البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الزندقة لغة واصطلاحًا

82 views

الزندقة لغة: هل عرف العرب لفظة الزندقة قبل الإسلام؟

نصَّت المعاجم أن لفظ زنديق هو لفظ مستورد من الثقافة الفارسية، واستعملته العرب، أصله زنده، أو زندي على اختلاف القولين، قال ابن كمال باشا: والراجح هو الأول([1]).

قال أحمد بن يحيى بن المرتضى: ليس في كلام العرب زنديق -أي على هذا الوزن الصرفي بخصوص هذا المعنى- وإنما تقول العرب: رجل زندق وزندقي إذا كان شديد البخل، فإذا أرادت العرب معنى ما تقوله العامة قالوا: ملحد دهري([2]).

لكن يحكي اتجاه المعرفة بهذا اللفظ الفيومي في المصباح قائلا: «الزنديق مثل: قنديل، قال بعضهم: فارسي معرب، وقال ابن الجواليقي: رجل زندقي وزنديق إذا كان شديد البخل، وهو محكي عن ثعلب، وعن بعضهم: سألت أعرابيًّا عن الزنديق فقال: هو النظار في الأمور، والمشهور على ألسنة الناس أن الزنديق هو الذي لا يتمسك بشريعة ويقول بدوام الدهر والعرب تعبر عن هذا بقولهم: ملحد أي طاعن في الأديان»([3]).

وليس ثمة من دليل في ادعاء الأصالة لهذا اللفظ في العربية باستدلال بعض الباحثين بقول ابن قتيبة الدينوري: «كانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة»([4])؛ لأن ذلك يدل على فارسيته أو انتقال المعنى منهم إلى العرب، وكذلك فيما ذكره حجة الإسلام الغزالي في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ستفترق أمتي إلى بضع وسبعين فرقة كلهم إلى الجنة إلا الزنادقة))([5])، وهو حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([6]).

وعلى كل فلا يوجد جذر لغوي للزندقة في العربية، وقد اختلف العلماء في هذا اللفظ: ما معناه؟!

قال الحسين بن علي المسعودي: إنَّ هذا اللفظ ظهر في أيام ماني، وذلك أن الفرس حين أتاهم زرَادشت بن أسبيمان بكتابهم المعروف بـ(البستاه) باللغة الأولى من الفارسية، وعمل له التفسير، وهو (الزند)، وعمل لهذا التفسير شرحًا سماه (البازند)، على حسب ما قدمنا، وكان الزند بيانًا لتأويل المتقدم المنزل، وكان من أورد في شريعتهم شيئًا بخلاف المنزل الذي هو البستاه، وعدل إلى التأويل الذي هو الزند، قالوا: هذا زندي، فأضافوه إلى التأويل، وأنَّه منحرف عن الظواهر من المنزل إلى تأويل هو بخلاف التنزيل، فلما أن جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس، وقالوا: زنديق، وعربوه، والثنوية هم الزنادقة، ولحق بهؤلاء سائر من اعتقد القدم، وأبى حدوث العالم([7]).

وقد وافقه أبو عبد الله محمد بن يوسف الخوارزمي في كتابه (مفاتيح العلوم) قال: «الزنادقة: هم المانوية، وكانت المزدكية يسمون بذلك، ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباذ وكان موبذان، موبذ أي قاضي القضاة للمجوس، وزعم أن الأموال والحرم مشتركة وأظهر كتابًا سماه: “زند”، وزعم أن فيه تأويل الأبستا وهو كتاب المجوس الذي جاء به زرادشت الذي يزعمون أنه نبيهم، فنسب أصحاب مزدك إلى زند، فقيل: زندي، وأعربت الكلمة فقيل للواحد: زنديق وللجماعة زنادقة»([8]).

وقد وافقَه من المحدثين (آدي شير الكلداني) في قاموسه “الألفاظ الفارسية المعرَّبة”، قال:

«الزنديق من يعمل بما يطابق (الزند) لمزدك، وإلى هذا المعنى ذهب المستشرق الإنكليزي جورج براون، قال عن كلمة زنديق: إنَّ معناها بالفارسية الشخص الذي يتبع الزند الذي هو نفسه الكتاب المقدس عند الفرس (الآفستا)، ثم أطلق على المانوية؛ لأنهم يتبعون (زند) وغيره من الكتب»([9]).

وقد ذهب البعض إلى أنه مصطلح آرامي أو سامي؛ كما قال الأستاذ هادي العلوي:

إنَّ كلمة زنديق تطوير عربي للكلمة العبرية (صدِّيق)، ولا علاقة لها بالكلمة الفارسية (زندا) خلافًا لما ذهب إليه الباحثون قديمًا وحديثًا لعدم رجوعهم إلى الأصول السامية المشتركة والعبرية والآرامية من أصل مشترك، وقال غيرُه: إنَّها تعود إلى الأصل الآرامي (صدِّيقي)، ثم حوَّلها الفرس إلى زنديق، وأطلقوها على الشخص المتبع لتعاليم ماني، وقيل غير ذلك([10])، لكن الرأي المرجح في ذلك هو الرأي الأول، وعلى كل فهو يرجع في نهاية المطاف لمن اتبع تعاليم ماني.

الحكيم ماني والمانوية:

ولد الحكيم ماني بن فتق سنة 215م، وكان والده فتق بن بابك بن برزام من عائلة إشكانية عريقة من همدان عاصمة إقليم ميديا، وكانت أمه السيدة مريم تنتمي إلى أسرة (كمركانية) من الإمارة الإشكانية الحاكمة.

وكان والده رجلا مسيحيًّا وأسقفًّا لبلدتي قنى والعربان من أهل جوخى، على دجلة قرب بابل، ثم أصبح كاهنًا صابئيًّا في (بوقة- خانة) في مدينة طيسفون منذ عام 205م، وقيل: كان أبوه كاهنا بوذيًّا.

انتقل ماني من أرض سورية يريد جهة أفغانستان (كابول وقندهار)، ولكن جاءت الأخبار بوفاة هرمز الأول سنة 274م، وتولى الحكم بعده أخوه بهرام بن شابور (274- 277) وكان يخضع للموبذان كرتير العدو اللدود لماني.

وقد جاء الخبر إلى ماني، إن الشاه يعترض على تجواله ويطلبه إلى طيسفون (المدائن)، وهنا توقع ماني المصائب فحذر أتباعه.

وقد سجن الملك ماني، وفي 14 شباط سنة 276م خارت قواه في السجن من التعب، وطول الصيام فمات، وحضر موته راهب مانوي واثنان([11]).

ويحكي أبو الريحان البيروني نقلا عن جبرائيل بن نوح النصراني قال: إنه قرأ في كتاب لأحد تلامذة ماني يخبر فيه «أنه حبس بسبب أن قريبًا للملك زعم أن به شيطانًا، ووعد ماني بشفائه فلم يقدر ماني عليه، وقبض على ماني وحبس ومات في الحبس، ونصب رأسه بباب السرادق، وطرحت جثته في المدرجة (المزبلة) تنكيلا وتمثيلا به»([12]).

وقال البيروني: «وسمعت الأصبهبذ مرزبان بن رستم يحكي: إن سابور أخرجه عن مملكته، أخذًا بما سنَّه لهم زرادشت من نفي المتنبئين عن الأرض وشرط عليه أن لا يرجع، فغاب في الهند والصين والتيبت ودعا هناك، ولما رجع أخذه الملك بهرام وقتله؛ لأنه نقض الشريعة فأباح دمه»([13]).

أهم طقوس وشعائر المانوية:

اشترط المانويون لتقبل دعوتهم قدرة المرء على قمع شهوته وحرصه على ترك اللحم والخمر والكذب والسحر وإيذاء الناس والحيوان، وسموا تلك الوصايا بالفرائض العشر.

وأهم شعائرهم: الصلاة وهي أربع صلوات، والصوم وهو مطابق لصوم الصابئة، وغير ذلك([14]).

تعاليم المانوية في الموت والمعاد:

النفس في تعاليم ماني خالدة، وهي صادرة عن عالم النور، وعند اتصالها بالحسد تنتابها الشرور، وحين يموت الرجل الصدِّيق يرسل إليه حين وفاته الإنسان القديم ملاكًا نيرًا بصورة حكيم هاد، ومعه ثلاثة ملائكة يحملون معهم (الركوة) العصا، واللباس الأبيض والعصابة، وإكليل النور، وتأتي معهم الفتاة الكبرى الشبيهة بروح الرجل الصديق وتظهر له الشياطين، وتلبسه الملائكة التاج واللباس الذي حملوه معهم ويعرجون به في عمود السبح (النور) إلى ما فوق فلك القمر إلى جنان النور، ويبقى الجسد ليتحلل، فتجتذب منه الشمس والقمر والآلهة النيرة الأخرى القوة الكامنة فيه (الماء والنار والنسيم) ويقذف باقي جسده إلى الظلمة التي هي جهنم.

لهذا تكون حياة الصديقين في الحياة الدنيا الإعلاء من شأن الحياة الآخرة بتعلمهم المستمر للعلوم الإلهية، وبتجردهم من الحصر والشهوة، وبالتنقل المستمر أو السياحة في طلب المعرفة، والابتهاج الدائم للقاء ربهم.

وقد ذكر البيروني أنه قرأ في سفر الأسفار لماني أن الحواريين لما علموا أن النفوس لا تموت، وأنها في الترديد منقلبة إلى شبه كل صورة هي لابسة لها، ودابة جبلت فيها، ومثال كل صورة أفرغت في جوفها، سألوا المسيح عن عاقبة النفوس التي لم تقبل الحق، ولم تعرف أصل كونها، فقال لهم: أي نفس ضعيفة لم تقبل تراثها من الحق، فهي هالكة لا راحة لها، وعنى بهلاكها عذابها لا تلاشيها، وإن المنانية تشابه النصارى من أهل الكتاب، إلا أن ماني عندما نفي من إيران ودخل الهند نقل التناسخ منهم إلى نحلته([15]).

وأما الرجل المقترف للآثام لا يشتاق للقاء ربه، واستولت عليه الشهوة والحرص، فحين وفاته تحضر الشياطين فيأخذونه ويعذبونه، وتعاد روح الرجل الآثم وتلبس جسدًا آخر لتتعذب وتظل تتردد في العذاب إلى أن تتطهر ثم تدحى في جهنم.

وأما الجنة والنار عندهم، فالجنة لا ذكر فيها ولا أنثى ولا أعضاء سفاد، وكلهم حاملون للأجساد الحية والأبدان، لا يختلفون بقوة ولا ضعف، ومنظرهم كالسرح المتشابهة ومواد أغذيتهم واحدة، وأما جهنم السفلية فهي مظلمة صورت أبناءها بصورة الظاعنين إلى الحرب، فأقامت كل جنس بإزاء جيفته([16]).

([1]) انظر: رسالة في تصحيح لفظ الزنديق (ص47) لابن كمال باشا، مجلة كلية الآداب، العدد 5، نيسان 1962م.

([2]) انظر: تهذيب اللغة (9/ 298، 299)، لسان العرب (باب القاف، فصل الزاي مع النون والدال).

([3]) انظر: المصباح المنير (ز ن د ق).

([4]) انظر: المعارف (ص621) لابن قتيبة الدينوري، تحقيق: ثروت عكاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، 1992م.

([5]) انظر: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (ص58).

([6]) ذكره الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب (2359) عن أنس رضي الله عنه. قال ابن الجوزي: «هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

انظر: الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي، تحقيق: السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ- 1986م. والموضوعات (1/ 268) لابن الجوزي، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى.

([7]) مروج الذهب (1/ 275) للمسعودي، تحقيق: أسعد داغر، دار الهجرة، قم، 1409هـ.

([8]) انظر: مفاتيح العلوم (ص56) للخوارزمي، تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية.

([9]) انظر: الزندقة والزنادقة (ص10).

([10]) انظر: المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.

([11]) الزندقة والزنادقة (ص22).

([12]) انظر: الآثار الباقية عن القرون الخالية (ص254) للبيروني، تحقيق وتعليق: برويزاذ كائي.

([13]) انظر: المرجع السابق، نفس الصفحة.

([14]) انظر: حاشية السيالكوتي على المواقف (8/ 43) والزندقة والزنادقة (ص30).

([15]) تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة (ص41) للبيروني، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ.

([16]) انظر: الزندقة والزنادقة (ص30، 31).

اترك تعليقاً