البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل السادس: الفتوى ومسئولية الحاكم

64 views

تمهيد:

قررنا فيما سبق حكم الدين بوجوب تنصيب ولي الأمر، وما كفله له من الحقوق والسلطات التي تخوّله القيام بواجباته على أكمل الوجوه، لدرجة أن الشريعة جعلت منصب ولي الأمر مصونًا محميَّ الجناب، تجب له الطاعة والنصرة والكفاية المالية والاحترام، ويحرم الافتيات عليه والتعدي على سلطته، ولا يجوز معاداته ولا الخروج عليه طالما لزِم الحقَّ وأقام الدين، وكل هذا في حقيقته أمر واجب في الشريعة الإسلامية وجوبًا يعاقَب جاحدُه ومنكِرُه والمستخفُّ به والمتنَصِّلُ عنه، مما يُفهم منه بالضرورة أننا لا نقول بذلك أو نؤكّد عليه لمجرد الهوى؛ بل إن ذلك ينطلق من فهم حقيقي لمقاصد هذا الدين وأهدافه.

وفي مقابل هذه الحقوق والسلطات والامتيازات التي منحها الشرع الشريف لولي الأمر، نجد أنه ألقى على عاتقه الكثيرَ من المسئوليات والوظائف التي تكفل تحقيقَ مقاصد الدين وتسييرَ مصالح العباد في معاشهم ومعادهم.

يقول الإمام الجويني: «الإمامة رياسة تامَّة، وزعامة عامَّة، تتعلَّق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا، مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعيَّة، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الخيف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين»([1]).

وهذا النصُّ من إمام الحرمين -رحمه الله- قد جمع على وجازته كافة المسئوليات المناطة بالحاكم؛ والتي بها يتحقق حفظ الدين والدنيا، وتصلُح شئونُ البلاد والعباد.

ومسئولية رئيس الدولة عامةٌ بالنسبة لما يتصل بأمور الدولة ومصالحها، لأنه راعيها الذي وُكِل إليه أمرُ قيادتها والعمل لصالحها، وقد نص الحديث الشريف على هذا المعنى؛ فقال -صلى الله عليه وسلم- محدِّدًا المسئوليةَ وواضعًا إياها على عاتق أولياء الأمور كل في موقع: «كلكم راع ومسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته»([2])، ويقول: «ما من أمتي أحدٌ وَلِيَ من أمر الناس شيئًا لم يحفظهم بما يحفظ به نفسه إلا لم يجد رائحة الجنة»([3]).

وإذا نظرنا إلى مقصد الشرع في حفظ دين الناس ودنياهم على كافة المستويات والأصعدة لوجدنا أن أولي الأمر هم من يقع على عاتقهم هذا الأمر بمعاونة أهل العلم المخلصين في علوم الدين والدنيا؛ فطائفة العلماء تقوم ببيان أحكام الدين وحدوده وشرائعه وشعائره وتنشر ذلك بين الناس، ويقدِّم العلماء المتخصصون تقريراتٍ مدروسةً بدقة في مجالات تخصصهم من وجوه العمل والإدارة وتنمية الموارد وتسويق المنتجات المحلية، وولاةُ الأمور ومؤسسات الدولة تعمل على تفعيل تلك المعاني على أرض الواقع، وتتصدي لمن يريد تبديل عقائد الناس أو تحريف معاني الشريعة أو نشر الفساد والأفكار المنحرفة التي تعرقل مسيرة التنمية وتشوّه صورة الدين الناصعةَ عن طريق القيام بالإجراءات القانونية اللازمة لتحقيق ذلك، وكما ذكرنا سابقًا فالعلماء هم لسان الشريعة وترجمانها المبيِّنون لحقيقتها ومعانيها، وولي الأمر ومؤسسات الدولة هما اليد الفاعلة التي تعمل على تحقيق هذه المعاني في حياة الناس.

قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله- في الأمراء: «هم يلون من أمورنا خمسًا: الجمعة والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثرُ مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وأن فُرقتهم لكفر»([4]).

فلا يكفي بيان العالم وحده ولا يكفي عمل ولي الأمر وحده؛ بل لابد من التعاون في هذا المجال، وهذا يفرض على العلماء المساندة الكاملة لولي الأمر وتقديم النصح له حتى يستطيع أن يقوم بمهمته، فليس هناك من خيرٍ يتحقق قط إلا من خلال عمل ولي الأمر.

ولذلك سنتعرض في هذا الفصل لبيان مسئولية الحاكم، وما يناط به من وظائف في شئون الدين والدنيا بما يحقق صالح العباد في معاشهم ومعادهم، وموقف الفتوى الشرعية من هذه المسئولية الدينية والقانونية الواقعة على عاتق أولي الأمر في كل دولة من الدول.

 

 

([1]) غياث الأمم في التياث الظلم، لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، مرجع سابق (ص22).

([2]) أخرجه البخاري، رقم (893)، ومسلم، رقم (1829).

([3]) أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم (7594)، والصغير، رقم (919).

([4]) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، للحافظ ابن رجب الحنبلين مرجع سابق، (2/768).

اترك تعليقاً