البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

مقدمة

145 views

إنَّ الفتوى بجانب كونها علمًا متكاملًا له أسسه ومنطلقاته وآليات صناعته فإنها علم له طابع فريد، وذلك من حيث ارتباطها المباشر بالإنسان والتصاقها بسياقاته الاجتماعية؛ مما فرض عليها تماسًّا حقيقيًّا مع سائر العلوم الإنسانية، وتشابكًا كبيرًا تبادلت فيه تلك الصناعة التأثير والتأثر مع تلك العلوم ومخرجاتها على نطاق واسع، وجعل لها حضورًا قويًّا وانعكاسًا لا يخفى في الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمعات المستفتين.

ومن أبرز المحددات التي تنتظم صناعة الفتوى في سياقها: فهم الواقع وإدراكه، فالفتوى لا تنفصل عن الواقع بحال، وفهم هذا الواقع بالنسبة إلى المفتي لا يقل أهمية عن فهم النص الشرعي، ودراسة الواقع بكل أبعاده دراسة دقيقة ومتفحصة هي التي تؤهله لعملية تنزيل الحكم الشرعي على هذا الواقع حتى يحدث التكامل والتناغم بين فقه الشرع وفقه الواقع، والتقصير فيه يُفوِّت مقصود الشارع من إقامة العدل والقسط؛ فالواقع في الحقيقة شريك في استنباط الحكم في عملية الفتوى.

وبالإضافة إلى فهم الواقع، يجب أن يدرك المفتي أن الفتوى وسائر أحكام الشرع إنما شُرعت لغاية وهي الحفاظ على المصالح الرئيسية لبني آدم، ولذلك فإن الفتوى يجب أن تدور مع تلك المصالح وأن تسعى في تحقيقها، وهو ما يجب أن يُدرَك لا سيما في قضايا النوازل المعاصرة، والتي كان منشأ اللغط فيها يعود بشكل كبير إلى غياب إدراك الواقع، والغفلة عن مقصود الشرع في تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم.

فالفتوى وصناعتها أداة شرعية يتمكن من خلالها المفتي من تعبيد الناس بشرع الله سبحانه وتعالى وفق مقاصد ذلك الشرع الحنيف، وتحقيقًا لمصالحهم التي راعاها الشارع وقصد إلى حفظها وصيانتها، وهو ما يبرز دور الفتوى الصحيحة في عمليات التنمية الشاملة، فلا شك أن جوهر التنمية يقوم على الحفاظ على تلك المصالح وتطويرها وتحسينها بأكبر قدر ممكن، وهو ما يجب أن تسعى الصناعة الإفتائية إلى تحقيقه والعمل عليه.

ولقد أضحت التنمية الاقتصادية في هذا العصر حلمًا يراود الجميع، وكلما قطعنا في تلك التنمية شوطًا طلبنا شوطًا آخر ساعين إلى أقصى ما يمكننا أن نصل إليه.

وتلك التنمية الاقتصادية هي حاصل مجموعةٍ من العوامل التي لا بد لها أن تتكامل فيما بينها لتصنع إطارًا تنمويًّا يمكن لسائر عمليات التنمية الاقتصادية أن تعمل من خلاله بفعالية ونجاح، وأول العوامل المكونة لذلك الإطار التنموي، هو الجانب الشرعي أو الديني.

وإننا على عكس غيرنا من الأمم نمتلك رؤيةً واضحةً لموقع الدين وعلاقته بالتنمية، فلم نمر بمراحل متناقضة كما حدث بعد النهضة الأوربية الحديثة والثورة الصناعية من قطيعة تامة مع الدين، ثم مراجعة نقدية صاحبها تطور في الفكر أدى في نهاية المطاف إلى الإقرار ولو جزئيًّا بأهمية الدين في عملية التنمية، فإننا لم نكن نحتاج لتلك المراجعات أو التطور الفكري لندرك ماذا يُمثِّلهُ الدين من موقع ٍفي عمليات التنمية الاقتصادية، بل إن رؤيتنا واضحة منذ البداية: إننا نتحرك من منطلقاتٍ أخلاقية وقيمٍ إنسانية يشكل الدينُ الجانب الأبرز والأهم منها.

إن الاقتصاد الوطني يحتاج إلى الأدوات الشرعية كافة إذا كان يأمل في تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية، وفي مقدمة ذلك يحتاج إلى الفتوى تحديدًا لتعزيز الاتجاهات التنموية، وإرشاد الناس إلى صحيح الدين وحكم الشرع في تلك الاتجاهات، فعلى سبيل المثال: فإن الممارسات الاقتصادية التي يمكن أن توصف بالفاسدة، تقوض تلك الجهود التنموية، وللفتوى دورها المؤثر في التصدي لتلك الممارسات ببيان حكم الشرع فيها وتنفير الناس منها، كما يحدث على سبيل المثال في التعاملات الملتوية في أسواق الأوراق المالية التي تهدف إلى المضاربة على الأسهم لإفساد الواقع المالي لهذه الأسهم والتدليس على جمهور المتعاملين، أو ما يفعله البعض من تخزين السلع لبيعها بأقل من سعر السوق، والاعتداء على حقوق الملكية والعلامات التجارية الأصلية.

إن كل تلك الممارسات وغيرها ترتبط بمنظومة القيم المجتمعية، والتي يشكل الدين ركنًا أصيلًا بل ومصدرًا رئيسيًّا في تكوينها، وتأتي الفتوى في دور الوسيط المرن الذي يسعى لنقلها وتنزيلها على الواقع العملي والاقتصادي لضبطه وتحقيق القدر اللازم من التنمية.

إن دور الفتوى في تحقيق التنمية الاقتصادية يتميز بكونه دورًا شموليًّا لأنه متشعب في عدة اتجاهات، فبجانب المشاركة المباشرة في قضايا التنمية الاقتصادية، فإنها تتصدى لجانب غاية في الأهمية في العملية التنموية، وهو الجانب الاجتماعي.

وقد يبدو للبعض أن الدور الذي تلعبه الفتوى في التماسك المجتمعي يخدم قضايا مجتمعية خاصة، ولكنه في الحقيقة يخدم في الأساس قضية التنمية الاقتصادية، ونحن لا نبالغ عندما نجزم بأن التماسك المجتمعي هو الذخيرة الاستراتيجية الحضارية بالنسبة للأمة، فذلك التماسك لا يمكن إغفاله لصالح الموارد والثروات الطبيعية أو غيرها، بل على العكس تمامًا، فإن الوحدة والتماسك لا يقل أهمية بل يزيد عن حجم الثروات والموارد، وإلا فإننا لا يمكن أن ننتظر من مجتمع مفكك متناحر أن ينجح في استغلال موارده بشكل يحقق التنمية، ونحن قد عاينَّا العديد من التجارب التاريخية التي فشلت فيها الثروات والموارد عن تحقيق مستوى معيشي آدمي في ظل حروب وتفككات مجتمعية أهلية.

إن القضايا الاجتماعية الاقتصادية كقضايا التكافل الاجتماعي أحد الأسباب المباشرة لدفع عجلة التنمية الاقتصادية، وهذا التكافل وتضافر الجهود، وشعور الجميع شعبًا وحكومة أنهم يد واحدة لهم هدف واحد يحتاج إلى وازع ديني وأخلاقي مُحكَم ووعي وبصيرة نافذة بمآلات الأمور، وهو ما تساعد في تحقيقه الفتوى.

والحقيقة أن دار الإفتاء المصرية قد جسَّدت كيف يمكن للفتوى أن تكون رقمًا مهمًّا في عمليات التنمية الاقتصادية في الفترة الأخيرة، وأصدرت العديد من الفتاوى لدعم التماسك والتكافل الاجتماعي الموطد لعمليات التنمية الاقتصادية، وربطت بشكل كبير بين قضايا التنمية وقضايا الفقر والصحة ونحو ذلك، فعلى سبيل المثال أجازت صرف زكاة المال في توصيل مياه الشرب للقرى الفقيرة بجميع الطرق، وحثت الدارُ الأغنياءَ على تحري أقربائهم الفقراء بالنفقة، وأجازت وضع الزكاة في الصندوق المركزي للضمان الاجتماعي باعتباره وكيلًا عن المزكين في صرف زكاتهم إلى مستحقيها، كما أجازت دفع المواطنين زكاةَ أموالهم وصدقاتهم لعمل مشاريع استثمارية وإنتاجية بأموال الزكاة والهبات والصدقات لدعم الاقتصاد المصري‏.

لقد أثبتت الفتوى قيمتها كأداةِ إصلاحٍ على الجانب الاجتماعي والسياسي والثقافي، وها هي تُثبت الآن أنها تمتلك نفس القدرة الإصلاحية على الصعيد الاقتصادي، وأنها ركن أساسي من أركان عمليات التنمية الاقتصادية الناجحة.

وفي هذا الكتاب نتناول قضية الاقتصاد الوطني ودور الفتوى في دعمه ومساندته، وذلك من خلال ثلاثة أبواب:

الباب الأول: المعاملات المالية الإسلامية والاقتصاد الوطني.

الباب الثاني: مقاصد الفتوى في المعاملات المالية.

الباب الثالث: الفتوى والاقتصاد الوطني.

والله من وراء القصد.

 

اترك تعليقاً