البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

أولًا: شبهات الإلحاد الإبستمولوجي، وما يتعلق بالنظرية الإبستمولوجية:

58 views

الشبهة الأولى: هل كانت الوثنية أو الشرك هي الحالة السائدة قبل ظهور الإيمان، أم التوحيد؟

برزت هذه الشبهة في فلسفة ديفيد هيوم، فهي تنتمي إلى (الإلحاد الإبستمولوجي)، ويأخذ بها بعض الملحدين لإقرار أن الأصل الشرك وليس التوحيد، وهذه الفكرة الباطلة والتي سنتعرض لنقدها قد سرت لبعض المفكرين الإسلاميين كالعقاد مثلًا([1]).

يرى هيوم أنه في البدء كانت الوثنية، وأن الوثنية كانت الدين الأول والأقدم في تاريخ النوع الإنساني، وأن شهادة التاريخ على ذلك واضحة، وإننا كلما عدنا إلى أعماق التاريخ في العصور القديمة وجدنا الإنسان غارقًا في الشرك، وأنه ليس هناك من دليل يدل على أن البشرية عرفت دينًا آخر يبدو أكثر كمالًا من الشرك، ومعظم الوثائق القديمة عن تاريخ البشرية لا تزال تؤكد على أن الوثنية كانت بمثابة العقيدة الشعبية الراسخة، ومن ثم يعتقد هيوم أنه بناء على هذه المعلومة يمكن دحض أي دليل آخر يمكن أن يعارض هذه الوجهة من النظر، فالشمال والجنوب والشرق والغرب يقيمون أدلتهم الاجتماعية عليها، فحتى اليوم تشهد الخبرة الحياتية -من وجهة نظر هيوم- على صحة هذا الدليل، فالقبائل في أمريكا وأفريقيا وآسيا كلها وثنية بلا استثناء لهذه القاعدة.

ويرى هيوم أن الدين قد نشأ في البداية كنتيجة لأسباب سيكولوجية تتمثل في القلق والخوف الشديد الذي ينتاب الكائن البشري إزاء أحداث الحياة والمستقبل، ومن الأفكار الغامضة التي يضمرها الإنسان عن القوى المجهولة وغير المرئية، فتقلب أحداث الحياة بين صحة ومرض، ونجاح وفشل، وتعدد أحوال الظواهر الطبيعية، أن عَزَا الإنسان كل ظاهرة طبيعية وكل شأن من شؤون الحياة إلى قوى خفية عاقلة، وتعددت هذه القوى بتعدد الظواهر الطبيعية وشؤون الحياة، ونسب الإنسان لتلك القوى الخفية أو الآلهة اختصاصات محددة، وقسَّم مناطق نفوذها، فجونو يُتَوَسَّل إليها في الزواج، ولوسينا في الولادة، وهكذا، أي أن الإنسان الأول قد قاس طبيعة الآلهة على طبيعته وإرادته التي تتغير من خير إلى شر، ومن شر إلى خير؛ فظن أن كل ظاهرة وراءها إله.

ويواصل هيوم عرض فكرته هذه بأن التوحيد قد انبثق من الشرك، فالشرك في الدين بما ينطوي عليه من الإيمان بوجود آلهة متعددة بتعدد الظواهر الطبيعية يلائم سياسيًّا تعدُّدَ القبائل والجماعات الإنسانية ولكن ما إنْ تتوحد هذه القبائل وتلك الجماعات تحت راية قبيلة واحدة قوية منتصرة تستطيع توحيد هذه القبائل المتعددة في وحدة واحدة، فإنها تتحول من التعددية إلى التوحيد، حيث تسود عبادة الإله الذي تعبده القبيلة الغالبة، لكن هذه الوحدانية في البداية لا تكون وحدانية صافية تؤمن بإله واحد، وترفض سائر الآلهة، وإنما تكون معبِّرة عن وحدة الاعتقاد الهرمي التراتبي في الآلهة، فآلهة القبائل المخضعة أصبحت في رتبة أقل من إله القبيلة المنتصرة، لكن بمرور الزمن وتلاشي الفروق القبلية تتحول تدريجيًّا إلى عقيدة التوحيد، وهكذا يقرر هيوم أن التوحيد ينبثق عن الشرك، وأن الشرك هو أصل التوحيد([2]).

نقد هذه الشبهة:

أولًا: تقوم هذه الفكرة على استقراءٍ ناقصٍ للأمم والحضارات، ولقد برهنت العديد من الدراسات المتخصصة التي قام بها علماء الأجناس والأنثروبولوجيا، وأكدها الفلاسفة ببراهين ساطعة قوية أن التوحيد كان المعتقد الأول للبشرية، فقد أيَّد كثير من علماء الأجناس القول بأن التوحيد هو دين البشرية الأول، مثل الألماني إينرايخ (Enreich) في مقاله (الآلهة والمنقذون Gods and savers) والذي نشره عام 1906م وهو بحث عن قبائل الهنود الحمر، كما أكد عالِم الأجناس والأنثروبولوجيا الألماني الأب شميدت Schmidt في العديد من أبحاثه أن التوحيد كان الدين الغالب على القبائل البدائية الموغلة في التاريخ، وأوضح أن القبائل الأسترالية الوسطى التي زعم الباحثون (دوركايم وغيره) أنها تعبر عن المرحلة البدائية الأولى للبشرية ما هي إلا قبائل حديثة تمثل الطور السادس من تطور قبائل أستراليا، وتوجد قبائل أقدم منها عرفت الإله الواحد الأسمى.

كما أكد تلك الرؤيةَ نفسَها العديدُ من الفلاسفة، حيث أكدوا على أن البشرية أول ما بدأت؛ بدأت بالتوحيد، الذي تكشَّف لها إما بوحي إلهي أو بتأمل نظري، والذي لم يكن الشرك إلا مظهرًا من مظاهر فساده، فكان نتيجةً لانحرافٍ في التفكير، أو التأويل الخاطئ، أو اتباع المصلحة أو الهوى، فحاد الإنسان عن التوحيد، وسقط في الشرك والتعددية والوثنية، ومن هؤلاء (شلنج) الذي ذهب في كتابه (فلسفة الميثولوجيا) إلى أن التوحيد كان هو اتجاه المعتقد الديني عند البشرية في البداية، وهو الأمر نفسه الذي أكده (أندرو لانج) في كتابه (صنع البشرية making of humanity) إذ قال فيه: إن الدين الأول هو دين السماء. واستند في ذلك إلى الدراسات الأنثروبولوجية واكتشافات هويت Howitt وبحوث مان T.H.Man عن الموجود الأسمى في قبائل وسط أفريقيا مثل الزولو والبوشمن والهوتنتوت، وبعض القبائل البدائية الأمريكية، وبعض قبائل أستراليا الجنوبية والشرقية، ويرى (لانج) أن المعتقدات الصحيحة تسبق المعتقدات الخاطئة، وأن العقل يسبق المخيلة في العمل، فالديانات بدأت توحيدية نقية، ثم تلتها معتقدات أسطورية غير صحيحة نتيجة عمل المخيلة، وكذلك أكدت جميع الأديان السماوية أن التوحيد كان هو الأصل والبداية، وهكذا يمكننا القول بأن هيوم -في معالجته لتلك المسألة- قد افتقد لمنهجيات علم النقد التاريخي، ولم يبذل المجهود اللازم في تقصي المعارف الاجتماعية والأنثروبولوجية المتاحة في عصره([3]).

بل توصل هؤلاء العلماء من خلال أبحاثهم التي قاموا بها إلى أن الأصل هو التوحيد وليس الشرك، وسموا نظريتهم (نظرية فطرية التوحيد وأصالته)، وقد انتصر لهذه النظرية فريق كبير من العلماء وأيدوها بما توصلوا إليه من اكتشافات وحفريات قديمة تدل على أن هناك أممًا عريقة في القوم لم تكن تعرف تعدد الآلهة، وكانت تؤمن بالإله الواحد، وبنوا عليه أن عقيدة الوحدانية هي أقدم ديانة عرفها البشر، وأن التعدد والوثنية طارئة ومتطفلة على عقيدة التوحيد.

وأما ما تمسَّك به أولئك الخارجون عن الحق بتقدُّم الصناعات على تقدم الديانات فلا شك أن هذا في الواقع قياس فاسد واستدلال باطل، وقياسٌ مع الفارق لعدة أمور:

أولًا: أن الصناعات من الأشياء المادية، والأديان من الأشياء المعنوية فكيف يقاس معنوي غير محسوس على شيء مادي محسوس؟! فهو كمن يقيس الهواء على الماء.

ثانيًا: أن الصناعات تقوم على التجربة والملاحظة، وتظهر النتائج بعد استكمال مقوماتها، بخلاف الدين الذي لا يقوم على ذلك، ولا تظهر نتائجه في هذه الحياة الدنيا.

ثالثًا: يلزم من هذا القياس شيئان:

  • أن يكون الإنسان في هذا الزمن صادقَ التدين، خالصَ التوحيد، لأن الصناعة قد بلغت مبلغًا عاليًا من التطور، والواقع خلاف ذلك، فإن الإنسان في العصر الحاضر أحطُّ ما يكون من الناحية الدينية؛ إذ الإلحاد مُتَفَشٍّ في أكثر بقاع العالم.
  • كما يلزم منه ألا يوجد شرك في هذا الزمن، والواقع خلاف ذلك، حيث إن الشرك مُتَفَشٍّ في الشرق والغرب.

وأما ما تمسكوا به -على قولهم الباطل- بالحفريات ومخلفات الأمم السابقة، فيقال عنه:

أولًا: إن هذه الحفريات ناقصة، فلا دلالة فيها على ما ذكروا سوى التخمين ومحاولة الربط بين أمور متباعدة، وغاية ما تدل عليه الحفريات والآثار، أن الأمم السابقة وقعت في الشرك، وهذا لا ننكره نحن، بل القرآن والسنة نَصَّا على ذلك وبَيَّنَاهُ، وأما عبادة الإنسان الأول وعقيدته فلا يمكن معرفتها من خلال الآثار حتى يعثروا على الإنسان الأول ويجدوا آثارًا تدل على عقيدته وعبادته.

ثانيًا: من المؤكد أن الأمم تتقلب في عبادتها فتنتقل من التوحيد إلى الشرك، ومن الشرك إلى التوحيد، فمعرفة عبادة أمة من الأمم لا يعني أنها لم تعرف سوى هذه العبادة، بل يعني ذلك أنها كانت على هذه العبادة في تلك الفترة فقط.

ثالثا: أن الحفريات ومخلفات الأمم السابقة كما استدل بها بعضهم على القول بالشرك في الأمم، هكذا استدل به فريقٌ آخر على توحيد بعض الأمم، فقد قال به فريق من العلماء أمثال: (لانج وشريدر، وفريزر، وشميدت، وبتاتزوني، وفوكارت) وغيرهم، فقد توصلوا من خلال أبحاثهم التي قاموا بها إلى أن الأصل هو التوحيد وليس الشرك، وسموا نظريتهم (نظرية فطرة التوحيد وأصالته)، وقد انتصر لهذه النظرية فريق كبير من العلماء وأيدوها بما توصلوا إليه من اكتشافات وحفريات قديمة تدل على أن هناك أممًا عريقة في القِدَم لم تعرف تعدد الآلهة، وكانت تؤمن بالإله الواحد، وبنَوا على هذه الحفريات والكتابات المكتشفة نظريتهم القائلة بأن عقيدة الوحدانية هي أقدم ديانة عرفها البشر، وأن التعدد والوثنية طارئة ومتطفلة على عقيدة التوحيد.

وبهذا يظهر جليًّا وواضحًا فساد هذه الأقوال المنحرفة عن الحق، وأن ما استدلوا به ليس إلا تخرصات وتوهمات لا تقوم على وجه الحق الواضح البيِّن الذي سبق أن ذكرناه، وهو أن الإنسان أصله التوحيد، والتوحيد هو أول ما عرفه الإنسان، ثم بدأ بالانحراف فتدرَّج أمره حتى وقع في الشرك، وذلك هو الحق الذي لا ريب فيه.

ثم إن هذا القول الموافق للقرآن والسنة والفطرة والعقل الصريح، الموافق للنقل الصحيح قد اهتدى إليه بعض علماء الآثار والباحثين في الأديان من الغربيين وغيرهم، نذكرها نماذج من أقوالهم.

  • يقول الباحث أدامسون هيوبل المتخصص في دراسة الملل البدائية: “لقد مضى ذلك العهد الذي كان يتهم الرجل القديم بأنه غير قادر على التفكير فيما يتعلق بالذات المقدسة أو في الله العظيم، ولقد أخطأ تيلور حيث جعل التفكير الديني الموحَّد نتيجة للتقدم الحضاري والسمو المعرفي، وجعل ذلك نتيجةً لتطورٍ بَدَأَ من عبادة الأرواح والأشباح، ثم التعدد، ثم أخيرًا العثور على فكرة التوحيد”.
  • ويقول الباحث (أندري لانج) من علماء القرن الماضي: “إن الناس في أستراليا وأفريقيا والهند لم ينشأ اعتقادهم في الله العظيم على أساس من الاعتقاد المسيحي”، وقد أكد هذا الرأيَ العالمُ الأسترالي (وليم سميث) حيث ذكر في كتابه (أساس فكرة التوحيد) مجموعة من البراهين والأدلة جمعها من عدة مناطق واتجاهات تؤكد أن أول عبادة مارسها الإنسان كانت تجاه الله الواحد العظيم.

ويقول الدكتور (الحاج أورانج كاي) من علماء الملايو في إندونيسيا: “عندنا في بلاد أرخبيل الملايو دليل أكيد على أن أهل ديارنا هذه كانوا يعبدون الله الواحد، وذلك قبل أن يدخل الإسلام إلى هذه الديار، وقبل أن تدخل النصرانية”.

وفي عقيدة جزيرة (كليمنتان) بإندونيسيا لوثة من الهندوسية ورائحة من الإسلام، مع أن التوحيد كعبادة لأهل هذه الديار كان هو الأصل قبل وصول الهندوسية أو الإسلام إليها.

وإذا رجعنا إلى اللغة الدارجة لأهل هذه الديار قبل استخدام اللغة السنسكريتية أو قبل الهجرة الهندوسية أو دخول الإسلام تأكدنا من أن التصور الاعتقادي لأجدادنا حسب النطق والتعبيرات الموروثة هو أن الله في عقيدتهم واحد

([1]) انظر: التاريخ الطبيعي للدين (ص 9- 15) ديفيد هيوم، ترجمة: حسام الدين خضور، دار الفرقد للطباعة والنشر، دمشق، سورية، 2014م. واللهُ جلَّ جلالُه (ص 16) عباس محمود العقاد، نهضة مصر.

([2]) انظر: التاريخ الطبيعي للدين (ص 9- 15) ديفيد هيوم، ترجمة: حسام الدين خضور، دار الفرقد للطباعة والنشر، دمشق، سورية، 2014م. والإلحاد الإبستمولوجي (ص 8- 11).

([3]) الإلحاد الإبستمولوجي (ص 11، 12).

اترك تعليقاً