البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

شبهات نظرية المعرفة.

62 views

أولًا: المقصود نظرية المعرفة:

نظرية المعرفة (Epistemology): نظرية المعرفة -بهذا اللَّفظ: نظرية المعرفة- علمٌ حديث أُسِّسَ في الغرب منذ ثلاثة قرون، واهتم به الفلاسفة الغربيون اهتمامًا بالغًا، حتى خص البعضُ منهم فلسفته بتبيين ما يرجع إلى المعرفة وأدواتها، والغاية المطلوبة من هذا العلم هي الوقوف على حقيقة المعرفة وأدواتها([1])، فهي تبحث في طبيعة المعرفة الإنسانية، وإمكانها، وحقيقتها، وطرقها، ووسائل تحصيلها وحدودها، ومعيار الحقيقة فيها، والهدف منها، ويتجه البحث في طبيعة المعرفة إلى بيان كيفية العلم بالأشياء، أي طبيعة اتصال القوى المدركة لدى الإنسان بموضوعات الإدراك، وعلاقة كل منهما بالآخر([2]).

ونظرية المعرفة وإن لم تُطرَح في الفلسفة الإسلامية بصورة مستقلة، غير أن إمعان النظر في مختلف أبواب الفلسفة الإسلامية وفصولها يوقف الباحث على أنهم طرحوا مسائلها متفرقة مبثوثة فيها، ولم ينظروا إليها كعلم مستقل([3])، لكنها تبلورت عند المتأخرين في مقدمات العلوم العقلية؛ لا سيما المنطق وعلم أصول الدين (الكلام)، وأصول الفقه، فنجد الأئمة يفردون لها مساحة كبيرة في مقدمات كتبهم، نجد ذلك في كتب الإمام الفخر الرازي في كتابه (محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين) يتكلم عن طبيعة المعرفة، وإمكانها، كذلك الإمام القاضي البيضاوي في كتابه (طوالع الأنوار) يُفرِد للعلم وطبيعته ووسائل تحصيله وطرقه مساحة لا بأس بها، كذلك العضد الإيجي، فالتفتازاني وغيرهم، كلُّهم يُفرِدُون للعلم بحوثًا تُناظِر ما بحثه الغربي في علم (نظرية المعرفة).

شبهات الملحدين حول نظرية المعرفة

نستطيع أن نرصد أهم الشُّبَه الإلحادية في هذا الباب إلى الشُّبَه الآتية:

  • القول بأن الأشياء نسبية وأنه لا حقيقة.
  • القول بأنَّ معرفة الله تتقاصر عنها العقول.
  • مشكلة عدم الإيمان: (وهو ادعاء إلحادي قائم على أنه إذا كان هناك إلهٌ موجود (ويريد أن يعرف البشر بوجوده)، فإنه كان سيخلق حالة ما بحيث يمكن لكل شخص عاقل الإيمان به، لكن هناك أشخاص عقلاء غير مؤمنين لذا فإن هذا يحتسب ضد وجود الإله).
  • القول بأن التواتر لا يفيد علما.

والداعي لحصر هذه الشُّبَه في هذا القسم (نظرية المعرفة) هو أن القاسم المشترك بين هذه الشُّبَه يتجه بدوره إلى العلم والمعرفة؛ ففي الشبهة الأولى نفي للجزم بالمعرفة، والثانية نفي لإمكانية معرفة المولى سبحانه وتعالى، والثالثة نفي للإله بنفي ضرورية العلم به، وفي الرابعة نفي العلم الحاصل عن طريق التواتر.

الشبهة الأولى: القول بأن الأشياء نسبية وأنه لا حقيقة.

يذهب كثير من الملحدين إلى اعتماد شبهة تمكنهم من المراوغة والتحايل في المناقشات والمحادثات العلمية، وهذا المبدأ إما أن يكون:

  • أنه لا حقيقة للأشياء الخارجية أصلًا.
  • أن هناك حقيقة خارجية لكن لا قدرة لنا على العلم بها.

وهذا المذهب قديم قِدَمَ الفلسفة، فهو موجود عند السفسطائية، حتى قال الإمام النسفي في عبارته المشهورة في عقائده: “قال أهل الحق: حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق، خلافا للسفسطائية”([4]) ورُوِّجَ في المذاهب الفلسفية المعاصرة، وحتى نفهم هذه الشبهة على الصورة الأتم وما يشتمله هذا الفصل من الشبهات المتعلقة بنظرية المعرفة، لا بد أن نقدم عدة أمور:

  • تعريف العلم.
  • مذاهب العلماء في العلم هل هو ضروري أو نظري.
  • الوسائل التي يمكن بها تحصيل الإنسان للعلم.
  • في المذاهب التي سلكها الناس في هذه الوسائل.

تعريف العلم

إن الهدف من التعريف هو رفع الإبهام عن المعرَّف، فإذا رأينا كلمةً ما ككلمة “الخز” مثلًا، فهذه لمن لم يتعرض لها من قبل كلمة مبهمة، فيحتاج إلى رفع هذا الإبهام، ورفع الإبهام طريقُهُ التعريف، فيقال -كما في تاج العروس في شرح القاموس-: “الخز من الثياب: ما يُنسَج من صوف”([5]).

وطرق رفع الإبهام بيَّنها المناطقة، فتارة يكون رفع الإبهام عن طريق وضع مفهوم واضح مكان آخَر مبهم، كما إذا سئلنا عن حقيقة اليورانيوم مثلًا فنقول: إنه أحد العناصر المشعة.

أو يكون عن طريق بيان آثاره وخواصه كما لو سئلنا عن الياسمين فنقول: إنه زهر ذو عطر.

وثالثة ببيان العناصر التي تُكوِّن الشيء وتؤلفه كما في تعريف الماء بأنه: المركب من عنصرين: الأكسجين والهيدروجين، أو الملح بأنه المركب من الكلور والصوديوم.

ورابعة ببيان ماهية الشيء، كما تقول: الإنسان حيوان ناطق([6]). وهذا ملخصه ما قاله المناطقة أن التعريف إما أن يكون بالحد أو بالرسم أو بالمثال، ولكلٍّ من الثلاثة قواعدُ خاصةٌ به تُعرَف من كتب المنطق([7]).

إذن إذا كان ثمة إبهام في هذا الكون فثمة تعريف يبحث العلماء عنه، وإذا لم يوجد إبهام فلا حاجة إلى التعريف لأن المعرَّف لا يُعَرَّف، ولذا قالوا بأن الوجود مثلًا لا يعرف، ومحاولات تعريفه ما هي إلا تفسير للفظ لا تعريفًا له، فقال الإيجي: “الوجود بديهي وتعريفه تنبيه على المراد من المتصورات”([8])، ومثال ذلك ما قيل:

وبات يقدح طول الليل فكرته

وفسـَّر الماء بعد الجهد بالماء([9])

ومن هنا اختلف العلماء في العلم والمعرفة هل هو أمر مبهم فيحتاج إلى تعريف، أم هو شيء بديهي لأنه أمر يتعاطاه كل يوم فلا يحتاج إلى تعريف. إلى ثلاثة مذاهب:

1- المذهب الأول: مذهب الإمام الرازي وهو أنَّ تصوُّر العلم المطلق ضروري لا يحتاج إلى مُعرِّف، بل يحصل بمجرد الالتفات إليه أو سماع لفظه، واستدل على ذلك بوجهين:

الأول: أن علم كل أحد بأنه موجود ضروري، أي حاصلٌ له بلا اكتساب ونظر، وهذا علم خاص، متعلق بمعلوم خاص وهو وجوده، والعلم المطلق جزء منه؛ لأن المطلق ذاتي للمقيد، والعلم بالجزء سابق على العلم بالكل، فإذا حصل العلم الخاص -الذي هو حاصل لكل أحد بالضرورة- كان العلم المطلق الذي هو جزؤه سابقًا عليه، والسابق على الضروري أولى أن يكون ضروريًّا؛ فالعلم المطلق ضروري وهو المطلوب.

الثاني: لو كان العلم كَسْبِيًّا معرَّفًا؛ فإما أن يعرف بنفسه وهو باطل، أو بغيره وهو باطل أيضا لأن غير العلم إنما يعرف بالعلم، فلو علم العلم بغيره لزم الدور؛ لتوقف معلومية كل منهما على معلومية الآخر([10]).

  • المذهب الثاني: مذهب إمام الحرمين والغزالي إلى أنه نظري لكن يَعْسُر تحديده وتعريفه، وتصوره إنما يكون بالرسم وطريق معرفته القسمة والمثال.

والقسمة أن يقال: الاعتقاد إما جازم أو غير جازم، والاعتقاد الجازم إما أن يكون مطابقًا للخارج أو لا، والمطابق إما أن يكون عن دليل أو لا، فالاعتقاد الجازم المطابق عن دليل هو العلم. وأما المثال كأن يقال: العلم إدراك البصيرة المشابه لإدراك الباصرة([11]).

  • المذهب الثالث: وهو مذهب الجمهور أنه نظري ولا يعسر تحديده([12]).

فذهب من قال إلى أنه غير بديهي (نظري) يمكن تعريفه إلى عدة تعريفات مثل:

  • اعتقاد الشيء على ما هو به([13]).
  • معرفة المعلوم على ما هو به([14]).
  • هو الذي يوجب كون من قام به عالمًا([15]).
  • ما يصح ممن قام به إتقان الفعل؛ أي إحكامه وتخليته عن وجوه الخلل([16]).
  • اعتقادٌ جازم مطابق لموجب إما ضرورة أو دليل([17]).
  • حصول صورة الشيء في العقل([18]).
  • وهذا التَّعريف هو الذي اختاره العضد الإيجي -رحمه الله-: صفة توجب تمييزًا بين المعاني لا يحتمل النقيض([19]).

مذاهب العلماء في تحصيل العلم

حينما نولدُ تكون صفحة أذهاننا بيضاءَ خالية عن أيَّة مسجَّلات علميَّة أو إدراكية، ومنذ ولادتنا تبدأ أذهاننا بتسجيل ما يَرِدُ إليها من مدركات وذلك عن طريق أدوات تتمثل في العقل والحس وخبر التواتر([20])، وسنتعرض لهذه المدركات فيما بعد بشيء من التفصيل.

إلا أنَّ هذه المدركات الَّتي تَرِدُ إلى أذهاننا تكون بمثابة المواد الخام لمنتجات العقل الفكريَّة؛ إذ يعمل الفكر على استنتاج مدركات جديدة لم يعرفها عن طريق الأدوات سالفة الذكر، منها الاستنتاجات الرياضيَّة، والاستدلالات العقليَّة المختلفة، كاستنتاج العقل وجود المؤثر عند ملاحظة الأثر، واستنباط المعاني المجرَّدة من ظواهر الأشياء المدركة بالحس.

وتتمُّ هذه الاستنتاجات والاستنباطات العقليَّة بملاحظة الذهن للمدركات الواردة إليه من الخارج، وذلك بما منحه الله من استعداد فطري للاستنتاج وللاستنباط، وبما وُضع فيه من قدرة يستطيع بها تمييز الحقائق، وتحليل المركبات إلى عناصرها، وتركيب العناصر في صورة منسجمة، واستخلاص المعاني الكلية من الجزئيات المتشابهة؛ كما وضع في الحواس قدرات تستطيع بها تمييز صفات الأشياء، وهذه الاستنتاجات هي الوسائل التي طور بها البشرُ حياتهم وطرقَ معيشتهم، بل وصلوا من خلالها إلى المكتشفات الكونية عبر العصور.

وحينما نراقب ما في أذهاننا من مدركات مختلفة واردة إليها من العالم الخارج عنها، أو حاصلة فيها مما استنتجته من قدرات الاستنتاج فيها بالنظر فيما ورد إليها من الخارج فإننا نستطيع تقسيمها إلى قسمين رئيسين:

1- فهي إما أن تكون مجرد مفردات منبثَّة تقعُ صورتها في الذهن، دون أن يحكم الذِّهن بإثباتِ أو نفيِ علاقات بينها، وذلك متحقق بعدم وجود نسبة أصلًا، ولْنُسَمِّ هذه (تصورات)، فهذا هو القسم الأول وهو التصورات.

2- وإمَّا أن تكون هذه المفردات الواقعة صورتها في الذهن قد حكم الذِّهن بإثبات أو نفي علاقات بينها، سواء أكان الذِّهنُ مصيبًا في حكمه أو مخطئًا، وسواءٌ أَوَصَلَ إلى درجة الجزم أو لم يصل، ولْنُسَمِّ هذه تصديقات وهذا هو القسم الثاني (التصديقات).

فالتَّصور هو إدراك أي مفرد من مفردات الأشياء والمعاني، أو كما عرَّفوه: هو الإدراك الخالي عن الحكم([21]).

والتصديق: هو إدراك النسبة بين مفردين فأكثر، وهذه النسبة إما موجبة وإما سالبة مثبتة أو منفية، أو كما عرَّفُوه هو الإدراك الذي معه حكم([22]).

ولدى التأمُّل نلاحظ أنَّ أول ما يقع في أذهاننا من المعارف إنَّما هو صور مفردات الأشياء والمعاني، ثمَّ نربط بين هذه المفردات الَّتي وقعت صورها في أذهاننا بنسب ما، وهذه النسب (أي العلاقات) إما نِسَبٌ موجبة، وإما نسب سالبة، فإذا أدركنا هذه النسب فقد أصدرنا حكمنا الفكري.

وهنا يتَّضح لنا أنه ما دمنا في حدود إدراك المفردات، دون أن ندركَ في الذِّهن علاقات بينها فإننا لا نزال في حدود الإدراك التصوري، أما إذا أدركنا علاقةً ما (نسبة) فإننا حينئذ ننتقل من الإدراك التصوري الذي كان وحده إلى الإدراك التصديقي معه، وكل إدراك تصديقي لا ينفك عن إدراكات تصورية في ضمنه سابقة له في حصول الإدراك.

فمن صور المفردات الَّتي تقعُ في أذهاننا صورةُ الصخرة، وصورة القسوة، ثم ندرك أن بين الصخر والقسوة علاقة موصوفٍ بصفة، هذه العلاقة هي النسبة التي أدركناها.

فإذا قررنا أن الصخر له صفة القسوة فقد أصدرنا حكمًا إيجابيًّا بذلك، وهذا الحكم هو حكم تصديقي جاء قبله تصورات غير مقترنة بحكم.

ومن صور المفردات التي تقع في أذهاننا صورة الثلج وصورة الحرارة، إن إدراكنا هذا لا يزال في حدود التصور، فإذا أدركنا أن بين الثلج والحرارة نسبة سالبة، فقد أصدرنا حكمنا الفكري بأنَّ الثلج ليس حارًّا، إن إدراكنا لهذه النسبة السالبة إدراك تصديقي جاء قبله تصورات غير مقترنة بحكم([23]).

ويلخص الإمام الأخضري هذا كله في السُّلَّم المُنَورَق بقوله:

إدراك مفرد تصورًا عُلِمْ

ودَرْكُ نسبةٍ بتصديق وُسِم([24])

هذا وبعد أن عرفنا أن العلم ينقسم إلى التصور والتصديق فقد ذهب النَّاس إلى أن تحصيل هذين القسمين اللذين هما قِسْمَا العلم إلى أربعة مذاهب:

فمذهبٌ قائلٌ بأن كليهما بعضه يمكن تحصيله والبعض الآخر لا، فما يمكن تحصيله واكتسابه بأدوات الاكتساب والنظر والتفكير العقلي هو (العلم النَّظري أو المكتسب)، وما لا يمكن تحصيله هو (العلم الضَّروري).

وهذان المصطلحان (الضَّروري والنَّظري) هما المصطلحان المستخدمان في علوم المنطق والكلام والفلسفة، وهذا المذهب هو مذهب جمهور العلماء والفلاسفة.

فمعنى الضَّروري أي بحسب الضرورة، وذلك كتصوُّر البرودة والحرارة، وكعلم الإنسان بوجوده مثلًا، وكعلمه بأن النقيضين لا يجتمعان كعلمه باستحالة أن يكون زيد (شخص) مثلًا موجودًا وغير موجود في نفس الوقت، فهذا العلم لا يحتاج الإنسان فيه اكتساب، أو تفكُّر، فهي حاصلة بالضرورة لا اختيار فيها، والآخر هو النظري أو المكتسب وهو ما يخالف الضرورة كتصوُّر العقل والإنسان، فيحتاج الإنسان إلى بحث ونظر، واكتساب معرفة لفهم وتصور العقل، وفهم معنى الإنسان، وكالتصديق بأن هذا العالَم حادث، أو أن الأرض تدور حول الشمس وهكذا([25]).

أما المذهب الثاني فهو قائل بأنه لا يمكن تحصيله، أي أن العلم كله ضروري.

وأما المذهب الثالث فهو القائل بأن الضروري من العلم هو ما يلزم اعتقاده.

وأما المذهب الرابع: فهو القائل بأن كل العلوم نظرية ليس فيها ضروري([26]).

والصحيح من هذه المذاهب هو المذهب الأول.

فالعلم ينقسم إلى الضروري كوجودنا مثلًا، كعلم الإنسان بجوعه وشبعه، أو رِيِّه وعطشه، كما أسلفنا؛ ينبني على هذا العلم الضروري سائر العلوم النظرية.

فإذا جئنا بطفل مثلًا لنُعَلِّمَه عملية الحساب وهي عملية عقلية، فإن فهم عملية الجمع مثل أنَّ جمع واحد بواحد ينتج عنه اثنان (1+1= 2) هذه العملية البسيطة عملية عقلية ضرورية لا تحتاج إلى نظر أو تفكُّر في أنها صحيحة، ننطلق منها إلى إفهام الطفل مثلًا سائر العمليات الحسابية حتى يصل إلى أعقد العمليات الحسابية التي هي نظرية كاستنتاج قيمة (ط) الذي هو جزء من العملية الحسابية لاستنتاج محيط الدائرة أو مساحتها أو حجم الكرة إلى غير ذلك.

والحجَّة في ذلك أن التصور والتصديق لو كان كله ضروريًّا بديهيًّا، لا نحتاج لاكتساب شيء منهما لَمَا احتجنا إلى التعلم أصلًا، والحال المُشاهَد من الإنسان يكذِّب هذه الفرضيَّة، فالإنسان يتعلم على مدى حياته، كما رأى رجلٌ مع الإمام أحمد رضي الله عنه محبرة فقال له: يا أبا عبد الله أنت قد بلغتَ هذا المبلغ، وأنت إِمامُ المسلمين؟! فقال: مع المحبرة إلى المقبرة([27]). وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۗ وَلَا تَعۡجَلۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مِن قَبۡلِ أَن يُقۡضَىٰٓ إِلَيۡكَ وَحۡيُهُۥۖ وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا١١٤} [طه: 114]. فهذه حُجةُ مَنْ نَفَى مقولة مَنْ قال إن العلوم كلها ضرورية.

وأما الحجة على نفي كَسْبِيَّةِ ونظرية الجميع، أن العلوم لو كانت كلها نظرية لما اكتسبنا شيئًا من علومنا على الإطلاق.

توضيح ذلك: نستطيع -كما تَقَدَّمَ- أن نَرُدَّ جميع العلميات الحسابية إلى العملية البسيطة (1+1= 2) فما الدليل عليها؟! سلَّمْنَا جدلًا أن هناك دليلًا على هذه العملية الحسابية، وسنسمي هذا الدليل (س)، وهنا يطرح السؤال:

ما الدليل والبرهان على (س)؟! نسميه مثلا (س +1)، وما الدَّليل على (س +1)؟ إنه (س +2). وما الدليل على (س +2)؟ إنه (س +3) وهكذا سنظل في متوالية لا تقف عند حد ولن تقف عند حدٍّ، وبالتالي لن نتحقق أبدًا من صحة العملية الأولى (1+1= 2) فيلزم التسلسل، وهو استمرار العمليات الحسابية إلى ما لا نهاية، وهو أمر باطل كما سيأتي.

أو يلزم الدَّور وهو توقُّف الشيء على نفسه بمرتبة أو بِعِدَّة مراتب، كأنَّ نقول مثلًا: إن (1+1= 2) وهذه العملية لفهمها لا بد من فهم (س)، ولفهم (س) لا بد من فهم (1+1= 2)… وهكذا، في دوران لا يتوقف، ولن نتحصل من خلاله على علم أبدًا كذلك، وهذا المعنى شبيه بما توصل إليه كيرت جودل عالم الرياضيات الألماني.

فعلى مدى مئاتِ الأعوام، ظلَّ علماء الرياضيات منشغِلين باستخدام البرهان المنطقيِّ لاستنتاج المجهول من المعلوم. وقد كان التقدمُ مذهلًا مع كلِّ جيل جديد من علماء الرياضيات الذين يتوسَّعون في بنائهم العظيم، ويبتكرون مفاهيمَ عدديةً وهندسية جديدة.

غيرَ أنه مع اقترابِ نهاية القرن التاسع عشر، بدأ علماء المنطق الرياضي ينصرفون عن التطلُّع إلى الأمام، وراحوا بدلًا من ذلك يُراجعون أسسَ الرياضيات التي بُني عليها كل شيء، لقد كانوا يرغبون في التحقُّق من مبادئ الرياضيات، وأن يُعيدوا بناءَ كلِّ شيء من المبادئ الأولى بصرامةٍ شديدة، كي يتأكَّدوا بأنفسهم أنَّ تلك المبادئَ الأولى جديرةٌ بالثقة.

يشتهر علماءُ الرياضيات بسُمعتهم السيئةِ في التمسُّك الشديدِ بالحصول على برهانٍ مطلَق قبل قَبول أيِّ ادِّعاء. ويُعبر أيان ستيوارت عن هذه السمعة بوضوحٍ في قصةٍ تَرِدُ في كتابه “مفاهيم الرياضيات الحديثة”: “يُقال: إنَّ عالِمَ فلَكٍ وعالِمَ فيزياء وعالِمَ رياضيَّات كانوا يقضون عطلة في إسكتلندا. وحين أطلُّوا من نافذة القطار، رأَوا خروفًا أسودَ. فقال عالم الفلك: يا له من أمر مثيرٍ للاهتمام أن تكون جميعُ الخراف الإسكتلندية سوداءَ!. فأجاب عليه عالمُ الفيزياء قائلًا: كلا، كلا! بعض الخِراف الإسكتلندية سوداء!. أما عالم الرياضيَّات، فقد نظرَ نحو السماء في تضرُّعٍ ثم قال مترنمًا: يوجد في إسكتلندا حقلٌ واحد على الأقل، وبه خروف واحد على الأقل، وأحد جانبَيه على الأقل أسودُ اللون”.

والأكثرُ صرامةً من علماء الرياضيَّات العاديين، هم علماء الرياضيات الذين يتخصَّصون في دراسة المنطق الرِّياضي.

وقد بدأ علماء المنطق الرياضيِّ في التشكيك في الأفكار التي اتخذَها غيرُهم من علماء الرياضيات من المسلَّمات على مدى قرون؛ فعلى سبيل المثال، ينصُّ قانون الانقسام الثلاثيِّ على أنَّ الأعداد جميعَها إما سالبةٌ أو موجبة أو صِفر. يبدو هذا واضحًا، وقد افترض علماءُ الرياضيات ضِمنيًّا أنه صحيح، لكنَّ أحدًا لم يعبَأ قط بإثبات أنَّ ذلك هو الصحيحُ فِعليًّا.

وقد أدرك علماءُ المنطق أنَّ قانون الانقسام الثلاثي قد يكون خاطئًا إلى أن يتوفَّر برهانٌ على صحته، وإن اتضحَ أنه خاطئٌ بالفعل، فسوف ينهار صرحٌ كامل من المعرفة، وسينهار كلُّ شيء قد بُني على هذا القانون.

من حسن حظِّ علماء الرياضيات أنَّ قانون الانقسام الثلاثيِّ قد أُثبِتَت صحته في نهاية القرن الماضي.

منذ عصر اليونانيِّين القدماءِ والرياضياتُ تُراكِمُ المزيدَ والمزيد من المبرهنات والحقائق، وبالرغم من أنَّ معظمها قد أُثبِت بدقَّة، كان علماء الرياضيَّات قلقينَ من أن يكون بعضُها قد تسلَّل دون أن يخضعَ للفحص الدقيق.

فبعضُ الأفكار أصبحَت جزءًا من الثقافة الشعبية، ولا أحدَ متيقِّنٌ في حقيقة الأمر من الكيفيةِ التي أُثبِتَت بها في الأصل، هذا إن كانت قد أُثبِتت بالفعل؛ ومِن ثَمَّ قرَّر علماءُ المنطق إثباتَ جميع المبرهنات من المبادئِ الأولى.

بالرغم من ذلك، فقد كان لا بد من استنتاج هذه الحقائق من حقائقَ أخرى، وكان ينبغي إثباتُ تلك الحقائقِ بدَورها من حقائقَ أخرى أكثرَ جوهريةً، وهكذا دواليك، وفي نهاية المطاف، وجد علماءُ المنطق أنهم يتعاملون مع بضعةٍ من الادِّعاءات الأساسية التي كانت جوهريةً للغاية، حتى إنه لم يكن من الممكنِ إثباتُها، وهذه الافتراضات الجوهرية هي مُسلَّمات الرياضيات.

ومن أمثلة هذه المسلَّمات “قانون الإبدال في الجمع”، الذي ينصُّ على أنه في حالة أيِّ عددين “ص” و”س”، فإن:

ص + س = س + ص

تُعَد هذه المسلَّمة وذلك العددُ القليل من المسلَّمات الأخرى أمورًا بديهية، ضرورية من الناحية المعرفيَّة، ويمكن اختبارها عن طريق تطبيقها على أعدادٍ محدَّدة.

وقد اجتازت المسلَّمات حتى الآن جميعَ الاختبارات، وقُبِلت بصفتها الأساسَ للرياضيات. وتمثَّل التحدِّي الكامن أمام علماءِ المنطق في إعادة بناء الرياضيَّات من هذه المسلَّمات.

والجدير بالذكر أن من هذه المسلمات ما يقوله الطوسي في تحرير أصول إقليدس تحت عنوان العلوم المتعارفة:

“وأما العلوم المتعارفة:

الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وإذا زِيدَ على المتساوية حصلت متساوية، وإذا نقص من المتساوية متساوية بقيت متساوية، وإذا زِيدَتْ على غير المتساوية أو نقص عنه المتساوية حصلت أو بقيت غير متساوية.

الأشياء التي هي أضعاف بعدة واحدة لشيء بعينه أو أجزاء له بعدة واحدة فهي متساوية، والأشياء التي لا يتصل بعضها بالتطبيق على بعض مع اتحاد أحد أطرافها فهي متساوية، والكل أعظم من الجزء([28]).

وقد شارك فيلقٌ من علماءِ المنطق في العمَليَّة البطيئة الشاقَّة المتمثلةِ في إعادة بناءِ هيكل المعرفة الرِّياضية شديدِ التعقيد باستخدامِ الحد الأدنى من المسلَّمات، وكان الهدف من ذلك هو ترسيخ ما كان علماء الرِّياضيات يعتقدون أنهم يعرفونه بالفعل باستخدام معاييرِ المنطق شديدةِ الصرامة فحسب.

لخَّص عالمُ الرياضيات الألمانيُّ هيرمان فايل المِزاجَ السائد في هذا العصر بقوله: “المنطق هو عاداتُ النظافة الشخصية التي يُمارسها عالم الرياضياتِ للحفاظ على أفكاره قويةً وفي صحةٍ جيدة”.

لقد تصدَّر هذا البرنامجُ الذي يقوم على إعادة النظر في المسلمات أبرز شخصيَّات ذلك العصر، ديفيد هيلبرت، فقد كان يعتقد أنه يُمكن إثباتُ كلِّ شيء في الرياضيات بِناءً على هذه المسلَّمات الأساسية، وأنَّ هذا هو ما ينبغي فِعلُه.

وسينتجُ عن هذا إثبات العُنصرَين الأهمِّ في النظام الرياضي على نحوٍ حاسم.

أول هذَين العنصرين هو أنَّ الرياضيات ينبغي أن تكون قادرةً على الإجابة عن جميعِ الأسئلة دون استثناء، وإن كان ذلك نظريًّا على الأقل، وذلك هو سَمْت الاكتمالِ نفسِه الذي استلزَم في الماضي ابتكارَ أعدادٍ جديدة كالأعداد السالبة والأعداد التخيُّلية.

وثاني هذين العنصرَين هو أنَّ الرياضيات يجب أن تكون خاليةً من أيِّ تضارب، أي أنه إذا أُثبِتت صحةُ إحدى العبارات بطريقةٍ ما، فلا يمكن إثباتُ خطأ العبارة نفسِها باستخدام طريقةٍ أخرى.

لقد كان هيلبرت مقتنعًا بأنَّ افتراضَ عددٍ قليل فقط من المسلَّمات سيُتيح إمكانية الإجابة عن أيِّ سؤالٍ رياضي يمكن تخيُّله دون خشية التناقض.

وفي الثامن من أغسطس عام ١٩٠٠م ألقى هيلبرت خُطبةً تاريخية في المؤتمر الدولي لعلماء الرياضيات في باريس.

طرَح هيلبرت ثلاثة وعشرين مسألةً رياضية لم تُحَل بعدُ كان يعتقد أنها ذاتُ أهمية بالغة، كان بعضُ هذه المسائل يتعلقُ بمجالاتٍ عامة في الرياضيات، لكنَّ أغلبَها كان يُركز على الأسس المنطقية للعلم.

كان الهدف من هذه المسائل هو تركيزَ انتباهِ عالم الرياضيات عليها وتوفيرَ برنامَجٍ للبحث.

كان هيلبرت يرغب في تحفيزِ المجتمعِ الرياضيِّ على مساعدته في تحقيقِ رؤيته لتأسيس نظامٍ رياضي خالٍ من الشكِّ والتضارب.

وبالرغم من أنَّ جوتلوب فريجه كان منافسًا لَدودًا لهيلبرت في بعضِ الأحيان، فقد كان أحدَ المنارات الرائدة فيما يُدْعى ببرنامَج هيلبرت، لقد كرَّس فريجه حياتَه على مدى أكثرَ من عقد من الزمان لاشتقاق المئات من المبرهنات من المسلَّمات البسيطة، وقد قادَه نجاحُه إلى الاعتقادِ بأنه في طريقِه إلى إكمال جزءٍ كبير من حُلم هيلبرت.

في عام ١٩٠٢، بدا أنَّ معاناةَ فريجه في طريقها إلى الانتهاء؛ إذ راح يُعِدُّ لنشرِ “القوانين الأساسية لعلم الحساب”، وهو كتابٌ ضخم يتألف من جُزأين كان الهدف منه هو وضْعَ معيارٍ جديد لليقينِ في الرياضيات. وفي الوقت نفسِه، توصَّل عالمُ المنطق الإنجليزي برتراند راسل الذي كان يُسهِم هو أيضًا في مشروع هيلبرت العظيم، إلى اكتشافٍ مدمِّر، فبالرغم من اتِّباع بروتوكول هيلبرت الصارم، فإنه قد صادف حالةً من التضارب، وقد ذكر راسل ردَّةَ فعله تجاه ذلك الإدراكِ المروِّع بأنَّ الرياضيات قد تكون متناقضةً في جوهرها:

لقد ظننتُ في بادئِ الأمر أنني سأتمكَّن من التغلُّبِ على التناقضِ بسهولة، وأنَّ ثَمة خطأً تافهًا في التبرير المنطقيِّ على الأرجح. بالرغم من ذلك، فقد اتضحَ تدريجيًّا أنَّ ذلك ليس صحيحًا، على مدى النصف الثاني من العام ١٩٠١، كنت أفترضُ أنَّ الحلَّ سيكونُ سهلًا، لكنني توصلتُ في نهايةِ ذلك الوقتِ إلى أنَّه سيكون مَهَمَّةً صعبة، صار من عاداتي أن أتفكَّر فيما هو شائعٌ كلَّ ليلة من الحادية عشرة إلى الواحدة، وبحلول ذلك الوقتِ تمكَّنتُ من معرفةِ الأصواتِ الثلاثة التي تُصدِرها طيورُ السبد. (معظم الناس لا يعرفون إلا واحدًا.) كنت أُحاول بجِدٍّ لحلِّ التناقض. كنتُ أجلس كلَّ صباح أمام صفحةٍ خالية من الورَق. وأُحدِّق في هذه الورقة على مدى اليوم بأكملِه إلا من مدةٍ قصيرة للغداء. وغالبًا ما كانت تظلَّ فارغة بحلول المساء.

لم يكن ثَمَّةَ مَهْربٌ من التناقض. وقد تسبَّب عملُ راسل في ضررٍ كبير لحلم تأسيس نظامٍ رياضي خالٍ من الشكِّ والتضارب والمفارقات. بعث بخطابٍ إلى فريجه الذي كانت مخطوطةُ كتابِهِ لدى الناشرِ بالفعل. وقد جعَل هذا الخطابُ من العمل الذي أنفقَ فيه فريجه حياته، عملًا عديمَ القيمة في حقيقة الأمر، لكنه نشَر كتابه “القوانين الأساسية لعلم الحساب” بالرغم من تلك الضَّربةِ القاضية، واكتفى بإضافة تذييلٍ في الجزء الثاني: “ليس أبغضَ على العالِم من أن ينقُضَ الأساسَ فور أن ينتهيَ من العمل. وقد وجدتُ نفسي في هذا الوضعِ إذ تلقَّيتُ خطابًا من السيد برتراند راسل، بعد أن كان الكتابُ قد أوشك على الخروج من المطبعة”.

ومن المفارَقات أنَّ تناقُضَ راسل ظهر من المجموعات أو التشكيلات الأحَبِّ لدى فريجه. لقد ذكر بعد سنواتٍ عديدة في كتابه “تطوُّري الفلسفي”، الأفكارَ التي أوعزَت إليه بالتشكُّك في عملِ فريجه: “لقد بدا لي أنَّ الفئةَ تكون عضوًا في نفسِها في بعض الأحيان، ولا تكون كذلك في أحيانٍ أخرى. ففئةُ ملاعق الشاي على سبيل المثال، ليست ملعقةَ شايٍ أخرى، لكنَّ فئةَ الأشياء التي هي ليست بملاعقِ شاي، من الأشياء التي هي ليست بملاعقِ شاي”. كانت تلك الملاحظة الغريبة التي تبدو غيرَ مؤذيةٍ في ظاهرها، هي التي أدَّت إلى تلك المفارقة الكارثية.

غالبًا ما تُشرَح مفارقة راسل باستخدام حكايةِ أمين المكتبة شديد التدقيق. وهي أنَّ أمين المكتبة قد اكتشف في أحدِ الأيام بينما كان يتجوَّل بين الأرفف، مجموعةً من الفهارس. وهي فهارسُ منفصلةٌ للرِّوايات والمراجع والشعر وغير ذلك. ويُلاحِظ أمينُ المكتبة أنَّ بعض الفهارس تُورِد نفسَها، أما البعضُ الآخر فلا يورد نفسَه.

ومن أجل تبسيطِ النظام، يضع أمينُ المكتبة فِهرِسَين آخَرَين، أحدهما يورد جميع الفهارس التي تورد نفسَها، والأكثرُ إثارةً للاهتمام أنَّ الآخرَ يورد جميعَ الفهارس التي لا تورد نفسَها. وبعد إكمال المهمة، يواجهُ أمينُ المكتبة مشكلةً: هل ينبغي أن يورد الفِهرسُ الذي يورد جميعَ الفهارس التي لا تورد نفسَها، نفسَه؟ إذا أوردَ نفسَه، فلا ينبغي أن يُورَد وَفْقًا للتعريف. أما إذا لم يُورِد نفسَه، فسوف ينبغي أن يُورَد وفقًا للتعريف. إنَّ أمين المكتبة في موقفٍ لا يُمكن أن يربحَ فيه.

والفهارس الواردة في هذا المثال شديدةُ الشبَهِ بالمجموعات أو الفئات التي استخدمها فريجه لتكونَ التعريفَ الجوهريَّ للأعداد. ومِن ثَمَّ فإنَّ التضارب الذي يُزعج أمينَ المكتبة، سيُسبِّب المشكلاتِ فيما يُفترَض أن يكون بِناءً منطقيًّا للرياضيات. إنَّ الرياضيات لا يمكن أن تتسامحَ مع التضارب أو المفارقات أو التناقض. فأداةُ البرهان بالتناقض الفعَّالةُ على سبيل المثال، تعتمد على خُلوِّ الرياضيات من المفارقات. يذكر هذا البرهان أنه إذا أدَّى أحدُ الافتراضات إلى نتيجةٍ غيرِ منطقية، فلا بد أن يكون هذا الافتراضُ خاطئًا، أما راسل، فهو يرى أنَّه حتى المسلَّمات يُمكن أن تُؤدِّيَ إلى نتائجَ غيرِ منطقية. ومِن ثَمَّ؛ فمن الممكن أن يوضِّح البرهان بالتناقض أنَّ إحدى المسلَّمات خاطئة، غير أنَّ المسلَّماتِ هي أسسُ الرياضياتِ ومعترَفٌ بصحتها.

تَشَكَّك العديدُ من المفكرين في عملِ راسل بزعمهم أنَّ الرياضيات مَسعًى ناجحٌ بلا شكٍّ ولا تشوبُه شائبة. وقد أجاب هو عن ذلك بشرحِ أهمية عملِه بالطريقة التالية:

“بالرغم من ذلك”، قد تقول: “كل ذلك لا يُزعزع اعتقادي بأنَّ ٢ زائد ٢ يساوي ٤”. وأنت مُحِق في هذا إلا في حالاتٍ ضئيلة، وحالات ضئيلة فقط هي التي تشكُّ فيها بشأن ما إذا كان حيوانٌ معينٌ كلبًا أم لا، أو ما إذا كان طولٌ محدد أقلَّ من المتر أم لا. لا بد أن يكون العددُ اثنَين، اثنين من شيءٍ محدَّد، وسيكون الافتراضُ القائل بأنَّ “٢ زائد ٢ يساوي ٤” عديمَ الفائدة ما لم يكن من الممكنِ تطبيقُه. فاثنان من الكلاب زائد اثنين من الكلابِ على سبيل المثال، يُساوي أربعةً من الكلاب بالتأكيد، لكن ثمةَ حالاتٍ تظهر لا تكون متأكدًا فيها مما إذا كان اثنان منهما من الكلاب أم لا. وقد تقول: “حسنًا، ثَمة أربعةُ حيوانات على أي حال”. غير أنَّ بعضَ الكائنات الدقيقة ما من يقينٍ بشأن ما إذا كانت من النباتات أم من الحيوانات. وسوف تقول: “حسنًا، هي مِن الكائنات الحية إذن”. غير أنَّ بعضَ الأشياء ليس من المؤكَّد ما إذا كانت حيةً أم لا. وسوف يدفعُك هذا إلى القول: “حسنًا، كِيانان وكِيانان يُساوي أربعةَ كيانات”. وحين تُخبرني بما تعنيه بلفظة “كِيان”، سنُواصل الجدال.

لقد زعزع عملُ راسل أسسَ الرياضيات، ودفع بدراسةِ المنطق الرياضيِّ إلى حالةٍ من الفوضى. كان علماءُ المنطق يُدركون أنَّ وجود مفارقةٍ تترصَّد في أسسِ الرياضيات قد يُؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى أن تُطِل برأسِها غير المنطقي وتتسبَّب في مشكلاتٍ عميقة. فبدأَ راسل مع هيلبرت وغيرِهما من علماء المنطق في مُحاولةِ علاج هذا الموقف وإعادةِ التعقُّل إلى الرياضيات.

لقد جاء هذا التضاربُ نتيجةً مباشرة للتعامل مع مُسلَّمات الرياضيات، التي كان من المفترض حتى ذلك الوقتِ أنها بديهيَّة وكافيةٌ لتعريف بقيةِ الرياضيات. وكان من النهج المقترَح ابتكارُ مُسلَّمةٍ إضافية تمنع أن تكون الفئةُ عضوًا في نفسِها. وسيمنعُ هذا من حدوثِ مفارقة راسل بالاستغناء عن السؤال بشأنِ إيراد فِهرس الفهارِس التي لا تُورِد نفسَها من عدمه.

قضى راسل العقد التالي في التفكيرِ في مُسلَّمات الرياضيَّات، وهي جوهرُ العلم نفسِه. وفي العام ١٩١٠، وبالتعاون مع ألفريد نورث وايتهيد، نشَر الجزء الأول من كتاب “مبادئ الرياضيات” المكوَّن من ثلاثة أجزاء، الذي كان -فيما يبدو- محاولةً ناجحة لتقديمِ معالجةٍ جزئية للمعضِلة التي خلَّفَتها مُفارقتُه. على مدى العقدَين التاليَين، استخدمَ آخَرون “مبادئ الرياضيات” دليلًا لتأسيسِ صرحٍ رياضي لا تشوبُه شائبة، وبحلول الوقت الذي تقاعدَ فيه هيلبرت في العام ١٩٣٠، كان واثقًا من أنَّ الرياضياتِ تسير جيدًا في طريقها نحوَ التعافي. كان يبدو أنَّ حلمه بوضعِ أساسٍ منطقي متَّسقٍ وفعَّال بالدرجة التي تكفي للإجابة عن جميع الأسئلة، في طريقه لأن يصبحَ حقيقةً.

وبعد ذلك في العام ١٩٣١، نشر رياضيٌّ مجهول يبلغ من العمر خمسةً وعشرين عامًا، ورقةً حطَّمَت آمالَ هيلبرت إلى الأبد. لقد أجبر كورت جودل علماءَ الرياضيات على تقبُّل أنَّ الرياضياتِ لا يمكن أن تكون مثاليةً من الناحية المنطقية، تضمَّنَت أعمالُه فكرةَ أنَّ معضلات كمبرهنةِ فيرما الأخيرة قد يكون حلُّها أمرًا مستحيلًا.

وُلِد كورت جودل في الثامن والعشرين من إبريل عام ١٩٠٦ في مورافيا التي كانت في ذلك الوقت جزءًا من الإمبراطورية النمساويَّة المجَرية، وصارت الآن جزءًا من جمهورية التشيك. عانى من أمراضٍ خطيرة منذ الصِّغَر، وكان أكثرُها خطورةً نوبةً من الحمَّى الروماتيزمية في سنِّ السادسة. وقد تسبَّب هذا اللقاءُ المبكر مع الموت في إصابة جودل بمرض الوسواس الذي لازمه طَوالَ حياته. فبعد أن قرأ كتابًا دراسيًّا في الطبِّ وهو في سنِّ الثامنة، صار مقتنعًا بأنَّ قلبَه ضعيف، بالرغم من أنَّ أطباءَه لم يجدوا دليلًا على ذلك. وبعد ذلك في نهاية حياته، اعتقد خطأً أنه يتعرَّض للتسمُّم ورفض أن يتناولَ الطعام حتى كاد أن يموت جوعًا.

حين كان جودل طفلًا، ظهرَت موهبتُه في العلوم والرياضيَّات، ودفعَت طبيعتُه المُحِبة للاستطلاع عائلتَه لأن يُطلِقوا عليه لقبَ “دير هير فاروم” أي (السيد لماذا). التحقَ بجامعة فيينا وهو لا يَدْري أيَّ تخصصٍ في الرياضيات أو الفيزياء، غير أنَّ محاضرةً ملهِمة تمتلئُ بالشغف في مقرَّرٍ دراسيٍّ عن نظرية الأعداد ألقاها البروفيسور بي فورتوانجلر، قد أقنعَت جودل بأن يُكرِّس حياته للأعداد. وقد زاد من الطبيعةِ الاستثنائية للمحاضرات أنَّ فورتوانجلر كان يُعاني من الشلل بدايةً من الرقبة إلى أسفل جسده؛ لذا كان مُضطرًّا إلى إلقاء المحاضرات من كرسيِّه المتحرك دون ملاحَظات، بينما كان مساعدُه يكتب على السبورة.

في أوائل العشرينيَّات من عمره، كان جودل قد أثبتَ نفسَه في قسم الرياضيات، لكنه كان يتجوَّل مع زملائه أحيانًا في الرَّدْهة لحضور اجتماعات “الدائرة الفينيسية”، وهي مجموعةٌ من الفلاسفة كانوا يجتمعون لمناقشة كُبرى الأسئلة المنطقية في العصر. وكانت هذه المدَّة هي التي طوَّر فيها جودل الأفكارَ التي حطمَت أسس الرياضيات.

في العام ١٩٣١، نشر جودل كتابه “عن قضايا صوريَّة غير مكتمِلة في “مبادئ الرياضيات” والنُّظم ذاتِ الصِّلة”، الذي كان يتضمَّن مبرهناته التي تُدعى باسم مبرهنات عدم الاكتمال. فورَ أن وصلَت أنباءُ المبرهنات إلى أمريكا، ألغى عالمُ الرياضيات العظيم جون فون نيومان، سلسلةَ محاضرات كان يُلقيها عن برنامَج هيلبرت، واستبدل بالجزء المتبقِّي من السلسلة مناقشةً لعمل جودل الثوري.

لقد أثبت جودل أنَّ محاولةَ وضع نظام رياضيٍّ مكتمل ومتَّسِق مهمةٌ مستحيلة. ويُمكن تجسيدُ أفكاره في عبارتين:

المبرهنة الأولى لعدم الاكتمال

إذا كانت نظريةُ مجموعةِ المسلَّمات متسقةً، فسوف توجد حَدْسياتٌ لا يُمكن إثباتُها ولا نفيُها.

المبرهنة الثانية لعدم الاكتمال

ما من إجراءٍ بَنَّاء سيُثبت اتساقَ نظرية مجموعة المسلَّمات.

إنَّ ما تقوله مبرهنة جودل الأولى في الأساس هو أنَّه ستظلُّ هناك أسئلةٌ لا تستطيع الرياضياتُ الإجابةَ عنها، أيًّا كانت مجموعةُ المسلَّمات المستخدَمة: أي أنَّ الاكتمالَ لا يُمكن أن يتحقَّق أبدًا. والأسوأ من ذلك أنَّ المبرهنة الثانية تقول إنَّ علماء الرياضيات لا يُمكن أبدًا أن يتيقَّنوا من أنَّ المسلَّمات التي اختاروها لن تُؤدِّيَ إلى تضارُب: أي أنَّ إثباتَ الاتساق غيرُ ممكنٍ أبدًا. لقد أوضح جودل أنَّ برنامج هيلبرت كان مَهَمَّةً مستحيلة.

بعد ذلك بعقود، ذكَر برتراند راسل في كتابه “صور من الذاكرة”، رِدَّةَ فِعله بشأن اكتشاف جودل: “كنتُ أريد اليقينَ على النحو الذي يُريده الناسُ في الإيمان الدِّيني. وقد ظننتُ أنَّ اليقينَ سيوجد في الرياضيات أكثرَ مما يوجد في أيِّ مجالٍ آخَر. غير أنني اكتشفتُ أنَّ العديد من البراهين الرياضية التي كان المعلِّمون يتوقَّعون مني أن أتقبَّلها، مليئةٌ بالمغالَطات، وأنه إذا كان من الممكن اكتشافُ اليقين في الرياضيات بالفعل، فسوف يكون ذلك في مجالٍ جديد في الرياضيات يتمتَّع بأساساتٍ أكثرَ رسوخًا من تلك التي كان يُعتقَد حتى ذلك الوقتِ أنها ثابتة. بالرغم من ذلك، فمع مواصَلة العمل، كنت أتذكَّر حكايةَ الفيل والسلحفاة باستمرار. فبعد أن صمَّمتُ فيلًا يُمكن للعالَم الرياضيِّ أن يستقرَّ عليه وجدت الفيل يترنَّح، وبدأتُ في تصميم سُلَحفاة لكي تمنعَ الفيل من السقوط. غير أنَّ السلحفاة لم تكن أكثرَ ثباتًا من الفيل، وبعد حوالي عِشرين عامًا من العمل الشاقِّ، توصلتُ إلى استنتاجِ أنه ما من شيءٍ آخرَ يُمكنني القيامُ به في سبيل جعلِ المعرفة الرياضية يقينيَّة.

وبالرغم من أنَّ مبرهنة جودل الثانيةَ تقول باستحالةِ إثبات اتِّساق المسلَّمات، فإنَّ هذا لا يَعني بالضرورة أنها متضاربة. فقد كان العديدُ من علماء الرياضيات لا يزالون يعتقدون في صميمِ قلوبهم أنَّ الرياضيَّات ستظلُّ متسقةً، لكنهم لم يستطيعوا إثباتَ ذلك عقليًّا. لقد كان عالِمُ نظرية الأعداد العظيمُ أندريه ويل يقول: “الإله موجودٌ لأنَّ الرياضيات متسقة، والشيطان موجود لأننا لا نستطيع إثباتَ ذلك”.

إنَّ برهان مبرهنتَي جودل لعدمِ الاكتمال معقَّدٌ للغاية، والحقُّ أنَّ التعبير الأدقَّ عن المبرهنة الأولى يجب أن يكون على النحو التالي:

في أيِّ نظام صوريٍّ متسقٍ يمكن إجراءُ قدرٍ معيَّن من العمليات الحسابية في إطاره، توجد صيغٌ رياضية للنظام لا يُمكن إثباتها أو نفيها من داخل النظام نفسِه.

ومن حسنِ الحظ أنه، مثلما هي الحالُ مع مفارقة راسل وحكايةِ أمين المكتبة، يمكنُ توضيحُ مبرهنة جودل الأولى عن طريق قياسٍ منطقي آخرَ بفضل إيبيمينيداس، وتُعرَف أيضًا بمفارقة الكريتي أو مفارقة الكاذب. كان إيبيمينيداس رجلًا كريتيًّا قد صاح: “أنا كاذب!”

وتنشأ المفارقة حين نُحاول أن نُحدد ما إذا كانت هذه العبارةُ صحيحةً أم خاطئة. فلْنرَ أولًا ما يحدثُ حين نفترض أنَّ العبارة صحيحة. إذا كانت العبارة صحيحة، فإنَّ هذا يعني أنَّ إيبيمينيداس كاذبٌ، لكننا افترضنا في البداية أنه قد صرَّح بعبارةٍ صحيحة؛ إذن فهو ليس بكاذب، وبهذا تكونُ لدينا حالةٌ من التضارُب. ولنرَ الآن ما يحدث حين نفترضُ أنَّ العبارة خاطئة. إذا كانت العبارة خاطئة، فإنَّ هذا يعني أنَّ إيبيمينيداس ليس بكاذب، لكننا قد افترَضْنا في البداية أنه قد صرَّح بعبارةٍ خاطئة؛ إذن فهو كاذب، وبهذا تكون لدينا حالةٌ أخرى من التضارب. سواء افترضنا أنَّ العبارة صحيحة أو افترضنا أنها خاطئة، ينتهي بنا الأمرُ إلى حالةٍ من التضارب؛ ومِن ثَمَّ، فإنَّ العبارة ليست بالصحيحة ولا بالخاطئة.

أعاد جودل تأويلَ مفارقة الكاذب وطرحَ مفهوم البرهان. وقد تمثَّلَت النتيجةُ في عبارة على غِرار: “ما من برهانٍ على هذه العبارة”.

إذا كانت العبارةُ خاطئة لأمكنَ إثباتُها، لكنَّ هذا يُعارض العبارة. ومِن ثَمَّ؛ فلا بد أن تكون العبارةُ صحيحةً لتفادي التضارب. ومع ذلك، بالرغم من أنَّ العبارة صحيحة، فإنه لا يُمكن إثباتها؛ لأنَّ هذه العبارةَ (التي نعرف الآن أنها صحيحة) تقول ذلك.

ونظرًا إلى أنَّ جودل قد تمكنَ من ترجمة العبارة سابقةِ الذِّكْر إلى ترميزٍ رياضي، فقد تمكنَ من إثبات وجود عباراتٍ صحيحة في الرياضيَّات لكن لا يمكن إثباتُ صحَّتها، وهي العبارات التي تُسمَّى بالعبارات غيرِ القابلة للحسم. وقد كانت تلك هي الضربةَ القاضية لبرنامج هيلبرت([29]).

وهذا المعنى الذي عرضناه في نظرية جودل قريب مما عبَّر عنه علماء الكلام قديما كالإمام الكاتبي في الشمسية بقوله: “العلم: إمَّا تصورٌ فقط‍ وهو حصول صورة الشيء في العقل.

أو تصوُّر معه حكم وهو إسناد أمر إلى آخر إيجابًا أو سلبًا؛ ويقال للمجموع تصديق.

وليس الكلُّ من كلٍّ منهما بديهيًّا وإلَّا لما جهلنا شيئًا، ولا نظريًّا وإلا لدار أو تسلسل؛ بل البعض من كلٍّ منهما بديهيٌّ والبعض الآخر نظريٌّ يحصل بالفكر”([30]).

ويقول السَّيِّد الشريف الجرجاني في شرحه للمواقف: “(إنَّ كلًّا من التَّصور والتصديق بعضُه ضروري بالوجدان) فإنَّ كل عاقل يجد من نفسه أنَّ بعض تصوراته -وكذا بعض تصديقاته- حاصلٌ له بلا قدرة منه ولا نظر فيه؛ وإذ لولاه -أي لولا أنَّ بعضًا من كل منهما ضروري- (لزم الدَّور أو التَّسلسل).

إذ حينئذٍ يكون كلُّ واحد من التصور وكذا كلُّ واحد من التصديق نظريًّا؛ فإذا حاولنا تحصيل شيء منهما كان ذلك التَّحصيل مستنِدًا إلى تصوُّر أو تصديق آخَر، هو أيضًا نظريٌّ مستنِد إلى غيره من التصورات أو التصديقات.

فإما أن يدور الاستناد في مرتبة من المراتب، أو يتسلسل إلى ما لا يتناهى (وهما يمنعان الاكتساب) لأنهما باطلان ممتنعان كما سيأتي، فما يتوقف عليهما كان باطلًا ممتنعًا وحينئذ يلزم أن لا يكون شيء من التَّصور والتَّصديق حاصلًا لنا، وهو باطل قطعًا”([31]).

ويقول الآمدي: “والذي عليه المحصِّلون: أنه ليس كلُّ علم ضروريًّا؛ إذ هو خلاف ما يجده كل عاقل من نفسه في المسائل المختلف فيها كحدوث العالم، ووجود الصَّانع، والجوهر الفرد وبقاء الأعراض إلى غير ذلك.

ثم لو كانت العلوم كلها ضرورية؛ لما ساغ الخلاف فيها من الجمع الكثير من العقلاء ممَّن تقوم الحجة بقولهم، ولما وجد واحد من نفسه الخلوَّ عنها”([32]).

ويقول الأصفهاني في شرح طوالع الأنوار: “وإنما قلنا إن البعض من كل منهما أي من التصور والتصديق بديهي والبعض من كل منهما كسبي؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكانت التصورات والتصديقات بأسرها ضرورية، أو كسبية، وكل منهما مُحَال، أما الأول فلأنه لو كانت التصورات والتصديقات بأسرها ضرورية لَمَا فقدنا شيئًا منهما أي يكون الكل حاصلًا لنا بلا نظر وفكر، واللازم باطل؛ فإن كثيرًا من التصورات والتصديقات غير حاصل لنا بلا نظر وفكر.

وأما الثاني فلأنه لو كانت التصورات والتصديقات بأسرها كسبية لَمَا تحصَّلْنَا على شيء منهما واللازم باطل؛ فإن كثيرا من التصورات والتصديقات قد نتحصل عليها.

بيان الملازمة أن النظري إنما يكتسب من معارف أخرى سابقة فلو كانت التصورات والتصديقات بأسرها مكتسبة لَلَزِم استناد كل منهما إلى غيره، إما في موضوعات متناهية فيلزم الدور ضرورة لزوم عَوْدِ اكتساب الشيء منهما حينئذ إلى ما يتوقف عليه، وإما في موضوعات غير متناهية فيلزم التسلسل إلى غير النهاية، وكلٌّ من الدور والتسلسل يستلزم امتناع تحصلنا على شيء من التصورات والتصديقات، أما الدور فلأنه حينئذ يتوقف تحصُّلُنا على شيء على ما يتوقف عليه الشيء، فيتوقف تحصُّلُنا على شيء على نفسه لأن المتوقف على المتوقف على الشيء متوقف على ذلك الشيء، وما يتوقف على نفسه امتنع حصوله.

وأما التسلسل فلأنَّ تحصُّلَنا على شيء من التصورات والتصديقات يتوقف حينئذ على تحصلنا على ما لا نهاية له في العقل، وحصول ما لانهاية له في العقل محال؛ لامتناع إحاطة الذهن بما لا يتناهى، والموقوف على المحال محال، فتحصلنا على شيء من التصورات والتصديقات محال”([33]).

وسائل العلم

كما قدَّمنَا سلفا فإن العلم له روافد تجلبه للعقل، وهي ثلاثة:

الأول: الحواس السليمة، الثاني: الخبر الصادق، والثالث العقل، وهذا الحكم حكم استقرائي إذ لا تخرج روافد العلم للخلق عن هذه الثلاثة، وذلك لأن السبب إن كان من خارج الإنسان فهو الخبر الصادق، أو لا فإما أن يكون آلة لا تدرِك- أي لا يحصل بها الإدراك- وهي الحواس، أو آلة تدرك وهي العقل.

قال النسفي في العقائد النسفية: «وأسباب العلم للخلق ثلاثة: الحواس السليمة والخبر الصادق والعقل»([34]).

فإذا تحصَّل العلم لدى الإنسان -وهو لا يكون إلا من خلال هذه الطرق- استطعنا حينئذ أن نقسم العلم باعتبارها إلى ستة أنواع: البديهيات، المشاهدات، المجربات، المتواترت، الفطريات، الحدسيات.

تفصيل هذه اليقينيات:

  • الأوَّليات أو البديهيات: وهي التي يدركها العقل بمجرد تصور الطرفين، كقولك الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، والممكن يحتاج في وجوده إلى مرجح، فإن العقل إذا تصور طرفي القضية، سواء كان تصورهما ضروريا كما في القضية الأولى، أو نظريًّا كما في الثانية جزم بالنسبة بمجرد الالتفات إليها ولا يحتاج إلى واسطة.

وهذا بالنسبة لصاحب العقل الكامل السليم، فالتوقف عن الجزم بالنسبة بعد تصور الطرفين لنقص العقل، كما في الصبيان والبله، أو لتدنس الفطرة بالعقائد المضادة للبديهيات، لا يخرج مثل هذه القضايا عن كونها بديهية.

  • المشاهدات: هي القضايا التي يدركها العقل بسبب المشاهدة بالحس الباطني كقولك الجوع مؤلم وهي بخلاف ما تدرك بسبب المشاهدة بالحس الظاهر فهي المحسوسات وقد تسمى بـ «الوجدانيات».
  • المجربات: هي القضايا التي يجزم العقل بنسبتها بواسطة أمرين، أحدهما: يضم للعقل، وهو تكرار المشاهدة على وجه يفيد اليقين، ثانيهما: يضم للقضية وهو قياس خفي، مثال ذلك: الخمر مسكر، فالعقل يجزم بنسبة الإسكار إلى الخمر بواسطة أمر ينضم إليه، وهو تكرار المشاهدة، وبواسطة قياس مترتب على تكرار المشاهدة، ولا يشعر به المتكلم بالقضية، مع حصوله فإنه شاهد مرة بعد أخرى حصول الإسكار عند شرب الخمر، جزم بأن هذا لا بد له من سبب، فينشأ عن ذلك قياس، تركيبه هكذا:

كلما استعملت الخمر، وجد سبب الإسكار بها، وكلما وجد سبب الإسكار وجد الإسكار… النتيجة: كلما استعملت الخمر وجد الإسكار، وهي مضمون القضية القائلة: الخمر مسكر.

ويمتاز هذا النوع عن الاستقراء: بأن الأحكام الاستقرائية لا قياس فيها، ويمتاز عن الفطريات: بأن القياس فيها لازم لتصور الطرفين.

  • المتواترات: وهي القضايا التي يجزم العقل بنسبتها بواسطة أمرين، أحدهما: يضم إلى العقل، وهو سماع الأخبار، والثاني: يضم إلى القضية، وهو قياس اقتضاء حال المخبرين، مثال ذلك:

قولنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ادعى النبوة، وظهرت المعجزة على يديه، فإن العقل يجزم بنسبة دعوى النبوة، وظهور المعجزة إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة سماع ذلك الخبر، وهو المنضم إلى العقل، بواسطة القياس الذي اقتضاه حال المخبرين، وهو قولنا: هذا خبر جمع يستحيل كذبهم، وكل ما كان كذلك فهو حق، النتيجة هذا خير حق.

  • الحدسيات: هي القضايا التي يجزم العقل بنسبتها بواسطة أمرين: أحدهما يضم إلى العقل وهو تكرار المشاهدة، ثانيهما: يضم للقضية وهو قياس مترتب على تلك المشاهدة مثال ذلك: نور القمر مستفاد من نور الشمس، فإن الجزم باستفادة نور القمر من نور الشمس حصل للعقل؛ بواسطة مشاهدة اختلاف تشكلات نوره ضعفا أو قوة؛ بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس قربًا وبُعدًا، وينشأ عن تلك المشاهدة المتكررة قياس تركيبه:

لو لم يكن نور القمر مستفادًا من نور الشمس؛ لما اختلف قوةً وضعفًا بحسب القرب والبعد، لكنه اختلف قوة وضعفًا بهذا الاعتبار فثبت أن نوره مستفاد من نور الشمس.

المحسوسات: وهي ما يدركه العقل بواسطة الحس الظاهر كقولك الشمس مشرقة([35]).

إنَّ الإنسان منذ أطلَّ على العالم بنظره وعاين الأشياءَ فعلم بعلم بسيط لا يعتريه شكٌّ ولا يشوبه ريبٌ؛ أن الفضاء مملوء بموجودات هائلة، والأرض تحتوي على كائنات لا تحصى، هو أحدها.

كما علم بعلم فطريٍّ أنَّ الكون ديَّارٌ سوى ما يراه، وأن في صحيفة الوجود موجودات غيرها، وأن وراء نفسِه وتصوَّراتها حقائقَ واقعيَّة ثابتة، لم يرتَّب في ذلك أبدًا.

وكلُّ واحد منا إذا رجع القهقرى إلى أوَّليات حياته، يقفُ على أنه ما عرف يمينه من يساره إلا وقد أدرك قبل عرفانه هذا أن وراء وجوده وتصوراته عالمًا مشحونًا بالموجودات، وأنَّه في هذا العالم مبدأ لأفعال تصدر عنه باختياره، فهو يأكل إذا جاع، ويشرب إذا ظمئ، ويكتسي إذا عري، ويستريح إذا تعب.

إنَّ الاعتراف بأن وراء ذهن الإنسان وذهنياته حقائق ووقائع تحكي عنها علومه وإدراكاته، ليس بمعنى تصويب عامة آرائه وأفكاره، بل المراد التصديق الإجمالي بأنها تكشف عن واقعيات، لأنه كما يكون مصيبا في بعض إدراكاته؛ قد يخطئ في بعض آخر منها.

هذا ما عليه جلُّ البشر، إلا أنَّ هناك شرذمة قليلين خالفوا الرأي العام في هذا المجال؛ وهم بين:

1- منكر للواقعيات والحقائق، قائل بأن الصور الذهنية ليست إلا خيالا في خيال ولا تكشف عن شيء وراءها أبدا.

2- ومسلِّم بالحقائق والواقعيَّات؛ ولكنَّه شاكٌّ في صحة انطباق ما ندركه عليها، غيُر مذعنٍ بأن لهذه الصور إمكانية الكشف عما وراءها، وهاتان الطائفتان تقابلان المنهج الثالث الذي عليه عقلاء البشر.

وبعبارة أخرى: إن ها هنا مسألتين، مسألة وجود واقع موضوعي للإدراكات والإحساسات، والأخرى مسألة مطابقة ما يبدو لنا في إدراكنا وحواسنا لذاك الواقع فهناك من ينكر المسألة الأولى، وهناك من يقبلها ولكنه يشك في مطابقة ما يبدو في إدراكنا وحواسنا لما هو الواقع.

فالمذاهب إذن في تقييم المعرفة ثلاثة:

الأول: منهج الإنكار.

الثاني: منهج الشك.

الثالث: منهج الجزم واليقين([36]).

وهذا المعنى هو ما عبر عنه النَّسفيُّ في عقائده بقوله: «حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق خلافا للسوفسطائية»([37]).

فهذا الكلام من السعد التفتازاني يبين أن هذه المذاهب الحديثة التي سوف نتعرض لها هي مذاهب قديمة، وهم الذين سموا في التاريخ الفلسفي باسم (السوفسطائية).

فإن تاريخ الفلسفة اليونانية يحكي عن ظهور جماعة في القرن الخامس قبل الميلاد يدعون أنهم من أهل الفضل والعلم، كانوا ينكرون المحسوسات والبديهيات، ويعدون صحيفة الوجود خيالا في خيال، ولا يعترفون بشيء من الواقعيات، وغاية ما كانوا يعترفون به بعد البحث والجدال، هو وجودهم وذهنهم وذهنياتهم، وهؤلاء عرفوا في تاريخ الفلسفة وهؤلاء عرفوا في تاريخ الفلسفة بالسوفسطائيين.

ومما ينقضي منه العجب أن الجدل ربما كان يجرهم إلى إنكار وجود أنفسهم أيضا، ومع ذلك كله كانوا يعيشون كسائر الناس الذين لا يشكون في الحقائق، بلا اختلاف بينهم في المعيشة والسلوك، فلم يشاهد من المنكرين الضحك في مقام البكاء، ولا النوم عند الجوع، ولا السكوت في موضع التكلم.

وذلك يعرب عن أنهم كانوا يتفهون بما ليس في قلوبهم، ويقولون بما يضاد ما توحيه إليهم فطرتهم وهو أنه لا يسد جوع الإنسان خيال الأكل إذا جاع، ولا يرويه تصور الماء إذا ظمئ، ولا يكسوه خيال الثوب إذا عري، ولا يريحه تفكير الراحة إذا تعب.

فلا بد– في ضوء ذلك- من البحث عن الحافز أو الحوافز التي جرتهم إلى تبني هذه الفكرة الساقطة، ولعل الذي دعاهم إلى تبنيها أحد الأمرين التاليين أو كلاهما.

الأول: ظهور الآراء المتشتتة في الأبحاث الفلسفية فيما يتعلق ببدء العالم، ونهايته، وموجده، وغرضه، وغير ذلك مما تضاربت فيه الآراء، ورأوا أن كل طائفة تخطئ الأخرى وترد براهينها، والتشاجر والتنازع فيما بينها قائم على قدم وساق، فلا ينقطع البحث ولا يصل إلى غاية.

فهذا البسط والعمق من جانب، وبساطة أفكار القوم في تمييز الصحيح من الآراء عن الزائف منها من جانب آخر، جعلهم حيارى وعقولهم صرعى، فلجأوا إلى مسلك آخر، وهو مسلك السفسطة بأقسامها.

الثاني: ظهور فن الخطابة في تلك الأدوار، وهذا الفن يبتنى على ذوقيات وتحليلات يستحسنها البسطاء، حيث يجدونها ملائمة لبعض قواهم، وكان للخطابة تأثير واسع في تلك الحقبة، فاستخدمها رجال السياسة لبيان أهدافهم السياسية في إجراء الإصلاحات، أو إشعال الثورات، أو إخمادها، بل كان المحامون في المحاكم القضائية يستخدمونها في الدفاع عن موكليهم، فلأجل ذلك دونوا لها أصولا وقواعد، وصارت فنا مستقلا.

فلما كان القوم يرون أن رجال السياسة قد يتبنون موقفا اليوم، وآخر غدا، ورأوا أن كل محام يتبنى شتى ما ينتفع به موكله ويبطل ما يدعيه خصمه، بل ربما لجأ محام واحد إلى الدفاع عن المتخاصمين جميعا، كل ذلك صار سببا لتشكيك القوم في ثبوت واقعية وراء التفكير الإنساني، إذ رأوا أن الحقائق ملعبة الأفكار والآراء.

وظل القوم تائهين في ضلالتهم، يسوقون العامة إلى حضيض الجهل والظلمة، إلى أن نهض الفطاحل من الأغارقة الأقدمين كسقراط وأفلاطون وأرسطو فكافحوهم، وبددوا شملهم، وحلوا عقدهم وشبهاتهم، وأوضحوا أن للأشياء كلها حقيقة وواقعية، وإن اختلفت الآراء والأفكار في إدراكها، وأن الفلسفة هي العلم بأحوال الأعيان الخارجية على ما هي عليه، ولو أن الإنسان سعى في تحصيل ضالته على نظام صحيح، لظفر بها، وتحقيقا لهذه الغاية؛ قام المعلم الأول بتدوين المنطق واستطاع بذلك أن يقضي على شبهات القوم.

طوائف المنكرين:

ثم إن المنكرين للواقعيات على طوائف:

  • من أنكر الواقعيات بقول مطلق، فلم يعترف بواقعية شيء من الأشياء.
  • من وقف على أن إنكار الواقعيات على الإطلاق يتضمن الاعتراف بعدة حقائق من حيث لا يشعر، ولأجل ذلك أخذوا منحى آخر، فقالوا: لا علم لنا بأي واقع من الوقائع، أو أية حقيقة من الحقائق.

وقد عزب عن الطائفتين أن ما تتبناه يتضمن الاعتراف بواقعية أنفسهم وذواتهم، وأن لهم علما وتفكيرا.

  • من وقفوا على المؤاخدة السابقة، فقالوا ليس لنا علم بشيء عدا ذاتنا وتفكيرنا، فاعترفوا بواقعيتين، واقعية ذات الإنسان وعلمه.

يقول ابن سينا: «يسألون: هل أنكم تعلمون أن إنكاركم حق أو باطل، أو تشكون؟!

فإن حكموا بعلمهم بشيء من هذه الأمور، فقد اعترفوا بحقية اعتقاد ما، سواء أكان ذلك الاعتقاد اعتقاد بحقية في قولهم بإنكار القول الحق، أو اعتقاد البطلان، أو الشك فيه، فسقط إنكارهم الحق مطلقا، وإن قالوا: إنا شككنا فيقال لهم: هل تعلمون أنكم شككتم أو أنكم أنكرتم، وهل تعلمون من الأقاويل شيئا معينا؟ فإن اعترقوا بأنهم شاكون أو منكرون، وأنهم يعلمون شيئا معينا من الأشياء، فقد اعترفوا بعلم ما وحق ما، وإن قالوا إنا لا نفهم شيئا أبدا، وننكر الأشياء جميعا حتى إنكارنا لها أيضا، ولعل هذا ما يتلفظ به لسانهم معاندين، فسقط الاحتجاج معهم، ولا يرجى منهم الاسترشاد، فليس علاجهم إلا أن يكلفوا بدخول النار، إذ النار واللانار واحد، ويضربوا فإن الألم واللاألم واحد»([38]).

وقال الإمام فخر الدين الرازي:

«اتفق أهل التحقيق على أن المنازع للأوائل (البديهيات) في التصديقات لا يستحق المكالمة والمناظرة، إذ لا يمكن إقامة البرهان على حقيقة هذه القضية، والذي ينازع فيها إما ينازع لأنه لم يحصل له تصور أجزاء هذه القضية، وإما لكونه معاندا، وإما لأجل أنه تعادلت عنده الأقيسة المنتجة للنتائج المتناقضة المتقابلة، ولم يقدر على ترجيح بعضها على بعض.

فإن كان المنازع من القسم الأول فعلاجه تفهيم ماهيات تلك القضية.

وإن كان من القسم الثاني فعلاجه الضرب والحرق، وأن يقال له: الضرب واللاضرب، والحرق واللاحرق واحد.

وإن كان من القسم الثالث فعلاجه حل شكوكه»([39]).

يقول السعد التفتازاني شرحا لقول النسفي «حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق خلافا للسوفسطائية»:

«حقيقة الشيء وماهيته ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق للإنسان» ومعنى ما به الشيء هو هو أي ما بسببه يكون الشيء شيئا، وذلك لأن الشيء مثلا إذا كان حيوانا ناطقا كان إنسانا، فحقيقة الإنسان هو الحيوان الناطق. ثم تابع رحمه الله الكلام بقوله: «بخلاف مثل الضاحك والكاتب مما يمكن تصور الإنسان بدونه؛ فإنه من العوارض… والشيء عندنا هو الموجود. والثبوت، والتحقق والوجود والكون ألفاظ مترادفة معناها بديهي التصور، فإن قلت: فالحكم بثبوت حقائق الأشياء يكون لغوا بمنزلة قولنا: الأمور الثابتة ثابتة. قلنا: إن المراد به أن ما نعتقده حقائق الأشياء، ونسميه بالأسماء من الإنسان والفرس والسماء والأرض أمور موجودة في نفس الأمر، كما يقال: واجب الوجود موجود».

ثم شرع بعد ذلك رحمه الله في شرح قول النسفي «والعلم بها» بقوله: «والعلم بها أي بالحقائق من تصوراتها والتصديق بها وبأحوالها متحقق.

وقيل المراد العلم بثبوتها للقطع بأنه لا علم بجميع الحقائق، والجواب أن المراد الجنس، ردا على القائلين بأنه لا ثبوت لشيء من الحقائق، ولا علم بثبوت حقيقة، ولا بعدم ثبوتها.

خلافا للسوفسطائية فإن منهم:

1- من من ينكر حقائق الأشياء، ويزعم أنها أوهام وخيالات باطلة وهم العنادية.

2- ومنهم من ينكر ثبوتها ويزعم أنها تابعة للاعتقاد، حتى إن اعتقدنا الشيء جوهرا فجوهر، أو عرضا فعرض، أو قديما فقديم، أو حادثا فحادث.

3- ومنهم من ينكر العلم بثبوت شيء ولا ثبوته، ويزعم أنه شاك وشاك في أنه شاك، وهلم جرا، وهم اللاأدرية»([40]).

منهج الشك:

بين منهج الإنكار المبني على إنكار الواقعيات والحقائق، ومنهج اليقين الذي يتبنَّى واقعية جميع المدركات، نهجٌ يتوسطهما، حاولَ التوفيق بينهما، فلم ينكر الواقعيات على وجه القطع ولم يثبتها كذلك، بل التزم موقف الشك منها.

إذ لمَّا قام المعلم الأول بتدوين المنطق وتبويبه، واستطاع بذلك أن يقضي على شبهات المنكرين؛ ظهرت عند ذلك السفسطةُ بصورة أخرى هي صورة الشَّك والترديد.

وزعم المبشرون أمثال (بيرون) أنَّها الطريقة الوسطى بين السَّفسطة التي تريد أن تضرب على الحقائق بقلم عريض وعلى كل ما في الكون من وجود وثبوت على الإطلاق، أو باستثناء نفس الإنسان وذهنه وتفكيره، والفلسفةُ ومذهب اليقين الَّذي مشى عليه سقراطُ وأساتذته وتلامذتُه، وتبنَّوا وجود الحقائق وإمكان الوصول إليها بالمنطق السليم؛ قالوا: إنَّ الطرق التي اتخذها الإنسان لنفسه للوصول إلى الواقع، لا تعطيه يقينًا ولا اطمئنانًا؛ إذ الحسُّ والعقلُ خاطئان في إدراكها -بلا شك- في موارد شتَّى، وإنَّ المنطقَ السَّليم لا يعصم فكر الإنسان عن الخطأ، فالأولى، تحفظًا على كرامة الواقع هو التوقف في الرأي، والسكوت دون الواقع، بلا فرق في ذلك بين المسائل الطبيعية وغيرها.

ولكنَّ هذا المذهب لم يعمر طويلا، فخمدت جذوته إلى القرن السادس عشر، عندما قام الغرب بحضارته الصناعية، ونشطت العلوم الطبيعية، واكتشفت النواميس المادية، عند ذلك أحيي مذهب الشك من جديد، واستأنف نشاطه بأساليب مختلفة، وغدا ما أفناه الدهر من أفكار الشكاكين اليونانيين غضًّا طريًّا نابضًا بالحياة التي بعثها فيه رجال نظراء (باركلي) و(شوبنهاور) فصار الشَّكُّ في إمكان الوصول إلى الواقع الموضوعي في الغرب شعارًا للمنكرين([41]).

وقد احتج منهج الشكُّ الحديث- الذي ورث أصوله من (بيرون) بجملة من الشبهات نذكرها فيما يلي.

الشبهة الأولى ـ خطأ الحواس

إنَّ الأدوات الَّتي يتوصل بها الإنسان إلى درك الواقعيات، لا تتجاوز الحسَّ والعقل، وهما خاطئان، وليس هناك شيء يميِّز به خطأ الحسِّ والعقل عن صوابهما.

ولهما في شئون حياتنا الكثير من الأخطاء نذكر بعضها:

أمّا الأخطاء الراجعة إلى أدوات الحسّ، فمنها:

١- أنَّا نرى شكل الجسم الواحد في الماء مغايرًا لشكله خارج الماء، فإنَّ القلم أو القضيب يظهران في الماء منكسرين مع أنّهما ليسا كذلك خارجه.

٢- إنَّ عنق الحمام يتجلَّى في الماء بألوان مختلفة، مع أنَّه خارجها فاقد لها.

٣- إنَّ الواقف في قاعة كبيرة يرى الموضع الذي يقف عليه أعلى من منتهى القاعة، ويرى السقف الَّذي يحاذي رأسه على عكس ذلك، مع أنَّها في المقاييس على مستوى واحد.

٤- إنّ الخطَّين المتوازيَين يظهران متمايلين، إذا وقف الإنسان بينهما.

٥- إنَّ القطرة النازلة من السماء تتراءى كأنّها خطٌّ ممتد، مع أنَّها ليست إلَّا نقطة.

٦- إنَّ الشعلة الجوَّالة تبدو كأنَّها دائرة تدور على مركزها.

هذا كلّه في خطأ الباصرة، وليس خطأ اللامسة بأقلَّ منه، فمثلًا:

1- لو وضع أحدنا إحدى يديه في ماء ساخن والأُخرى في ماء بارد، ثمَّ أدخلهما معًا بعد ذلك في إناء ثالث يحتوي على ماء دافئ، فإنَّه يجد أنَّ كلًّا من يديه تخبره بحرارة تغاير ما تخبر به الأُخرى، فإنَّه يحس في إحداهما بأنَّ الماء حار، وفي الأُخرى بأنَّه بارد، مع أنَّ الماء واحد وهو دافئ. ومثل ذلك خطأ سائر الحواس، كالذائقة. مثلًا:

2- لو أكل الإنسان عسلًا، ثمَّ أكل بعده بطيخًا، فإنَّه لن يحسَّ بحلاوته، في حين أنَّه لو تناول ملحًا ثمَّ أكل بعده البطيخ، يشعر بحلاوته.

وعلى ضوء جميع ذلك، كيف يطمئنُّ الإنسان إلى ما يقف عليه من طريق الحس؟

وقد ذكر العضد الإيجي كثيرًا من الأمثلة الَّتي يغلط فيها الحسُّ، فقال:

«إنَّا نرى الصغير كبيرًا، كالنار البعيدة في الظلمة، وكالعنب في الماء تُرى كالإجاصة، والخاتم المُقَرَّب من العين يرى كالحلقة الكبيرة، وبالعكس كالأشياء البعيدة، والواحد كثيرًا كالقمر إذا نظرنا إليه مع غمض إحدى العينين، أو إلى الماء عند طلوعه، فإنَّا نراه قمرين، وكالأحول فإنَّه يرى الواحد اثنين وبالعكس، كالرَّحى إذا أُخرج من مركزها إلى محيطها خطوط متقاربة بألوان مختلفة؛ بأنَّها إذا دارت رؤيت كاللون الواحد الممتزج منها. والمعدوم موجودًا كالسراب، وما يريه صاحب خفة اليد والشعبذة، وكالخط لنزول القطرة، والدَّائرة لإدارة الشعلة بسرعة، والمتحرك ساكنًا وبالعكس، كالظل يرى ساكنًا وهو متحرِّك، وكراكب السفينة يراها ساكنة والشط متحركًا، والمتحرك إلى جهة، متحركًا إلى خلافها، كالقمر سائر إلى الغيم حين يسير الغيم إليه، وإذا تحرَّكنا إلى جهة رأيناه متحركًا إليها، وإن تحرَّك إلى خلافها.

والشجر على الشط منتكسًا، والوجه طويلًا وعريضًا ومُعْوَجًّا بحسب اختلاف شكل المرآة»([42]).

الجواب عن هذه الشبهة من وجهين:

أولًا: إنَّ القائلين بمنهج اليقين لا يدّعون أنّ الإنسان خُلِقَ مصونًا عن الخطأ والسهو، وإنّ الحواس الإنسانية لا تحيد عن الحقيقة، بل كلُّ ذي لبٍّ يعترف بأنّ له أخطاءً جمّة ربما تحيط به وهو غافل عنها، بل ربما يقضي حياته على غفلات واشتباهات، وإنّما غرضهم أنّ وراء ذاتنا وتفكيرنا واقعيات وحقائق نصل إليها بالحواس، يرشدنا إلى ذلك الإمكان، نفس أفعالنا في الضروريات اليومية الّتي تصدر منّا على نظام واحد، فإنّ أبناء البشر يأكلون إذا جاعوا، ويشربون إذا ظمئوا، ويفرون من الضواري إذا واجهتهم. ولو كان ذلك من مواليد أوهامهم، فأي معنى لهذا النظام السائد؟. ولماذا لا يأكلون عند الظمأ ولا يفرون عند الجوع؟. كل ذلك يرشدنا إلى التفريق بين التفكير الّذي ليس وراءه واقع موضوعي، والتفكير الّذي وراءه ذلك الواقع.

فما يرومه الشكاك من إثبات الخطأ في بعض الحواس، لا ينفي ما يرومه المؤمن بالحقائق، القائل بأنّ وراء المعرفة الإنسانية حقائق وواقعيات يمكن أن يصل إليها الإنسان في الجملة.

وثانيًا ـ إنَّ الاهتداء إلى وقوع الخطأ فيما ذكر من الأمثلة، دليل على أنّ هناك حقائق مسلّمة لا يشوبها ريبُ الشك، وقد اهتدينا ببركتها إلى وجود بعض الأخطاء.

ففي الأمثلة الّتي استدل بها الشكاك على منهجه دليل واضح على أنّ له علومًا قطعية يعتمد عليها في القضاء بالخطإ في إدراك القلم منكسرًا في الماء، والقطرة النازلة من السماء خطأ ممتدًا، وهو علمه بأنّ للقلم شكلًا ثابتًا في الماء وخارجه، وأنّه ليس في الهواء أيُّ خطٍّ، فيرجع ـ عند ذاك ـ إلى تخطئة ما يدركه الحسّ. فلو لم يكن هناك ما يتصف بالصحة على وجه الجزم، لما اهتدينا إلى وجود هذه الأخطاء، فإنّ الخطأ أمر نسبي وقياسي، فلا يمكن الحكم بكون النسبة غلطًا إلّا بقياسها على أمر آخر يكون الحكم فيه مسلَّمًا، ليحكم بالصحة عند التطابق، والخطأ عند التخالف. والغلط لا يستنتج من مثله، ولا يجوز الحكم ببطلان أمر إذا قيس بباطل آخر. هذا.

ولا بدّ من إلفات نظر الباحث إلى أنّ بعض الحواسِّ قد تكشف خطأ حاسَّة أُخرى، ففي مورد القلم الّذي يتراءى في الماء منكسرًا، تلمسه اليد مستقيمًا مستويًا، فتكشف حاسَّةُ اللَّمس خطأَ حاسّة البصر، وهكذا سائر الحواس([43]).

الشبهة الثانية ـ المُدْرَك هو الصور الذهنية لا الواقع

إنّ الإنسان لا يقف عند عملية الإدراك إلّا على الصورة الذهنية، ولا ينال الواقع الموضوعي. وانطلاقًا من هذا، لا يصحّ لنا الإذعان بوجود حقائق خارجية، إذ الحاصل عندنا هو العلم لا المعلوم الخارجي، فإنّ من المعلوم أنّ للواقع الخارجي آثارًا خاصّة غير موجودة في الفكر عند الإدراك.

وإن شئت قلت: إنّ الوسائل التي تَجَهَّزَ بها الإنسان للوصول إلى الواقع، لا توصله إلّا إلى الصور العلمية والإدراكات الذهنية القائمة في ذهنه. فالإنسان الّذي يُطِلُّ على العالم بنظره حتّى عن طريق المِجْهَر والتلسكوب، لا يحصل له ـرغم ما يتحمله من الجهود ـ إلّا صور ذهنية، وهي لا تروي غليله.

الجواب:

إنّ المستدلّ نظر إلى العلم بما هو هو، بالنظر الموضوعي والاستقلالي لا بالنظر الآلي والطريقي، فألغى جهة كشفه وطريقيّته، فرتّب عليه ما رتّب. ولكنه غفل عن أنّ العلم والكشف عن معلوم سواه، متلازمان لا يتفارقان، وأنّ العلم بالشيء عين الكشف عنه، فلا يصحّ لنا الاعتراف بالعلم من دون المعلوم، ولا بالصورة الإدراكية من دون مكشوفها.

والمؤمن بالحقائق لا يدّعي أنّ الإنسان يصل إلى الخارج الموضوعي بوصف كونه موجودًا خارجيًّا حاضرًا بنفسه عند المدرك لا واسطة الصورة الذهنية، بل كلُّ من سلك منهج اليقين لا يريد إلّا الوصول إلى الواقع عن طريق صُوَرِه الحاضرة لدى مداركنا، الكاشفة عن الأعيان الخارجية.

الشبهة الثالثة: خطأ الإدراكات العقلية

لو كان العلم كاشفًا عن معلوم سواه، لكان الكشف خاصيّة لازمة له، ولكان العلم على نحو الإطلاق، كاشفًا عن وجود معلومه من غير تخلُّف، مع أنّه باطل بضرورة العيان، لكثرة الأغلاط والتناقضات في مختلف العلوم.

وبعبارة أُخرى: إنّ عشاق البراهين الفلسفية، مع ما تجهّزوا به من الفنون الصائنة عن الخطأ -على حدّ زعمهم- قد أحاطت بهم الأوهام، وحاقت بهم الأغلاط في العلوم والمسائل الفلسفية، وما زال الجدل قائمًا بينهم على قدم وساق، فالمتأخر يناقش براهين المتقدّم ويبطلها، وهذا يسوق الإشكالات على مقالات ذاك ويفنّدها. ولو تدبّر الإنسان الحرُّ في الوضع السائد بينهم، لوقف على أنّ ما يسمّيه القوم علومًا وأدلّة، ليس سوى خيالات وتسويلات.

وعلى ضوء ذلك، كيف يطمئن الإنسان إلى ما يقف عليه من طريق العقل؟

والجواب

أوّلًا: إنّ الإنسان الواقعي لا ينكر اختلاف الفلاسفة والمفكرين في درك الحقائق، ولم يدّع أحدٌ أنّه مصون عن الخطأ والاشتباه. غير أنّه يقول إنّ هناك معارف وحقائق لا يختلف فيها اثنان، هي المعارف البديهية والقضايا الضرورية الّتي أصفق على صحّتها وصدقها عامّة البشر.

وهذه العلوم الضرورية تستوعب قسطًا وافرًا من معارف البشر، فقد عرفت أنّ أصول اليقينيات ستة، هي: الأوليات، والمشاهدات، والتجربيات، والحدسيات، والمتواترات، والفطريات. كما عرفت أنّ كلَّ العلوم الكسبية لا بُدّ أن تنتهي إليها، وتعتمد عليها، وإلّا لزم الدور والتسلسل.

وعلى سبيل المثال: لا تجد أحدًا من البشر ينكر امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما، وامتناع اجتماع المتضادين في محلّ واحد. حتّى إنّ السوفسطائي نفسه، الشاكّ في كل شيء، لا يشك في امتناع اجتماع النقيضين، بشهادة أنّه يصرّ على ما يتبنّاه من أنّ «الصور العلمية لا تكشف عن الواقع قطعًا»، وهو في الوقت نفسه لا يقول بصحة نقيض هذه القضية، وهو أنّ الصور العلمية تكشف عن الواقع الموضوعي كشفًا تامًّا. وهذا دالّ على اعترافه من حيث لا يشعر بإمكان درك واقع من الواقعيات هو ما يتبنّاه. هذا نموذج من باب الحكمة النظرية.

وهكذا في مجال الحكمة العملية، فإنّ فيها مسائل أُصولية ضرورية أصفق على صحتها عامّة العقلاء، فلا تجد ذا لُبّ يقبّح الإحسان ويحسّن الظلم، كما أنّه ليس هناك من ينكر قبح خيانة الأمانة ومجازاة المحسن بالإساءة، إلى غير ذلك من الأُصول الثابتة في العقل العملي.

وإثبات هذا المقدار من العلوم اليقينية الّتي لا يختلف فيها اثنان كاف في نقض قول المستدلّ وردّه، لأنّ المستدلّ ينفي وجود علمٍ كاشف عن الواقع، نفيًا باتًّا، وعلى نحو السالبة الكليّة، فكفى في ردّه إثبات نقيضها وهو الموجبة الجزئية وهي أنّ ثمة علومًا ضرورية لا ينكرها أحد.

وعلى ضوء ذلك، كيف يمكن أن يشطب على جميع ما لدى الإنسان من آراء وأفكار؟!

وثانيًا: إنّ ما ذكره هو بحدّ ذاته استدلال عقلي، يحاول به إثبات ما يتبنّاه. فلو لم يكن للإدراك العقلي وبرهانه قيمة ولا وزن، فما معنى هذا الاستدلال والبرهنة؟

الشبهة الرابعة ـ معرفة شيء لا تنفك عن معرفة ما لا يتناهى

العلوم الكونية يرتبط بعضها ببعض، وإنّ التعرُّف على شيء يتوقف على التعرف على ما لا نهاية له، بحكم الصلة السائدة بين الأُمور المادية.

وبعبارة أُخرى: إنّ التعرف على فرد من أفراد الإنسان، يتوقف على التعرّف على آبائه وأجداده وكل ما له دخل في تكوّن جسمه وروحه وآرائه وأفكاره. وطروء خطأ طفيف في هذا التعرّف، يوجب الخلل في معرفة الفرد.

والجواب

أولًا: إنّ المستدلّ قد اعترف في هذا الاستدلال، من حيث لا يشعر، بواقعيات متعددة، منها أنّ الحسّ والعقل من أدوات المعرفة. ومنها أنّ التعرف على شيء يتوقف على معرفة تاريخ وجوده وكل ما كان مؤثّرًا في تكوّنه، حيًّا كان أو جمادًا. ومنها أنّ تلك المعرفة -لأجل سعتها- لا تقع تحت إطار القدرة الإنسانية. ومنها أنّ الخطأ في المقدمات يوجب الخطأ في نتيجتها. إلى غير ذلك من الواقعيات والحقائق الّتي أقرّ بها المستدلّ في استدلاله. ومع ذلك كيف يمكن أن يصير شكّاكًا غير مذعن بشيء؟

وثانيًا: إنّ الاستدلال إنّما يتمّ إذا أريد التعرف على شيء بكماله. وأمّا إذا أريد معرفة الوضع السائد عليه، فليس ذلك رهن التعرف على أُمور غير متناهية.

ولترى صدق ذلك، أُفرض أنّك أمام منضدتك، وفوقها كتبك وأدوات التحرير، وتريد أن تتعرف على المنضدة هل هي من الخشب أو الحديد، هل هي مستطيلة أو مربعة، ونحو ذلك. فهل ترى أنّ هذه المعرفة رهن التعرف على ما سبق عليها من الأحوال؟ كلا، ولا.

وثالثًا: لو صحّ ما ذكره، فإنّما يصحّ في معرفة الموجودات الجزئية، وأمّا المفاهيم الكليّة والقوانين العامة السائدة في الطبيعة، فليست معرفتها كما ذكر.

مثلًا: معرفتنا بأنّ الإنسان حيوان ناطق، معرفة كليّة لا تتوقف على شيء. وهكذا في القوانين الرياضية والطبيعية، فإنّ معرفتنا بأنّ مجموع زوايا المثلث يساوي زاويتين قائمتين، وأنّ مربع الثلاثة تسعة، وجذر التسعة ثلاثة، وأنّ السرعة كلما ازدادت حول المركز ازداد الطَّرد عنه، وكلّما خفَّت قَلّ الطّرد، إلى غير ذلك من القوانين السائدة، إنّ معرفتها لا تتوقف على ما لا نهاية له، بل لها مقدمات خاصة معينة لا أكثر.

الشبهة الخامسة: البرهنة على إثبات شيء محال

ما ذكر من الشبهات السابقة كان متوجهًا إلى إثبات الخطأ في الإدراكات التصورية، والشكّاك يريد في هذه الشبهة الرابعة التشكيك في الإدراكات التصورية. يقول:

إنّ الإدراكات الإنسانية تنقسم إلى تصورية وتصديقية، فإنّ الإدراك إن كان مجردًا عن الحكم والقضاء كتصور الكتاب وحده، فهو إدراك تصوّري. وإن كان مقرونًا بالقضاء والحكم، فهو إدراك تصديقي، كما إذا حكمنا على الكتاب بأنّه كتاب نفيس ومفيد.

وعلى ضوء ذلك فالشكاك يقول: إنّ القضايا المقبولة عبارة عن القضايا الّتي تَثْبُتُ صحتُها بالبرهان، غير أنّ إثبات قضية بالبرهان أمرٌ ممتنع. وما يُتراءى من إقامة البراهين على القضايا لا يخرج عن إطار المغالطة، وذلك لأنّ مقدمات البرهان إمّا أن تَثْبُتَ ببرهان آخر أو لا. وعلى الأول يلزم احتياج ذلك البرهان إلى برهان آخر، وهكذا إلى غير النهاية. وعلى الثاني يلزم أن تكون مقدمة البرهان غير برهانية، فلا تكون القضية بالنتيجة مبرهَنَة.

وربما ما يقال من أنّ مقدمات البرهان ربما تكون غنية عن إقامة البرهان عليها، فهو ادّعاء محض، لا يقبل إلّا أن يثبت.

الجواب:

أولًا: إنّ هذا الاستدلال من الشكّاك، جدُّ عجيب، لأنّه يتمسك بالبرهان العقلي ليُبطل الاستدلال العقلي، فكأنّه يبطل بالعقل نفس العقل، وذلك:

لأنّ أساس برهانه في الشق الأول يعتمد على بطلان التسلسل.

وأساس برهانه في الشق الثاني هو أنّ المجهول لا يمكن أن يحلّ مجهولًا آخر.

كما أنّ أساس برهانه في الشق الثالث يبتني على أصل فطري وهو أنّ المدّعى لا يُقبل بلا دليل.

فهذا الاستدلال العقلي من الشكّاك المبني على أُصول عقلية وفطرية يعرب عن أنّه في صميم ذاته واقعيٌّ لا سوفسطائي، وأنّه يحترم الأُصول الثابتة عند عامة العقلاء.

وثانيًا: إنّ القياس الّذي استدلّ به عقيم غير منتج، وذلك لأنّا نختار الشق الثاني وهو أنّ مقدمات البرهان غنية عن البرهان، ولكنه لا يترتب عليه ما تصور من امتناع حلّ مجهول بمجهول آخر. وذلك لأنّ مقدمات البرهان يمكن أن تكون أُمورًا حسيّة يدركها الإنسان بحسِّه أو بالتجربة، أو عقلية بديهية لا يحتاج في التصديق بها إلى شيء. ولو أُقيم عليها البرهان، لا يزداد الإنسان يقينًا.

وبإيجاز: إنّ البرهان يتركّب من مقدمات، وهي إما بديهية بالذات أو منتهية بالسبر والتقسيم إلى أُصول بديهية لا تحتاج في التعرف عليها، غير تصور الطرفين والنسبة الموجودة بينهما.

إلى هنا فرغنا من تبيين المنهجين: إنكار الحقائق والشكّ في الوصول إليها، وكلا المنهجين سفسطة، والقائل بهما سوفسطائي، وليس «السوفسطائي» مختصًّا بمنكر الحقائق والواقعيات، بل يعمّ الشاكّ فيها، وفي إمكان نيل الخارج والاتّصال به بأدوات المعرفة.

قال ابن حزم (المتوفّى ٤٥٦ ه‍): «السوفسطائية مبطلو الحقائق، وهم ثلاثة أصناف: فصنفٌ منهم ألغوا الحقائق، وصنف منهم شكّوا فيها، وصنف منهم قالوا هي حقٌّ عند مَنْ هي حقٌّ عنده وباطل عند من هي باطل عنده».

وهذا القسم الثالث الّذي أخبر عنه ابن حزم قد تجلّى في العصور الأخيرة باسم النسبيين، فهم يحاولون إثبات أنّه ليس للحق والباطل معيار خاص، بل تتصف بهما الأشياء باعتبار القائلين بهما، وستوافيك نظريتهم عند عرض المناهج الغربية في نظرية المعرفة([44]).

الشبهة الثانية: القول بأن معرفة ما يتعلق بالإلهيات خارج عن إمكانية الإثبات

هذه الشُّبهة التي يعرضها الملحدون حاصلها أنهم يقولون إن الأمور الخاصة بالموجود المتسامي وهو الإله (المطلق) معرفته بالأساس خارجة عن حدود العقل؛ لأن العقل إذ أدرك فإنه يدرك المحسوس، وما هو واقع تحت قدرة المعرفة، أما الإله وما يتعلق به من الأمور الخاصة بالألوهية فهي خارجةٌ عن قدرة إدراكنا.

وهذه الشبهة وإن تجدَّد صداها لدى بعض الفئات الفكرية في العصر الحاضر إلَّا أنها قديمة متجذرة في العصور الماضية والشبهات في ذلك قريبة متجددة، وأصولها واحدة.

وحاصل ما ترجع إليه هذه الشبه ما يأتي:

  • أنَّ الحكم على الشَّيء فرع عن تصوُّره، فإذا أردنا أن نحكم على الإله فيجب علينا تصوره، وهذا ممتنع.
  • الإنسان لا يعرف حقيقة نفسه وهي بين جنبيه، فكيف يعرف حقيقة (المطلق) سبحانه وتعالى.

يقول الإمام الإيجي رحمه الله:

«الثانية: المهندسون قالوا:

إنَّه -أي النَّظر- يفيد العلم في الهندسيَّات دون الإلهيَّات، والغاية فيها الظنُّ والأخذ بالأحرى والأخلق، واحتجُّوا بوجهين:

الأوَّل: الحقائق الإلهيَّة لا تتصوَّر، والتَّصديق بها فرع التَّصور، قلنا لا نسلم أنها لا تتصور بحقائقها قطعا، وإن سلم فيكفي تصورها بعارض ما، ثم هذا يلزمكم في الظن، فما هو جوابكم فهو جوابنا.

الثَّاني: أقرب الأشياء إلى الإنسان هويَّته، وأنَّها غير معلومة؛ إذ قد كثر الخلاف فيها كثرةً لا يمكنُ معها الجزمُ بشيء من الأقوال المختلفة الَّتي ذكرت فيها كما ستقف عليه، وإذا كان أقربُ الأشياء إليه كذلك فما ظنُّك بأبعدها؟! قلنا لا نسلم أنَّ هوية الإنسان غير معلومة له، وكثرة الخلاف فيها لا تدل إلا على العسر وأما الامتناع فلا»([45]).

أولا: قولهم: إنَّ الحكم على الشَّيء فرع عن تصوُّره، فإذا أردنا أن نحكم على الإله فيجب علينا تصوره، وهذا ممتنع.

سبق أن تكلمنا عن التصور، وأنه إدراك المفردات، وأما المراد من الحكم فالحكم: لغة: المنع، ومنه قيل للقضاء حكما لأنه يمنع من غير المقضي([46]).

وأما اصطلاحًا هو إسناد أمر إلى آخر إيجابًا أو سلبًا([47]).

 مثال ذلك: (العالم حادث)، و(العالم ليس قديمًا). ففي المثال الأول: حكمنا بإسناد الحدوث إلى العالم على جهة الإيجاب والثبوت، وفي المثال الثاني: حكمنا بنسبة القدم إلى العالم عل جهة السلب والنفي. وللحكم أقسام، إذ ينقسم الحكم إلى: شرعي، وعقلي، وعادي، لأن الحاكم به إما الشرع أو العادة أو العقل.

أولا: الحكم الشرعي: هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين إما بـ:

1- بالطلب: وهو ينقسم إلى طلب فعل أو ترك، وكل منهما إما جازم أو غير جازم فيشمل الواجب والمندوب والحرام والمكروه.

مثاله: الحكم بأن الصلوات الخمس واجبة.

أو الإباحة (وهو عبارة عن التخيير بين الفعل وعدمه).

مثاله: كالبيع، وكالصيد في قوله تعالى {وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْ}[المائدة:2]

أو الوضع (أي وضع الشيء وجعله سببا أو شرطا أو مانعا أو صحيحا أو فاسدا)([48]).

فيكون أقسام الحكم الشرعي عشرة أحكام خمسة تكليفية- وهي المندرجة تحت الطلب والإباحة، وخمسة وضعية وهي المندرجة تحت الوضع.

ثانيا: الحكم العادي: هو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بواسطة التكرار([49]).

مثاله: الحكم بأن الأكل مشبع، وأن السكين قاطعة، إذا كان حكمك مستندًا إلى التكرار.

ثالثا: الحكم العقلي: هو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بدون توقف على تكرار ولا شرع، وينحصر في ثلاثة أقسام الوجوب والاستحالة والجواز([50]).

ولا يمكننا أن نجعل هذه الثلاثة محمولة بمعنى في القضية الكلامية المكونة من الموضوع والمحمول، بل الذي يصح أن يجعل محمولًا هو المشتق منها، وهو الواجب والمستحيل والجائز، ولا نستعمل الوجوب والجواز والمستحيل، بل نقول وجود الله واجب وهكذا، ووجود شريك مع الله مستحيل وهكذا.

فالواجب: ما لا يتصور في العقل عدمه، كما مثلناه قبل ذلك وهو وجود الله سبحانه وتعالى.

والمستحيل: ما لا يتصور في العقل وجوده، كما مثلناه أيضا بوجود شريك مع الله، واجتماع النقضين وارتفاعهما.

والجائز: ما يصح في العقل وجوده وعدمه، كتعذيب الله تعالى المطيع وإثابة العاصي([51]).

فالحاصل أن الإنسان إذا أراد أن يحكم على شيء وأن ينسب إليه شيئا ما إيجابا أو سلبا، لا بد له أن يتصوَّره، وأن تعرف حقيقته ومن هنا، هل يمكن أن نعرف حقيقة المولى سبحانه وتعالى؟! وعلى نفي قدرة الخلق على تحصيل هذه المعرفة، هل يلزم من ذلك عدم القدرة على تحصيل الإيمان كما يدعى أهل الإلحاد؟! فنقول:

إن مسألة المعرفة مسألة تناطح فيها الفلاسفة وأهل الشريعة أنفسهم.

يقول أبو محمد طاهر القزويني في كتابه نور الحقيقة ونور الحديقة في المعرفة:

«وأجل ما في علم الأصول العلم بالله سبحانه، لأنه زبدة الحقائق، وعمدة العقائد، وخلاصة العلوم، والمعلوم به أشرف كل معلوم، إذ العلوم كلها في ضرب المثال كصورة ممثلة علم الدين رأسها، وعلم الأصول عين الرأس وعلم التوحيد ناظر العين، والعلم بمسألة هذا الكتاب كالنور في الناظر.

فهو إذن أخص الخصائص كلها، فلو تطرق إليه والعياذ بالله خلل، لاختل الكل وبطل الاعتقاد، وقديما قيل: إذا جزر البحر، جفت الجداول.

وإني طالما سمعت جماعة من المسلمين يتناطحون في هذه المسألة ويتذابحون عليها أعني: مسألة المعرفة.

فبعضهم: يدعي أن الله تعالى يُعرف حقيقة. وبعضهم: يصرح بأنه لا يعرف بالحقيقة! وأريت أن الخلاف في مثل هذا الموضع من الدواهي السود التي تصفر منها الأنامل»([52]).

ثم قال: «اعلم أنه لما تحقق من صفات الله جل جلاله بأنه هو الأول والآخر، والباطن والظاهر، والقريب والبعيد، والشاهد والغائب، والمنزه عن المكان مع أنه تعالى ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْ﴾ [المجادلة:7].

وأنه سبحانه غير داخل في العالم ولا خارج عنه، ولا متصل به ولا منفصل عنه.

وأن الوجوه الناظرة إليه ناظرة، مع أنه لا تدركه الأبصار.

إلى غير ذلك من الصفات التي تنبئ ظواهرها عن التناقض والجمع بين النفي والإثبات؛ تحيرت جماعة في المعرفة، وزعمت أنه تعالى:

إذا كان أولا؛ كيف يكون آخرا؟!

وإذا كان باطنا؛ كيف يكون ظاهرا؟!

وإذا تنزه عن المكان؛ كيف يكون معنا أينما كنا؟! إلى غير ذلك.

فتوقفوا في المعرفة، فسموا المتحيرة والواقفية، وربما يسمون تلك الحيرة معرفة، ويستدلون فيها بالخبر أو الأثر «يا دليل المتحيرين زدني تحيرا!» وفيهم كثرة، ولهم في ذلك خطب وأشعار بالعربية والعجمية.

وفرقة جنحوا إلى النفي المحض، وهم الدهرية والملحدة -خذلهم الله- إلا أن الملحدة يلبسون على العوام ويدلسون نفي الإله في التقديس!

فإذا سئلوا: هل هو موجود؟ قالوا غير معدوم!

وإذا سئلوا: هل هو معلوم؟ قالوا غير مجهول!

وإذا سئلوا: هل هو عالم؟ قالوا: غير جاهل!

إلى غير ذلك من الصفات.

وهذا هو التمويه والتلبيس لا التنزيه والتقديس، ومزاولة النفي والتعطيل لا الاحتراز عن التشبيه والتمثيل تعالى الله عما يصفون.

وفرقة من المشبهة مالوا إلى طرف الإثبات، فبالغوا فيه حتى جرهم الاعتقاد إلى التشبيه والتجسيم، وادعوا أنهم يحيطون به علما، وأن أفكارهم تبلغ نهاية ذاته وكنه صفاته كما تبلغ نهاية الأجسام وذوات الأقسام.

وفرقة نفوا الإحاطة، ولكنهم ادعوا أنهم يعرفون الله كمعرفته بنفسه، وهو لا يقدر على أن يزيد عليهم في معرفة نفسه وصفاته.

وفرقة اعتقدوا أن الاعتراف بالعجز عن المعرفة معرفة حقيقية، وأن من ادعى كمال المعرفة فقد كذب، إذ لا يعرف الله إلا الله، وأن رأس الصديقين يقول «العجز عن الإدراك إدراك» وسيد المرسلين صلوات الله عليه يقول ((لا أحصي ثناء عليك))([53])([54]).

فتحصل من ذلك أن هناك من يقول بأن المولى سبحانه وتعالى يمكن معرفته بالكنه، أي بالحقيقة، وهذا المذهب مما رُدَّ عليه من قبل أهل الفلسفة ومن قبل المتشرعة أنفسهم.

فأما أهل الفلسفة فقد ساق كلامهم الإمام الرازي في المطالب العالية بقوله:

«الفصل الثاني: في أنه هل للعقول البشرية سبيل إلى تحصيل الجزم واليقين في هذا العلم، أم أنه يكفي في بعض مباحثه ومطالبه الأخذ بالأولى والأخلق؟!

رأيت في بعض الكتب: أنه نقل عن عظماء الحكمة وأساطين الفلسفة أنهم قالوا: الغاية القصوى في هذا الباب الأخذ بالأولى والأخلق، والتمسك بالجانب الأفضل الأكمل وأما الجزم المانع من النقيض فقد لا يمكن تحصيله في بعض المباحث:

وللقائلين بهذا القول أن يحتجوا بوجوه:

الحجة الأولى: إن أظهر المعلومات لجميع العقلاء: هو علم الإنسان بذاته المخصوصة ومعرفته بنفسه المخصوصة، ثم هذا العلم مع أنه أظهر العلوم وأجلى المعارف قد بلغ في الصعوبة والخفاء إلى حيث عجزت العقول عن الوصول إليه، وإذا كان الحال في أظهر المعلومات كذلك، فالحال في أبعد الأشياء عن مناسبة الأمور المعلومة للخلق كيف يكون؟ وهذه الحجة إنما تتم بتقرير مقدمات.

المقدمة الأولى: إن أظهر المعلومات لكل أحد ذاته المخصوصة، والذي يدل على أن الأمر كذلك: أن كل من علم شيئا فلا بد وأن يعلم كونه عالما بذلك الشيء، ولذلك فإنه يقول: أدركت هذا الشيء وعرفته، إلا أن علمه بكونه عالما بذلك الشيء مسبوق بعلمه بذاته المخصوصة لأن من لا يعلم ذاته، كيف يمكنه أن يحكم عليها بكونها عالمة بذلك المعلوم؟!

وكذلك فإنهم قالوا: كل تصديق فإنه مسبوق بتصور، ومن الظاهر أن الشرط سابق بالرتبة على المشروط وهذا يدل على أن علم كل أحد بأي معلوم كان؛ مشروط بعلمه بذاته المخصوصة (ومسبوق بعلمه بذاته المخصوصة) فيثبت أن علم كل أحد بذاته سابق على علمه بكل ما يغاير ذاته، سواء كان ذلك العلم من البديهيات الجليات، أو من الكسبيات، والسابق على جملة الجليات أولى بكونه جليا بديهيا، فثبت بهذا البرهان أن علم كل أحد بذاته المخصوصة أجلى العلوم وأجلها وأظهرها وأقواها.

المقدمة الثانية في تقرير أن علم كل أحد بذاته المخصوصة علم في غاية الصعوبة والخفاء: والذي يدل علىه أن المشار إليه لكل أحد بقوله: «أنا» إما أن يكون هو هذا الهيكل المشاهد، أو يكون جسما من الأجسام الموجودة داخل هذا الهيكل، أو يكون صفة من صفات هذا الهيكل، أو يكون جوهرا مجردا عن هذا البدن وعن علائقه، وهذه الأقسام الأربعة قد حارت عقول العقلاء فيها، ودارت رؤوسهم في تعيينها، ومن تأمل في مباحث كلام النفس يجد أن هذه المسألة قد بلغت في الصعوبة إلى الغاية القصوى، فثبت أن هذا العلم صعب غامض.

المقدمة الثالثة: إنا قد بينا أن أظهر المعلومات هو علم كل أحد بذاته المخصوصة ونفسه المعينة وبينا أنه مع كونها أظهر المعلومات، فقد بلغ العلم بها إلى الغاية القصوى في الصعوبة والخفاء والغموض، وإذا ثبت هذا فنقول:

إن ذات الحق سبحانه مخالفة بالماهية والحقيقة لجميع أقسام الممكنات والمحدثات، فإذا كان العلم بأظهر المعلومات قد بلغ في الخفاء والغموض إلى الحد الذي ذكرناه، فالعلم الذي بصفات الموجود الذي لا يشابه شيئا من الممكنات ولا يناسب شيئا مع أنه في غاية البعد عن مناسبة المعقولات، ومشابهة ما يصل إليه الفكر والذكر والوهم والخيال، لو كان صعبا عسرا، كان ذلك أولى.

فيثبت أن هذا العلم الشريف أعلى وأجل من أن يحيط به العقل إحاطة تامة فلا سبيل للعقول البشرية فيه إلا بالأخذ بالأولى والأخلق والأكمل والأفضل.

واعلم أن لتقرير هذه الحجة شرحا آخر وهو: أن الاستقراء يدل على أن أظهر المعلومات عند الخلق أشياء معدودة مثل علم كل أحد بنفسه، ومثل علمه بزمانه ومكانه ومثل علمه بجسميته، ثم إن العقل إذا خاض في معرفة النفس والجسم ومعرفة المكان والزمان تحير ولم يقدر على الخلاص، فإذا كان حاله في معرفة أظهر الأشياء كذلك، فكيف يكون حاله في معرفة أخفى الأشياء ولنبين صحة ما ذكرناه فنقول:

أولها: ذاته المخصوصة وقد كشفنا حقيقة الحال فيه وثانيها: علمه بالمكان والزمان فإن كل أحد يحكم ببديهة عقله أنه كان في ذلك المكان وانتقل منه إلى مكان آخر، وبقي في ذلك المكان الأول، والعلم بالمكان جزء من أجزاء ذلك العلم. وأيضا كل أحد يحكم ببديهة عقله أن هذا الوقت الخاص وقت كذا، ثم بعده يقول: إنه مضى ذلك الوقت، وحضر وقت آخر والعلم بحقيقة الوقت والمدة جزء من العلم بأنه مضى الوقت الأول، وحضر الوقت الثاني. ثم إن العقلاء دارت رءوسهم وحارت عقولهم في معرفة حقيقة المكان والزمان. أما المكان فأصحاب أفلاطون وكل من كان قبله من الحكماء المعتبرين: اتفقوا على أنه عبارة عن البعد الممتد. وأما أصحاب أرسطاطاليس: فقد اتفقوا على أنه عبارة عن السطح المحيط، وأن القول بالبعد باطل. وصعوبة هذه المسألة تظهر في مباحث مسألة المكان. وأما الزمان فقد حارت العقول ودارت الرءوس في معرفته، وإذا تأملت في مسألة الزمان وأحاط عقلك بما في تلك المسائل من الدقائق العميقة، والمباحث الدقيقة، علمت أن هذه المسألة قد بلغت إلى أقصى الغايات، وأبلغ النهايات في الصعوبة والخفاء.

وثالثها: العلم بحقيقة الجسم، وقد حارت العقول أيضا في أنه هل هو مركب من الأجزاء التي لا تتجزأ، أو ليس الأمر كذلك، بل هو قابل للقسمة إلى غير النهاية؟

ومن خاض في تلك المسألة وعرف قوة الدلائل من الجانبين، علم أنه لا حاصل عند العقل إلا الحيرة والدهشة والأخذ بالأولى والأخلق، فيثبت بهذا الاستقراء: أن حاصل العقل في معرفة أظهر المعلومات ليس إلا محض الحيرة والدهشة، والأخذ بالأولى والأخلق، فما ظنك بالعقل عند العروج إلى باب كبرياء الله تعالى، وعند ما يحاول الخوض في البحث عن كنه عزته وصمديته وصفات جلاله وإكرامه من علمه وقدرته وحكمته؟ فهذا جملة الكلام في هذا الباب.

ومما يزيد هذا الكلام تقريرا: أن أقوى المباحث العقلية باتفاق جمهور العقلاء: المباحث الهندسية، فليتأمل في كتاب أقليدس. يقول: إن أقسام المضلعات تبتدئ من المثلث وتمر إلى غير النهاية. ثم إن أقليدس أقام الحجة على إثبات المثلث والمربع في المقالة الأولى، ولما احتاج إلى إثبات المخمس احتاج إلى تقديم مقدمة عليه، وهو أنه عمل مثلثا يكون كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة منعطفا إلى الزاوية الفوقانية ثم قسم كل واحدة من الزاويتين إلى نصفين، وبهذه الطريقة قدر على عمل المخمس، ثم لما أقام البرهان على أن نصف قطر كل دائرة يساوى وتر سدس تلك الدائرة، لا جرم قدر بهذا الطريق على عمل المسدس ثم إنه طفر منه إلى شكل ذي خمسة عشر ضلعا، والسبب في هذه الطفرة أنه احتاج في عمل المسبع إلى تقديم مثلث يكون كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة ثلاثة أمثال الزاوية الفوقانية.

وأعمال كتاب أقليدس لا تفي بإقامة البرهان على هذا المطلوب، بل لا يمكن إثبات هذا المطلوب إلا بقطوع المخروطات، فلا جرم عجز عنه وتركه.

وأيضا لا يمكنه إثبات عمل المتسع إلا بطريقين: أحدهما: أن يعمل مثلثا متساوي الأضلاع، ثم يقسم كل واحدة من زواياه الثلاث ثلاثة أقسام متساوية. وقد بينا أن هذا لا يتم إلا بقطوع المخروطات. (والطريق) الثاني: أن يعمل مثلثا يكون كل واحدة من الزاويتين (اللتين) فوق القاعدة أربعة أمثال الزاوية الفوقانية وهو عاجز عنه.

وأما الشكل الذي يحيط به أحد عشر ضلعا، فهو إنما يتم بتقديم عمل مثلث، تساوي كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة خمس مرات للزاوية الفوقانية، وهو عاجز عنه، وكذا القول في مضلع محيط به ثلاثة عشر مضلعا، فإنه إنما يتم بعمل مثلث يساوي كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة للزاوية الفوقانية ست مرات. وهو عاجز عنه. وأما المضلع الذي يحيط به خمسة عشر مضلعا فإنه قدر على عمله بمقدمات أثبتها في كتابه، وذلك أنه أوقع في الدائرة مثلثا متساوي الأضلاع فانقسمت الدائرة ثلاثة أقسام متساوية، ثم أوقع في القسم الواحد منها نصف قطر الدائرة، وهو وتر المسدس، ثم قسم ما بقي نصفين، فبهذا الطريق قسم كل قوتين بخمسة أقسام متساوية، فخرج له مضلع أحاط به خمسة عشر ضلعا. وعند هذا وقف عمله، ولم يقدر على الزيادة.

فالحاصل أن أقليدس قدر على إقامة البرهان على إثبات خمسة أنواع من المضلعات: المثلث والمربع والمخمس والمسدس وذو خمسة عشر ضلعا. وأما بقية الأقسام التي لا نهاية لها فقوانينه (قاصرة عن إثباتها، ومقدماته) غير وافية بتقريرها.

وأما أصحاب علوم المخروطات، فقد تكلفوا طريقة في إثبات المسبع والمتسع وأما البقية فقد بقيت في موقف العجز والقصور فقد ظهر بما ذكرنا: أن العقول البشرية قاصرة، والأفهام الإنسانية غير وافية بإدراك حقائق الأشياء إلا في القليل القليل من الكثير الكثير في معرفة هذه المحسوسات فما ظنك بالعقل عند طلوع نور الالهية (وسطوع) الأضواء الصمدية؟

الحجة الثانية في هذا الباب: إن قوة البصر، وقوة البصيرة متساويتان.

وليعتبر أن حال القوة الباصرة، مع المبصرات أحوال ثلاثة:

الحالة الأولى: المبصرات الحقيرة الضعيفة كالذرات والهباءات، والمبصرات الخفيّة الضعيفة، فمن المعلوم أن القوة الباصرة عاجزة عن إدراك أمثال هذه المبصرات وغير واقفة عليها، ولا قادرة على ضبط تلك المراتب.

والحالة الثانية: المبصرات القوية القاهرة المستعلية مثل قرص الشمس عند غاية لمعانه وإشراقه. فإن القوة الباصرة قاصرة عن إدراكه على سبيل التمام والكمال. ألا ترى أن من تكلف النظر إلى قرص الشمس عند غاية لمعانه وإشراقه، فإنه يتخيل ظلمة وسوادًا في وسط قرص الشمس، وكأنه يتخيل أن الأنوار إنما تفيض من أطراف قرص الشمس، كأنه طست تفيض الأنوار من أطرافه، فأما نفس القرص التي هي كالطست فإن الإنسان يراها كالظلمة السوداء، إلا أن العقل السليم يحكم بأن تلك الظلمة ليست حاصلة في جوهر الشمس، فإنه منبع الأنوار، ومظهر الأضواء، لكن القوة الباصرة للبشرية تصير مقهورة من كمال ذلك النور، فيعجز عن إدراكه، فلما عجز عن إدراكه تخيل فيه ظلمة وسوادا. أو رأى النور كالأمر القابض من أطراف قرص الشمس وجوانبه.

والحالة الثالثة: المبصرات المعتدلة في القوة والضعف والكمال والنقصان وهي مثل الكيفيات القائمة بأجسام هذا العالم فإن القوة الباصرة يمكنها الوقوف عليها والإحاطة بها والوصول إلى تمام إدراكاتها، فظهر بهذا البيان الذي قررناه:

أن القوة الباصرة قاصرة عن إدراك المبصرات القاهرة، وقاصرة عن إدراك المبصرات الضعيفة أيضا، ولكنها قادرة على إدراك المبصرات المتوسطة في القوة والضعف والكمال والنقصان وإذا عرفت هذه المراتب الثلاثة في قوة الإبصار، فاعرف مثلها في مراتب قوة البصيرة والعقل. وذلك لأن المعلومات على ثلاثة أقسام: أحدها: المعلومات الضعيفة الحقيرة: وهي مثل مراتب الأمزجة والتغيرات والاختلافات الحاصلة عند درجات الاستمالات الواقعة في الأجسام الكائنة الفاسدة، فإن العقول البشرية لا تقوى على إدراك تلك المراتب، وضبط تلك الدرجات، لأنها أحوال ضعيفة سريعة الزوال قريبة الانقراض والانقضاء، فهي لضعفها وحقارتها لا تقوى العقول البشرية على إدراكها على سبيل الكمال والتمام. وثانيها: المعلومات القاهرة العالية المقدسة وهي الجواهر القدسية.

والماهيات المجردة عن علائق الأجسام وأشرفها وأعلاها هو ذات الله تعالى وصفات جلاله ونعوت كبريائه.

فهو سبحانه لغاية إشراق جلاله، عجزت العقول عن إدراكه وضعفت الأوهام والأفهام عن الوصول إلى ميادين إشراق كبريائه، وإليه الإشارة بقول صاحب الشريعة صلوات الله عليه: «إن لله سبعين حجابا من نور، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما في السماوات والأرض» وكان بعض الصالحين يقول: «سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره» وإذا عرفت هذا، فحينئذ صار العقل عاجزًا عن إدراكه وعرفانه، لغاية قوته، وكماله، واستعلائه.

وكما أن البصر عاجز عن إدراك قرص الشمس لكمال نوره، وكما أن البصر لا يتخيل من (قرص) الشمس إلا السواد والظلمة، ولا يتخيل فيضان النور إلا من أطراف قرص الشمس، فكذا هاهنا العقل إذا حاول النظر إلى كنه كبريائه غشيته حالة كالدهشة والحيرة فلا يبصر البتة شيئا، بل يمكنه أن يرى نور كرمه وفيض جوده ورحمته، واصلا إلى خلقه كما نرى نور قرص الشمس فائضا من أطرافه وجوانبه.

وثالثها: المعلومات المعتدلة التي لا تكون في غاية القوة والجلالة ولا في غاية الضعف والحقارة، وأمثال هذه المعلومات مما تقدر القوة العاقلة على إدراكها والإحاطة بها، فظهر بهذا الاعتبار الذي قررناه: أن العقول مدفوعة، والأفكار مقهورة والخواطر مزجورة، وحقيقة الحق لا يمكن الوصول إليها بخطرات العقول والأفكار، وكبرياء الإلهية يمتنع الوقوف عليها بأجنحة الأقيسة والأنظار. فظهر أنه لا حاصل عند العقول إلا الإقرار بإثبات الكمال المطلق له، وتنزيه النقائص بأسرها عنه، على سبيل الإجمال، أما سبيل التفصيل فذاك ليس من شأن القوة العقلية البشرية.

الحجة الثالثة في هذا الباب: إن العلوم إما تصورية وإما تصديقية. أما التصورية فنحن نجد من أنفسنا وجدانا بديهيا، بعد الاختبار التام والاستقراء الكامل أنه لا يمكننا أن نشير بعقولنا ووهمنا وخيالنا إلا إلى أحد أنواع أربعة من التصورات.

فأحدها: الماهيات التي أدركناها بأحد الحواس الخمس، وهي: المبصرات، والمسموعات، والمشمومات، والمذوقات، والملموسات.

وثانيها: الماهيات التي ندركها من نفوسنا إدراكا ضروريا كالألم واللذة والجوع والشبع والفرح والغضب وأمثالها.

وثالثها: الماهيات التي ندركها بحكم فطرة عقولنا كتصورنا (لمعنى) الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان والامتناع.

والنوع الرابع: الماهيات التي يركبها العقل والخيال من (هذه) البسائط، أما تركيب الخيال فهو كما إذا تصورنا بحرا من زئبق وإنسانا له ألف رأس (فإنا بحس البصر أدركنا البحر، وأدركنا الزئبق، فالخيال يركب صورة البحر مع صورة الزئبق) وكذا القول في سائر الأمثلة، وأما تركيب العقل فهو أنا إذا قلنا: شريك الإله ممتنع الوجود، فما لم يتصور العقل (معنى) شريك الإله يمتنع أن يحكم عليه بالامتناع، ثم إن العقل إنما يمكنه تصور معنى شريك الإله، لأنه قد تصور معنى الشريك في بعض المواضع، وتصور أيضا معنى الإله في الجملة. فلما حصل عنده تصور هذين المفهومين لا جرم ركبهما، فحصل عنده تصور معنى شريك الإله، فلا جرم قدر على أن يحكم عليه بالامتناع فنقول: لما عقلنا الشريك في حق الواحد منا، فهذا المعنى الذي تعقلناه في حقنا نضيفه إلى الله تعالى فنقول: ثبوت شيء لله تعالى، نسبته إليه كنسبة شريكنا إلينا: محال الوجود.

فثبت بهذا البيان: أن تصورات العقول البشرية لا تخرج عن هذه الأقسام الأربعة، وإذا كانت التصورات الحاصلة عندنا محصورة في هذه الأقسام كانت التصديقات أيضا محصورة فيها، لما ثبت أن التصديقات مشروطة بالتصورات، فيثبت أن تصورات الخلق وتصديقاتهم محصورة في هذه الأقسام الأربعة.

وإذا ظهرت هذه المقدمة فنقول: ثبت بالبرهان: أن حقيقة الحق سبحانه وتعالى مخالفة لجملة هذه الماهيات التي هي محسوسة لنا، وحاضرة في عقولنا حضورا بالتفصيل، وأنه سبحانه لا يناسب شيئا منها، وهو مخالف لها بأسرها مخالفة من جميع الوجوه، فإنه لو شاركها من بعض الوجوه، وخالفها في سائر الوجوه، لكان ما به المشاركة غير ما به المخالطة، فتكون حقيقته مركبة وذلك محال. وإذا كان كذلك وجب ألا تكون حقيقة متصورة للخلق بوجه من الوجوه (وإذا لم تكن حقيقة متصورة للخلق) كان الحكم عليها بالسلب والإيجاب البسطين أو المركبين ممتنعا، لما ثبت أن التصديق موقوف على التصور.

فالعقول قاصرة عن معرفته، والإدراكات غير منتهية إليه، وإنما الغاية القصوى أنا إذا تصورنا معنى الكمال والنقصان (في حق أنفسنا بحسب ما يليق بنا وبمقدار ما يناسبنا وجب أن نفهم معنى الكمال والنقصان) لأن المطلق، جزء من ماهية المقيد، وبهذا الطريق يتصور معنى الكمال والنقصان، وإذا تصورنا هذا المعنى اعترفنا بإثبات مسمى الكمال له بشرط تنزه ذلك المسمى عن اللواحق اللاحقة له، بسبب حصوله فينا، فليس عند جملة الخلق من معارف جلاله، إلا هذا القدر. فظهر بهذا البيان: أن عقول الخلق لم يحصل عندها من المعارف الإلهية إلا هذه الأمور المجملة، المشار إليها على سبيل الأولى والأخلق وأما على سبيل التفصيل فلا.

الحجة الرابعة لهم في هذا الباب: إن الانتقال من المعلوم إلى المجهول لا يعقل إلا بأحد ثلاثة أوجه:

أحدها: الاستدلال بالعلة على المعلول.

وثانيها: الاستدلال بالمساوي على المساوي.

وثالثها: الاستدلال بالمعلول على العلة.

والطريقان الأولان في حق الحق مفقودان فبقي الطريق الثالث وهو أن يصعد من الأثر إلى المؤثر، وينتقل من المخلوق إلى الخالق. وإذا عرفت هذا فنقول: النفس الناطقة الإنسانية واقعة في المرتبة الآخرة من الموجودات المجردة المقدسة، على ما ستعرف حقيقة هذه المقدمة عند وقوفك على معرفة درجات الملائكة ومراتبها، وإذا كان كذلك فهذه النفس الإنسانية تترقى من علمها بنفسها إلى علمها بعلتها، ومن علمها بعلتها إلى علمها بعلة علتها، وهكذا تترقى مرتبة فمرتبة حتى تصل بالآخرة إلى حضرة واجب الوجود لذاته. كما قال في الكتاب الإلهي.

﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ﴾، وقال: ﴿أَلَآ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلۡأُمُورُ﴾ وقال: ﴿هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ﴾ فالحق هو الأول عند النزول من الحق إل الخلق، والآخر عند الصعود من الخلق إلى الحق، ولما كانت درجات الوسائط كثيرة، ومراتبها خفية عن العقول البشرية، وكانت أحوال تلك الوسائط مختلفة ومراتب أضوائها وقهرها وقوتها مختلفة، وكانت قوة النفس الناطقة البشرية عند الترقي في هذه المراتب ضعيفة، لا جرم بقيت أكثر النفوس البشرية في (درجة من) درجات هذه المتوسطات بل نقول: أكثر الخلق بقوا في حضيض عوالم المحسوسات، والشاذ القليل منهم تخلص من عالم الحس، مترقيا عن عالم المحسوسات إلى عالم الخيالات، و(القليل) من أصحاب الخيالات انتقل إلى عالم المعقولات. ثم في عالم المعقولات مراتب الأرواح المقدسة كثيرة، فلا جرم أكثر العقول الفاضلة (لما وصلت) إلى عوالم أنوار المعقولات تلاشت وفنيت واضمحلت في أنوار تلك الأرواح المقدسة. إلا من أيّد بقوة قاهرة، ونفس إلهية تترقى من زنجبيل المريخ إلى سلسبيل المشتري ومنه إلى كافور زحل (ثم استعلى على الكل وترقى على الكل) ووصل إلى الحضرة المقدسة، عن لواحق عالم الإمكان وغيار الحدوث، واستسعد بقوله: ﴿وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا﴾ أي ذلك الشراب الطهور، يطهره عن علائق الإمكان والحدوث، ويجليه على عتبة الوجوب بالذات. وإذا عرفت ذلك ظهر أن القليل من الأرواح البشرية يستسعد لقبول ذرة من ذرات (أنوار) عالم الجلال. وهذه تلويحات وتنبيهات ذكرناها في مقدمة هذا العلم، ليعلم الإنسان أن القليل من مباحث هذه المعالم الشريفة كثير كثير بالنسبة إلى الأرواح. ولذلك قال في الكتاب الإلهي (حكاية عن الحق سبحانه أن قال) ﴿وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ﴾ [سبا: 13] وقال حكاية عن إبليس: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ﴾ [الأعراف: 17].

ولنكتف بهذا القدر من البيان، في هذا المقام فإنه بحر لا ساحل له([55]).

وأما أهل السنة في ذلك فقد أفتوا أنه لا طريق للخلق في معرفة الحق سبحانه، فمن ذلك فتوى إمام الحرمين، حيث إن جماعة من الحنابلة ومشيخة أصحاب الحديث، خالطوا الوزير نظام الملك أبا علي الحسن بن إسحاق رحمه الله تعالى، وكانوا يدعونه إلى الأخذ بظواهر الأحاديث، ومنع تأويل المتشابهات منها، فتوقف الوزير في ذلك، وبعث إلى الإمام قدس الله روحه يسأله أن يكتب له المعتقد الحق في ذات الله وصفاته.

فكتب إليه في (الرسالة النظامية) هذا الفصل من المعرفة وهو قوله:

من انتهض لطلب مدبره، فإن اطمأن إلى موجود انتهى فكره إليه، فهو مشبه، وإن اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل، وإن قطع بموجود واعترف بالعجز عن درك حقيقته، فهو موحد، وهو معنى قول الصديق (العجز عن درك الإدراك؛ إدراك).

وذلك كالروح، إذ لا خفاء بوجوده، وليس إلى درك حقيقته سبيل، ولا سبيل إلى جحد وجوده، للعجز عن درك حقيقته.

والأكمه يعلم بالتسامع والاستفاضة، وجود الألوان، ولا يدرك حقيقتها.

فإن قيل: فغايتكم إذا حيرة ودهشة!

قلنا: العقول حائرة عن درك الحقيقة، قاطعة بالوجود المنزه عن صفات الافتقار.

هذا لفظه رحمه الله تعالى([56]).

ومن ذلك فتوى الإمام الغزالي رحمه الله في هذه المسألة حين عرض عليه ببغداد وهي:

ما قول حجة الإسلام في حق من قال: لا يحيط علم الواحد منا بالجسمانيات والروحانيات كما هي، فكيف يسوغ لأحد دعوى معرفة الله كما هو بصفاته؟! ومدعى ذلك جاعل لله حدا ونهاية، لأن علمه يحيط بذاته، وكل محيط بشيء فهو أول ذلك المحاط به وآخره، ومن ظاهر… ظاهر له، ومن وجه باطنه، باطن له، والله هو الأول والآخر والظاهر والباطن؟!

فكتب الغزالي:

الجواب وبالله التوفيق:

اعلم أولا أنه لا يعرف الله حق معرفته إلا الله، ولا يحيط بكنه جلاله سواه، ولا يستبعد هذا.

بل لا يعرف الملك إلا الملك، بل النبي لا يعرفه حق معرفته إلا النبي، بل لا يعرف العالم حق معرفته إلا العالم، بل التلميذ إذا لم ينل رتبة الأستاذ في العلوم لم يعرف أستاذه، وإذا نال رتبته، عرفه معرفة تفارق معرفة الأستاذ بنفسه، فإنه يعلم أولا ما يعلمه الأستاذ بالمقايسة إلى نفسه، فيعلم أنه محيط بالمعلومات التي هو محيط بها، بل حالة الواطئ لا يتصور أن يعرفها العنين حق معرفتها، لأن معرفة تلك الحالة بالذوق، ولا يتصور ماهيته قبل الاتصاف بها، وغايته تصديق أمر ما مجهول الماهية.

وكيف يطمع في أن يعرف الله حق معرفته وهو لا يعرف نفسه حق معرفتها؟!

وإنما يعرف نفسه بأفعالها وأوصافها ولا يدرك ماهيتها، بل لو أراد آدمي أن يدرك نملة أو بقة إدراكا محيطا بحقائق أوصافها، عجز عنه، وغايته أن يعرف بالبصر شكلها ولونها، وأما الفصول المتنوعة التي بها فارقت نفس البقة نفس النملة حتى يتنوع من اختلافها اختلاف التركيب والصفات، لم يقدر عليه.

ولو تصور أن يكون لله مثل أو نظير-تعالى الله عنه- لجاز أن يقال: إن مثله عرفه حق معرفته بالمقايسة إلى نفسه فإنه عرف أولا ذاته وعليها قاس ذات غيره.

وللآدمي أطوار: جنين ثم طفل ثم مميز ثم عاقل ثم ولي.

والجنين يعرف أحوال نفسه وليس يمكن في حقه معرفة حال الطفل، ولا الطفل يعرف المميز، ولا هو يعرف العاقل، ولا العاقل المدرك نظرا لعقل المعقولات، يدرك الولي المكاشف، ولا الولي يعرف النبي ولا النبي يعرف الملك كمعرفة الملك نفسه، ولا الملك يعرف الله كمعرفة الله ذاته، فهذه كمالات مترتبة، والمحجوب عن كل رتبة، قاصر عن الإحاطة بكنه حقيقتها، نعم يبرهن على إثبات أصله.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن منتهى معرفة الخلق علمهم أن هذا العالم العجيب المنظوم محتاج إلى مدبر حي عالم لا يشبه العالم ولا يشبهه العالم، فيدل الخلق عنده على إثبات شيء ما، منه صدر الخلق، وهذا معرفة فعله لا ذاته.

ويدل على إثبات الحياة والعلم والقدرة، وهذا علم بالأوصاف لا بحقيقة الذات، بل بنوع من المقايسة إلى النفس، فلو لم يكن للإنسان وصف يعبر عنه بالعلم والحياة، لما أمكنه أن يدرك بالدليل إثبات أصل هذه الأمور ويدل أنه تعالى يستحيل عليه الحدوث والجسمية، وهذا علم بسلب أمور عنه لا بحقيقة ذاته.

وإلى هذه المناهج الثلاثة ترجع معرفة الخلق، فيستحيل اطلاع الخلق على كنه معرفة ذاته، وذلك نهاية العارفين، وعنده يقال: العجز عن درك الإدراك إدراك، أي مهما علم الإنسان أن العجز عن درك كنه جلاله ضروري، فقد أدرك ما هو منتهى كماله، فإنه كمال الإنسان.

وعنده لو قال العارف: لا أعرفه صدق من وجه، ولو قال أعرفه صدق من وجه.

مثاله: من عرض عليه خط منظوم، فيقال له: له يعرف كاتبه؟ فيقول: لا. فيقال إن كاتبه موجود حي عالم قادر سميع بصير- لأن الكتابة لا تتم إلا بهذه الصفات- وليس بجماد. فيقول نعم، فيقال له إذا عرفته.

فله أن يقول: وإن عرفت هذا، فإني لا أعرفه.

ويعترض العارف حالتان: واحدة يقول فيها: لا أعرف الله.

وفي الأخرى: لا أعرف إلا الله، وهو صادق منهما.

أما الأولى: فإنه إذا لاحظ خصوص الذات ومد طرف قلبه إلى حقيقتها، فتعتريه دهشة وحيرة، فيقول لا أعرفه.

والحالة الثانية: ينظر إلى أفعاله من حيث إنها أفعاله، فلا يرى عند ذلك في الوجود إلا الله وأفعاله، فيقول: لست أعرف شيئا غير الله، وما في الوجود غير الله، فهو الكل على التحقيق، ولهذا قال عليه السلام: «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله».

ولا يستوفي العارف بحار المعرفة -التي أفاضها الله عليه- منتهاها وإن عمر عمر نوح عليه السلام، وجميع معرفة العارفين نسبتها إلى معرفة الله تعالى أقل من نسبة قطرة إلى بحار الدنيا، فإن نسبتها إليها نسبة متناهٍ إلى غير متناهٍ، ونسبة القطرة إلى البحر نسبة متناهٍ إلى متناهٍ، فأصل الوضع خطأ، والله أعلم بالصواب ([57]).

ومنها: فتوى جماعة من أئمة بغداد، كتبتها ببلد خُوِّي من خطوطهم، وكان السائل عنها القاضي سيف الدين يحيى بن إبراهيم الواعظ السلماني، رحمه الله تعالى فكتب إليهم:

ما قول السادة الأئمة، مصابيح الأمة، ومفاتيح الحوادث الملمة، أدام الله تمكينهم، وحرس دنياهم ودينهم: في معرفة الباري سبحانه هل يعرف على ما هو عليه وراء معرفة مجرد الوجود من الذات والصفات المقدسة عن مضارعة الأوصاف والذوات، وهل يتطرق إليه المعقول وتحيط به العقول؟ أم ليس إلى درك الحق وصول، أفتونا في ذلك مأجورين:

الجواب وبالله التوفيق:

ما لمعت للبشر بارقة من التوحيد وراء الاعتراف بالموجود المقدس عن سمات الافتقار والتحديد، ولا وصول إلى معرفة الرحمن، إلا بقدر الاستطاعة والإمكان، وبهذا نطق القرآن والله المستعان… الجواب بخط ابن عقيل وبالله التوفيق:

إن الله سبحانه ذكر عن ملائكته العارفين بجلاله أنه ﴿يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِۦ عِلۡمٗا﴾ [طه:110] وقال نبيه عليه السلام ((لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) وإنما يعرفه العارفون بحسب ما يدركون من أفعاله الدالة عليه، قال صلى الله عليه وسلم ((أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه)).

فلكما حقق العالم في معرفة مخلوقاته، كان عرفانه بالله بحسب ذلك([58]).

ومن ذلك فتوى الكيا الهراسي: لا يعرف الله على ما هو عليه من الجلال والكمال، إلا هو، وكل يعرف من جلاله على قدر ما يحتمله علمه ويتسع له فهمه، بل لا يعرف نبوة النبي، إلا النبي، وحقيقة كلام الله، إلا من سمعه من الله، وإذا لم يعرف العالم حقيقة الروح وهو من خلق الله، فكيف الطمع في إدراك خلاق الروح، فهذا القدر تلويح جامع، من ورائه جناب واسع.

جواب إنما يمكن معرفة الله ما هو بمقدار الطاقة البشرية.

الجواب المذكور صحيح والله الموفق([59]).

ومنها نسخة فتوى الشيخ الإمام ناصح الدين أبي طاهر الهمداني رحمه الله تعالى سأله بعض فقهاء قزوين عن أربع مسائل منها هذه المسألة فكتب إليه في جوابه بعد فصول:

هذا وما أشار إليه من المسائل الأربعة فأنا لا أؤهل نفسي لفتح ما يتعلق عليهم وإيضاح ما يشكل لديهم، ولكن لما صدقت منه الرغبة، وحسن الظن بي، فلا أرى بدا من إظهار ما في جرابي من هذا النمط، فأقول وبالله التوفيق:

إن العارف لا يتصور له أن يعرف الله حق معرفته لا يتصور أيضا لمن هو فوق درجته من الأنبياء والأولياء والعلماء والملائكة أجمعين- ممن يقع عليهم سمة الحدوث ورقم المعلولية- أن يعرفوه المعرفة الحقيقية، ولا أن يعرفوا أسماءه وصفاته معرفة تامة محققة كما هي عليها، لأنه تعالى وتقدس عن أن يحيط به علم عالم؛ إذ كل من دخل تحت شيء، فذلك الشيء فوقه ومسلط عليه والعالم أو العارف إذا أحاط علمه أو معرفته بشيء، فقد سخره وجعله تحت قدرته، وصار فوقه بالقهر والغلبة، ومن هذا حاله فلا يجوز وصفه بالقدم، فلو تصور لمخلوق أن يعرفه حق معرفته أو يحيط علما بحقيقة صفاته، لكان ذلك المحاط به مقهورا أو مسخرا تحت سلطنة علمه، وما يكون مقهورا أو مسخرا تحت سلطنة غيره، فذلك الغير فوقه، والقديم لا يجوز أن يكون فوقه أحد من الحوادث.

فإذا لا يجوز أن يعرفه أحد حق المعرفة وغيره، لأنه يؤدي إلى المحال، وما يؤدي إلى المحال محال([60]).

وقد ذهب البعض إلى أن المعرفة ممكنة متحققة يقول الإمام الدلجي: الباب الثالث في نقل فتاوى الذين راغموا أهل الإلحاد والتعطيل في فتاويهم:

منها فتوى جماعة من أهل الري:

ما قول الأئمة -أدام الله توفيقهم- في حق رجلين أحدهما يدعي أنه يعرف الله تعالى حق معرفته والآخر يدعي أن الله سبحانه لا يمكن أن يعرفه الخلق حق معرفته، بل عجزوا عن ذلك، ويدعي أن لله صفة أخص لا يعرفها أحد غير الله تعالى فأيهما على الرشاد في صحة الاعتقاد ليفتونا مأجورين.

الجواب: نسخة الجواب وبالله التوفيق:

اعلم أن العجز عن المعرفة يؤدي إلى نفي المعرفة، لأن العاجز عن معرفة الشيء لا يكون قادرا على عرفانه، لأن العجز والقدرة نقيضان لا يجتمعان، فلو عجز الخلق عن معرفته؛ لما كانوا عارفين به، وإذا لم يكونوا عارفين، كانوا جاهلين به، والجهل بالله كفر صراح.

ومن ادعى أن العجز عن المعرفة معرفة، كان كمن ادعى أن المعرفة ليس بمعرفة، وأن العارف ليس بعارف، وهذا كلام ظاهر التناقض، والله أعلم.

الجواب: نسخة أخرى وبالله التوفيق:

هذا الذي ادعى أن لله صفة أخص، لا يخلو إما أن يكون عارفا بوجود تلك الصفة أو جاهلا، فإن عرف وجودها، فليكن عالما بها كعلمه سائر الصفات، وإن جهل وجودها، فمن أين علم أن هناك شيئا لا يعرف، وهذا كلام متناقض.

ثم إن الذي لا يعرف الشيء بأخص صفاته، كان كالجاهل به؛ فإن من لا يعلم – مثلا- من الفرس إلا كونه حيوانا مختارا، لم يعرفه كما هو، بل إنما يعرفه إذا عرف خصوصيته، وهو اتصافه بالكر والفر وغيرهما من خواصه، وكذلك في الشرعيات، لو أسلم في شيء ولم يضبط أوصافه الخاصة، لم يصح السلم، فإذا كانت عقود السلم باطلة مع الجهل بصفة أخص المسلم فيه، فكيف يصح عقد الإيمان والتوحيد مع الجهل بصفة أخص للباري جل جلاله، والله أعلم.

ومنها نسخة فتاوى جماعة من علماء قزوين، وكانت النسخة الفارسية فنقلتها إلى العربية وحذفت الحشو والمكرر منها، للاختصار وهي هذه:

ما قول المشايخ وأئمة الدين كثر أعدادهم وأباد حسادهم: في قول من ادعى أن الخليقة بأجمعهم خواصهم وعوامهم، لا يصلون إلى حقيقة معرفة الله تعالى، وأن الله تعالى لا يعرفه غيره أحد، فهل لهذا القول وجه، ليفتونا مأجورين إن شاء الله تعالى.

الجواب من خط بعضهم وبالله التوفيق:

إجماع أهل الإسلام منعقد بأن معرفة الله واجبة على العقلاء، وذلك لا يخلو إما أن يكون معرفة تامة بشرائطها، أو معرفة ناقصة على غير ما هو به، ولا يجوز أن يقال: إنها ناقصة، لأن ذلك النقصان إما أن يرجع إلى الذات أو إلى الصفات.

فإن رجع إلى الذات. وجب أن يكون مبعضا، يعرف بعضه ويجهل بعضهم، وهو محال.

وإن رجع إلى الصفات، فيقال: إذا جاز أن تجهل صفة واحدة، جاز أن تجهل صفتان فصاعدا إلى جميع الصفات، فيؤدي إلى إبطال التكليف، وإلى أنه لم يعرفه أحد قط، وصار تقدير قول الشارع إذ أمره بالمعرفة، اعرف من لا تعرفه قط! وهذا بين الاستحالة، والله أعلم.

الجواب من خط بعضهم وبالله التوفيق:

أجمع المسلمون قاطبة على أن معرفة الله واجبة بقوله ﴿ فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ﴾ [محمد:19] والأدلة العقلية تدل على جوازها، فمن ادعى أنه تعالى لا يعرف بالحقيقة، فقد ادعى أنه لا يوجد في العالم عارف بالله، وهو كفر وجهل والله أعلم.

الجواب من خط إمام الدين أحمد الموقي، وبالله التوفيق:

من عرف الباري تعالى بصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة، فقد عرفه حق معرفته، فإن حد التكليف لا يخرج في المعرفة عن حالتين، إما أن يكون عالما به أو جاهلا، إذ لا واسطة بين العلم والجهل، فمن لم يكن عالما به، كان جاهلا، والجهل بالله كفر صريح، وإذا انتفى الجهل، فقد حصل العلم به تعالى، والله أعلم.

الجواب من خط الشيخ أبي النحرير الحنفي وبالله التوفيق:

اعلم أن معرفة الله تعالى حق المعرفة هي: أن يعتقد أن الخالق بخلاف الخلق من كل وجه، وأن من شبه الإله بالعالم بوجه من الوجوه، كان لم يعرف الله حق معرفته، وأصل صحة الاعتقاد أن يعتقد أن الله بخلاف الخلق، وأن قوله حق تعالى وتقدس، والله أعلم.

الجواب من خط بعضهم وبالله التوفيق:

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، فهذا يدل على أنه عرف الله حق المعرفة، حتى إنه لو كشف غطاء الغيب ورفع الحجب بين العبد والرب، ما ازداد بذلك إيمانا، ولو لم تكن معرفته يقينا، لازداد بكشف الغطاء، فعلى هذا إذا جاز أن يعرفه علي رضي الله عنه حق معرفته، جاز أن يعرفه جميع المؤمنين كذلك، لأن العقل الذي هو آلة المعرفة ومناط التكليف متساو لجمهور العقلاء، والله أعلم.

الجواب من خط بعضهم وبالله التوفيق:

إن الله سبحانه وتعالى نادى المؤمنين في تسعة وثمانين موضعا بقوله ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ فلو لم يكونوا عارفين به يقينا، لكان إخباره عن إيمانهم كذبا وخلفا، تعالى الله عن ذلك، وكيف وقد زكى إيماننا تزكية بليغة في قوله تعالى ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ﴾ [البقرة:285] وقوله ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ﴾ [آل عمران:18] الآية. فدل على أن الإيمان بالذي أثبته لنا وزكاه إيمانا صحيحا كاملا صادرا عن علم حقا تاما، والحمد لله على ذلك([61]).

وقد رد الأئمة على هذا المذهب القائل بإمكانية المعرفة بالكنه يقول الإمام الدلجي:

«اعلم أن الذي يطلب معرفته من الأشياء سبعة:

أولها: يطلب أهو موجود أم لا؟

والثاني يطلب ما هو في ذاته وجوهره، ويلازمه أي فيسأل بعده: أي جنس هو؟

والثالث: يطلب لماذا هو؟ ولأي علة هو؟

والرابع: يطلب كيف هو، وكيف حاله وصفاته؟

والخامس: يطلب أين هو؟

والسادس: يطلب متى هو؟

والسابع: يطلب كم هو؟

فهذه سبعة مباحث وكلها محال في طلب معرفة الله تعالى إلا المطلب الأول، وهو العلم بوجوده تعالى ووجود صفاته الأزلية.

أما استحالة طلب الماهية عنه: فهو أن الماهية أبدا تلازمه الأيية، وما لا أيية له لا ماهية له.

والأيية تعيين شيء يشاركه جنسه، فيتميز بها عن جنسه، ولا جنس لله تعالى فيطلب ماهيته وأييته.

ولهذا لما سأل فرعون موسى علهي السلام فقال ﴿وَمَا رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[الشعراء:23].

قال موسى عليه السلام ﴿قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَآۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾[الشعراء:24]

قال فرعون لمن حوله ﴿أَلَا تَسۡتَمِعُونَ﴾ [الشعراء:25] يعني أنه لا يجيب عن الماهية!

قال موسى عليه السلام ﴿رَبُّكُمۡ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلۡأَوَّلِينَ﴾[الشعراء:26].

قال فرعون ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيٓ أُرۡسِلَ إِلَيۡكُمۡ لَمَجۡنُونٞ﴾[الشعراء:27] نسبه إلى الجنون لأنه كلما سأله عن الماهية، كان يجيبه عن ملكه ومصنوعاته، وليس ذلك لجهل موسى عليه السلام بالجواب، ولكن كان لجهل فرعون بالسؤال، لأنه سأل عن ماهية من لا ماهية له.

وكذلك لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم مشركو العرب ﴿قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحۡمَٰنُ أَنَسۡجُدُ لِمَا تَأۡمُرُنَا﴾ [الفرقان: 60] ظنا منهم أنه تعالى من جنس آلهتهم، فأنزل الله تعالى ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1].

وأما استحالة طلب العلة عن وجوده تعالى: فإنه جل ثناؤه واجب الوجود، والعلة إنما تكون لما جاز وجوده وجاز عدمه.

وأما استحالة طلب الكيفية عن ذاته وصفاته: فإن الكيفية تستدعي الصورة والمشابهة، وذلك محال في ذاته وصفاته تعالى وله المثل الأعلى.

وأما استحالة طلب الأينية عنه تعالى فإن الأين سؤال عن المكان، وقد تحقق أن خالق المكان غير مفتقر إلى المكان، وروي في الأثر: «من كيف الكيف، لا يقال له كيف، ومن أين الأين لا يقال له أين».

وأما استحالة طلب البداية عن وجوده فيقال متى هو؟

فلأن متى سؤال عن الزمان، والقديم تعالى كان قبل الزمان لا شيء معه، إذ أبطلنا قدم العالم والزمان من قبل.

وروي أن رجلا سال الجاحظ قال: متى كان ربنا.

فقال له: اعقد الحساب حتى أتفرغ إلى جوابك، فلما فرغ قال له: أي حساب عقدته أولا.

قال الرجل: الواحد.

قال: هل وجدت قبل الواحد شيئا؟

قال: لا.

قال: فاعلم أنه تعالى كان ولم يكن قبله شيء، لأنه واحد، وليس قبل الواحد شيء.

وأما استحالة طلب الكمية عنه: فلأن الكمية سؤال عن العدد، ولا تعدد في ذات الله تعالى، لأنه هو الواحد، والواحد أول العدد وليس من العدد.

سأل الحجاج الشعبي فقال: واحد من واحد، وواحد في واحد، وواحد لواحد أيهما تعبد؟

فقال الشعبي: لا أعبد الواحد من طريق العدد ولا الواحد في الواحد كالروح في الجسد، ولا الواحد يأتي من الواحد كما يأتي من الوالد الولد، بل أعبد الواحد الصمد الذي ليس بعدد ولا جسد، ولا والد ولا ولد، ولم يكن له كفوا أحد.

فلما كان التوصل إلى معرفة الأشياء من هذه المباحث السبعة، وقد انسدت ستة طرق منها، لاستحالتها على الله، ولم يبق إلا طريق واحد، وهو التوصل من الصنع إلى معرفة وجوده ووجود صفاته، جاءت آيات وأخبار وآثار في صرف العقول عن السلوك إليه في المناهج الستة، لئلا يفضي إلى التشبيه والتعطيل فحملها قوم من الجهلة على نفي المعرفة أصلا، وظنوا أنها جاءت في صرف العقول عن السلوك إليه في المناهج كلها…»([62]).

لكن الملاحدة ينطلقون من هذه الجهة إلى قولهم: كيف أثبتم لإلهكم ما أثبتم من صفات، وأفعال، وأنتم لا تعرفون حقيقته، والحكم على الشيء فرع عن تصوره؟!

فكان الجواب أن المؤمن عرف الله تعالى من قبل صنعته التي دلت عليه، يقول الدلجي:

«والواجب: النظر في هيئات العالم وتغاييرها، فيستدل بالتغير على الحدوث، وبالحدوث على محدث قديم لا يشبهه شيء.

وما أحسن ما قال القاضي أبو المحاسن بن إسماعيل الروياني: إن العاقل إذا نظر في شعرة من بدنه، يعرف الله تعالى بصفات كماله أجمع بتوفيقه تعالى.

وهو معنى قولهم: في أقل القليل أدل دليل على أجل جليل.

وأنا أوضح كيفية الترقي في معارج الصنع إلى معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته واحدة واحدة فأقول:

ليبدأ الناظر أولا بالقصد إلى معرفة قدرته المستقلة بإبداع العجائب، الصالحة لاختراع الغرائب.

فينظر أنه تعالى كيف أخرج النار المحرقة من الشجر الأخضر ومن الحديد والحجر، وكيف أخرج السنبلة المرصعة من حبة، والنخلة الباسقة من نواة، والياقوت والزمرد من حصاة، والذهب والفضة من حجارة، والمسك من فارة، والعنبر من دابة، والعسل من ذبابة، والديباج من دود، والورد من عود، والسكر من قصبة، والقصب من خشبة، والإنسان من نطفة.

ويتأمل كيف أرانا صورتنا في المرآة ولسنا فيها، ولا لون الحديد زائل عنها، وكيف أرانا الصورة والعجائب في المنام وحواسنا راكدة.

فهذه وأشباهها تدل على كمال قدرة الله تعالى وأنه على كل شيء قدير.

ثم يقصد إلى معرفة علمه الواسع الذي وسع السماوات والأرض:

فينظر في سعة الهواء ولطافته، فيتدرج به إلى إثبات علمه، لأنه لما علم احتياج الناس إلى النفس واستنشاق الهواء، جعل الهواء فسيحا وسيعا لطيفا رقيقا؛ إذ لو لم يكن كذلك لاختنق الخلق من تراكم الدخان والبخار والضباب.

ويتأمل كيف يدخل الشتاء على الصيف والصيف على الشتاء بالتدريج قليلا قليلا، علما منه أنه لو دخل أحدهما على الآخر مغافصة، لأضر ذلك بالأبدان، وكان كما لو خرج إنسان من الحمام الشديد الحر ودخل المثلجة في الحال، فانظر كيف حاله.

وكذلك لما علم أن الروائح الكريهة تضر بالدماغ، كيف صرف الرياح جنوبا وشمالا حتى تطيب الهواء؟!

وكذلك لما علم أن الإنسان يحتاج إلى أكنان يستتر بها من الحر والبرد وهي الأبنية المرفوعة بالطين والسقوف، وتلك تنهدم بالحركة وتبتل بالماء، فانظر كيف سكن هذه الأرض على الماء، لثبات تلك الأبنية عليها، وكيف قطع الماء عن هذا الربع المسكون من الأرض، ليمكنهم العمارة عليه والتعيش فيه.

ثم لما علم أنهم في بعض الأحايين يحتاجون إلى التخويف لقساوة قلوبهم، فانظر كيف يزلزل عليهم الأرض لينزعوا عن المعاصي، كما قال: ﴿وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا﴾ [الإسراء:59].

ويتأمل أشكال الحيوانات، فإنه لما خلقها محتاجة إلى تناول الأغذية، فما خلق قوائمه طويلة، خلق أعناقه أيضا طويلة، ليمكنه تناول العلف من الأرض، كالإبل والنعام والكركي وغيرها، ثم لما جعل عنق الفيل مع طول قامته قصيرة، لحكمة رآها، فانظر كيف طول أنفها أعني خرطومها ليكون عوضا عن طول الرقبة.

وكذلك كيف أقدر الآدمي على تناول الطعام بيده ووضعه في الفم، لما نصب قامته ولم يطول رقبته، وكان ذلك من كرامته وهذا غيض من فيض.

وأنى يبلغ الإنسان منتهى علم الله تعالى وغاية حكمته في الأشياء بفهمه القاصر؟! فإنه تعالى ربما أودع في صنع واحد ألوفا من الحكمة.

أما بقدر الطاقة البشرية ينظر في هذه الأشياء وأمثالها، فيستدل بها على سعة علمه تعالى وكمال حكمته، قطعا منه بأنها في إتقانها وإحكامها، لا تقع إلا من عالم بحقائقها، وهو الخلاق العليم الحكيم.

ثم يقصد إلى معرفة إرادته النافذة:

فينظر في أعداد الكواكب، وأشكالها، ويتفكر كيف يقضي العقل بجواز زيادة أعدادها الذي هو لها، وجواز النقصان عن العدد المعلوم، فيتحقق أن اختصاص هذا العدد الموجود الذي هو لها مع جواز غيره من الزيادة والنقصان إنما كان لإرادة بارئها جل جلاله كذلك.

وكذا أشكالها ومقاديرها، فإنه يمكن أن تكون المجتمعة منها مفترقة، والمفترقة مجتمعة، والصغير كبيرا وبعكسه، والخفي جليا وبعكسه، فاختصاصها بهذه الحالات مع جواز غيرها في العقل، يدل على إرادة القديم تعالى.

ثم النكتة التي حيرت الفلاسفة وأفحمتهم: هي أن جرم الفلك عندهم كروي، وأجزاء الكرة في العقل متناسبة، فلا يكون جزء منها إلا ويجوز أن يكون قطبا، فاختصاص هذين القطبين الشمالي والجنوبي بالنقطتين المعلومتين دليل قاطع على إرادة الله تعالى وتخصيصه إياهما بالقطبية دون غيرهما من الأجزاء المتشابهة الممكنة لجعلها قطبا وهذا دليل مسكت لنفاة الأدلة.

وكذلك ينظر إلى عدد أوراق الورد، فيرى بعضها أربعة، وبعضها خمسة، وبعضها ستة، وبعضها أكثر إلى أربعين وإلى مئة، والعقل يجوز تخميس الأربعة، وتربيع الخمسة، وتثمين الستة، إلى غيرها، فاختصاصها بهذه الأعداد دون غيرها مع الجواز، دليل على ثبوت الإرادة لله تعالى وأنه يريدها كذلك.

وأيضا إن العقل يجوز تقديم المؤخر من هذه الأشياء، وتأخير المقدم منها بأوقات وأزمنة، فاختصاصها بالوقت المعين، دليل على أن الله سبحانه فعال لما يريد وهذه أيضا قطرة من بحار وذرة من قنطار.

ثم يقصد إلى معرفة حياته القديمة:

وذلك سهل بعد سلوك الناظر هذه الطرق التي بيناها، إذ قد حصل له العلم بالقدرة والإرادة، فيترقى منها إلى إثبات الحياة، فيعلم قطعا أنه حي، إذ شرط العلم والقدرة والإرادة هو الحياة، كما أن شرط الحياة الذات الموجودة، فإذا قد ثبت أنه الحي لا إله إلا هو.

ثم يقصد إلى معرفة السمع والبصر:

وطريقها من الصنع أن المتفكر إذا أحاط علمه بأن أصوات الحيوانات والجمادات وألوان المتلونات مخلوقة بما بيناه من الأدلة العقلية، يعلم قطعا أن خالقها سميع بصير، إذ يستحيل أن يخلق شيئا وهو لا يدركه، ولا طريق إلى إدراك الأصوات إلا بالسمع، ولا إلى إدراك الألوان إلا بالبصر، فيعلم من ذلك أنه سميع بصير.

وبهذا الطريق أيضا يعلم أنه مدرك طعم المطعومات، وروائح المشمومات ولمس الملموسات من حرارتها وبرودتها ولينها وخشونتها، بإدراك هو صفة له، وليس بذوق وشم ولمس لأنها اتصالات وذلك في حقه محال.

ثم يقصد إلى معرفة كلامه:

وذلك أنه لما تحقق العلم من سلوك النهج المذكور بأن هذه الصنائع كلها صنعة صانع وملك مالك تام الملك، متصرف في ممالكه كما شاء، ومن ضرورة الملك أن يكون آمرا ناهيا في رعيته، ليستتب ملكه، والأمر والنهي كلام فيجب أن يكون متكلما.

ولأن ضد الكلام خرس، كما أن ضد السمع صمم، وضد البصر عمى، وهي آفات ونقائص، والرب سبحانه منزه عن الآفة والنقص، فيجب أن يكون سميعا بصيرا متكلما.

ثم يقصد إلى معرفة قدمه وبقائه:

وذلك أيضا بتحقق العلم بحدث العالم وافتقاره إلى محدث، وأن المحدث لو كان أيضا حادثا، لافتقر بحدوثه إلى محدث آخر يحدثه، وهلم جرا حتى يتسلسل وما يتسلسل لا يتحصل.

فيعرف من ذلك يقينا أن الإله جل جلاله قديم دائم الوجود، مستمر البقاء، لا أول لوجوده ولا آخر لبقائه، إذ لو جاز عدم القديم، لجاز في العقل تقدير إعادته ثانيا، فكان من حيث تقدير الإعادة حادثا، ومن عدم الأولية قديما، فيلزم أن يكون الشيء الواحد حادثا قديما، وهو محال قطعا.

وبهذا يتحقق أن ما ثبت قدمه استحال عدمه.

ثم يقصد إلى معرفة قيامه بنفسه بلا نهاية.

وعلم ذلك من طريق الصنع أيضا هو أنا رأينا العرض مفتقرا إلى محله، غير قائم بنفسه، والجوهر قائما بنفسه متناهيا، مفتقرا إلى موجود أوجده، فيتحقق من ذلك أن الصانع قائم بنفسه بلا نهاية، غير مفتقر إلى موجد، ليمتاز بقيامه بنفسه عن قبيل الأعراض، وبعدم تناهيه واستغنائه عن الموجد عن قبيل الجواهر، فيفارق بذلك الصنع الذي هو جوهر وعرض، تعالى الله علوا كبيرا.

ثم يقصد إلى معرفة وحدانيته من طريق الصنع أيضا:

وهو أنا نشاهد أمور العالم مستقيمة، جارية على النظام الحسن، فلو قدر للعالم إلهان، لجاز في العقل تقدير خلافهما في تدبير المملكة، ومتى تخالفا اختل نظام السماوات والأرض ومن فيهن، لأن أحدهما يمكن أن يريد مثلا طلوع الشمس من المشرق، والآخر يريد طلوعها من المغرب، فبالضرورة يبطل أحد المرادين، ويعجز الواحد منهما، لاستحالة طلوع الشمس الواحدة من المشرق والمغرب معا في وقت واحد، فحينئذ من حصل مراده، كان إلها، ومن عجز كان منحطا عن رتبة الإلهية، كما قال تعالى ﴿لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ﴾[النحل:61].

قال الترمذي: (اثنين) ليس لمجرد التأكيد، ولكن في ضمنه دليل التوحيد.

وذلك أن الاثنين مشتق من (ثنيت) أي صرفت، معناه: لا تتخذوا إلهين ثانيين، أي صارفين، يثني كل واحد منهما صاحبه عن مراده، فإن قدرا كان مقهورين، وإن لم يقدرا كانا عاجزين.

ثم يقصد إلى معرفة تنزيهه عن المكان: وطريقها أنا لما تحققنا بالأدلة العقلية أن العالم- هول كل موجود سوى الله تعالى- حادث، ومن جملته المكان، يجب أن يكون الصانع قبل العالم، فيجب أنه كان قبل المكان.

ويستحيل أن يتغير وصفه بخلق المكان، فيحتاج إليه بعد الاستغناء، لأن التغير والحاجة تضاد صفة الكبرياء، وهذا معنى قول عليٍّ (كان ولا مكان ثم خلق المكان، ولم يتغير عما كان).

ثم يقصد إلى معرفة جواز رؤيته:

وطريقها من الصنع: البحث عن مصحح الرؤية في الجوهر والعرض، لأنهما مرئيان معا، فلا بد فيهما من مصحح للرؤية يجمعهما، وليس يجمعهما صفة إلا الوجود والحدوث، ولا معنى للحدوث إلا الإخبار عن عدم سابق، فلم يبق إلا الوجود، فدل على كون كل موجود مرئيا، والرب تعالى موجود، فيجب أن يكون مرئيا في نفسه.

فإذا قد ثبت بسلوك هذه الطرق الجلية في معاريج الصنع، أن الله تعالى موجود، قادر، عالم، مريد، حي، سميع، بصير، مدرك، متكلم، قديم، باق، قيوم، واحد، منزه عن المكان، ومرئي للعيون، فمن عرف الله سبحانه من هذه الطرق بهذه الصفات الواجبة الإلهية، فقد عرفه حق معرفته وكمل إيمانه»([63]).

ثم قال رحمه الله:

«ثم إن هاهنا دقيقة عميقة: وهي أن معرفة الله تعالى لما كانت متلقاة من معارف الصنع كما شرحناه، وأن من عرف الصنع عرف الصانع، ومن عرف نفسه عرف ربه، والله تعالى يقول ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ﴾[فصلت:53].

والآفاق والأنفس محدثة مقدرة محدودة متصورة، ينتهي الفكر إلى نهايتها ويبتدر الوهم إلى بدايتها، ويتصور في الذهن تماثيلها، ويتشكل في الخيال تصاويرها، والنفس لعرفانها معتادة، والعقل لتصويرها وتحديدها إلفٌ، فإذا ترقى العقل منها إلى معرفة الصانع تعالى، عن التمثيل والتصوير والتحديد، يكاد الفكر يتلوه لطلب التحديد، والخيال يسابقه لطلب التصوير، والوهم يساوقه لطلب التمثيل، وإنما يكون ذلك لتعود ملازمتها العقل في معلوماته المحسوسة، فيتلبد حينئذ الناظر، ويتوقف الخاطر، اللهم إلا من أدركته العصمة وساعده التوفيق، فيدارك نفسه في تلك الحال ويقول:

إن كل ما عرفته قبل هذا، كانت أجساما متناهية أو أعراضا فانية، يصورها الخيال ويكنفها الفكر، والآن قد انتهيت إلى معلوم قديم لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء.

فيا خيال اخنس فليس لك في مناله مطمع.

ويا وهم وراءك فليس لك في ذاته وصفاته مجال.

ويا فكر لو دنوت أنملة لاحترقت أما سمعت قول سيد البشر «لا فكرة في الرب».

ويا عقل اخلع حذاءك وودع رفقاءك، فإنك بالواد المقدس.

ويا علم: اشرب كأس المعرفة رويا هنيئا مريئا، وإياك أن تلتفت وراءك ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ [الشورى:11]»([64]).

ولهذا السبب كان الأئمة رضوان الله عليهم شديدي الحذر في التعامل مع الآيات التي وردت بشأن صفاته سبحانه وتعالى لا كما يتعامل المجسمة مثلا، فالسلف رحمهم الله كالإمام مالك وسفيان ابن عيينة وغيرهم الكثير من الذين أخذوا بمبدأ (أمروها كما جاءت) لم يكن ينقصهم علم باللغة أو حذقا في العقل بل كانوا من أذكياء العالم، بل كان اكتفاءهم من تفسير هذه الآيات بمجرد تلاوتها، وأنه تعالى كما وصف نفسه لا يقال كيف والكيف عنه مرفوع.

1- فهم يعرفون ما لهذه المتشابهات- من نصوص الكتاب والسنة- من معان يستطيع البشر فهمها، سواء بمعرفة اللغة أو بمعرفة العقل، فلا يعقل أن يكونوا- وهم على مقربة من عصر النبوة- جاهلين بدلالات الألفاظ، وسياق الآيات وسباقها، ولحاقها.

2- ثم هم يعرفون أن لهذه المتشابهات معان أخرى حقيقية وراء مدارك البشر اللغوية أو العقلية، وتلك المعاني قد استأثر الله تعالى بعلمها، وتلك المعاني المكنونة هي حقائق تلك الظواهر ومآلها.

3- ثم هم يقطعون -في الآن نفسه- بعجز البشر عن إدراك هذه المعاني المكنونة، ومن ثم فلا يجهدون أنفسهم في تفسيرها، أو اكتناهها؛ أصلا وابتداء.

إذن فيجب -في هذا الصدد- الانكفاف عن إعمال اللغة أو العقل في فهم هذه النصوص، بل ينبغي- في نظر السلف- أن نضيف تلك المعاني الحقيقية المكنونة إليه تعالى إدراكا، كما نضيفها إليه تعالى اتصافا.

وهكذا يكون التنزيه في عين الإثبات، أي أن السلف قد أثبتوا ونزهوا في آن معا، لقد أثبتوا في عين التنزيه ونزهوا في عين الإثبات.

أما المثبتون -كابن خزيمة والذهبي وابن تيمية ومدرسته- فقد أعملوا اللغة البشرية في فهم هذه الظواهر وأضافوا تلك الأفهام البشرية إليه تعالى اتصافا، ثم نزهوه تعالى بعدئذ عن الكيف والمماثلة. وهكذا كان الإثبات لديهم يمثل خطوة، تعقبها خطوة أخرى هي التنزيه، فهم إذن قد أثبتوا أولا، ثم نزهوا بعدئذ.

أما المؤولون -كالجويني والرازي والآمدي وغيرهم- فقد أعملوا العقل في فهم هذه الظواهر، وحين انتهى بهم العقل إلى التنزيه أضافوا إليه تعالى ما انتهى إليه العقل اتصافا، وبهذا كان مرتكز اهتمامهم الأول هو التنزيه، بل إن بعض رجالات الحنابلة -كابن الجوزي مثلا- قد جعل العقل هو أساس فهم هذه الظواهر-لأنا على حد تعبيره- قد عرفنا به الله تعالى، فينبغي ألا يهمل ما ثبت به الأصل وهو العقل([65]).

موقف السلف -بهذا التقرير- موقف عقل متسق تمام الاتساق، نقول هذا برغم ما يبدو فيه من تناقض؛ إذ كيف يكون موقف أولئك الذين ألجموا العقل عقليا؟!

نقول: إن الصفة -أية صفة- إنما هي صفة لذات، وهي –إذن- لا تعلم إلا بمقدار ما تعلم الذات، فإذا كانت تلك المتشابهات منطوية على صفات فهي صفات لذات هي أجل من التصور وأرفع من الإدراك، ولا مناص من أن تكون صفاتها كذلك.

إنه إذا كانت تلك المتشابهات منطوية على صفات، فهي إذن صفات مكنونة أخفيت عن أفهامنا وراء حرم تلك المتشابهات، وسترت عنا بها، فأي دور يليق بالعقل ويجمل به سوى أن يوقن أنه عاجز عن التعقل؟ وفيم يبذل الجهد فيما لا يمكن إماطة اللثام عنه؟! وهكذا يكون العجز عن الإدراك هو ما يمكن إدراكه، لأنه إدراك أن تلك الصفات المستورة بتلك المتشابهات المحجوبة عنا بها، متعالية على التعقل، قصية عن الإدراك.

وهكذا يكون السؤال عنها بدعة، فهو بدعة في منطق العقل، قبل أن يكون بدعة في مقتضى الشرع.

بهذا أجاب الإمام مالك رضي الله عنه سؤال من سأله  (ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ)    كيف استوى؟ فقال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».

وموقف السلف بهذا التقرير أسلم وأعلم في آن معا، أما أنه أسلم؛ فلأنه لم يغامر بزورق العقل أو بزورق اللغة في محيط لا ساحل له ولا قرار، بل أناط الأمر لمن هو أعلم به ابتداء وانتهاء.

وأما أنه أعلم؛ فلأنه عرف محدودية العارف، ولامحدودية المعروف، فآثر أن تظل المتشابهات: متشابهات، وألا يطرح هذا الوصف بوساطة احتمالات لغوية أو عقلية، وهذا شأن من لا يكفيه، وهذا شأن من لا يكفيه- في مثل هذا المقام الأجل- سوى اليقين، ولا يقين حيث يكون الاحتمال.

ولله در الشافعي رضي الله عنه حين قال عن السلف: «هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى» ولله در ابن قدامة حين قال: «إن هذا مما لا يحتاج إلى معرفته؛ لأنه لا علم تحته، ولا يدعو إلى الكلام فيه حاجة ضرورية أو غير ضرورية»([66]).

«إن عدم إقدام السلف على التفسير ليس جهلا بدلالات الألفاظ ولا هو نفي لما يليق به سبحانه من معان وراء تلك الألفاظ، بل هو إجلال لقدر الله تعالى من تدخل التفسير اللغوي البشري بما هو عليه من نقص وقصور، حتى ولو قلنا بعد ذلك: «بلا كيف!» ألف ألف مرة»([67]).

يقول ابن قدامة في ذم التأويل: «أما العقل: فإنما يعرف صفة ما رآه أو رأى نظيره، والله تعالى لا تدركه الأبصار ولا نظير له ولا شبيه، لا تعلم صفاته ولا أسماؤه إلا بالتوقيف، والتوقيف إنما ورد بأسماء الصفات دون كيفيتها أو تفسيرها، فيجب الاقتصار على ما ورد به السمع منهما لعدم إمكان العلم بما سواه.

أما اللغة فإن اللفظ إذا احتمل معاني عدة فحمله على واحدة منها تخرص وقول على الله تعالى بغير علم، لأن تعيين أحد المحتملات -إذا لم يكن هناك توقيف- يحتاج إلى حصر المحتملات كلها، ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة جميع ما يستعمل فيه اللفظ حقيقة أو مجازا، ثم يبطل جمعيها إلا واحدا، وهذا يحتاج إلى الإحاطة باللغات كلها، ومعرفة لسان العرب جميعه، ولا سبيل إليه، فكيف بمن لا علم له بهذا، ولعله لا يعرف سوى محملين أو ثلاثة بطريق التقليد، ثم معرفة المحتملات متوقف على ورود التوقيف به، فإن صفات الله تعالى لا تثبت ولا تنفى إلا بالتوقيف، فإذا تعذر هذا بطل تعيين محمل منها على وجه الصحة، ووجب الإيمان بها بالمعنى الذي أراده المتكلم بها»([68]).

وهذ المعنى هو الذي يقول به إمام الحرمين بقوله في الشامل: «إن بعض من يعزى إلى علم التوحيد ويتعلى بزعمه عن رذيلة التقليد قد صار إلى أن القديم مستو على عرشه، ويأبى من تأويل الاستواء وحمله على بعض المحامل المشهورة.

وسبيل الكلام مع هؤلاء أن نقول لهم: هل تعتقدون اختصاص القديم بجهة من الجهات أم تأبون ذلك؟ فإن صرحوا بإثبات الجهة قاطعناهم وألحقناهم بمثبتي الجهة من المشبهة، وإن لم يثبتوها ولم ينفوها كانوا متشككين حيث لا يسوغ الشك، إذ إثبات الجهة ونفيها أمران تحتوي عليهما قسمة بديهية، ولا رتبة بين الإثبات والنفي، والمتشكك عندنا في نفي الجهة وإثباتها بمثابة المصمم على إثبات الجهة، فإن كل معتقد يجب العلم به، فالتشكك فيه بمثابة الجهل.

وإن صرح هؤلاء بنفي الجهات فقد وافقونا في المذهب، وقالوا بأعظم ركني التأويل، فإن الذي يحاذره منكرو التأويل إزالة الظواهر، والذي نفى الجهة قد أزال ظاهر الاستواء، ولكنه لم يعين للفظ الاستواء بعد تعريته عن ظاهره محملا، والمتأولون عينوا له محملا، وإذ آل الأمر إلى ذلك فهو سهل المرام»([69]).

يقول ابن الجوزي رحمه الله: «إن نفيت التشبيه في الظاهر والباطن فمرحبا بك، وإن لم يمكنك أن تتخلص من شرك التشبيه إلى خالص التوحيد وخالص التنزيه إلا بالتأويل فالتأويل خير من التشبيه» وكذلك حين قال: «التشبيه داء، والتأويل دواء، فإذا لم يوجد الداء فلا حاجة إلى استعمال الدواء»([70]).

ولذا كان التأويل وهو مسلك الرَّاسخين في العِلم لمن يفهم لغةَ العربِ وأساليبَ وتراكيب وأسرار القرآن الكريم، فيستطيع العالِم أن يفسِّر هذه الألفاظ تفسيرًا حسنًا لا يخلُّ بتنزيه الله سبحانه وتعالى ولا بمحكمات القرآن الكريم، وقد كان سيدنا ابن عباس تَرجُمان وحَبر القرآن يلتزم التَّأويل في هذه الآيات، فورد عنه أنه أوَّل قولَه تعالى: (يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ)   [القلم: 42] قال الإمام البيهقي في الأسماء والصفات: سُئل -أي ابن عباس- عن قولِهِ سُبحانه: (يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ)   قال: إِذا اشتد الأمرُ فِي الحربِ قِيل: كشفتِ الحربُ عن ساقٍ. قال: فأخبرهم عن شِدةِ ذلك. قال أبُو سُليمان رحمه الله: فإِنما جاء ذِكرُ الكشفِ عنِ السَّاقِ على معنى الشدةِ، فيُحتملُ والله أعلمُ أن يكُون معنى الحدِيثِ أنهُ يبرُزُ مِن أمرِ القِيامةِ وشِدتِها ما ترتفِعُ معهُ سواتِرُ الامتِحانِ، فَيَمِيزُ عِند ذلِك أهلُ اليقِينِ والإِخلاصِ، فيُؤذنُ لهُم فِي السجُودِ، وينكشِفُ الغِطاءُ عن أهلِ النفاقِ فتعُودُ ظُهُورُهُم طبقًا لا يستطِيعُون السجُود.

وفيه أيضًا: عن عِكرِمة عنِ ابنِ عباسٍ أنهُ سُئل عن قولِهِ تبارك وتعالى: (يَوۡمَ يُكۡشَفُ عَن سَاقٖ)  [القلم: 42] قال: إذا خَفِي عليكم شيءٌ مِن القُرآنِ، فابتغُوهُ مِن الشِّعرِ، فإِنهُ دِيوانُ العربِ. أما سمِعتُم قول الشاعِرِ:

اصبِر عناق إِنهُ شر باقٍ

قد سن قومُك ضرب الأعناقِ

وقامتِ الحربُ بِنا على ساق

قال ابنُ عباسٍ: هذا يومُ كربٍ وشِدةٍ([71]).

وقد ورد التَّأويل عن بعض أئمَّة السَّلف الصالح كأحمدَ بنِ حنبل والبخاريِّ والبيهقيِّ مما يدلُّ على أنه مسلكٌ سلفيٌّ أصيلٌ تتابع عليه السَّلف والخلف.

قال الإمام الخطابي في أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري: «قال أبو عبد الله البخاري: معنى الضحك الرحمة» انتهى([72]).

وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى:  (كُلُّ شَيۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥ ) [القصص: 88] إِلَّا مُلْكَهُ، وَيُقَالُ: «إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ الله»([73]).

روى الإمام البيهقي من طريق الميموني قال: خرج إِليَّ يومًا أبُو عبدِ الله أحمدُ بنُ مُحمدِ بنِ حنبلٍ، فقال: ادخُل فدخلتُ منزِلهُ فقُلتُ: أخبِرنِي عما كُنتَ فِيهِ مع القومِ وبِأي شيءٍ كانُوا يحتجون عليك؟ قال: بِأشياء مِن القُرآنِ يتأوَّلُونها ويُفسرُونها، هُمُ احتجوا بِقولِهِ: (مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ ) [الأنبياء: 2] قال: «قُلتُ: قد يُحتملُ أن يكُون تنزِيلُهُ إِلينا هُو المُحدَثُ لا الذكرُ نفسُهُ هُو المُحدَثُ».

وروى أيضًا بسنده الصَّحيح عن أبِي إِدرِيس الخولانِي عنِ النواسِ بنِ سمعان الكِلابِي قال: سمِعتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المِيزانُ بِيدِ الرَّحمنِ يرفعُ أقوامًا ويضعُ آخرِين، وقلبُ ابنِ آدم بين إِصبعينِ مِن أصابِعِ الرَّحمنِ إِن شاء أقامهُ وإِن شاء أزاغهُ» وكان رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: «يا مُقلبَ القُلُوبِ ثبِّت قلبِي على دِينِكَ» فقد قرأتُ بِخط أبِي حاتِمٍ أحمد بنِ مُحمدٍ الخطِيبِ رحِمهُ الله فِي تأوِيلِ هذا الخبرِ قِيل: معناهُ تحت قُدرتِهِ ومُلكِهِ([74]).

وكُتب التفاسير والسُّنة وشروح الحديث مليئةٌ ومشحونةٌ بمثل هذه النَّماذج من تأويلات السَّلف الصالح من الصَّحابة والتَّابعين، مما يدلُّ على أن التأويل منهجٌ ورثه الخلفُ الصالحُ عن السَّلف الصالحِ، وهذا الموقف كان فيه صيانةٌ كبيرةٌ للعقائد الإسلامية من مقالة التَّشبيه والتَّجسيم.

قال شيخُنا الإمام العلَّامة في كتاب البيان: «ومتأخروهم سلكوا مسلكَ التَّأويل حين رأوا أن الإثباتَ على طريقة المشبِّهةِ أفضى عند بعضِهم إلى القول بالجسمية ولوازمها، والمتقدِّمون من أهل السُّنة والمتأخرون كلُّهم متَّفقون على الإمرار وعدم التَّعرض للفظةٍ بالنَّفي، وكذلك عدم اعتقاد حقيقتها اللُّغوية التي من شأنها تشبيه الربِّ سبحانه وتعالى بخلقِه، ولكن زاد المتأخِّرون بأن هذه الألفاظ لا يجوز أن يُفهم منها إلَّا ما يليق بالله، فكأنهم يقولون للخَصم: إذا صمَّمت أن تتكلم عن معنى لهذه الصِّفاتِ؛ فقل أيَّ معنى إلا المعنى الذي يُنقص من قَدْرِ الرَّبِّ ويشبِّهُه بخلقِه، فقالوا: أيها الخصم قل: عين الله تعني رعايته وعنايته، كما في قوله تعالى: (وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ ) [طه: 39] ولكن إيَّاك أن تقول: إنَّها جارحةٌ؛ ولذا يصلح أن نقول: إن مذهب السَّلف مذهب اعتقادٍ، ومذهب الخَلف مذهب مناظرةٍ»([75]).

هكذا كان عمق أهل السنة والجماعة في التعامل مع اللغة العربية، والتي وضعوا لها عددا من القواعد الأخرى وذلك للحفاظ على قطعية دلالتها في البحث الكلامي، وهي تعد من معالم منهج أهل السنة والجماعة، نستعرضها فيما يلي:

1- الإمساك عن تبديل الكلمة بكلمة أخرى أو ترجمتها إلى لغة أخرى خاصة في باب الصفات الإلهية

إن اللغة بصفة عامة لها وظيفتان: الوظيفة الأولى: هي الأداء، وفيه يعبر المتكلم عما في ذهنه من معان بألفاظ لها دلالة متفق عليها بين أهل اللغة الواحدة؛ حيث وضعت هذه الألفاظ مقابل هذه المعاني، وواضع ذلك عند بعضهم هو الله قال سبحانه: (وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا) ، وعند آخرين هم البشر، وفريق ثالث يرى أن أصول اللغات وقوانينها من عند الله، وأن الألفاظ المولدة من وضع البشر، وليس هذا مهمًّا الآن، ولكن المهم أن الوضع بمعنى جعل الألفاظ بإزاء المعاني أمر لا بد منه حتى يتم التفاهم بين البشر، وذلك أن المتكلم يقوم بنقل المعاني التي قامت في ذهنه إلى السامع الذي يحمل هذه الألفاظ على مقابلها من المعاني التي سبق للواضع أن تواضع عليها، وبذلك الحمل من السامع تتم الوظيفة الثانية للغة، وهي وظيفة التلقي.

فتحصل عندنا ثلاث عمليات: الأولى الوضع، والثانية الاستعمال، والثالثة الحمل، حتى قال علماء أصول الفقه: إن الاستعمال من صفات المتكلم، والحمل من صفات السامع، والوضع قبلهما.

واللغة العربية لغة لها من الصفات والخصائص التي لا تختلف فيها عن اللغات الأخرى، وذلك على مستوى كل مستوى المفردات، والتراكيب.

فمن ذلك على مستوى المفردات: (الاشتقاق الكبير) وهو أن يكون بين اللفظين تناسب في اللفظ والمعنى دون الترتيب([76])، فإذا ذهبنا مثلا إلى حروف (ق و ل) نرى ابن جني رحمه الله يوقعها كلها على معنى الخفوف والحركة، على أي طريقة شكلت، إذ جميع التراكيب المحتملة من هذه الثلاث حروف مستعملة كلها لم يهمل منها شيء وهي: (ق و ل)، (ق ل و)، (و ق ل)، (و ل ق)، (ل ق و)، (ل و ق)([77]). وهذه خصيصة لم تتوفر للغة أخرى، مما يزيد من الحقل الدلالي للكلمة الواحدة، فالكلمة كالوعاء لما تحمله من المعاني، كذلك فإن العربية فيها من الخصائص الأخرى على مستوى المفردات كـ(الاشتراك اللفظي) والذي يعني أن تكون اللفظة المفردة موضوعة لمعنيين أو أكثر على سبيل البدل من غير ترجيح([78]) وذلك كلفظة (العين) يقول الزبيدي في تاج العروس: «أوصل معانيها الشيخ بهاء الدين السبكي في قصيدة له عينية مدح بها أخاه الشيخ جمال الدين الحسين إلى خمسة وثلاثين معنى وأولها:

هنيأ قد أقر الله عيني

فلا رمت العدا أهلي بعين([79])

وهي طويلة، وأوصلها المصنف رحمه الله تعالى في كتابه هذا إلى سبعة وأربعين مرتبة على الحروف، وفي كتاب البصائر ما ينيف على خمسين رتبها على حروف التهجي، وللنظر مجال المناقشة في بعض ما ذكره، قال: والمذكور في القرآن سبعة عشر، وقال شيخنا، رحمه الله تعالى: معاني العين زادت عن المائة، قصر المصنف، رحمه الله تعالى، عن استيفائها»([80]).

وهذا كله يجعل اللفظة العربية لفظة غنية بمعانيها، هذا كله بالإضافة إلى ما يتولد من المعاني بانضمام الكلمة إلى غيرها، من المجاز وغير ذلك من الأمور البلاغية التي تفيد معاني مختلفة لا تتوفر للكلمة من حيث ذاتها بل بانضمامها إلى غيرها وعلى على مستوى (التراكيب).

فإذا ذهبنا إلى تطبيق ذلك على القرآن الكريم خاصة فيما يتعلق بالذات الإلهية كقوله تعالى: (وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ). فكلمة (وجه) لها من المعاني المتعددة التي وضعت لها والتي تختلف عن ما وضعت له كلمة Face مثلا في اللغة الإنجليزية؛ إذ كلمة (وجه) غنية بالمعاني التي قد تشترك كلمة Face معها، فيكون بينهما عموم وخصوص وجهي، باشتراكهما في معاني واختلاف كلمة (وجه) عنها في معان أخرى، فالوجه في العربية: محل السمع والبصر واللسان، ومستقبل كل شيء، ونفس الشيء، والوجه من الدهر أوله كقول الإنسان وجه النهار أي أوله، والوجه سيد القوم، والوجه الجاه، والوجه الجهة([81])، فإذا تمت ترجمة قوله تعالى (وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ) ترجمة حرفية بوضع كلمة Face مكان وجه كما جاء في بعض الترجمات القرآنية الهزيلة، فنكون قد نسبنا لله سبحانه وتعالى معنى ظنيًّا من إحدى تلك المعاني يحيله العقل ولا تستطيع اللغة الأخرى بهذا التركيب أن تفيد تنزيها للمولى سبحانه وتعالى، بل قد يحدث زيادة معنى لم يرده القرآن الكريم وهنا يزيد الإنسان معنى بظن وقد مر معنا أن علم الكلام هو علم القطعي، وذات الأمر يجري على تبديل الكلمة العربية بكلمة عربية أخرى، وفي ذلك يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله:

«يجب على عموم الخلق الجمود على ألفاظ هذه الأخبار، والإمساك عن التصرف فيها من ستة أوجه: التفسير، والتأويل، والتصريف، والتفريع، والجمع، والتفريق.

الأول: التفسير:

وأعني به تبديل اللفظ بلغة أخرى تقوم مقامها في العربية أو معناها بالفارسية والتركية، بل لا يجوز النطق إلا باللفظ الوارد، لأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها.

ومنها: ما يوجد لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها فيها.

ومنها ما يكون مشتركا في العربية ولا يكون في العجمية كذلك.

أما الأول: فمثاله: لفظ (الاستواء) فإنه ليس له في الفارسية لفظ مطابق يؤدي بين الفرس المعنى الذي يؤديه لفظ الاستواء بين العرب بحيث لا يشتمل على مزيد إيهام، إذ فارسيته أن يقال (راسْت بإِسْتاد).

وهذان لفظان: الأول: ينبئ عن انتصاب واستقامة فيما يتصور أن ينحني ويعوج، والثاني: ينبئ عن سكون فيما يتصور أن يتحرك ويضطرب، وإشعاره بهذه المعاني وإشارته إليها في العجمية أظهر من إشعار لفظ (الاستواء) وإشارته إليها، فإذا تفاوتا في الدلالة والإشعار.. لم يكن هذا مثل الأول.

وإنما يجوز تبديل اللفظ بمثله المرادف له، الذي لا يخالفه بوجه من الوجوه، لا بما يباينه ويخالفه ولو بأدنى شيء وأدقه وأخفاه.

ومثال الثاني: أن الإصبع تستعار في لسان العرب للنعمة؛ يقال: لفلان عند فلان إصبع؛ أي نعمة، ومعناها بالفارسية: (أنكُشْتَ) وما جرت عادة العجم بهذه الاستعارة، وتوسع العرب في التجوز والاستعارة أكثر من توسع العجم، بل لا نسبة لتوسع العرب إلى جمود العجم.

فإذا حسن إرادة المعنى المستعار له في العرب وسمج ذلك في العجم.. نفر القلب عما سمج، ومجه السمع ولم يمل إليه، فإذا تفاوتا.. لم يكن التفسير تبديلا بالمثل، بل بالخلاف، ولا يجوز التبديل إلا بالمثل.

ومثال الثالث: (لفظ العين) فإن من فسره إنما يفسره بأظهر معانيه، فيقول بالفارسية: ﭼشِم، وهو مشترك في لغة العرب بين العضو الباصر وعين الماء والذهب والشمس، وليس للفظ ﭼشِم هذا الاشتراك.

وكذلك لفظ الجنْب والوجه يقرب منه، ولأجل هذا ترى المنع من التبديل والاقتصار على العربية.

فإن قيل هذا التفاوت إن ادعيتموه في جميع الألفاظ.. فهو غير صحيح، إذ لا فرق بين قولك (خبز) و(نان)وبين قولك لحم و (كوشت) وإن اعترفت بأن ذلك في البعض.. فامنع من التبديل عند التفاوت، لا عند التماثل.

فالجواب: أن الحق أن هذا التفاوت في البعض لا في الكل، فلعل لفظ (اليد) ولفظ (دست) يتساويان في اللغتين في الاشتراك والاستعارة وسائر الأمور ولكن إذا انقسم إلى ما يجوز وإلى ما لا يجوز، وليس إدراك التمييز بينهما والوقوف على دقائق التفاوت جليا سهلا يسيرا على كافة الخلق، بل يكثر فيه الإشكال، ولا يتميز محل التفاوت عن محل التعادل، فنحن بين أن نحسم الباب احتياطا، إذ لا حاجة ولا ضرورة إلى التبديل، وبين أن نفتح الباب ونقحم عموم الخلق ورطة الخطر.

فليت شعري! أي الأمرين أحزم وأحوط والمتصرف فيه ذات الإله وصفاته؟!

وما عندي أن عاقلا متدينا لا يقر بأن هذا الأمر مخطر، وأن الخطر في الصفات الإلهية يجب اجتنابه.

كيف وقد أوجب الشرع على الموطوءة العدة لبراءة الرحم، والحذر من خلط الأنساب، احتياطا لحكم الولاية والوراثة وما يترتب على النسب؛ فقالوا مع ذلك: تجب العدة على العقيم والآيسة والصغيرة وعند العزل، لأن باطن الأرحام إنما يطلع عليها علام الغيوب، فإنه يعلم ما في الأرحام، فلو فتحنا باب النظر إلى التفصيل، كنا راكبين متن الخطر، فإيجاب العدة حيث لا علوق أهون من ركوب هذا الخطر.

فكما أن إيجاب العدة حكم شرعي، فتحريم تبديل العربية حكم شرعي، ثبت بالاجتهاد وترجيح طريق الأولى، ونعلم أن هذا الاحتياط في الخبر عن الله صفاته وعما أراده بألفاظ القرآن أهم وأولى من الاحتياط في العدة ومن كل ما احتاط الفقهاء فيه من هذا القبيل»([82]).

2- عدم التصريف:

ومعنى ذلك أن أهل السنة والجماعة منعوا إذا جاء نص في باب ذات الله تعالى وصفاته أن يتعامل معه على جهة التصريف على ما هو معلوم في علم الصرف، من اشتقاق اسم الفاعل وغيره، وذلك لأن تصريفات الكلمة تزيد في المعنى الذي دلت عليه الكلمة الأصلية، وهذه الزيادة مظنونة، والظنيات لا محل لها في باب العقائد.

يقول الإمام الغزالي: «التصرف الثالث الذي يجب الإمساك عنه: التصريف:

ومعناه: أنه إذا ورد قوله تعالى (استوى) فلا ينبغي أن يقال: مستو ويستوي؛ لأن المعنى يجوز أن يختلف لأن دلالة قوله (هو مستو على العرش) على الاستقرار أظهر من قوله (رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ)، وكقوله (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ)، فإن هذا يدل على استواء قد انقضى من إقبال على خلقه، أو على تدبير المملكة بواسطته، ففي تغيير التصاريف ما يؤثر في تغيير الدلالات والاحتمالات، فليجتنب التصريف كما يجتنب الزيادة، فإن تحت التصريف نقصانا أو زيادة»([83]).

وقال الإمام الرازي: «يجب الاحتراز عن التصريف، فإذا ورد قولنا: (استوى) فلا ينبغي أن نقول: إنه مستو؛ لما ثبت في علم البيان أن اسم الفاعل يدل على كون المشتق منه متمكنا ثابتا مستقرا، أما لفظ الفعل فدلالته على هذا المعنى ضعيفة، والذي يؤكده أنه ورد في القرآن أنه تعالى علم العباد فقال: (ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ )، (وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُ ) وعلمناه من لدنا علما(وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا) ثم أجمعنا على أنه لا يجوز أن يقال لله تعالى: يا معلم، فكذا ههنا»([84]).

  • عدم الجمع بين المتفرقات.

وذلك كما يفعل المجسمة فيأتون بالكلمات المفردة مما جاءت النصوص التي ورد فيها المتشابه على حدة، وهذا ما نجم إلا عن جهل بالعربية، فإن الكلمة تفيد مع كلمة ما معنى، لا تفيده إذا ضمت إلى أخرى، وهذا الفعل حدا بالبعض إلى أن قال: أثبت لكم كل شيء إلا الفرج واللحية.

يقول الإمام الغزالي: ولقد بعد التوفيق مَن صنَّف كتابًا في جمع هذه الأخبار خاصة، ورسم في كل عضو بابا فقال: باب في إثبات الرأس، وباب في إثبات اليد، وباب في إثبات العين… إلى غير ذلك، فإن هذه كلمات مفرقة صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات متفرقة متباعدة، اعتمادا على قرائن مختلفة يفهم السامعون معها معاني صحيحة.

فإذا ذكرت مجموعة على مثال خلق الإنسان.. صار جمع تلك المتفرقات في السمع دفعة واحدة قرينة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه، وصار الإشكال في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نطق بما يوهم خلاف الحق، أعظم في النفس وأوقع.

بل الكلمة الواحدة الفردة يتطرق إليها الاحتمال، فإذا انضم إليها ثانية وثالثة ورابعة من جنسها وصار متواليا.. ضعف الاحتمال بالإضافة إلى الجملة.

ولذلك يحصل من الظن بقول مخبرين وثلاثة ما لا يحصل بقول الواحد، بل يحصل من العلم القطعي بخبر التواتر ما لا يحصل بالآحاد، ويحصل من العلم القطعي باجتماع القرائن ما لا يحصل بالآحاد، وكل ذلك نتيجة الاجتماع؛ إذ يتطرق الاحتمال إلى قول كل عدل وإلى كل واحدة من القرائن؛ فإذا اجتمع انقطع الاحتمال أو ضعف، فلذلك لا يجوز جمع المتفرقات»([85]).

وقال الإمام الرازي: «أنه لا يجوز جمع الألفاظ المتشابهة، وذلك لأن التلفظ باللفظة الواحدة أو باللفظتين قد يحمل على التكلم بالمجاز، فأما التكثير منها فقد يبعد حمله على التكلم بالمجاز، لأن الاستقراء دل على أن الغالب على الكلام التكلم بالحقيقة، فإذا جمعنا الألفاظ المتشابهة ورويناها دفعة واحدة أوهمت كثرتها أن المراد منها ظواهرها، فكان ذلك الجمع سببا لإيهام زيادة الباطل، وأنه لا يجوز، والله أعلم»([86]).

وهذا هو الذي شنعه ابن الجوزي رحمه الله على مجسمة الحنابلة بقوله: «اعلم وفقك الله تعالى أني لما تتبعت مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى رأيته رجلا كبير القدر في العلوم قد بالغ رحمة الله عليه في النظر في علوم الفقه ومذاهب القدماء حتى لا تأتي مسألة إلا وله فيها نص أو تنبيه إلا أنه على طريق السلف فلم يصنف إلا المنقول فرأيت مذهبه خاليا من التصانيف التي كثر جنسها عند الخصوم فصنفت تفاسير مطولة منها المغني مجلدات وزاد المسير وتذكرة الأريب وغير ذلك وفي الحديث كتب منها جامع المسانيد والحدائق ونفي النقل وكتب كثيرة في الجرح والتعديل وما رأيت لهم تعليقة في الخلاف إلا أن القاضي أبا يعلى قال كنت أقول ما لأهل المذاهب يذكرون الخلاف مع خصومهم ولا يذكرون أحمد ثم عذرتهم إذ ليس لنا تعليقة في الفقه قال فصنفت لهم تعليقة قلت وتعليقته لم يحقق فيها بيان الصحة والطعن في المردود وذكر فيها أقيسة طردية ورأيت من يلقي الدرس من أصحابنا من يفزع إلى تعليقة الاصطلام أو تعليقة أسعد أو تعليقة العاملي أو تعليقة الشريفة ويستعير منها استعارات فصنفت لهم تعاليق منها كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف ومنها جنة النظر وجنة الفطر ومنها عمدة الدلائل في مشهور المسائل ثم رأيت جمع أحاديث التعليق التي يحتج بها أهل المذاهب وبينت تصحيح الصحيح وطعن المطعون فيه وعملت كتابا في المذاهب أدخلتها فيه وسميته الباز الأشهب المنقض على مخالفي المذهب وصنفت في الفروع كتاب المذهب في المذهب وكتاب مسبوك الذهب وكتاب البلغة وكتاب منهاج الوصول إلى علم الأصول وقد بلغت مصنفاتي مائتين وخمسين مصنفًا.

ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف ثلاثة أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات وعينين وفما ولهوات وأضراسا وأضواء لوجهه هي السبحات ويدين وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس وقالوا يجوز أن يمس ويمس ويدني العبد من ذاته وقال بعضهم ويتنفس ثم يرضون العوام بقولهم لا كما يعقل وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة ومجيء وإتيان على معنى بر ولطف وساق على شدة بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون نحن أهل السنة وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام»([87]).

  • عدم التفريق بين المجتمعات:

يقول الإمام الغزالي: «فكما لا يجمع بين متفرقه.. لا يفرق بين مجتمعه؛ فإن كل كلمة سابقة على كلمة أو لاحقة له مؤثرة في تفهيم معناه ومرجحة الاحتمال الضعيف فيه، فإذا فرقت وفصلت، سقطت دلالتها.

مثاله: قوله تعالى (وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦ ) لا يسلط على أن يقول القائل (هو فوق) مطلقا؛ لأنه إذا ذكر (القاهر) قبله.. ظهرت دلالة الفوق على الفوقية التي للقاهر مع المقهور وهي فوقية الرتبة، ولفظ القاهر يدل عليه.

بل لا يجوز أن يقول: (وهو القاهر فوق غيره) بل ينبغي أن يقول: (فوق عباده) لأن ذكر العبودية في وصف من الله تعالى فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة؛ إذ يحسن أن تقول: السيد فوق عبده، وإن كان لا يحسن أن تقول: زيد فوق عمرو. قبل أن تبين تفاوتهما فيم معنى السيادة والعبودية أو غلبة القهر، أو نفوذ الأمر بالسلطنة أو بالأبوة أو بالزوجية»([88]).

وقال الرازي: « كما لا يجوز الجمع بين متفرقه فكذلك لا يجوز الفرق بين مجتمعه، فقوله تعالى (وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦ) لا يدل على جواز أن يقال إنه تعالى فوق مطلقا؛ لأنه تعالى لما ذكر القاهر قبله ظهر أن المراد بهذه الفوقية الفوقية بمعنى القهر، لا بمعنى الجهة، بل لا يجوز أن يقال: وهو القاهر فوق غيره، بل ينبغي أن يقال: فوق عباده؛ لأن ذكر العبودية عند وصف الله تعالى بالفوقية يدل على أن المراد من تلك الفوقية فوقية السيادة والإلهية.

واعلم أن الله تعالى لم يذكر لفظة من المتشابهات إلا وقرن بها قرينة تدل على زوال الوهم والباطل.

مثاله: أنه تعالى لما قال (۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ) ذكره بعده (مَثَلُ نُورِهِۦ) فأضاف النور إلى نفسه، ولو كان هو تعالى نفس النور لما أضافه إلى نفسه لأن إضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة.

ولما قال تعالى: الرحمن على العرش استوى، ذكره قبله تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى، وبعده قوله (لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ) وقد ذكرنا أن هاتين الآيتين تدلان على أن كل ما كان مختصا بجهة فوق فإنه مخلوق محدث.

فثبت بما ذكرنا أن الطريق في هذه المتشابهات الجمود على تلك الألفاظ وعدم التصرف فيها بوجه من الوجوه والله أعلم»([89]).

  • عدم قياس الغائب على الشاهد

من أساس منهج أهل السنة والجماعة عدم الاستناد إلى المحسوس في علم العقيدة، وذلك لأن القياس مظنون في نتيجته، وكما قلنا قبلا الظن لا محل له في باب العقائد، وهذا المعلم الهام هو الذي فرق بين أهل السنة وبين المجسمة على مدى العصور، فأهل السنة علموا أن الله سبحانه وتعالى (لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞ ) قال الطبري: «المعنى: ليس كشيء، وليس مثله شيء، لأنه لا مثْلَ له»([90])، ولذا فقد قال العلماء أنه ينبغي لمن أراد أن يدخل في علم الإلهيات أن يستحدث لنفسه فطرة جديدة، بمعنى أنه لا مجال للقياس، والعجز عن الإدراك إدراك، وهذا ليس منهج أهل السنة والجماعة فقط بل هو منهج العقلاء العارفين ما يليق بمقام الألوهية!

قال الفخر الرازي- وهو يشيد أساس التقديس: «ونختم هذا الباب: بما روي عن أرسطوطاليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات: من أراد أن يشرع في الإلهيات؛ فليستحدث لنفسه فطرة أخرى، فالإنسان -كما يتابع- إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية، وتأمل في صفاتها فذلك له قانون.

وإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث له فطرة أخرى وعقلا آخر، بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات»([91]).

ومن هنا فقد استندت قضية التنزيه عند الأشاعرة على بحوث ضافية متأنية في نظرية المعرفة، جاسوا فيها خلال النفس البشرية، وخلال قواها الإدراكية المختلفة، ووضعوا أيديهم على ما يمكننا تسميته بـ (الصعوبات النفسية) التي قد تعكر صفو التنزيه، وتحول دون نقائه.

فإمام الحرمين مثلًا يقول في النظامية عن المشبهة: «إنهم يطلبون ربهم في المحسوسات، وما يتشكل في الأوهام، ويتقدر في مجاري الوساوس وخواطر الهواجس، وهذا حيد بالكلية عن صفات الإلهية. فأي فرق بين هؤلاء وبين من يعبد بعض الأجرام العلوية؛ إنه لو اجتمع الأولون والآخرون على أن يدركوا الروح -وهي خلق الله تعالى- بهذا المسلك؛ لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، فإنه معقول غير محسوس، وقد قال تعالى(وَيَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا) »([92]). ويقول إمام الحرمين أيضا في موضع آخر: «إن أحدا من البشر لو أراد أن يتصور الأرض برحابها برا وبحرا؛ لما تمثل منها إلا قدرا صغيرا ومبلغا يسيرا، وإن أحدا من الأحياء لو فكر في حياته، وأراد أن يمثلها في فكره، لتمثلت له الحياة شكلا متشكلا. وهكذا تزل الأوهام عن كثير من المخلوقات، فكيف السبيل إلى أن ندرك بها الرب تعالى الذي لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا؟! فمن صفة الإله تقدسه عن التصور، فكيف يستقيم على منهاج الحق من يطلب معرفة من لا يتصور بالتصور؟!»([93]).

ويقول الآمدي- متابعا نفس المعنى: «إنه جل وتعالى لا ينبغي أن يكون مقيسا بالأشباه والنظائر، وما جاء التشبيه إلا من جهة الوهم، بإعطاء الغائب حكم الشاهد، والحكم على غير المحسوس بما حكم به على المحسوس، فاللبيب إذن من ترك الوهم والخيال جانبا، ولم يتخذ غير البرهان والدليل صاحبا»([94])([95]).

ويقول الإمام الغزالي رحمه الله في إلجام العوام عن امتناع قياس الغائب على الشاهد في باب ذات الله وصفاته:

التصرف الرابع الذي يجب الإمساك عنه القياس والتفريغ مثل: أن يرد لفظ اليد فلا يجوز إثبات الساعد والعضد والكف مصيرا إلى أن هذا من لوازم اليد، وإذا ورد الأصبع لم يجز ذكر الأنملة كما لا يجوز ذكر اللحم والعظم والعصب، وإن كانت اليد المشهورة لا تنفكّ عنه وأبعد من هذه الزيادة إثبات الرجل عند ورود اليد، وإثبات الفم عند ورود العين أو عند ورود الضحك، وإثبات الأذن والعين عند ورود السمع والبصر، وكل ذلك محال وكذب وزيادة، وقد يتجاسر بعض الحمقى من المشبهة الحشوية فلذلك ذكرناه([96]).

بقي أن نرد على ما ذكره الملاحدة من الشبه المتعلقة بهذه المسألة يقول الشيخ الدلجي: «الباب الرابع: فيما تمسكوا به من حججهم العقلية في نفي حقيقة المعرفة:

فمنها قولهم -وهو من معظم شببهم- إن عقولنا وأوهامنا أعراض حادثة متناهية، والقديم تعالى لا نهاية لذاته، ولا غاية لصفاته، والحادث كيف يبلغ إلى معرفة القديم، والمتناهي كيف ينتهي إلى ما لا نهاية له؟! وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ﴾[النجم:42] وان إلى ربك المنتهى. أخبر بأن منتهى الأشياء إليه، والعلوم من جملتها، وينشدون قول الشاعر:

أيحيط ما يفنى بما لا ينفد

ثم يقولون في تنجيح كلامهم: إنا لا نحيط علما بحقيقة جناح بعوضة، فلا ندري أهو من اللحم، أم من العظم، أم من الجلد، وهل فيه حس؟! وكيف قبضها وبسطها، ولونها ووزنها، وهي أقل خلق الله تعالى!

فإذا عجزنا عن معرفة حقيقة أقل الخلق، كان عجزنا عن معرفة حقيقة الخالق ومعرفة حقيقة جلاله وكمال عظمته أحق، وذلك العجز، هو عين المعرفة به تعالى.

والجواب عنه:

هو أن العلم لا يستتبع المعلوم، بل يتبع المعلوم ويتعلق على ما هو عليه به، بأن كان ذلك المعلوم ذا نهاية، عرفه بتناهيه، وإن كان مقدسا عن النهاية -كذات الله القديم تعالى- يعرفه بنفي تناهيه، ألا ترى أنه تعالى يعرف ذوي النهايات ولا نهاية لعلمه، فلذلك يجوز أن يعرفه العبد بلا نهاية، والعارف وعلمه متناهيان.

ثم المغالطة فيه هي: أنا إذا قلنا يعرفه بلا نهاية، يظن منه أنا ندعي أن علمنا الحادث أحاط بنهاية ما لا نهاية له! وهذا بين الاستحالة، ولذلك يشنعون علينا!

ولسنا ندعي الإحاطة به البتة، وإنما ندعي أنا نعرفه بعدم التناهي، وهذا كما نعلم قطعًا أن تضعيف الواحد اثنان، ثم تضعيف الاثنين أربعة، ثم تضعيف الأربعة ثمانية، هكذا إلى ما لا نهاية له، فنستيقن أن تضاعيف الأعداد لا نهاية لها في العقل، وهذه معرفة لنا بذلك حقيقة، ولكنا لا نحيط بتناهيها؛ لاستحالة نهايتها، ثم عجزنا عن تلك الإحاطة لا يخرجنا عن كوننا عالمين بها حقيقة، وهذا غاية البيان في حل هذا الإشكال فافهمه.

وأما فصل جناح البعوضة وعجزنا عن حقيقة معرفتنا به:

فاعلم أن من طلب معرفة الله سبحانه من طريق معرفة جناح البعوضة، فقد ضل ضلالا بعيدا، وذلك لأنها في نفسها تقبل إحاطة العلم بها، إلا أن الله تعالى لم يقدرنا على معرفة جميع صفاتها، كتقسيم تفاصيلها وجملها، والاطلاع على بواطنها ودقائق حقائقها، فالمستبد بعلم ذلك هو خالقها اللطيف الخبير.

وإنما يقدر على معرفة ما أقدرنا الله عليه، كمعرفة شكلها، وصورتها وخفتها وسرعة حركتها.

وطريق معرفة ما علمنا منه وما لم نعلمه هو من طلب الكيفية والكمية والماهية والإحاطة بذلك.

وطريق معرفة الله سبحانه خارج عن هذه الطرق كما بيناه من قبل.

وأما الآية فيجوز أن يكون معناها أن منتهى المعارف إليه، ولا تتجاوزه، إذ لا شيء فوقه في الرتبة فتسند الإلهية إليه.

ومنها قولهم: إن العلم بوجود الشيء مطلقا، غير، والعلم بحقيقته غير فإنا ربما نعلم مثلا وجود شخص من أولاد العباس، وهو اليوم خليفة بغداد، ونعلم أنه حي عالم قادر، إلى معظم الصفات ولكنا لا نعرف حقيقته، حتى لو مر بنا، لا نعرفه.

وأيضا: إنا نعلم وجود سمعنا وبصرنا وشمنا وذوقنا، ولا ندرك حقيقتها، وندرك وجود الآلام واللذات، والخجل والوجل، والغم والسرور، والحب والبغض، والسكر والصحو، والنوم واليقظة، والحسد والشهوة إلى غير ذلك من صفات الباطن ولا ندرك حقائقها البتة.

الجواب عنه:

أما فصل الخليفة: فاعلم أن معرفة الخليفة وغيره من المخلوقين تخالف معرفة الله سبحانه من وجوه كثيرة؛ لأن الخليفة شخص له أجناس، ولجنسه أنواع، ولنوعه أشخاص، فيسأل حينئذ عن ماهيته؟ فيقال آدمي، ويسأل عن أي قبيلة؟ فيقال من قريش من أولاد العباس، ويسأل عن كيفيته فيقال طويل أو قصير، سمين أو هزيل، أشقر أو أسمر أو أبيض، إلى غير ذلك من الحلى والصفات التي يتميز بها عن أشباهه، فإنه تارة يشتبه بأجناسه، وتارة بأنواعه، وتارة بإخوته وبني عمه الذين لا يمتاز عنهم إلا بدقائق الحلى وخصائص الصفات، فمعرفته من هذه الوجوه وغيرها تفارق معرفة الله سبحانه لأن الله تعالى بذاته وصفاته مباين من جميع مخلوقاته، فإذا نفيت عنه خصائص المخلوقات وأثبت له صفات الإلهية، فقد عرفته حق معرفته.

ثم إن الخليفة لو وصف شخصه لإنسان بجميع صفاته وحلاه الجليلة منها والدقيقة بحيث لا يهمل منها شيء، لأمكن لذلك الإنسان أن يحضر صورته في خياله، فإذا رآه، لا شك يعرفه، كما نقرأ في الأخبار أن جماعة من اليهود والنصارى وجدوا صفات النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم عرفوه، فبعضهم آمنوا، وبعضهم كفروا حسدا من عند أنفسهم كما قال تعالى ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦ﴾ [البقرة:89] فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.

وكذلك لما بعث صلى الله عليه وسلم سمع طائفة في نواحي العرب بمجيئه عليه السلام، واستوصفوه من الذين أبصروه، فوصفوه لهم، فلما جاؤوا إليه وجدوه بين الأصحاب عرفوه في الحال.

كما ورد في الأخبار: أن فلانا لما وقع بصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أشهد أنك رسول الله.

وأن فلانا قال: ليس هذا بوجه كذاب، إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا الباب.

وأما قولهم: إنا لا ندرك حقيقة السمع والبصر، والراحة والألم، والخجل والوجل، وغير ذلك من معاني الباطن:

فاعلم أن هذا القائل إنما وقع إشكاله من حيث إنه اعتقد أن ما لا يصوره الخيال ولا يقدره الفكر، لا تعلم حقيقته، فلما تفكر في معرفة الألم واللذة مثلا، عجز عن أن يدرك صورتهما في خياله، أو يعرف مقدار كميتها في فكره، ظن أنه لا يعرف حقيقتهما!

وهذه مغالطة عظيمة، وأكثر من اعتقد أن الله تعالى لا يعرف حقيقة، إنما وقعت شبهتهم من هذا الوجه.

وبيان ذلك والكشف عنه هو:

أن التصوير والتقدير إنما يكون للأجسام فحسب، وهذه الإدراكات الباطنة من الخجل والوجل واللذة والألم والسرور والغم وغيرها، لا صورة لها فيصورها الخيال، لأنها معان وأعراض، وإنما يدرك وجودها والتمييز بين أغيارها وأضدادها، بالضرورة، وتدرك حقائقها بالعقل، إذ قد استخرج لكل معنى منها حد وحقيقة في كتب الحدود، ثم لو خلق لنا إدراكها؛ لأدركناها بالبصر، لكونها موجودة، وذلك الإدراك أيضا لا يقتضي صورها، بل إدراك لها على ما هي عليه من غير تصوير وتشكيك.

ومنها قولهم: إن الله تعالى إنما طلب منا الإيمان المطلق، ولم يكلفنا الاطلاع على حقيقة المعرفة فقال جل جلاله ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُ﴾[النساء:136] .

وقال تعالى ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ﴾ [البقرة:285].

فلما صح إيماننا بوجود الملائكة على الإطلاق دون الاطلاع على طبقاتهم وأعدادهم وهيئاتهم، وصح إيماننا بالكتب المنزلة دون المعرفة بجميع آياتها وألفاظها ومعانيها حرفا حرفا، وصح إيماننا بالرسل مطلقا دون معرفة أعدادهم وهيئاتهم وحقائقهم في أنفسهم وكيفية معجزاتهم، كذلك يصح إيماننا بالله تعالى إذا قطعنا بوجوده ووجود صفاته المنزهة عن صفات الخلق، دون الاطلاع على حقائقها والإحاطة بها.

الجواب عنهم قريب من الأجوبة المتقدمة، والنكتة فيه هي:

أن معرفة الله تعالى بخلاف معرفة الملائكة والرسل والكتب المنزلة، لأن تلك المعارف خبرية؛ فإنا لم نشاهد تكليم الله جبريل وموسى عليهما السلام.

وإنما بلغنا ذلك الخبر، وعلمنا أن القرآن الذي نقرأه في المصاحف هو كلام الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بطريق التواتر، وكذلك لم نشاهد الملائكة والرسل عيانا، ولا وجدنا إلى معرفتهم من الدلائل العقلية سبيلا، فوجب لذلك علينا الإيمان بهم عن ظهر الغيب كما جاء.

فأما معرفة الله تعالى، فبخلاف ذلك؛ إذ لا تصح من طريق الخبر؛ لأن تلك الأشياء إنما تثبت بأخباره تعالى، فإذا كان أيضا وجوده ثابتا بالخبر، انحل رباط المعارف كلها، وبطل التوحيد وتحتم التقليد، وعبد كل أحد ما يريد.

فإذا صح أن معرفة الله سبحانه وتعالى خارجة من طريق معرفة الملائكة والرسل والكتب المنزلة إذ طريقها عقلي نظري، وطريق تلك الأشياء نقلي خبري فإذا لم يعرفه العبد بحقائق صفاته الواجبة عقلا، كان متبلدا في المعرفة حيرة وجهلا!

ومنها دعوى بعضهم أنه لا يجوز لأحد أن يقول إن الله تعالى يعرف بالكمال؛ لأن الكمال في مقابلته النقصان، فمن استحال نقصه استحال كماله، ولم يكن الله ناقصا فكمل.

الجواب:

يقال لهم: إنما يستحيل على الله تعالى ما يناقض صفات الإلهية، كالنقص والجهل والعجز والصغر، وأما الكمال: فهو ما توجبه الإلهية ولا تضاده؛ كالجلال والعظمة والجمال والكبرياء والعزة والجبروت وغير ذلك، فيجب أن يوصف به الله تعالى كما يوصف بهذه الصفات وإن كانت لها أضداد تنافي الإلهية.

فهذه معظم ما تمسكوا به نفاة المعرفة على الحقيقة من دعاويهم وشبههم»([97]).

«ونختم الباب بسؤال لهم عظيم، وهو أصعب ما يوردونه وذلك قولهم:

إن لكلٍّ حقيقة كما جاء في الحديث وأنتم تزعمون أنا عرفنا الإله سبحانه حق معرفته، فأخبرونا ما حقيقة الإله إن عرفتموه بالحقيقة كما زعمتم؟

والجواب عنه: ما ذكره الشيخ الإمام أبو القاسم الأنصاري في كتابه المعروف بالغرر والدرر فقال رضي الله عنه:

إن عنيتم بالحقيقة الثبوت والوجود، فهو سبحانه موجود أزلي مقدس عن الأقدار والكيفيات الآيلة إلى التخصيص بالأقدار والنهايات، متعال عما لأجله افتقر إليه الحوادث، له الصفات العلى والأسماء الحسنى، التي هي مدلولات الأفعال ونعوت الجلال ﴿وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[الروم:27].

وإن عنيتم بالحقيقة البحث عن النوع والجنس فلا هو نوع لجنس ولا جنس لنوع، لا يناسب الخليقة ولا يناسبه الخليقة، ولا يتاخم موجودًا ولا يتاخمه موجود.

وإن عنيتم بالحقيقة ما يتعين به المحقق فيتعين ذاته وصفاته لعقول الطالبين.

ثم لا معنى للحقيقة سوى الوجود، وليس يصح قول من قال أعرف الوجود دون الحقيقة، فالحقيقة إنما هو المحقق، والوجود المعين هو الحقيقة والمحقق، فإن الوجود المطلق يشتمل الموجودات في ظن مثبتي الأحوال، والحقيقة تختص بالمحقق.

فإن قالوا: إنا نبحث عن الخاصية التي تميز ذاته تعالى عن غيرها؟

قلنا: قال بعض العقلاء: الذوات تتميز عن الإله، والإله يتعالى عن الاتصاف بالتميز عن غيره، لاستحالة التناهي عليه، وإنما تتميز الذات عن الذات، بالأقدار والأبعاد والنهايات وانحياز البعض عن البعض، وهذا لا بأس به.

ولو قال قائل: ذاته سبحانه تتميز للعقول دون الأوهام، لم يكن مبعدا.

وقد أثبت الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني لله سبحانه كونا يوجب له التقدس عن الأحياز.

وأشار بعض الناس إلى إثبات بينونة قديمة.

وقال القاضي رحمه الله تعالى: لله أخص وصف هو من الصفات النفسية النازلة منزلة الأحوال للمحدثين، يدرك الوجود عليها، وهل يعلم عند إدراك الوجود؟ له تردد فيه.

وقال ضرار من المعتزلة: لله تعالى ماهية تدرك بحاسة سادسة.

هذه مقامات الطالبين ومواقف السالكين طريق الحق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وجاء في وصف علي رضي الله عنه: أنه الممسوس في ذات الله.

وكان الخليل صلوات الله عليه في مقام الطلب، فكان ينظر في الأجرام العلوية ويرجح بعضها على بعض من الأفول والزوال، وكان يقول في أثناء الطلب ﴿لَئِن لَّمۡ يَهۡدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّآلِّينَ﴾ [الأنعام:77].

وهذا إنما قال بعدما حسم عروق الطمع، وعلم أن الصمدية تمتنع عن جولان الفكر وتتقدس عن تصرف الوهم، وتيقن أنه إن كان للعقل وصول؛ فليس إلا بتوفيق الله تعالى وتأييده، الذي هو واهب العقل، فقال ﴿إِنِّي وَجَّهۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ حَنِيفٗا﴾ [الأنعام:79] وعلم أن قصارى نظر الناظرين وطلب الطالبين الوقوف على احتياج المخلوقات وافتقارها إلى الله، وهو سبحانه ظاهر بآياته، متجل للعقول ببراهينه وبيناته، باطن بحقيقة صفاته وذاته»([98]).

الشبهة الثالثة: القول بأن التواتر لا يفيد علما

تأتي هذه الشبهة التي يثيرها الملاحدة تجاه الدين الإسلاميِّ بالخصوص، لأن التواتر أساس في الاحتجاج بمعجزة القرآن ونبوة الرسول، وأخباره، وتشريعاته.

أولا: معنى التواتر لغة واصطلاحا:

التواتر لغةً: هو التتابع، وفي الحديث: «فلم يزل على وتيرة واحدة حتى مات» أي على طريقة واحدة مطردة يدوم عليها. وقال أبو عبيدة: «الوتيرة»: المداومة على الشَّيء، وهو مأخوذ من التواتر والتتابع. أو الوتيرة من الأرض: طريق تلاصق الجبل وتطرد. قيل: الوتيرة: الفترة في الأمر([99]).

وقال الفيوميُّ: والوتيرة الطَّريقة، وهو على وتيرة واحدة، وليس في عمله وتيرة أي فترة. قال الأزهري: الوتيرة المداومة على الشيء والملازمة، وهي مأخوذة من التَّواتر وهو التتابع، يقال تواترت الخيل إذا جاءت يتبع بعضها بعضًا، ومنه: جاءوا تترى أي متتابعين وترًا بعد وترٍ([100]).

قال المناوي: سمي متواترا لما أنه لا يقع دفعة وإنما الذي يقع دفعة العلم الحاصل عنه. وقيل: لتواتر رجاله حيث جاءوا واحدا بعد آخر بفترة. قال التفتازاني: سمي به لأنه لا يقع دفعة بل على التعاقب والتوالي([101]).

وأمَّا في الاصطلاح فلأجل كونِ التَّواتر من الأمور الأساسية الَّتي يبنى عليها النموذج المعرفي بصفة عامة في الإسلام، فنجده محطَّ البحث في العلوم الأصوليَّة سواءٌ في علم المنطق أو في تلك العلوم التي هي أصل لعلم الفقه، أو الحديث، أو اللُّغة حتَّى، نعني علم أصول الفقه، وعلم المصطلح، وعلم أصول اللغة.

ففي علم المنطق يقول الشيخ البنانيُّ في شرحه على السُّلم المنورق:

«المتواترات: وهي قضايا يحكم العقل بها بواسطة كثرة شهادة المخبر بأمر ممكن مستند إلى المشاهدة كثرة تمنع تواطؤهم على الكذب، فينضم إلى العقل سماع الأخبار وإلى القضية قياس خفي وهو أنه لو لم يكن هذا الحكم حقا لما أخبر به هذا الجمع، فعلم أنه لا يعتبر التواتر فيما لا يستند إلى المشاهدة، وأما العدد الذي لا يحصل التواتر بأقل منه فالضابط فيه حصول اليقين بالحكم وزوال الاحتمال، وما ذهب إليه بعضهم من شرط الخمسة أو الاثني عشر، أو العشرين، أو الأربعين، أو السبعين فلا دليل عليه كما قال السعد، للقطع بحصول العلم من غير تقييد بعدد مخصوص، وذلك يختلف باختلاف الوقائع والمخبرين والمستمعين»([102]).

وهذا شرح لكلمة (متواترات) في قول صاحب منظومة السلم المنورق الأخضريُّ:

وحجَّة نقلية عقلية

أقسام هذه خمسة جليَّة

خطابة شعر وبرهان جدل

وخامس سفسطة نلت الأمل

أجلها البرهان ما ألف من

مقدمات باليقين تقترن

من أوليات مشاهدات

مجربات متواترت

وحدسيات ومحسوسات

فتلك جملة اليقينيات

ويقول السخاويُّ في شرح ألفية الحديث إن المتواتر: «اصطلاحا:

هو ما يكون (مستقرًّا في) جميع (طبقاته) أنه من الابتداء إلى الانتهاء ورد عن جماعة غير محصورين في عدد معين، ولا صفة مخصوصة، بل بحيث يرتقون إلى حدٍّ تحيل العادةُ معه تواطؤهم على الكذب، أو وقوع الغلط منهم اتفاقا من غير قصد.

وبالنظر لهذا خاصة يكون العدد في طبقة كثيرًا، وفي أخرى قليلًا؛ إذ الصِّفات العليَّة في الرواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه. هذا كله مع كون مستند انتهائه الحس من مشاهدة أو سماع؛ لأنَّ ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه، ونحوه»([103]).

ويقول ابن حجر العسقلاني في متنه نخبة الفكر:

«الخبر إمَّا أن يكون له طرقٌ بلا عدد معين، أو مع حصر بما فوق الاثنين، أو بهما، أو بواحد، فالأوَّل المتواتر المفيد للعلم اليقيني بشروطه، والثاني المشهور وهو المستفيض على رأي، والثالث العزيز، وليس شرطا للصحيح خلافا لمن زعمه، والرابع الغريب، وكلها سوى الأول آحاد»([104]).

وقال المحليُّ في شرح الورقات:

«المتواترُ ما يوجب العلمَ، وهو أن يروي جماعةٌ لا يقعُ التَّواطؤُ على الكذب عن مثلهم، وهكذا إلى أن ينتهيَ إلى المخبر عنه فيكون في الأصل عن مشاهدة أو سماع لا عن اجتهاد، كالإخبار عن مشاهدة مكة أو سماع خبر الله تعالى من النبي صلى الله عليه وسلم؛ بخلاف الإخبار عن مجتهد فيه كإخبار الفلاسفة بقدم العالم»([105]).

وأما أصول اللغة فقال الإمام السيوطي في المزهر نقلا عن أبو البركات بن محمد الأنباري صاحب لمع الأدلة في أصول النحو:

«اعلم أن النَّقل ينقسم إلى قسمين: تواتر وآحاد، فأما التواتر فلغة القرآن وما تواتر من السنة وكلام العرب وهذا القسم دليل قطعي من أدلة النحو يفيد العلم.

واختلف العلماء في ذلك العلم فذهب الأكثرون إلى أنه ضروري واستدلوا على ذلك بأن العلم الضروري هو الذي بينه وبين مدلوله ارتباط معقول كالعلم الحاصل من الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس وهذا موجود في خبر التواتر فكان ضروريا.

وذهب آخرون إلى أنه نظري واستدلوا على ذلك بأن بينه وبين النظر ارتباطا لأنه يشترط في حصوله نقل جماعة يستحيل عليهم الاتفاق على الكذب دون غيرهم فلما اتفقوا علم أنه صدق.

وزعمت طائفة قليلة أنه لا يفضي إلى علم البتة وتمسكت بشبهة ضعيفة وهي أن العلم لا يحصل بنقل كل واحد منهم فكذلك بنقل جماعتهم وهذه شبهة ظاهرة الفساد فإنه يثبت للجماعة ما لا يثبت للواحد فإن الواحد لو رام حمَل حِمل ثقيل لم يمكنه ذلك ولو اجتمع على حمله جماعة لأمكن ذلك فكذلك هاهنا.

وأما الآحاد فما تفرد بنقله بعض أهل اللغة ولم يوجد فيه شرط التواتر وهو دليل مأخوذ به واختلفوا في إفادته:

فذهب الأكثرون إلى أنه يفيد الظن وزعم بعضهم أنه يفيد العلم وليس بصحيح لتطرق الاحتمال فيه.

وزعم بعضهم أنه إن اتصلت به القرائن أفاد العلم ضرورة كخبر التواتر لوجود القرائن.

ثم قال: واعلم أن أكثر العلماء ذهبوا إلى أن شرط التواتر أن يبلغ عدد النقلة إلى حد لا يجوز على مثلهم الاتفاق على الكذب كنقلة لغة القرآن وما تواتر من السنة وكلام العرب فإنهم انتهوا إلى حد يستحيل على مثلهم الاتفاق على الكذب.

وذهب قوم إلى أن شرطه أن يبلغوا سبعين.

وذهب آخرون إلى أن شرطه أن يبلغوا أربعين.

وذهب آخرون إلى أن شرطه أن يبلغوا اثني عشر.

وذهب آخرون إلى أن شرطه أن يبلغوا خمسة.

والصحيح هو الأول.

وأمَّا تعيينُ تلك الأعداد فإنَّما اعتمدوا فيها على قصص ليس بينها وبين حصول العلم بأخبار التواتر مناسبة، وإنما اتفق وجودها مع هذه الأعداد فلا يكون فيها حجة»([106]).

إذن فمسألة التواتر من أعمدة العلوم سواء تلك النقلية المحضة، أم التي ازدوج فيها العقل والنقل، لكن وكما تقدم هناك من أنكر إفادة التواتر للعلم، ومعنى العلم هنا هو العلم القطعي.

لو أن زيدا جاءه عمرو وقال له إن أحدا من الناس(س) حصل له شيء ما هو (ص)، كأن يكون (س) فريق كرة قدم، و(ص) هو فوزه أو خسارته في إحدى المباريات مثلا، هذا الإخبار وهذه النسبة بين (س) و(ص) لن يصدق بحصولها زيد التصديق اليقيني القطعي بمجرد إخبار عمرو فقط، وذلك لأنه من الممكن أن يكون (عمرو) يخدع زيدا، يمازحه، حدثت له غفلة فنقل الخبر بصورة ناقصة، كأن نام مثلا أو انصرف قبل انتهاء المباراة، أو حصل له وهم … إلخ من الأمور المتصور حدوثها تجعل عمرًا غير ناقل للخبر بصورة صحيحة مطابقة للواقع، لكن وفور انتهاء عمرو من إخبار زيد بالخبر، جاء بكر وأخبر زيدا بمثل ما أخبر به عمرو، ثم جاء خالد، وهكذا.

هل من المتوقع ألا يصدق زيد هذا الجمع من الناس في إخبارهم بالخبر (حصول: ص) لـ (س) إذا وصلوا مثلا لعشرة أو عشرين أو مائة، أو مشى فتصادف أن وسائل الإعلام الرسمية تحدث بنفس الأمر الذي أخبر به عمرو ورفاقه؟!

بالتأكيد إذا لم يؤمن ويصدق زيد بهذا الخبر -مع وضعنا في الاعتبار أن كل هؤلاء الناقلين صادقون أمناء- فهو خارج عن سياق مجتمعه، وفي عقله شيء!

فهناك لقطتان، اللقطة الأولى قبل اعتقاد زيد، والثانية عند اعتقاده بالخبر، فقبل اعتقاد زيد بالخبر بعد مجيء عمرو، وتلك مرحلة التشكك، يسمى الخبر بالنسبة لزيد (خبر آحاد) وعند وصول زيد لمرحلة التصديق اليقيني بالخبر يسمى الخبر بالنسبة لزيد (متواترا).

فخبر الآحاد لا يولد للإنسان يقينا بنفسه، بخلاف خبر التواتر يولد اليقين بسبب استحالة اجتماع كل هؤلاء المخبرين بالأخبار على الكذب.

وهذا المثال يأخذنا إلى أمرين بعد تصورنا لحقيقة التواتر:

أولا: عدد التواتر.

ثانيا: ما هي شبه المنكرين -وهو لب الموضوع- لإفادة التواتر لليقين.

وقبل الولوج في ذلك نتطرق للكلام على خبر الآحاد وكيف تعامل معه المسلمون بما يبين لنا أن الأمر ليس اعتباطيا بل هو أمر علمي وفق منهج محكم ومتين.

أهل السنة والجماعة في البحث الكلامي عدم الاستناد إلى غير المتواتر من الآحاد، وذلك لأن علم الكلام عند أهل السنة هو العلم الذي موضوعه بالأصالة ذات الله سبحانه وتعالى، وبالتالي لا يمكن أبدا أن ينسب المسلم لربه صفة بظنٍّ ولو كان راجحًا، بل لا بد من العلم القطعي.

وهو وإن كان تابعا لبحث قطعيات العقل، إلا أنه لكونه معلما مميزا في البحث العقلي عند المتكلمين أفردناه.

وقد استثني من تلك الآحاد ما كان مدلوله ثابتا بقطعي العقل ودليله أو بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فعندئذ لم يعمل بهذا الآحاد مباشرة وإنما عمل إما بواسطة النص القطعي الثبوت والدلالة معا، أو بقطعي العقل.

يقول الإمام الرازي في أساس التقديس: «أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى فهو غير جائز يدل عليه بوجوه:

الأول: أن أخبار الآحاد مظنونة، فلم يجز التمسك بها في معرفة ذات الله تعالى وصفاته.

إنما قلنا إنها مظنونة وذلك لأنا أجمعنا على أن الرواة ليسوا معصومين، وكيف والروافض لما أثبتوا عصمة علي رضي الله عنه وحده فهؤلاء المحدثون كفروهم، فإذا كان القول بعصمة علي رضي الله عنه أوجب عليهم تكفير القائلين بعصمة علي.. فكيف يمكنهم إثبات عصمة هؤلاء الرواة؟! وإذا لم يكونوا معصومين كان الخطأ عليهم جائزا، والكذب عليهم جائزا، فحينئذ لا يكون صدقهم معلوما بل مظنونا، فثبت أن خبر الواحد مظنون، فوجب ألا يجوز التمسك به؛ لقوله تعالى (وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡ‍ٔٗا) ولقوله تعالى في صفة الكفار (وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ) ولقوله (وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌ) ولقوله (وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) ترك العمل بهذه العمومات في فروع الشريعة لأن المطلوب فيها الظن، فوجب أن يبقى في مسائل الأصول على هذا الأصل.

والعجب من الحشوية أنهم يقولون: الاشتغال بتأويل الآيات المتشابهة غير جائز، لأن تعيين ذلك التأويل مظنون، والقول في القرآن بالظن لا يجوز، ثم إنهم يتكلمون في ذات الله تعالى وصفاته بأخبار الآحاد مع أنها في غاية البعد من القطع واليقين! فإذا لم يجوزوا تفسير ألفاظ القرآن بالطريق المظنون، فبأن يمتنعوا عن الكلام في ذات الحق تعالى وفي صفاته بمجرد الروايات الضعيفة أولى.

الثاني: أن أجل طبقات الرواة قدرا وأعلاهم منصبا الصحابة، ثم إنا نعلم أن روايتهم لا تفيد القطع واليقين، والدليل عليه: أن هؤلاء المحدثين رووا عنهم أن كل واحد منهم طعن في الآخر ونسبه إلى ما لا ينبغي.

أليس من المشهور أن عمر طعن في خالد بن الوليد، وأن ابن مسعود وأبا ذر كانا يبالغان في الطعن في عثمان، ونقل عن عائشة رضي الله عنها أنها بالغت في الطعن في عثمان؟

أليس أن عمر قال في عثمان إنه كلف بأقاربه وقال في طلحة والزبير أشياء أخر تجري هذا المجرى؟

أليس أن عليًّا رضي الله عنه سمع أبا هريرة يوما أنه كان يقول: أخبرني خليلي أبو القاسم، فقال له علي: متى كان خليلا لك؟

أليس أن عمر رضي الله عنه نهى أبا هريرة عن كثرة الروايات؟

أليس أن ابن عباس طعن في خبر أبي سعيد في الصرف، وطعن في خبر أبي هريرة في غسل اليدين، وقال: كيف يصنع بمهراسنا؟

أليس أن أبا هريرة لما روى: من أصبح جنبا فلا صوم له، طعنوا فيه؟

أليس أن ابن عمر لما روى: إن الميت ليعذب ببكاء أهله؛ طعنت عائشة فيه، واستدلت بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ}.

أليس أنهم طعنوا في خبر فاطمة بنت قيس وقالوا: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت؟

أليس أن عمر طالب أبا موسى الأشعري في خبر الاستئذان بالشاهد وغلظ الأمر فيه؟

أليس أن عليا كان يستحلف الرواة؟

أليس أن عليا قال لعمر في بعض الوقائع: إن قاربوك فقد غشوك؟

واعلم أنك إذا طالعت كتب الحديث وجدت من هذا الباب ما لا يعد ولا يحصى.

إذا ثبت هذا فنقول: الطاعن إن صدق فقد توجه الطعن في المطعون، وإن كذب فقد توجه على الطاعن، فكيف كان فالطعن لازم، إلا أنا إذا قلنا: إن الله تعالى أثنى على الصحابة في القرآن على سبيل العموم، وذلك يفيد ظن الصدق، فلهذا الترجح قبلنا روايتهم في فروع الشريعة، أما الكلام في ذات الله تعالى وفي صفاته فكيف يمكن بناؤه على هذه الرواية الضعيفة؟

الثالث: وهو أنه قد اشتهر فيما بين الأمة أن جماعة من الملاحدة وضعوا أخبارا منكرة، واحتالوا في ترويجها على المحدثين، والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها، بل قبلوها، وأي منكر فوق وصف الله تعالى بما يقدح في الإلهية ويبطل الربوبية؟! فوجب القطع في أمثال هذه الأخبار بأنها موضوعة.

وأما البخاري ومسلم رحمهما الله فهما ما كان عالمين بالغيوب، بل اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتهما، فأما اعتقاد أنهما علما جميع الأحوال الواقعة في زمان الرسول عليه السلام قطعنا بأنه من أوضاع الملاحدة ومن ترويجاتهم على أولئك المحدثين.

الرابع: أن هؤلاء المحدثين يجرحون الرواة بأقل العلل؛ أنه كان مائلا إلى حب علي رضي الله عنه فكان رافضيا فلا تقبل توبته، وكان معبد الجهني قائلا بالقدر فلا تقبل روايته، فما كان فيهم عاقل يقول: إنه وصف الله تعالى بما يبطل إلهيته وربوبيته فلا تقبل روايته؟! إن هذا من العجائب!

الخامس: أن الرواة الذين سمعوا هذه الأخبار من الرسول عليه السلام ما كتبوها عن لفظ الرسول، بل سمعوا شيئا في مجلس، فثم إنهم رووا تلك الأشياء بعد عشرين سنة أو أكثر، ومن سمع شيئا في مجلس مرة واحدة ثم رواه بعد العشرين والثلاثين، لا يمكنه رواية تلك الألفاظ بأعيانها وهذا كالمعلوم بالضرورة، وإذا كان الأمر كذلك كان القطع حاصلا بأن شيئا من هذه الألفاظ ليس من ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم بل ليس ذلك إلا لفظ الراوي.

وكيف يقطع بأن هذا الراوي ما نسي شيئا مما جرى في ذلك المجلس؟! فإن من سمع كلاما في مجلس واحد ثم إنه ما كتبه وكرر عليه كل يوم، بل يذكره بعد عشرين سنة أو ثلاثين.. فالظاهر أنه نسي منه شيئا كثيرا، أو يشوش عليه نظم الكلام وترتيبه وتركيبه، ومع هذا الاحتمال فكيف يمكن التمسك به في معرفة ذات الله تعالى وصفاته؟!

واعلم أن هذا الباب كثير الكلام، إلا أن القدر الذي أوردناه كاف في بيان أنه لا يجوز التمسك في أصل الدين بأخبار الآحاد والله أعلم»([107]).

عدد التواتر:

اختلف العلماء في القدر الذي يحصل به التواتر، أي تلك اللحظة التي يصل فيها المخبَر لليقين بالخبر الذي تواتروا عليه هل له عدد محدد، أو لا على قولين:

القول الأول: أنه ليس للتواتر عدد محدد.

والثاني أن للتواتر عددًا معينا.

فالقائلون بالعدد اختلفوا على أقوال:

فقيل: أربعة وذلك اعتبارا بأربعة شهداء، ورد بأنهم لو شهدوا بالزنا لا يفيد قولهم العلم لاحتياجهم إلى التزكية.

وقيل: خمسة وذلك اعتبارا بعدد اللعان.

وقيل سبعة، وقيل عشرة، قال الإصطخري: أقل عدد الجمع الذي يفيده خبره العلم عشرة، لأن الآحاد ما دونها.

وقيل اثني عشر، اعتبارًا بعدد النقباء في قوله تعالى: ﴿وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗا﴾ [المائدة: 12] -بعثوا- كما قال أهل التفسير- للكنعانيين بالشام طليعة لبني إسرائيل المأمورين بجهادهم ليخبروهم بحالهم، فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك.

وقيل: أربعين؛ لأن الله تعالى قال: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} وكانوا كما قال أهل التفسير: أربعين رجلا كملهم عمر رضي الله تعالى عنه بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإخبار الله عنهم بأنهم كافؤوا نبيه صلى الله عليه وسلم يستدعي إخبارهم عن أنفسهم بذلك له ليطمئن قلبه، فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك.

وقيل سبعين؛ لأن الله تعالى قال: {وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِينَ رَجُلٗا لِّمِيقَٰتِنَا} أي للاعتذار إلى الله تعالى من عبادة العجل، ولسماعهم كلامه تعالى من أمر ونهي ليخبروا قومهم بما يسمعونه، فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في ذلك.

وقيل أقله عشرون لأنه تعالى قال: {إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِ} فيتوقف بعث عشرين لمئتين على إخبارهم بصبرهم، فكونهم على هذا العدد ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في ذلك.

وقيل: أقله ثلاث مئة وبضعة عشر، عدد أهل غزوة بدر([108]).

والصحيح أن العدد ليس محصورا، بل الضابط في ذلك والمعتبر أن يبلغ المخبرون حدا يمتنع عند العقل تواطؤهم على الكذب.

قال الأصيلي: وإنما الضابط حصول العلم، فمتى أخبر هذا الجمع وأفاد خبرهم العلم علمنا أنه متواتر، وإلا فلا([109]).

قال إمام الحرمين:

«المطلوب من الخبر المتواتر وجدان الصدق على ثلج من الصدر في المخبر عنه، وما من عدد تمسَّك به طائفة إلا ويمكن فرض تواطؤهم على الكذب؛ فكيف يفيد النظر إلى عدد ربط به مقصود غير مناسب للمطلوب من الخبر المتواتر مع إمكان تصور الخبر على حكم الخلف الذي يبغي سامع الخبر انتفاءه.

وبالجملة: الأعداد التي تمسك بها هؤلاء منقسمة إلى ما تقدر معتبرة في أقاصيص وحكاية أحوال على وفاق وكان لا يمتنع أن يقع أقل من تلك المبالغ أو أكثر وإلى ما ورد في أحكام لا تعلق لها بالصدق والكذب فلا معنى للتَّمسُّك بها»([110]).

لكن المبالغة في أن عدد التواتر لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد فهو إسراف، قال إمام الحرمين: وأما من قال إن عدد التواتر لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد فقد أسرف فإن التواتر يقع بدون ذلك وإذا أخبر جمع كثير في بلدة عن واقعة شاهدوها واستجمع إخبارهم الشرائط المرعية التي نحن في تفصيلها فيحصل العلم الضروري بإخبارهم وهم بعض من أهل البلدة والخروج عن إمكان العدد لا يعتبر شرطا وليس عدد معظم أهل الدنيا خارجا عن إمكان البشر([111]).

وهذا الأمر ليس في أصول الفقه أو الحديث فحسب بل هو في علم أصول اللغة أيضا، قال ابنُ الأنباريِّ:

اعلم أن النقل على قسمين: تواتر وآحاد، فأما التواتر فلغة القرآن، وما تواتر من السنة وكلام العرب، وهذا القسم دليل قطعي من أدلة النحو، يفيد العلم أي ضروريا، وإليه ذهب الأكثرون، أو نظريا، ومال إليه آخرون، وقيل: لا يفضي إلى علم البتة، وهو ضعيف، وما تفرد بنقله بعض أهل اللغة ولم يوجد فيه شرط التواتر، وهو دليل مأخوذ به، فذهب الأكثرون إلى أنه يفيد الظن، وقيل: العلم وليس بصحيح، لتطرق الاحتمال فيه، ثم قال: وشرط التواتر أن يبلغ عدد النقلة إلى حد لا يجوز على مثلهم الاتفاق على الكذب في لغة القرآن، وما تواتر من ألسنة العرب، وقيل: شرطه أن يبلغوا خمسة، والصحيح هو الأول([112]).

شروط الخبر المتواتر:

يشترط في الخبر المتواتر بالإضافة لشرط العدد الذي فصلنا أمره في النقطة السابقة عدة شروط:

أولا: الشروط التي ترجع إلى المخبرين:

  • شرط البعض أن يكون المخبرون عالمين بما أخبروا به غير مجازفين قال الزركشي: فلو كانوا ظانين ذلك لم يفد القطع، هكذا شرطه جماعة منهم القاضي أبو بكر. وقال ابن الحاجب: إنه غير محتاج إليه؛ لأنه إن أريد علم الجميع فباطل؛ لجواز أن يكون بعضهم ظاهرًا ومع ذلك يحصل العلم، وإن أريد علم البعض فلازم من شرط الحس([113]).
  • أن يعلموا ذلك عن ضرورة إما بعلم الحس من مشاهدة أو سماع وإما أخبار متواترة؛ لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه، فلا يحصل به العلم قال الأستاذ أبو منصور: فأما إذا تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه واعتقدوه، بالنظر أو الاستدلال أو عن شبهة، فإن ذلك لا يوجب علما ضروريا؛ لأن المسلمين مع تواترهم يخبرون الدهرية بحدوث العالم، وتوحيد الصانع، ويخبرون أهل الذمة بصحة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يقع لهم العلم بذلك؛ لأن العلم به من طريق الاستدلال دون الاضطرار، فإن المطلوب صدور عن العلم الضروري، ثم قد يترتب على الحواس ودركها، وقد يحصل عن قرائن الأحوال، ولا أثر للحس فيها على الاختصاص، فإن الحس لا يميز احمرار الخجل والغضبان عن اصفرار المحبوب والمرغوب، وإنما العقل يدرك تمييز هذه الأحوال. قال: فالوجه اشتراط صدور الأخبار عن البديهة والاضطرار، هذا كلامه وغايته الحس أيضا؛ لأن القرائن المفيدة للعلم الضروري مستندة إلى الحس.
  • ثالثها: أن تكون مشاهدة الشاهدين للمخبر عنه حقيقة وصحيحة، فلا تكون على سبيل غلط الحس، فلذلك لا يلتفت إلى إخبار النصارى بصلب المسيح.
  • رابعها: أن يكون بصفة يوثق معها بقولهم، فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك الخبر لم يلتفت إليه.
  • خامسها: أن يبلغ عدد المخبرين إلى مبلغ يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب.
  • سادسها: أن يتفقوا على الخبر من حيث المعنى، وإن اختلفوا في العبارة، فإن اختلفوا في المعنى بطل تواترهم. وشرط ابن عبدان في كتابه المسمى بالشرائط في الناقلين شرطين: أحدهما: العدالة، قال: فلا يقبل التواتر من الفساق، ومن ليس بعدل على الصحيح من المذهب، ومن أصحابنا من قبله. والثاني: الإسلام، قال: فالتواتر من الكفار لا يصح على الصحيح من المذهب؛ لأنه لا خلاف أن أخبار الآحاد لا تقبل من الكفار والفساق وهي لا توجب العلم، فالتواتر الذي يوجب العلم أولى ألا يقبل منهم، ومن أصحابنا من قال: يقبل تواتر الكفار. اهـ. والصحيح خلاف ما قال.

قال سليم في التقريب:

لا يشترط في وقوع العلم بالتواتر صفات المخبرين، بل يقع ذلك بإخبار المسلمين والكفار والعدول والفساق، والأحرار والعبيد، والكبار والصغار، إذا اجتمعت الشروط، وكذا قال أبو الحسين بن القطان في كتابه: ذهب قوم من أصحابنا إلى أن شرط التواتر في الكفار أن يكون منهم مسلمون للعصمة، وعندنا لا فرق بين الكفار والمسلمين في الخبر، وإنما غلطت هذه الفرقة، فنقلت ما طريقه الاجتهاد إلى ما طريقه الخبر، وصرح القفال الشاشي بأن الإسلام ليس بشرط، وإنما رددنا خبر النصارى بقتل عيسى؛ لأن أصله ليس بمتواتر؛ لأنهم بلغوه عن خبر: ولوما ومارقين، ثم تواتر الخبر من بعدهم، وكذلك قال الأستاذ أبو منصور. قال: ولا يشترط أن تكون نقلته مؤمنين أو عدولا، وفرق بينه وبين الإجماع حيث اشترط الإيمان والعدالة فيه أن الإجماع حكم شرعي، فاعتبر في أهله كونهم من أهل الشريعة، وقال ابن برهان: لا يشترط إسلامهم خلافا لبعضهم، وجرى عليه المتأخرون من الأصوليين، وقطع به ابن الصباغ في باب السلم من الشامل. فإن الشافعي قال في المختصر: ولو وقت بفصح النصارى لم يجز؛ لأنه قد يكون عاما في شهر وعاما في غيره، على حساب ينسئون فيه أياما، فلو اخترناه كنا قد عملنا في ذلك بشهادة النصارى، وهذا غير حلال للمسلمين. قال ابن الصباغ: هذا ما لم يبلغوا حد التواتر، فإن بلغوه بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، فإنه يكفي لحصول العلم، ومنهم من حكى فيه قولا ثالثا، وهو التفصيل بين أن يطول الزمان فيعتبر الإسلام لجواز التواطؤ، وإلا فلا يعتبر. حكاه الشيخ في التبصرة، ومنهم من فصل بين ما طريقه الديانات فلا مدخل لهم فيه، وما طريقه الأقاليم وشبهها فهل لهم مدخل بالتواتر فيه؟ هو محل الخلاف. وقد سبق عن الماوردي أن العدالة شرط في التواتر دون الاستفاضة. وجزم الروياني بأن الحرية لا تشترط، وذكر وجهين في انفراد الصبيان به مع شواهد الحال بانتفاء المواطأة، فتحصلنا على وجوه، ولا يعتبر في المخبرين أن لا يحصرهم عدد، ولا يحويهم بلد، خلافا لقوم؛ لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لأفاد خبرهم العلم، ولا يشترط فيهم أن يكونوا مختلفي الأديان، والأنساب والأوطان خلافا لليهود، فإنهم شرطوا أن لا يكون نسبهم واحدا، وأن لا يكون سكنهم واحدا، والدليل على فساد ذلك أن قبيلة من القبائل المتفقة أديانهم وأنسابهم لو أخبروا بواقعة في ناحيتهم حصل العلم بخبرهم ضرورة، ولا يشترط أن يكون فيهم معصوم، خلافا للشيعة ولابن الراوندي. واعلم أن هذه الشروط لا بد منها، سواء أخبر المخبرون عن مشاهدة، أو لا عن مشاهدة، بل عن سماع من آخرين، فأما إذا حصل الوسائط فيعتبر شرط آخر، وهو وجود الشروط في كل الطبقات، وهو معنى قولهم: لا بد من استواء الطرفين والواسطة، فيروي العدد المذكور بالصفة السابقة عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه، أي يجب أن يكون حال من نقل عن الأولين كحال الأولين فيما علموه ضرورة، وكذلك النقلة في المرتبة الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة إلى أن ينتهي إلينا، ولهذا لم يصح ما نقله النصارى عن صلب عيسى عليه السلام؛ لأنهم نقلوه عن عدد لا تقوم بهم الحجة ابتداء. وكذا ما نقلته الروافض من النص على إمامة علي، وبهذا تبين أن التواتر ينقلب آحادا، وربما اندرس دهرا. فالمتواتر من أخبار النبي -عليه السلام- ما اطردت الشرائط فيه عصرا بعد عصر، حتى انتهى إلينا، وهذا لا خفاء فيه. قال إمام الحرمين: ولكنه ليس من شرطه التواتر. قال: بل حاصله أن التواتر قد ينقلب آحادا، وليس من شرائط وقوع التواتر فلا يصح تعبيرهم باستواء الطرفين والواسطة، وخالفه ابن القشيري، وقال: ما هو من شروطه، لا من شرط حصول العلم، والعلم قد يحصل من غير تواتر، وقد ينبني على التواتر([114]).

[شروط المتواتر التي ترجع إلى السامعين]

وأما ما يرجع إلى السامعين فأمور:

أحدها: أن يكون السامع له من أهل العلم، إذ يستحيل حصول العلم من غير متأهل له، فلذلك لا يكون مجنونا ولا غافلا.

ثانيها: أن يكون غير عالم بمدلوله ضرورة، وإلا يلزم تحصيل الحاصل، فلو أخبروا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان لم يفد علما. قال ابن الحاجب: وهذا إنما نشرطه على القول بأن العلم غير نظري. فإن قلنا: ضروري فلا يشترط، ونازع الجزري الإمام فخر الدين في تمثيله بأن النفي والإثبات لا يجتمعان، وقال: ليس هذا من باب ما ثبت بالخبر، وهو عجيب فإن مقصود الإمام أنه لما علمه السامع، صار معلوما له بالضرورة بإخبار المخبرين، كإخبار المخبرين بأن النفي والإثبات لا يجتمعان، وهو معلوم بالضرورة. ثالثها: أن يكون السامع منفكا عن اعتقاد ما يخالف الخبر إذن؛ لشبهة دليل أو تقليد إمام. ذكره الشريف المرتضى، وتبعه البيضاوي، وأما إذا كان عنده شبهة مشكلة في صدق الخبر لم يفد العلم.

ومراد الشريف بذلك إثبات إمامة علي -رضي الله عنه- بالتواتر، وإنما لم يحصل العلم لنا لاعتقاد متابعي النص لأجل الشبه المانعة لنا عنه، وهذا فاسد؛ لأن الشبهة لا تقوى على دفع العلوم الضرورية، وبناه على أن حصول العلم عقب التواتر بالعادة لا بطريق التولد، فجاز إخلافه بحسب اختلاف السامعين، فيحصل للسامع إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك الحكم قبل ذلك، ولا يحصل له إذا اعتقد نقيضه.

قال القرطبي: وهو باطل بآية الاستواء والمجيء، فإنه قد استوى في العلم بتواترها من اعتقد ظاهرها، ومن لم يعتقد، وقال الهندي: هذا وإن بناه على أصله الفاسد، ولكن لا بأس به، وقيل: يلزم عليه أن يجوز صدق من أخبرنا بأنه لم يعلم وجود الكبار، والحوادث العظيمة بالأخبار المتواترة؛ لأجل شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء وهو باطل.

وهناك أمور تتعلق بالتواتر:

أولا: التواتر يدل على الصدق

قال الأستاذ أبو منصور: وزعم النظام وأتباعه من القدرية أنه قد يكون كذبا، وأن الحجة فيما غاب عن الحواس لا يثبت إلا بالخبر الذي يضطر سامعه إلى أنه صدق، سواء أخبر به جمع أو واحد. وأجاز إجماع أهل التواتر على الكذب، وأن يكون العلم الضروري واقعا بخبر الواحد، وهو باطل. والبراهمة: لا يفيد العلم، بل الظن. وجوز البويطي فيه. وفصل آخرون، فقالوا: إن كان خبرا عن موجود أفاد العلم، أو عن ماض فلا يفيده لنا أنا بالضرورة نعلم وجود البلاد البعيدة كبغداد، والأشخاص الماضية كالشافعي، فصار وروده كالعيان في وقوع العلم به اضطرارا، وقد قال الطفيل الغنوي مع أعرابيته في وقوع العلم باستفاضة الخبر ما دلت عليه الفطرة وقاد إليه الطبع.

قال إمام الحرمين: وما نقل عن السمنية أنه لا يفيد العلم محمول على أن العدد، وإن كثر، فلا اكتفاء به، حتى ينضم إليه ما يجري مجرى القرينة من انتفاء الحالات المانعة. وحاصله أن الخلاف لفظي، وأنهم لا ينكرون وقوع العلم على الجملة، لكنهم لم يضيفوا وقوعه إلى مجرد الخبر، بل إلى قرينة، ووقوع العلم عن القرائن لا ينكره عاقل. وقال أبو الوليد بن رشد في مختصر المستصفى:

لم يقع خلاف في أن التواتر يفيد اليقين، إلا ممن لا يؤبه به، وهم السوفسطائية، وجاحد ذلك يحتاج إلى عقوبة؛ لأنه كاذب بلسانه على ما في نفسه، وإنما الخلاف في جهة وقوع اليقين عنه، فقوم رأوه بالذات، وقوم رأوه بالعرض وقوم مكتسبا. تنبيه: ظاهر كلام أصحابنا في الفروع جريان خلاف في هذه المسألة، فإن بيع الغائب عندهم باطل، فلو كان البيع منضبطا بخبر التواتر، ففي البحر قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه طريقان، أحدهما: يجوز بيعه مطلقا كالمرئي، وقيل: فيه قولان([115]).

هذا العلم ضروري لا نظري:

ولا حاجة معه إلى كسب كما نقله القاضي في التقريب عن الكل من الفقهاء والمتكلمين، وبه قال ابن عبدان في شرائط الأحكام، وابن الصباغ. وقال ابن فورك: إنه الصحيح. وقال أبو الطيب: إنه الصحيح المشهور.

وقال سليم: إنه قول الكافة، إلا البلخي. واختاره الإمام الرازي وأتباعه، وابن الحاجب. وقال صاحب الواضح: إنه قول عامة متكلمينا، ونقله في المعتمد عن الجبائي وأبي هاشم.

وذهب الكعبي إلى أنه مستثنى مفتقر إلى تقدم استدلال، ويثمر علما نظريا كغيره من العلوم النظرية، ووافقه أبو الحسين البصري وابن القطان كما رأيته في كتابه، ونقله القاضي أبو الطيب عن الدقاق. ونقله الإمام فخر الدين عن الغزالي، والذي في المستصفى أنه ضروري بمعنى أنه لا يحتاج إلى حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن، وليس ضروريا بمعنى أنه حاصل من غير واسطة، كقولنا: القديم لا يكون محدثا، والموجود لا يكون معدوما، فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس: عدم اجتماع هذا الجمع على الكذب، واتفاقهم على الإخبار عن هذه الواقعة. وهذا الذي ذكره الغزالي يقرب منه قول إمام الحرمين: إنه قد كثر الطاعن على قول الكعبي إنه نظري، والذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين على النظر في ثبوت أمارات جامعة وانتفائها، فلم يعن الرجل نظرا عقليا، وفكرا سبريا على مقدمات ونتائج، فليس ما ذكره إلا الحق، وتبعه ابن القشيري، وإذا تبين توارد إمام الحرمين وتلميذه على ذلك، وتنزيل مذهب الكعبي عليه، لم يبق خلاف. وقال إلكيا: ما ذكره الكعبي يرجع إلى سبب العلم، يعني أن العلم لم يحصل، وليس الخلاف في هذا، إنما الخلاف في أن الخبر إذا حصل بشرائطه هل يوجب العلم من غير نظر؟ واعلم أن الكعبي لا يجوز أن يخالف في هذا، فإنا نرى العلم يحصل للنساء والصبيان من غير نظر، وإلا فالكعبي لا ينكر المحسوس ويقول: لم أعلم البلاد الغائبة إلا بالنظر، وما كان ضروريا يعلم ضرورة؛ لأنه لا يربط النظر.

قال: وقاضينا أبو بكر يقول: أعلم أن العلم ضرورة، وأعلم بالنظر أنه ضروري، فجعل العلم به بالنظر يدرك، والمعلوم الثاني وهو صدق المخبرين مدركا بالنظر ووجه النظر تيسير مدارك البحث الذي يظن المخالف أنه يتطرق منه إلى العلم، وإذن بطل تعين كونه مدركا بالضرورة، وهذا بعيد، فإنه يلزم مثله في العلم باستحالة اجتماع الضدين، فبطل ما رآه القاضي، وصح ما قلناه من أن الكعبي إنما ادعى النظر في السبب الأول، لا في العلم بصدق المخبرين. اهـ

ويدل له أن ابن القطان احتج على أنه ليس ضروريا بأن العلم به لا يزيد المعجزة، ونحن لم نعلمها إلا بالاستدلال، فكذا الخبر. وفي المسألة مذهب ثالث: وهو أنه بين المكتسب والضروري، وهو أقوى من المكتسب، وليس في قوة الضروري. قاله صاحب الكبريت الأحمر. ورابع: وهو الوقف ذهب إليه الشريف المرتضى. وقال صاحب المصادر: إنه الصحيح. واختاره الآمدي، وإذا قلنا بأنه نظري، فهو بطريق التوليد عند القائلين به، وإلا ففيه خلاف عندهم؛ لترتبه على فعل اختياري، ووجه الآخر القياس على سائر الضروريات.

إذا ثبت وقوع العلم عنه وأنه ضروري أي المتواتر فاختلفوا إلى ماذا يستند؟

فالجمهور أطلقوا القول باستناده إلى الأخبار المتواترة، وأنكر إمام الحرمين هذا، ورأى أنه يستند إلى القرائن. ومنها كثرة العدد الذي لا يمكن معه التواطؤ على الكذب، وطرد أصله. هذا في خبر الواحد إذا احتفت به قرائن، وقال: إنه يفيد القطع([116]).

شبهات القائلين بعدم إفادة التواتر للعلم

– الأوَّل أنَّه لو جاز أن تخبر جماعة بما يفيد العلم لجاز على مثلهم الخبر بنقيض خبرهم كما لو أخبر الأوَّلون بأنَّ زيدا كان في وقت كذا ميتا ونقل الآخرون حياته في ذلك الوقت بعينه؛ فإن حصل العلم بالخبرين لزم اجتماع العلم الضروري بموته وحياته في وقت واحد معين وهو محال، وإن حصل العلم بأحد الخبرين دون الآخر فلا أولوية مع فرض تساوي المخبرين في الكمية والكيفية. وقد تقدم الكلام على هذه الشبهة والرد عليها.

– الثاني أنه لو حصل العلم بخبر الجماعة الكثيرة لحصل العلم بما ينقله اليهود عن موسى والنصارى عن عيسى من الأمور المكذبة لرسالة نبينا التي دلت المعجزة القاطعة على صدقه فيها ووجوب علمنا بها واجتماع علمين متناقضين محال، والرد عليها أن من شرط التواتر أن يكون النقلة عددا لا يصح التواطؤ منهم على الكذب وأن يستوي طرفاه ووسطه وهذه الشروط لم تتكامل فيما يروونه هؤلاء لأن روايتهم ترجع إلى عدد يسير فلهذا لم يقع العلم بخبرهم، قال الآمدي يصح هذا لو قلنا إن العلم يحصل من خبر كل جماعة؛ وإن خبر كل جماعة تواتر وليس كذلك؛ وإنما دعوانا أن العلم قد يحصل من خبر الجماعة، ولا يلزم أن يكون خبر كل جماعة محصلا للعلم([117]).

– الثالث أنه لو حصل العلم الضروري بخبر التواتر لما خالف في نبوة نبينا أحد لأن ما علم بالضرورة لا يخالف وحيث وقع الخلاف في ذلك من الخلق الكثير علمنا أن خبر التواتر لا يفيد العلم. قال الآمدي: هذا الإلزام غير صحيح لأن التواتر إنما يفيد العلم في الإخبار عن المحسوسات والمشاهدات، والنبوة حكم، فلذلك لم يثبت بخبر التواتر الناس في السماع وقوة الفهم والاطلاع على القرائن المقترنة بالأخبار المفيدة للعلم، فمخالفة من يخالف غير قادحة فيما ندعيه من حصول العلم به لبعض الناس. كيف وإنا لا ندعي أن كل تواتر يجب حصول العلم بمخبره مطلقا لكل أحد لتفاوت الأحوال بما يناقض ذلك.

– الرابع أنه لو كان العلم الضروري حاصلا بخبر التواتر لما وقع التفاوت بين علمنا بما أخبر به أهل التواتر من وجود بعض الملوك وعلمنا بأنه لا واسطة بين النفي والإثبات واستحالة اجتماع الضدين وأن الجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين لأن الضروريات لا تختلف ولا يخفى وجه الاختلاف في سكون النفس إليهما.

والخامس هو أن ما يحصل من الاعتقاد الجازم بما يخبر به أهل التواتر لا يزيد على الاعتقاد الجازم بأن ما شاهدناه بالأمس من وجود الأفلاك الدائرة والكواكب السيارة والجبال الشامخة أنه الذي نشاهده اليوم مع جواز أن يكون الله تعالى قد أعدم ذلك وما نشاهده الآن قد خلقه الله تعالى على مثاله فإذا لم يكن هذا يقينيا فما لا يزيد عليه في الجزم والاعتقاد أيضا لا يكون يقينيا.

قال الآمدي: الإلزام الرابع والخامس، فإنما يصح أن لو ادعينا أن ما يحصل من العلم بخبر التواتر من الأمور البديهية، وليس كذلك بل إنما ندعي العلم العادي.

وعلى هذا، فلا يخرج عن كونه علما بتقاصره عن العلوم البديهية، ولا بمساواته لما قيل من العلوم العادية.

– السادس أنه لو كان العلم الضروري حاصلا من خبر التواتر لما خالفناكم فيه لأن الضروري لا يخالف، قال الآمدي: وأما الإلزام السادس: فحاصله يرجع إلى المكابرة والمجاحدة، وذلك غير متصور في العادة في خلق لا يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ. ثم لو كان الخلاف مما يمنع من كونه علما ضروريا؛ لكان خلاف السوفسطائية في حصول العلم بالمحسوسات مما يخرجه عن كونه علما ضروريا، وهو خلاف مذهب السمنية، وما هو اعتذارهم في خلاف السوفسطائية في العلم بالمحسات يكون عذرا لنا في خلافهم لنا في المتواترات([118]).

 

 

([1]) انظر: نظرية المعرفة للعاملي (ص 11).

([2]) نظرية المعرفة عند الفارابي- رسالة دكتوراه (ص 1) محمود موسى محمود، الجامعة الأردنية، كلية الدراسات العليا، الأردن.

 ([3])انظر: نظرية المعرفة للعاملي (ص 11).

([4]) انظر: شرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني (ص 13) تحقيق: د/ أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987م.

([5]) انظر: تاج العروس للمرتضى الزبيدي (باب الزاي، فصل الخاء مع الزاي).

([6]) انظر: نظرية المعرفة للعاملي (ص 17).

([7]) انظر شرح الدمنهوري على السلم (ص 55- 59).

([8]) انظر: جواهر الكلام للإيجي (ص 30).

([9]) انظر: وحي القلم للرافعي (ص 750) مؤسسة هنداوي.

([10]) انظر: شرح المواقف، للسيد الشريف الجرجاني (1/ 63- 65). والقول السديد في علم التوحيد (1/ 16) للشيخ محمود أبو دقيقة. ونظرية المعرفة للعاملي (ص 18).

([11]) انظر: شرح المواقف، للسيد الشريف الجرجاني (1/ 51).

([12]) انظر: شرح المواقف للسيد الشريف الجرجاني (1/ 68). والقول السديد في علم التوحيد (1/ 16) للشيخ محمود أبو دقيقة. ونظرية المعرفة للعاملي (ص 18).

([13]) انظر: شرح المواقف (1/ 69).

([14]) انظر: شرح المواقف (1/ 71).

([15]) انظر: شرح المواقف (1/ 72).

([16]) انظر: شرح المواقف (1/ 72).

([17]) انظر: شرح المواقف (1/ 74، 75).

([18]) انظر: شرح المواقف (1/ 76).

([19]) انظر: شرح المواقف (1/ 77).

 ([20]) انظر: العقيدة النسفية مع شرح التفتازاني (ص 15)، تحقيق: أحمد حجازي السقا.

([21]) انظر: شرح الملوي وحاشية الصبان (ص 44).

([22]) انظر: شرح الخبيصي على تهذيب المنطق (ص 6).

 ([23])انظر: ضوابط المعرفة (ص 17- 19) بتصرُّف.

 ([24])انظر: شرح السلم المنورق (ص 28).

 ([25])انظر: شرح الخبيصي على تهذيب المنطق (ص 7).

 ([26])جواهر الكلام للإيجي (ص 23، 24).

([27]) انظر: مناقب الإمام أحمد (ص 37).

 ([28]) انظر: تحرير أصول إقليدس (ص 8، 9) للطوسي، روما، 1588م.

([29]) انظر: مبرهنة فيرما الأخيرة (ص 154- 166).

 ([30]) انظر: شرح الشمسية للسيد الشريف الجرجاني (1/ 89- 90).

([31]) انظر: شرح المواقف (1/ 97، 98).

 ([32])انظر: أبكار الأفكار (1/ 81، 82).

 ([33]) شرح طوالع الأنوار للأصفهاني (ص 8، 9).

 ([34])شرح العقائد النسفية (56- 60).

([35]) انظر تفصيل ذلك في حاشية البيجوري على متن السلم (ص 89، 90) مطبعة بولاق- 1297هـ. و: إيضاح المبهم من معاني السلم (ص 18). و: الكليات (ص 980، 981) لأبي البقاء الكفوي- تحقيق: عدنان درويش، محمد المصري- مؤسسة الرسالة- بيروت. والقول السديد في علم التوحيد (1/ 33- 36) تأليف فضيلة الشيخ محمود أبو دقيقة، تحقيق وتعليق: أ.د عوض الله حجازي، الإدارة العامة لإحياء التراث بالأزهر الشريف.

 ([36])انظر: نظرية المعرفة للعاملي (ص 67، 58).

([37]) انظر: شرح العقائد النسفية (ص 42- 49).

([38])انظر: الحكمة المتعالية للملا صدرا (1/ 90).

 ([39]) انظر: نظرية المعرفة للعاملي (ص 57- 62).

 ([40]) انظر: شرح العقائد النسفية (ص 42- 49).

([41]) انظر: نظرية المعرفة (ص 63، 64).

([42]) انظر: شرح المواقف (1/ 127- 136).

([43]) انظر: نظرية المعرفة (ص 67، 68).

([44]) انظر: نظرية المعرفة (ص 74).

([45]) انظر: المواقف مع الشرح (1/ 235- 241).

([46]) انظر: المصباح المنير (ح ك م).

([47]) التعريفات (ص 92). وكشاف اصطلاحات العلوم والفنون (1/ 693)

([48]) انظر: حاشية الدسوقي على أم البراهين (ص 39) المطبعة العامرة، 1290هـ. الحكم الشرعي عند الأصوليين (ص 45- 49) أ.د علي جمعة، دار السلام للطباعة والنشر.

([49]) انظر: شرح الخريدة للدردير (ص 20).

([50]) انظر: شرح الخريدة للدردير (ص 21).

([51]) انظر: حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين (ص 54، 55).

([52]) انظر: نور الحقيقة ونور الحديقة (ص 108، 109).

([53]) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود (486).

([54]) انظر: نور الحقيقة ونور الحديقة (ص 117- 120).

 ([55])المطالب العالية في العلم الإلهي للرازي (1/ 41- 52).

([56]) نور الحقيقة ونور الحديقة (ص 218، 219).

 ([57]) نور الحقيقة (ص 220- 223).

 ([58]) نور الحقيقة (ص 223، 224).

 ([59]) المرجع السابق (ص 226، 227).

([60]) المرجع السابق (ص 227، 228).

 ([61]) انظر: نور الحقيقة (ص 242).

([62]) نور الحقيقة (ص 158).

([63]) انظر: نور الحقيقة (ص 141- 149).

([64]) المرجع السابق (ص 150).

([65]) انظر: موقف السلف من المتشابهات بين المثبتين والمؤولين (ص 12- 15) د. عبد الفضيل القوصي، دار البصائر، 2004م

([66])موقف السلف من المتشابها بين المثبتين والمؤوليين (ص 17).

([67]) المرجع السابق (ص 19).

([68]) انظر: ذم التأويل (ص 43) لابن قدامة المقدسي، تحقيق: بدر بن عبد الله بدر، الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى، 1406هـ.

([69]) انظر: الشامل في أصول الدين (ص 512) لإمام الحرمين، تحقيق: علي سامي النشار وآخرين، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1969م.

([70]) مجالس ابن الجوزي في المتشابه من الآيات القرآنية (ص 12) تحقيق: ناصر محمدي محمد جاد، دار البخاري، القاهرة، 2002م- 1422هـ.

([71]) انظر الأسماء والصفات للبيهقي (2/186).

([72]) انظر: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري ( 3 / 1921 ).

([73]) فتح الباري ( 8 / 505 ).

([74])الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 173).

([75]) البيان لما يشغل الأذهان (1/95).

([76]) التعريفات (ص 27) للجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ.

([77]) انظر: الخصائص (1/ 5) لابن جني، تحقيق: محمد علي النجار، دار الكتب المصرية.

([78]) انظر: كشاف اصطلاحات العلوم والفنون (1/ 202).

([79]) انظر: طبقات الشافعية الكبرى (9/ 416) لتاج الدين السبكي، تحقيق: د. محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلو، دار هجر، الطبعة الثانية، 1413هـ.

([80]) انظر: تاج العروس (باب النون، فصل العين مع الياء).

([81]) انظر: تاج العروس (باب الهاء، فصل الواو مع الجيم).

([82]) انظر: إلجام العوام عن علم الكلام (ص 66- 69).

([83]) المرجع السابق (ص 84).

([84]) أساس التقديس (ص 329).

([85]) إلجام العوام عن علم الكلام (ص 85).

([86]) أساس التقديس (ص 340).

([87]) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه (ص 97).

([88]) إلجام العوام (ص 84).

([89]) تأسيس التقديس (ص 340).

([90]) انظر: تفسير الطبري (16/ 470).

([91]) أساس التقديس (ص 81، 82).

([92]) انظر: العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية (ص 22) لإمام الحرمين، تحقيق: الشيخ محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، 1412هـ- 1992م.

([93]) الشامل لإمام الحرمين (ص 527، 528).

([94]) غاية المرام في علم الكلام (ص 185، 186).

([95]) موقف السلف من المتشابهات بين المثبتين والمؤولين (ص 9- 11).

([96]) إلجام العوام (ص 84) .

([97]) نور الحقيقة (ص 199- 205).

([98]) نور الحقيقة (ص 205، 212).

([99]) تاج العروس (باب الراء، فصل الواو مع التاء).

([100]) المصباح المنير (و ت ر).

([101]) انظر: اليواقيت والدرر شرح نخبة الفكر (1/ 253) للمناوي، تحقيق: المرتضى الزين أحمد، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1999هـ.

([102]) شرح البناني على السلم المنورق (ص 209).

([103]) انظر: فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (4/ 15).

([104]) نخبة الفكر (ص 4) لابن حجر العسقلاني، دار الحديث، القاهرة.

([105]) شرح المحلي على الورقات (ص 193) تحقيق: حسام الدين عفانة، جامعة القدس، فلسطين، الطبعة الأولى، 1420هـ- 1999م.

([106]) انظر: المزهر للسيوطي (1/ 89، 90) تحقيق: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ- 1998م.

([107]) أساس التقديس (ص 212) للإمام الرازي، عني بهما: أنس محمد عدنان، وأحمد محمد خير الخطيب، دار نور الصباح، الطبعة الأولى، 2011م.

([108]) انظر: شرح نخبة الفكر (ص 165، 166).

([109]) انظر: شرح نخبة الفكر (ص 163).

([110]) البرهان في أصول الفقه (1/ 218).

([111]) البرهان في أصول الفقه (1، 219).

([112]) تاج العروس (1/ 19).

([113]) انظر: البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 95).

([114]) البحر المحيط (6/ 102).

([115]) البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 105).

([116]) البحر المحيط (6/ 107).

([117]) الإحكام (2/ 28). والتبصرة (ص 292).

([118]) الإحكام للآمدي (2/ 28).

اترك تعليقاً