانت ثورة على الكنيسة ورجالها، ويمكن القول إنها كانت ثورة على المقدس الديني التقليدي بعامة([3]).

والثورة عامةً هي “انقلابٌ في النُّظم القائمة المعروفة؛ فقديمًا كان يسافر الناس على دوابهم وفي العربات، فلما اكتُشِفَت قوة البخار واختُرِعَت القاطرات البخارية حدثت ثورة في طرق المواصلات، قديمًا كان الناس يجُّزون الصوف بأيديهم عن ظهور أغنامهم ويغزلونه بمغازلهم ثم ينسجونه في بيوتهم لا يعتمدون في صنعه إلا على أيديهم، فلما اختُرِعَت آلات الغزل والنسيج ولم يكد يبقى في العالم صغيرة ولا كبيرة إلا والآلات تصنعها وقع ما يعرف باسم الثورة الصناعية.

وغير هاتين الثورتين أنواعٌ أخرى من الثورات التي لم يُشهَر فيها سيف ولم يُطلَق فيها مدفع ولكنها لا يزال يتحدث الناس عنها بأنها ثورات، والثورة الفرنسية ثورة تشترك مع باقي الثورات في خواصها؛ فهي لم تَزِد على كونها انقلابًا في النظم التي كانت معروفة في فرنسا قبل وقوع الثورة.

وتمتاز الثورة الفرنسية بأنها لم تكن ثورةً سياسيةً ترتَّب عليها انقلاب في حكومة فرنسا، ولكنها كانت ثورة سياسية اجتماعية اقتصادية.

فأما كونها ثورة سياسية؛ فلأنها انتهت بقلب نظام الحكم الملكي في فرنسا إلى نظام جمهوري.

وأما كونها ثورة اجتماعية؛ فلأنها أدت إلى إلغاء امتيازات الأشراف ورجال الدين، ومَحَت الفوارق التي كانت قائمة بين طبقات الشعب الفرنسي، وجَعَلت فرنسا كلها طبقة واحدة بعد أن كانت ثلاث طبقات متباينة.

وأما كونها ثورة اقتصادية؛ فلأنها غيَّرت نظام الضرائب والرسوم الجمركية، وألغت نظام الاحتكار، ومحت القيود التي كانت على الصناعات، وانتزعت أملاك الكنيسة وجعلتها مِلْكًا للأمة.

ولعل هذه الصفة الجامعة من بين صفات الثورة الفرنسية هي أهم ما جعلها تتفرد في التاريخ بتلك المكانة التي تشغلها؛ فالتاريخ كما لا يخفى عنك حافل بأخبار الثَّورات، ولا يكاد يخلو تاريخُ أيَّة دولة من ذِكْرِ ثورةٍ انتابتها، ولكنك لا تتحدث عن الثورة أو عن أمرٍ وقع في عصر الثورة إلا وينصرف الحديث على الأكثر إلى الثورة الفرنسية”([4])، ولا يختلف ما سبق كثيرًا عما قاله الأستاذ سلامة موسى في كتابه، عندما تكلم عن الثورة الفرنسية قائلًا: “أَخْبَرُ الناس بالثورات وأَعْرَفُهُم بطبيعتها هم الرُّوس؛ ولذلك يجب أن نُعرَّف الثورة هنا بقلم أحد كُتَّاب الرُّوس الذي يقول عن تجربة واختبار: الثَّورة: هي قلبٌ سريعٌ يحدث في سنوات قليلة للمؤسسات التي امتدت جذورها في التربة عدَّة قرون، والتي يبدو لمن ينظر إليها أنها ثابتة لا تتزعزع؛ حتى إن أشد المصلحين حماسةً لا يكاد يجسُر على مهاجمتها بالكتابة، وهي سقوطٌ وتهدُّم يحدثان في فترة صغيرة لجميع ما كان يُعَدُّ إلى ذلك الوقت أصلًا لحياة الأمة الاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، والسياسية، وهذا التعريف ينطبق على الثورة الفرنسية كلَّ الانطباق…”([5]).

هذه الثورة كانت أمرًا منطقيًّا في ظل تلك الظروف التي عانتها فرنسا؛ فكما يقول الأستاذ حسن جلال: “لقد كانت فرنسا قبيل الثورة في حالة يرثى لها، وكان الناس يتوقعون أن تحدث فيها انقلابات سياسية خطيرة، غير أنه لم يكن أحد يستطيع أن يحدِّد بالدقة نوع تلك الانقلابات. وإن كان النَّاسُ كلُّهم مجمعين على أن كارثة لا بد أن تَحُلَّ بتلك البلاد؛ فإن حكومتها لم تكن تُعير شكايات أهلها الصَّارخة أيَّ اهتمام، ولقد حققت الأيامُ جميعَ هذه المخاوف؛ إذ تحرجت الأمور في سنة 1789 -سنة وقوع الثورة- ووقع الانقلاب في صورة بشعة هدَّمت النظام الاجتماعي والسياسي في تلك البلاد من قواعده؛ حيث قام الناس ينتقمون لأنفسهم ولأسلافهم من تلك النُّظم الاستبدادية التي ظلوا يرزحون تحتها أجيالًا طويلة في شخص رؤسائهم الذين كانوا يعاصرونهم”([6]). وهو ها هنا يشير إلى أسباب الثورة بنوعِ إجمالٍ، ولعلنا يجب أن نقف على بعض أسبابها التي منها:

أولا- المَلَكِيَّة والحكومة:

حيث “كانت المَلَكِيَّة في فرنسا واسعة النفوذ، مُطلَقَة السلطان على اعتبار أنها تستمد السلطة من الله تعالى، ولذلك كانت طاعة الملك واجبة، وكلمته قانونًا، وله مطلق التصرف في المال وفي الحرية وفي الحياة. على أن هذه السلطة ما كانت تُستَخدَم دواما لمصلحة الشعب والبلاد؛ فكثيرًا ما كانت تُصادَر أملاك الأفراد، أو يُطرَحون في ظلمات السجون أعوامًا عديدة بغير محاكمة ولا جريمة معينة، وكثيرا ما كانت تُبذَّر الأموال في بناء الدور والقصور وإجزال العطايا الباهظة للأصدقاء والندماء”([7]). وإن كان ذلك على حساب ذلك حياة الأشخاص وحرياتهم “وحقت كلمة أرجنسون “إن بلاط الملك قبر الشعب””([8]).

كان الملك -صاحب الحكم المطلق الذي يستمد حكمه من الله- الذي لا يهمه من حكمه في الغالب إلا مصلحته، وحياته، ورغده، وعيشته الهانئة، وتمتُّع ذويه برفاهية الحكم، ومع ذلك فقد كان آخر ملك قبل الثورة الفرنسية (الأولى) وهو الملك لويس السادس عشر بخلاف سابقيه؛ حيث أراد صلاح البلاد في حالةٍ كانت فيها فرنسا في غاية الضعف؛ خاصة من الحالة المالية بسبب الحروب الماضية، ولكنَّ ضعفه واستسلامه وعدم ثقته في نفسه كان عيبًا كبيرًا فيه، فها هو عندما أتاه خبر موت جده الملك لويس الخامس عشر إذ به يخر على ركبته هو وزوجته ماري أنتوانيت قائلا: “اللهم سدد خطانا، وتولَّنا بحمايتك؛ فإننا سنحمل أعباء الحكم صغيرين جدًّا”([9]).

هذا الضعف الذي أدى إلى استغلاله وسهولة انقياده لغيره، وأخذه بكل يد تمتد له، وتقلبه تبعًا لإرادة كل ناصح ومشير كوزراء منافقين، وحاشية لا تبغي إلا ما يجلب النفع لأنفسهم لا ما يجلب النفع للبلاد.

ثانيا- الامتيازات والتفريق بين طبقات المجتمع:

فنرى فرنسا مقسمة من حيث الطبقات الاجتماعية إلى ثلاث طبقات؛ فالطبقة الأولى هي طبقة الإكليروس، والثانية النبلاء وهما “الطبقتان المحظوظتان”، والطبقة الثالثة “التي تشمل أكثرية الأمة الساحقة”.

“ويرجع أصل الطبقات إلى العصور الوسطى حيث تأكَّد التفريق بين أولئك الذين يُصَلُّون، والذين يحاربون، والذين يعملون لإعاشة الآخرين؛ فكانت طبقة الإكليروس أقدم الطبقات. فكان لها منذ البدء وضع خاص ينظمه الحق القانوني. وتوضحت فيما بعد بين العلمانيين طبقة النبلاء الاجتماعية. وكان مَنْ ليسوا إكليركيين ولا نبلاء يؤلفون مجموعة الفلاحين التي ولدت الطبقة الثالثة”([10]).

و”كان الأشراف يتمتعون بامتيازات واسعة، وكانوا يهجرون مزارعهم ويقيمون في باريس حيث اللهو وحياة البذخ والرفاهة، تاركين رجالهم من ورائهم فريسة لأطماع جُباةِ الضرائب الذين لم يكونوا يتقيدون في عملهم وعسفهم بعُرْفٍ ولا قانون.

وكانت المراكز السامية في الجيش والبحرية ودُورِ القضاء وقفًا على الأشراف، ولم يكن يطمع واحدٌ من أهل الطبقة الوسطى في أن يَرْقَى إلى طبقة أعلى مهما كانت قدرته وكفاءته.

أما الطبقة السفلى فكانت تتمرغ في حمأة الجهل والفقر.

وكان رجال الدين في نعيم لا يتفق مع مَنْ صناعته بيع الدنيا وشراء الآخرة، وكان أصحاب المناصب العالية منهم يحيون حياةً بعيدة كلَّ البعد عما هو مفروض على مثلهم من الواجبات”([11]).

“كان كل إنسان -أي من الطبقة الأخيرة العامة- عرضة لأن يُلقَى القبض عليه ويُطرَح في السجن بغير تحقيق إلى أَجَلٍ غير محدود، وكان التعذيب بجذب الأوصال ونزع الأطراف من بين العقوبات الشرعية التي تحكم بها محاكم ذلك العصر، وكانت لشركات الاحتكار الكلمة العليا في أسواق فرنسا.

وكان لا يدفع الضرائب للحكومة إلا طبقة العمال ومَنْ في درجتهم، أما الأشراف فكانوا مَعْفِيِّين من ذلك، بل إنهم كان لهم الحق في جباية الضرائب لأنفسهم غير ما كان يُجبَى للحكومة”([12]). وكان الإكليروس أو الكنيسة تكاد تكون الطبقة الأولى المميزة في الدَّولة أو المنظومة الأولى التي كانت “تتمتع بامتيازات مهمة، سياسية، وقضائية، وضرائبية، وتعتمد قوته الاقتصادية على جباية العُشْر وعلى الملكية العقارية، وكانت ملكية الإكليروس العقارية تقوم في آن واحد في المدن والأرياف؛ فهو يملك مبانيَ عديدة في المدن، ويجبي عنها أجورًا تضاعفت قيمتها عبر القرون…”.

“فالأديار تملك مساحات واسعة ومبانيَ عديدة في مدن مثل رين وروان”([13]).

وأما الطبقة الثانية طبقة النبلاء والذين “يؤلفون المنظمة الثانية في المملكة والطبقة المسيطرة في المجتمع…” وكان “جميع النبلاء يملكون امتيازات شرفية واقتصادية وضرائبية”([14]).

إذًا فيمكننا أن نقول إن من أهم أسباب الثورة هي التَّفرقة بين الطبقات في الحقوق؛ فطبقة الأشراف بنوعيها كانت تتمتع بكثير من امتيازاتها “التي وَرِثَتْهَا عن عهد الإقطاع، والتي كانت في مقدمة ما يشكوه الشعب الفرنسي من آثار العهد القديم”([15]).

الثورة وموقفها من الكنيسة:

أما فيما يتعلق بسلطة الكنيسة ومكانتها؛ فقد عملت الثورة الفرنسية على نقض أركانها فنرى الكنيسة التي كانت عبئًا على نفوس الشعب يُوضَع لها الدستور المدني الذي يسلبهم سلطاتهم الواسعة؛ فصاروا به ليسوا إلا مجرد موظفين عند الحكومة، وبالطبع قد لاقى هذا الأمر احتجاجًا واسعًا، فإذ بالجمعية تُصدِر قرارًا يُحتِّم على رجال الدين أن يُقْسِموا يمين الإخلاص والطاعة للدستور وإلا حُرِمُوا وظائفهم، وأُوقِفُوا عن العمل! وهكذا صارت الكنيسة بعيدة تمامًا في العصر الحديث في فرنسا عن الحكم مسلوبة الامتيازات في العهد الجمهوري الجديد، بناءً على أفكار العلمانيين في الجمعية الوطنية، وكان أكبر عامل لذلك هو وقوف الكنيسة ضد مطالب الجماهير “كان من الممكن ألا تعتنق الجماهير المسيحية أفكار الكُتَّاب العلمانيين هؤلاء وتتخلى عن عقيدتها الراسخة، لولا الموقف الشائن الذي وقفته الكنيسة من مطالبهم المشروعة.

ربما كان للكنيسة عذر أو بعض عذر في شكوكها الحائمة حول القائمين على الثورة لكنَّ الأمر الآن قد أفلت من يدها، فإن هيجان الرعاع الهالكين جوعًا وظلمًا لا يُسمَح لهم بالتروي والأناة في مثل هذه المواقف الصاخبة، وأصبح لزامًا عليها أن تسدد ديون قرون طويلة من الاستغلال البشع والطغيان الجائر.

إن ذهن الفلاح الساذج قد لا يستطيع أن يستوعب شيئًا من أفكار روسو وانتقادات فولتير، لكنه لا يستطيع بسهولة أن يرى مخازي الكرادلة والقساوسة وفضائحهم وثراءهم الباذخ، لقد رأى بأم عينيه ما عبَّر عنه توماس جفرسون بقوله: “إن القسيس في كل بلد وفي كل عصر من أعداء الحرية، وهو دائمًا حليف الحاكم المستبد يعينه على سيئاته في نظير حمايته لسيئاته هو الآخَر. وكان ذلك مدعاة لأن تصب الجماهيرُ جامَ غضبها على الكنيسة وتصرخ خلف ميرابو: اشنقوا آخِر ملك بأمعاء آخر قسيس”.

أصبحت الثورة الفرنسية فيما بعد ملهمة لجميع الدول الأورُبية مُصدِّرَة لهم مبادئ العلمانية بنوعيها الشاملة والجزئية والحرية الفكرية التامة والتي ستصدر عنها فيما بعد نظريات علمية وأيديولوجيات كما سنرى، ولكن ما يهمنا في الثورة أنها كانت من أهم محطات العلمانية؛ إذ دعت إلى تأسيس ذلك المجتمع العلماني الذي يُبعِد الدين عن الحياة، ولذلك كان لها الأثر حتى على مصطلح العلمانية في حد ذاته؛ مما يرشدنا إلى التأثير القوي للعلمانية. يقول الأستاذ محمد إبراهيم مبروك: “والفعل الإنجليزي المشتق عن الفرنسية يحمل بصمات أصوله الفرنسية والتجربة الفرنسية في العلمنة (المرتبطة بالثورة الفرنسية) التي أخذت شكلًا حادًّا وقاطعًا.

فمؤسسة الكنيسة كانت قوية في المجتمع الفرنسي الإقطاعي القديم، وكانت امتيازات النبلاء واضحة محددة، كما كان هناك تداخل كبير بين طبقة النبلاء ورجال الدين، وخصوصًا ذوي الرتب الرفيعة. ولذا كان رد فعل الثوار عنيفًا ومنهجيًّا يأخذ شكل رفض النظام القديم متمثلًا في الحكومة الملكية المطلقة، ونظام الطبقات السائد ومؤسسة الكنيسة وكل الرموز السياسية والدينية القائمة، ووصل الرفض إلى حد ذبح النبلاء وكثير من أعضاء طبقة الكهنوت، وإلى حد تحويل بعض الكنائس إلى معابد تُعبَد فيها ربة العقل، كما أنهم وضعوا سياسةً منهجيةً صريحةً تهدف إلى تصفية أي مضمون ديني في التعليم أو القانون”([16]).

ولكن أيًّا كان الأمر، فتدريجيًّا سادت مبادئ الثورة الفرنسية (العلمانية) في أورُبا بالكامل، مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وإن كانت الثورة الأولى في فرنسا لم تنجح نجاحًا كاملًا؛ حيث عادت المَلَكِيَّة فيما بعد ولكنها كانت شرارة أوقدت نارًا في أورُبا كلها على مدى أربعين عامًا إلى عام 1830 الذي يعد فاصلًا في أورُبا بين عصر قديم وعصر جديد، لتتحول فرنسا مرة أخرى إلى ثورة ثانية وإلى ثالثة؛ مشجِّعةً بذلك بقية الشعوب الأوروبية كألمانيا، والنمسا، وبلجيكا، واليونان على التحرر، ولتسود مبادئ العلمانية ومتتالياتها في أورُبا بالكامل لتصبح فيما بعد العلمانية نظامًا متكاملًا في أورُبا، فتم الفصل بين السياسة والدين اللهم إلا في بريطانيا؛ فإنها بالمعنى الحرفي للعلمانية لم تطبقه حتى الآن؛ فما زالت الملكة محتفظة برئاسة الدولة والكنيسة في آن واحد، وما زالت الصلوات تتلى في بداية الأعمال الرسمية للدولة وهذا ليس تطبيقًا للعلمانية بمعناها الحرفي.

ظاهرة التقابل بين العلم والكتاب المقدس([17]):

لقد تسببت الأزمة التي عُرِفَت بأزمة الوعي الأوروبي في عصر التنوير عن ظاهرة نقد الكتاب المقدس، ثم استفحلت بفعل النظريات التطورية في علم الأحياء.

فقد قام ريشارد سيمون الفرنسي المعاصر لسبينوزا -الذي أسهم بشكل مؤثر في النقد العلمي للكتاب المقدس-، بدراسةٍ نقديةٍ جريئة للكتاب المقدس أنجزها في ثلاثة أجزاء، حملت العنوان (التاريخ النقدي للعهد القديم)، تناول فيها بصفة أساسية مشكلة كاتبي العهد القديم الحقيقيين، أحدثت تشكيكًا قويًّا في المعتقدات السائدة بهذا الخصوص، ودعمت الاتجاه الجديد في النظر في الكتاب المقدس على ضوء المقررات العقلية والعلمية، وبعد زهاء قرن تم الاعتراف بسيمون كأب للنقد الأعلى([18]).

داروين ونظرية التطور:

اكتسب تشارلز داروين شهرته من خلال نظريته الصادمة في تطور الأنواع بالانتخاب الطبيعي، النظرية التي عارضت بشكل صارخ الاعتقاد الديني العتيد بالخلق المستقل، أي بخلق الله للأنواع كل على حِدَةٍ بشكل مباشر ومستقل في سبعة أيام كما يبين سِفْرُ التكوين، فاقترحت نشوءَ الأنواع كلها من أصل واحد ظل يتطور ويتغير بفعل عوامل كثيرة، في رأسها عامل الانتخاب الطبيعي، حتى صارت الحياة تَغَصُّ بأعداد هائلة من الأنواع النباتية والحيوانية.

نشر داروين كتابَه “في أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي” سنة 1859م وبعد هذا التاريخ بسنة ظهر في ألمانيا كتاب ألَّفه سبعة من العلماء البروتستانت أثار ضجة أكبر من تلك التي أحدثها كتاب داروين بعنوان “مقالات ومراجعات”، اشتمل على دراسات متقدمة عما قدمه ريشارد سيمون حول الكتاب المقدس، وقد تجاوزت ردود الأفعال والانتقادات الموجهة إليه الأربعمائة، ولم يكن تزامُن ظهور الكتابين في صالح الكنيسة؛ فنظرية داروين تعمل في اتجاه تغييب وعزل الله عن العالم في الوقت الذي يضطر من يطمئن إليها إلى التشكيك في صحة الكتاب المقدس أصلًا.

لقد كان داروين بنظريته يؤكد على أن الخلق عملية ممتدة عبر ملايين السنين، لكن من أين لنا بملايين السنين، والتوراة تدل على أن عمر الأرض لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين!

وقد تطور الإلحاد في القرن التاسع عشر من الإنكار البسيط للإله المفارِق للطبيعة إلى إعلان جريء عن موته وذلك على لسان نيتشه المتوفى سنة 1900 الذي أعلن على لسان زرادشت عن موت الإله، وأنه لم يبق منه إلا ظلاله التي يجب محوها.

وفي القرن العشرين استمر الإلحاد بشكل متنامٍ؛ خاصةً بعد الثورة البلشفية عام 1917م وانتشار الشيوعية.

وقد اتصف الكثير من المذاهب الفكرية والأدبية في القرن العشرين بشيء من الإلحادية، مثل: المذهب الطبيعي لجورج سانتيانا، وجون ديوي، الحركة النسائية، والعلموية، والفوضوية، ثم أتت الثمانينيات بما يُعرَف بالإلحاد الجديد، الذي يمثله ريتشارد دوكينز، ودانيل دينيت، وكريستوفر هيتشينز، وفيكتور ستينجر، وكارل سيجان، ثم سام هاريس([19]).

([1]) كارين آرمسترونغ، النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام، ترجمة محمد الجوا، دار الكلمة للنشر والتوزيع، سوريا دمشق، الطبعة الأولى صـ 83.

([2]) الكنيسة والعلم صـ 534.

([3]) مطرقة البرهان (ص 80).

([4]) حسن جلال، الثورة الفرنسية، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة سنة 1937، صـ 3.

([5]) سلامة موسى، حرية الفكر صـ 183.

([6]) الثورة الفرنسية، حسن جلال صـ 8.

([7]) محمد قاسم وحسين حسني، تاريخ القرن التاسع عشر في أوروبا منذ عهد الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العظمى، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1929، ص3.

([8]) المرجع السابق.

([9]) حسن جلال، الثورة الفرنسية ص65.

([10]) ألبير سوبول، تاريخ الثورة الفرنسية، منشورات عويدات، ترجمة: جورج كوسي، الطبعة الرابعة، سنة 1989، ص18.

([11]) حسن جلال، الثورة الفرنسية. ص10.

([12]) حسن جلال، الثورة الفرنسية ص11.

([13]) الثورة الفرنسية، ألبير سوبول ص24.

([14]) المرجع السابق، ص20.

([15]) الثورة الفرنسية، ص31.

([16]) محمد مبروك، العلمانية، دار التوزيع والنشر الإسلامية ص9.

([17]) مطرقة البرهان (ص 81).

([18]) مطرقة البرهان (ص 81).

([19]) مطرقة البرهان (ص 83- 88).

اترك تعليقاً