البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

تمهيد

135 views

 الدماء في الأديان بين التحريم والتحريف

حفْظُ الدماء من الأسس التي بُني عليها الكون، ومن ضمانات سلامته واستقراره؛ ولذلك أكد الله بيان حرمة الدماء في كل الأديان السماوية.

وقد حكى القرآن قصة أول قتل في التاريخ، وهي قصة قتل قابيل هابيل، وقد حكاها القرآن بشكل ينبئ عن كونها جريمة ضد الإنسانية، وضد سنن الكون التي وضعها الله منذ الأزل، وأن القتل محرم مع خلق الإنسان؛ لأنه مقوض وهادم لهذا الخلق، قال تعالى: {وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ ٢٧ لَئِنۢ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقۡتُلَنِي مَآ أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٨ إِنِّيٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُاْ ٱلظَّٰلِمِينَ ٢٩ فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٣٠ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّٰدِمِينَ } [المائدة: 27- 31].

ثم مضت الآيات لتبين أن الله قد كتب تحريم النفس على بني إسرائيل لهذه العلة؛ قال تعالى: {مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} [المائدة: 32].

قال العلامة الطاهر ابن عاشور: “والمقصود من الإخبار بما كُتب على بني إسرائيل بيانٌ للمسلمين أن حكم القصاص شرع سالف ومرادٌ لله قديم؛ لأن لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرةً للمتفقهين، وتطمينًا لنفوس المخاطبين، وإزالةً لما عسى أن يعترض من الشُّبَه في أحكام خفيت مصالحها كمشروعية القصاص؛ فإنه قد يبدو للأنظار القاصرة أنه مداواة بمثل الداء المتداوى منه، حتى دعا ذلك الاشتباهُ بعضَ الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلة أنهم لا يعاقبون المذنب بذنب آخر، وهي غفلة دقَّ مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقق المجازاة بالقتل؛ لأن النفوس جُبلت على حب البقاء، وعلى حب إرضاء القوة الغضبية، فإذا علم عند الغضب أنه إذا قَتل فجزاؤه القتْلُ ارتدع، وإذا طمع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوته الغضبية، ثم علل نفسه بأن ما دون القصاص يمكن الصبر عليه والتفادي منه، وقد كثر ذلك عند العرب، وشاع في أقوالهم وأعمالهم، قال قائلهم، وهو قيس بن زهير العبسي:

شَفيْتُ النفس من حمل بن بدرٍ     وسيفي من حذيفةَ قد شفاني

ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]”([1]) اهـ.

وقد ورد في أسفار موسى كثيرٌ من القوانين المتعلقة بالقتل وعقوبته، وفرقت بين عقوبة القتل العمد والقتل الخطأ، فقد جاء في سفر الخروج: “من ضرب إنسانًا فمات يقتل قتلًا، ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعل لك مكانًا يهرب إليه، وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخذه للموت”([2])، “وإذا تخاصم رجلان فضرب أحدهما الآخر بحجر أو بلكمة ولم يقتل بل سقط في الفراش، فإن قَام وَتَمشَّى خارجًا على عكازه يكون الضارب بريئًا إلا أنه يعوض عطلته وينفق على شفائه”([3])، وجاء في سفر الخروج أيضًا: “وإذا ضَربَ إنسانٌ عبده أو أمته بالعصا فمات تحت يده ينتقم منه، لكن إن بقي يومًا أو يومين لا ينتقم منه لأنه ماله”([4]).

إلَّا أن اليهود حرفوا التوراة لتناسب أهواءهم؛ حيث نصَّت نصوصهم المحرفةُ على تحريم القتل، وعدوها جريمةً يعاقب فاعلها بالقتل، ولكنَّ هذا العقاب اختصَّ فقط إذا قام اليهودي بقتل اليهودي؛ ذلك لأنَّ الديانة اليهودية تعدُّ قتل اليهودي جريمةً كبرى عقوبتها الإعدام، وإحدى أشنع الخطايا الثلاث (عبادة الأوثان والقتل والزنا) وأن المحاكم اليهودية والسلطات ملزمة بمعاقبة قاتل اليهودي حتى خارج نطاق العدالة المعتادة؛ هذا إذا كان مُتعمِّدًا، أما إذا كان خطأ -أي بصورة غير مباشرة- فهو مذنب بما يدعوه قانون التلمود خطيئة ضد قانون السماء يعاقبه الله لا الإنسان.

أما إذا قَتل يهوديٌّ غيرَه من الجوييم أو الأميين، فإنه لا يعد قاتلًا ولا يعاقبه التشريع اليهودي بالقتل([5]). فإنه على الرغم من النصوص الصريحة التي تنهى عن القتل، فإن التلموديين قد تأولوها حسب مصالحهم وأهوائهم؛ فما جاء في النص النوراني (لا تقتل) فقد خسروه أي لا تقتل اليهودي على وفق تفسير ابن ميمون([6]).

وهذا يدلل على الأثر الخطير الذي قام به فلاسفة اليهود وحاخاماتهم في تأويل النصوص الدينية وتحريفها لكي تنسجم مع أهوائهم؛ لذلك نجد أن أسفار العهد القديم زخرت بالنصوص التي تأمرهم بالقتل والإبادة التي مارسها اليهود ضد مخالفيهم، ونلمس ذلك من خلال سفر (يوشع)؛ حيث تركزت كلمات هذا السفر في مجملها على احتلال أرض كنعان، وما صاحب ذلك من قتل وتدمير وحرق وإبادة طال الإنسان والحيوان، وكل ذلك كان بأمر يهود وامتثالًا لأوامره، وأن هذا النص في سفر يوشع وغيره من النصوص في أسفار العهد القديم رسخت إرادة القتل ونزعة التدمير.

ونصوص التوراة المحرَّفة مليئة بالتحريض على قتل غير اليهود، بل وينسبون ذلك إلى نبي الله موسى الذي ينسبه بدوره إلى الله على أن الله قد أمر بقتل غير اليهود.

ومن هذه النصوص المحرفة:

– (وَأَخْرَجَ داود الشَّعْبَ الَّذِينَ بِهَا وَنَشَرَهُمْ بِمَنَاشِيرَ وَنَوَارِج حَدِيدٍ وَفُؤُوسٍ، وَهَكَذَا صَنَعَ دَاوُدُ لِكُلِّ مُدُنِ بَنِي عَمُّونَ. ثُمَّ رَجَعَ دَاوُدُ وَكُلُّ الشَّعْبِ إِلَى أُورُشَلِيمَ). (سفر أخبار الأيام الأول 20: 3).

– (وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى انْتَقِمْ مِنَ المِدْيَانِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعْدَهَا تَمُوتُ وَتَنْضَمُّ إِلَى قَوْمِكَ، فَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ: جَهِّزُوا مِنْكُمْ رِجَالًا مُجَنَّدِينَ لِمُحَارَبَة الْمِدْيَانِيِّينَ وَالانتِقَامِ لِلرَّبِّ مِنهُمْ، فَحَارَبُوا الْمِدْيَانِيِّينَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ وَقَتَلُوا كُلَّ ذَكَرٍ! وَقَتَلُوا مَعَهُمْ مُلُوكَهُمُ الْخَمْسَةَ: أَوِي وَرَاقِمَ وَصُورَ وَحُورَ وَرَابِعَ، كَمَا قَتَلُوا بَلْعَامَ بْنَ بَعُور بِحَدِّ السَّيْفِ، وَأَسَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَ الْمِدْيَانِيِّينَ وَأَطْفَالَهُمْ، وَغَنِمُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَسَائِرَ أَمْلاَكِهِمْ، وَأَحْرَقُوا مُدُنَهُمْ كُلَّهَا بِمَسَاكِنِهَا وَحُصُونِهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى كُلِّ الْغَنَائِم وَالأسْلَابِ مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ ، فَخَرَجَ مُوسَى وَأَلعَازَارُ وَكُلُّ قَادَة إِسْرَائِيلَ لاسْتِقْبَالِهِمْ إِلَى خَارِجِ الْمُخَيَّمِ، فَأَبْدَى مُوسَى سَخَطَه عَلَى قَادَة الْجَيشِ مِنْ رُؤَسَاءِ الأُلُوفِ وَرُؤَسَاءِ المِئَاتِ الْقَادِمِينَ مِنَ الْحَرْبِ، وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا اسْتَحيَيْتُمُ النِّسَاءَ؟ إِنَّهُنَّ بِاتِّبَاعِهِنَّ نَصِيحَة بَلْعَامَ أَغْوَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِعِبَادَة فَغُورَ، وَكُنَّ سَبَبَ خِيَانَة لِلرَّبِّ، فَتَفَشَّى الْوَبَاء فِي جَمَاعَة الرَّبِّ، فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأطْفَالِ، وَاقْتُلُوا أَيْضًا كُلَّ امْرَأَة ضَاجَعَتْ رَجُلًا، وَلَكِنِ اسْتَحْيَوْا لَكُمْ كُلَّ عَذْرَاءَ لَمْ تُضَاجِعْ رَجُلًا). (سفر اليوم الأول: 31)، وهذا كله كلام لا علاقة له بالعدل والمنطق وهو حتمًا محرّف.

ونفس الأمر بالنسبة للمسيحية: فقد جاءت نصوص العهد القديم والعهد الجديد بتحريم القتل، وبيان فظاعة هذه الجريمة.

فأما العهد القديم: فنجد أنه يحرم القتل وينهى عنه ضمن الوصايا العشر. ففي العهد القديم، نقرأ على سبيل المثال: “لَا تَقْتُلْ”([7]).

ويحكي لنا العهد القديم كيف أن قايين قتل أخاه هابيل، وكيف أن الله عاقب قايين على هذه الجريمة باعتبارها أول جريمة قتل في ولد آدم. ففي العهد القديم نقرأ:

“وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيه وَقَتَلَهُ. فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: «لَا أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأخِي؟» فَقَالَ: «مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَي مِنَ الأرضِ. فَالآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأرضِ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَقْبَلَ دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ. مَتَى عَمِلْتَ الأرضَ لَا تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا. تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي الأرضِ». فَقَالَ قَايِينُ لِلرَّبِّ: «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ. إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَومَ عَنْ وَجْه الأرضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأرضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي». فَقَالَ لَه الرَّبُّ: «لِذلِكَ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَايِينَ فَسَبْعَة أَضْعَافٍ يُنْتَقَمُ مِنْهُ». وَجَعَلَ الرَّبُّ لِقَايِينَ عَلَامَة لِكَي لَا يَقْتُلَه كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ. فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِي عَدْنٍ”. (التكوين 4: 8- 16).

ولم يكتف العهد القديم بتحريم القتل، وإنما فرض عقوبة مكافئة له وهي القتل حدًّا، فمن قتل يقتل؛ ففي العهد القديم نقرأ: “مَنْ ضَرَبَ إِنْسَانًا فَمَاتَ يُقْتَلُ قَتْلًا”. (الخروج 12: 21).

وأما العهد الجديد فقد نقل عن السيد المسيح تأكيده لحرمة القتل ولحد القتل؛ ففي العهد الجديد نقرأ: “قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّه قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ” (متى 5: 21).

ووفقًا للعهد الجديد: لم يكتفِ السيد المسيح بتحريم القتل؛ وإنما حرم ما يؤدي غَالبًا إلى ارتكاب جريمة القتل وهو الغضب، واعتبره مُستوجبًا لحد القتل؛ ففي العهد الجديد نقرأ: “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيه بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ المَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ”. (متى 5: 22).

إلا أن كل تعاليم المسيحية الحقيقية قد نالها التحريف والتغيير لتتحول إلى تعاليمَ عدائيةٍ على عكس الحقيقة التي جاء بها المسيح، فمن ضمن ما ناله التحريف من نصوص الإنجيل (أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ أمَامي). إنجيل لوقا 19: 27، فالسبب وكما هو واضح الإكراه في الدين، فإما الإيمان أو القتل.

ومن ضمن هذه النصوص المحرفة:

– وأما حكم من لم يقاتل ومنع سيفه من شرب الدم فهو: (ملعون من يمنع سيفه عن الدم). (سفر إرمياء 48/10)، فالقتال في النصرانية المحرفة هو قتل كل حي، سواء كان إنسانًا أو غير، وهدم البيوت وحرق الأشجار (اعْبُرُوا فِي الْمَدِينَة وَرَاءَه وَاضْرِبُوا، لَا تُشْفِقْ أَعْيُنُكُمْ وَلَا تَعْفُوا، الشَّيخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ، اقْتُلُوا لِلْهَلَاكِ، وَلَا تَقْرُبُوا مِنْ إِنْسَانٍ عَلَيْه السِّمَةُ، وَابْتَدِئُوا مِنْ مَقْدِسِي، فابْتَدأوا بِالرِّجَالِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَمَامَ الْبَيْتِ). (سفر حزقيال 9: 5- 7).

– وَقَالَ لَهُمْ: (نَجِّسُوا الْبَيْتَ، وَامْلأُوا الدُّورَ قَتْلَى، اخْرُجُوا، فَخَرَجُوا وَقَتَلُوا فِي الْمَدِينَةِ). (سفر صموئيل الأول 15: 3- 11).

– وقال: (فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَه وَلَا تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا، وَأَمْسَكَ أَجَاجَ مَلِكَ عَمَالِيقَ حَيًّا، وَحَرَّمَ جَمِيعَ الشَّعْبِ بِحَدِّ السَّيْفِ. وَعَفَا شَاوُلُ وَالشَّعْبُ عَنْ أَجَاج وَعَنْ خِيَارِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمْلَانِ وَالْخِرَافِ وَعَنْ كُلِّ الْجَيِّدِ، وَلَمْ يَرْضُوا أَنْ يُحَرِّمُوهَا. وَكُلُّ الأملَاكِ الْمُحْتَقَرَة وَالْمَهْزُولَة حَرَّمُوهَا. وَكَانَ كَلَامُ الرَّبِّ إِلَى صَمُوئِيلَ: نَدِمْتُ عَلَى أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ شَاوُلَ مَلِكًا، لأنَّه رَجَعَ مِنْ وَرَائِي وَلَمْ يُقِمْ كَلَامِي). (سفر القضاة 21: 10- 11).

– فأرسلت الجماعة إلى هناك اثني عشر ألف رجل من بني البأس وأوصوهم قائلين: اذهبوا واضربوا سكان يابيش جلعاد بِحدِّ السيف مع النساء والأطفال. وهذا ما تعملونه. تحرّمون كل ذكر وكل امرأة عرفت اضطجاع ذكر: (ثُمَّ رَجَعَ يَشُوعُ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ وَأَخَذَ حَاصُورَ وَضَرَبَ مَلِكَهَا بِالسَّيْفِ، وَضَرَبُوا كُلَّ نَفْسٍ بِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. حَرَّمُوهُمْ. وَلَمْ تَبْقَ نَسَمَةٌ. وَأَحْرَقَ حَاصُورَ بِالنَّارِ. فَأَخَذَ يَشُوعُ كُلَّ مُدُنِ أُولَئِكَ الْمُلُوكِ وَجَمِيعَ مُلُوكِهَا وَضَرَبَهُمْ بِحَدِّ السَّيْفِ. حَرَّمَهُمْ كَمَا أَمَرَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ). (سفر يشوع 11: 10-12).

وهذا كله محض تحريف لا يمت إلى وحي الله لأنبيائه بصلة، بل إنهم يدعون أن الكتاب المقدس يرى ضرورة إرهاب العدو، يقول الرب: (وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم). (سفر إشعياء 13: 16)، فهل ثمة وصف لذلك غير الإرهاب، وهو ما أسس عليه هذا الدين النصراني المحرف، قال بولس في رسالته إلى العبرانيين (لأن إلهنا نار آكلة، يا إله النقمات يا رب). (المزمور 12: 29)، وكذلك تأمل في هذا النص: (ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا إذا سبب بعثته إلقاء السيف). (إنجيل متى، الإصحاح 10: 34).

أما بالنسبة إلى الإسلام فلم تتناقض نصوصه مع بعضها؛ لأنه لم ينَلْهُ التحريفُ ولا التأويل، والدليل على ذلك أنَّ خطبة الوداع -وهي من أواخر ما تناوله الشرع بالنسبة لحقوق الإنسان- لم تناقض أول ما جاء به الشرع بالنسبة لنفس الموضوع؛ فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى حقن الدماء، وإشاعة الرحمة والسلام؛ حيث دارت الخطبة حول حفظ الضرورات الخمس: الدين والنفس والعقل والعِرض والمال، وبذلك جمعت حقوق الإنسان التي لا تخرج أبدًا عن كونها ضرورة من تلك الضرورات.

وخطبة الوداع لها عدة روايات كلها صحيحة ثابتة؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كررها يوم عرفة ثلاث مرات في عدة مواطنَ بسبب الزحام الكبير، وهذا هو نص أشمل الروايات التي وردت في الخطبة الشريفة:

بعد أن حمد النبي صلى الله عليه وسلم الله وأثنى عليه، قال: ((أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلَّغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوسُ أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوعٌ كله، وإن كل دمٍ كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضَعًا في بني ليث فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية)).

وقد عقدت المستشرقة زيجريد هونكة مقارنة بين سلوك الصليبيين وسلوك المسلمين بعد دخولهم بيت المقدس، فكتبت: “نذكر هنا الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، الذي نشأ في الغرب تنشئة الملوك الشرفاء. فقد مرغ تلك السمعة الطيبة في العار، ودأب على تلويثها بشكل مخزٍ دائمًا أبدًا، فبينما أقسم بشرفه لثلاثة آلاف أسير عربي أن حياتهم آمنة، فإذا هو فجأة منقلب المزاج، فيأمر بذبحهم جميعًا، ويحذو قائد الجيش الفرنسي حذوه سريعًا. وهكذا لطخ بفعلته النكراء وسفكه تلك الدماء سمعته إلى الأبد، وضيع ثمرة انتصاره في أذيال الخزي والعار. وعلى العكس من هذا عرفنا صلاح الدين الذي أخزى قواد جيوش النصارى، فلم ينتقم قط من أسراهم النصارى الذين كانوا تحت رحمته، ردًّا على خيانتهم وغدرهم وفظاعتهم الوحشية التي ليس لها حد، ولقد أخزاهم صلاح الدين مرة أخرى حين تمكَّن من استرداد مدينة بيت المقدس التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تدانيها مذبحة وحشية وقسوة، فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقامًا لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضاربًا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية.

على العكس من المسلمين لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خلقي يفرض عليها أن تسمح لأولئك (الكفار) بممارسة حقوقهم الطبيعية… كما شعرت تلك الفروسية النصرانية بأنه ليس لزامًا عليها أن تلتزم بكلمة الشرف التي تعطيها لغير النصراني… والحق أن الفروق الحاسمة مع أتباع الملة الأخرى راسخة في تفهم كل من الإسلامِ والنَّصرانيَّةِ لطبيعته وفي اختلاف تفهم كل منهما للبشر”([8]) اهـ.

([1]) التحرير والتنوير (6/ 177).

([2]) سفر الخروج ٢١: ١٢- ١٥.

([3]) سفر الخروج: ٢١: ١٨، ١٩.

([4]) سفر الخروج ٢١: ٢٠، ٢١.

([5]) ينظر: الديانة اليهودية وموقفها من غير اليهود، إسرائيل شاحاك، ترجمة: حسن خضر- سينا للنشر، الطبعة الأولى ١٩٩٤، ١٣٢، ١٣٣.

([6]) يهودي ومن كبار علماء اليهود، وصاحب كتاب دلائل الحائرين، عاش في الأندلس، وكان طبيب الدولة الأيوبية، ينظر: الموسوعة الميسرة في الأديان ٥/ ١٤٦.

([7]) الخروج 13: 20.

([8]) كتاب الله ليس كمثله شيء (ص 73) المركز القومي للترجمة.

اترك تعليقاً