البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الأول: أطوار الفتوى

الفصل الخامس: الفتوى في العصر الحديث (مأسسة الفتوى)

84 views

تمهيد وتقسيم:

يرى بعض العلماء أن هذا الدور يبدأ من سقوط بغداد في القرن السابع الهجري، ويمتد إلى وقتنا الحاضر، وأن ظلال عصر التقليد لم تتلاشى دفعة واحدة بل ظلت أثارها ممتدة حتى بعد سقوط بغداد فلم ينهض الفقه من كبوته ولم يغير الفقهاء نهجهم، فالتقليد قد شاع حتى صار أمرًا مألوفًا، إلا أنه قد وجد أفراد هنا وهناك لم يرضوا بالتقليد، ونادوا بالاجتهاد المطلق، وتَلَمُّس الأحكام من الكتاب والسنة، دون تقيد بمذهب معين، إلا أن هؤلاء كانوا قلة، ولم يسلم بعضهم من النقد والإنكار من جمهور الفقهاء المقلدين.

واتجه فقهاء هذا الدور إلى التأليف، وكان الغالب عليه الاختصار حتى وصل إلى درجة الإخلال بالمعنى، وخفاء المقصود، وصارت العبارات ملغزة في هذه المختصرات، والتي سميت بالمتون احتاجت إلى شروح توضح معانيها، وتزيل الغموض عن عبارتها.

ثم ظهرت بجانب الشروح: الحواشي، وهي تعليقات، وملاحظات على الشروح.

إلا أن التأليف لم يقتصر على ما ذكرنا، فقد وجدت كتب الفتاوى وهي أجوبة لما كان الناس يسأل عنه الفقهاء في مسائل الحياة العملية، ثم تجمع هذه الأجوبة من قبل أصحابها، أو من قبل آخرين، وتنظم وترتب حسب أبواب الفقه.

كما أن هذه الفتاوى غالبًا ما يذكر معها أدلتها من نصوص المذهب الذي يتبعه الفقيه المفتي، أو تذكر الأدلة من الكتاب والسنة، وغيرهما دون تقيد بأدلة المذهب الواحد.(1)

وأبرز ما طرأ على الإفتاء في هذا الطور الأخير للفتوى هو ظهور مؤسسات خاصة بالفتوى، كان يتربع على رأس كل واحدة منها مفتٍ، ويتعدد المفتين بتعدد دور الإفتاء في الأقاليم الإسلامية.

  • المبحث الأول: الاجتهاد الجماعي والفتوى المجمعية.
  • المبحث الثاني: مأسسة الفتوى (مصر نموذجا).

1 راجع المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية (ص ٣٥٧).

المبحث الأول

الاجتهاد الجماعي والفتوى المجمعية

إن فكرة إنشاء مؤسسات للفتوى (دور أو هيئات الإفتاء) تستند في أصل نشأتها إلى مسألة الاجتهاد الجماعي، وتستمد المؤسسات الإفتائية أهميتها من حاجة العصر إلى الاجتهاد الجماعي.

الاجتهاد الجماعي:

من المقرر في كتب أصول الفقه وكتب آداب الفتوى أن المفتي لا بد من توافر أدوات الاجتهاد له حيث شرطوا أن يكون “قيمًا بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وما التحق بها على التفصيل، وقد فصلت في كتب الفقه، وغيرها -فتيسرت والحمد لله- عالمًا بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الأحكام منها، وذلك يستفاد من علم أصول الفقه، عارفًا من علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمي النحو، واللغة، واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالمًا بالفقه، ضابطًا لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها.

فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية، ولن يكون إلا مجتهدًا مستقلا.

والمجتهد المستقل: هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد”(1)

ولما كان ذلك متعذرا في العصور المتأخرة لا سيما بعد شيوع تقليد أئمة المذاهب الفقهية وتهيب العلماء للاجتهاد، أصبح من المناسب القول:

أ- بتجزئة الاجتهاد بمعنى أن يستقل المجتهد ببعض الأبواب أو المسائل الفقهية دون الباقي.

ب- بإعمال الاجتهاد الجماعي بمعنى أن يستعين المجتهد أو المفتي بأقرانه للوصول إلى رأي شرعي في الواقعة.

والاجتهاد الجماعي ليس ضربا من الخروج على مناهج السابقين بل هو تفعيل لأحد طرق الاجتهاد التي وقعت في عصور الصحابة والتابعين وكانوا قد تلقوها عن رسول الله  يدل على ذلك: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ: ” كَيْفَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ ” قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللهِ. قَالَ: ” فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟ ” قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ قَالَ: ” فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَةِ رَسُولِ اللهِ؟ ” قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو. قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرِي فَقَالَ: ” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يُرْضِي رَسُولَهُ”(2)

وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: “َشاوِرُوا فِيهِ الْفُقَهَاءَ وَالْعَابِدِينَ، وَلَا تَمْضُوا فِيهِ رَأْيَ خَاصَّةٍ”(3) أي لا تقضوا فيه برأي واحد.

فيتبين من ذلك أن الاجتهاد نوعان:

١- اجتهاد فردي في الأمور التي يكفي لمعرفة حكمها اجتهاد الفرد، وهو ما يعرف بالقياس ولواحقه.

٢- اجتهاد جماعي فيما يعرض للأمة من الأحداث العامة التي تحتاج إلى تبادل الرأي

وقد سار أصحاب رسول الله  على هذا النهج –بعد رسول الله - فكانوا إذا عرضت عليهم مسألة: نظروا حكمها في كتاب الله تعالى فإن لم يجدوا فيها نصا نظروا في سنة رسول الله  فإن لم يجدوا فيها جمع الخليفة رؤس الصحابة وخيارهم واستشارهم في المسألة المعروضة، فإن اجتمع رأيهم على شيء فيها قضى به.

هكذا كان يفعل الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكذلك فعل عمر بن الخطاب ومن جاء عدهم من السلف الصالح.(4)

وتبرز أهمية الاجتهاد الجماعي في العصر الحديث حيث يتسم الواقع بعدة سمات تجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يستوعب شخص واحد مهما علا كعبه في العلم أن يستوعب كل النوازل والمستجدات، بالإضافة إلى أن رأي الجماعة أقرب إلى الصواب من رأي الواحد.

والاجتهاد الجماعي من شأنه أيضا أن يقضي على فوضى الأراء لا سيما فيما يتعلق بالشأن العام أو ما يعرف بالمسائل المتعلقة بالأمة.

ولهذا يرى الشيخ عبد الوهاب خلاف أن “الذين لهم الاجتهاد بالرأي هم الجماعة التشريعية، الذين توافرت في كل واحد منهم المؤهلات الاجتهادية، التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب، واستكمل من المؤهلات؛ لن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية في الفقه الإسلامي كان من أكبر أسبابها: الاجتهاد الفردي، ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة إلا إذا توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته، إلا بالطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي والاستنباط فيما لا نص فيه.

فباجتهاد الجماعة التشريعية المتوافرة في أفرادها شرائط الاجتهاد تنفي الفوضى التشريعية وتشعب الاختلافات، وباستخدام الطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي يؤمن الشطط، ويسار على سنن الشارع في تشريعه وتقنينه.”(5)

ولعل الشيخ رحمه الله قد يقصد بالفوضى التشريعية كثرة الآراء من غير المستكملين أدوات الاجتهاد ولم تتحقق لهم الملكة اللازمة له، وإلا فآراء السابقين من أهل الاجتهاد ثروة عظيمة لا غنى للمفتي عنها.

وتظهر أهمية الاجتهاد الجماعي والإفتاء المؤسسي فيما يلي:

  1. ظهور الكثير من المستجدات التي نشأ عنها كثير من المسائل التي لم تكن موجودة قبل ذلك، بالإضافة إلى سرعة عجلة الحياة والتي أسهمت في سرعة تغير الواقع الذي هو أحد جهات تغير الفتوى.
  2. نشوء التخصص المنفرد:

فمن الملاحظ في العصر الحاضر وجود هذه التخصصات المختلفة، بحيث يتخصص الباحث في فرع من فروع العلم، مثل التخصص في اللغة العربية، أو التفسير والحديث، أو الفقه والأصول، وما إلى ذلك من فروع المعرفة، الأمر الذي يجعل أكثر العلماء في هذا العصر لا يحيطون بكل العلوم والمعارف، كما كان شائعا لدى السابقين من العلماء، فمن النادر بل ومن المستحيل أن يوجد الفقيه المجتهد الذي تتحقق فيه شروط الاجتهاد السابق ذكرها.

ولا مخرج لذلك إلا بالاجتهاد الجماعي، الذي يجمع شتات هذه العلوم بجمع عدد من التخصصات المختلفة، بحيث يكمل بعضهم البعض.(6)

  1. كثرة الخلافات والآراء الفردية حول المستجدات قد يسبب لدى عوام الناس نوع ممن التشويش والبلبلة، أما لو صدر الرأي من مؤسسة إفتائية تقوم على الاجتهاد الجماعي وتمحيص الآراء للوصول إلى الأقرب إلى الصواب والأنفع لحاجة المستفتين، فإنه يكون أقرب إلى الاطمئنان والقبول.
  2. اعتماد العصر الحديث على المؤسسات في القيام بكل ما لا يستطيعه الفرد حتى أصبحت المؤسسية إحدى سمات العصر الحديث، فكان من المناسب أن يكون للفتوى مؤسسات تقوم عليها.

1 أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص ٨٦) وما بعدها.

2 أخرجه أبو داود، (٣٥٩٢)، والترمذي،كيف يقضي (١٣٢٧).

3 سبق تخريجه.

4 الاجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية في تطبيقه (ص٦).

5 مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، ، عبد الوهاب خلاف (ص١٢).

6 الاجتهاد الجماعي ودور المجامع الفقهية في تطبيقه، (ص١٢٠).

المبحث الثاني

مأسسة الفتوى (مصر نموذجا)

في العصرين الأيوبي والمملوكي ومع رسوخ المذاهب الأربعة لأهل السنة في مصر تزايد عدد المدارس واتسع دورها لتكون مجلسًا للقضاء والإفتاء، فكان العلماء يجلسون لإفتاء الناس في هذه المدارس بصورة تطوعية.

وفي العصر المملوكي بدأ الاتجاه نحو تخصيص مرتب لبعض من يُختار للإفتاء، ولكن بصورة غيرِ رسمية؛ حيث ظهر من الواقفين من خصص مُرتبًا لواحد أو أكثر من العلماء مقابل أن يُفتيَ الناس فيما يسألون، وذلك في المجالس المعقودة في المدارس العلمية التي ازدهرت في ذلك العصر.

وكان من هؤلاء الواقفين السلطانُ حسن صاحب المسجد الشهير بمنطقة القلعة، الذي أسس “المدرسة الحسنية” واشترط في كتاب الوقف الخاص بتلك المدرسة، أن تكون بها وظيفة إفتاء على المذهب الشافعي، مع تحديد مَعْلوم -أجر- للقائم بها.

وفي منتصف القرن الثامن الهجري شهدت مصر للمرة الأولى في تاريخها تحولَ وظيفة الإفتاء من عملٍ تطوعيٍّ إلى وظيفةٍ رسميةٍ ثابتةٍ، يقوم بها موظفٌ رسميٌّ في الدولة يتقاضى مرتبًا عن عمله، وذلك تحت اسم (مفتي دار العدل) فيما عرف في العصر المملوكي بـ(دار العدل)، والتي كانت آخر ما ظهر من الوظائف القضائية في ذلك العصر. واستمرت في عملها قرابةَ قرنين، يقوم بالإفتاء فيها علماء من الشافعية في أول الأمر، ثم من المذاهب الأربعة جميعًا.

ولكن مع وجود منصب مفتي دار العدل وحتى اختفائِه لم ينقطع الإفتاءُ التطوعي في مصر، كما لم ينقطع في العالم الإسلامي، حتى في البلاد التي أُنشئت فيها دورٌ للعدل كالتي في مصر، مثل دمشق.. وكان الأمرُ في ذلك يتوقف على سمعة الشيخ وثقة الناس فيه وفي علمه، وقد اقترب عددُ المفتين غير الرسميين في دولة المماليك -مما أمكن الوقوف عليهم- من الخمسمائة.

وأما المؤهلات العلمية للمفتي فيأتي في مقدمتها “الإجازة بالإفتاء”، التي كانت من أهم الشهادات التي تُمنح للطلاب في العصر المملوكي. وقد ذكر الإمام السخاوي في كتابه “الذيل على رفع الإصر” جملة من هذه الإجازات التي تعبِّر عن قوة المدرسة العلمية في ذلك الوقت.(1)

ومع دخول مصر تحت حكم الدولة العثمانية مر نظام الإفتاء بأربع مراحل:

  1. مرحلة الإفتاء التطوعي: وهي استمرار لما كان الأمر عليه قبل ذلك من تصدر من كان مؤهلا من الفقهاء لممارسة الفتوى بعد إجازة العلماء له واشتهاره بالعلم والورع فيقصده الناس للفتوى سواء في حلقة الدرس أو خارجها، وفي هذه المرحلة لم يلقب أحد المفتين بلقب مفتي مصر أو مفتي الحنفية أو غيرها من المذاهب، وتشمل هذه المرحلة القرن العاشر كله، فلا نجد شيخًا أو فقيهًا حمل لقب «مفتي مصر» أو مفتي إقليم معين ولا مفتي مذهب معين، وكان أمر الإفتاء تطوعيًّا، وإن كان قد ظهر بعض كبار الفقهاء الذين تصدروا للفتوى وأصبحوا مرجع أهل مذهبهم فيها، ولكنهم لم يحملوا ألقابًا رسمية حيث لم تكن ثمة مناصب رسمية للإفتاء.
  2. بداية ظهور منصب رسمي للإفتاء مع وجود الإفتاء الشعبي: وهي المرحلة التي تميزت بظهور منصب رسمي للإفتاء إلى جانب استمرار –بل ترسيخ- مناصب الإفتاء التطوعية في المذاهب؛ فكان المنصب الرسمي هو «مفتي السلطنة العثمانية الشريفة بالديار المصرية» الذي ظهر في مطلع القرن الحادي عشر، واستغرق معظم القرن حيث استمر بشكل أو بآخر حتى سنة ١٠٨٧هـ. وباستثناء واحد مالكي وآخر حنفي فإن كل الذين شغلوا هذا المنصب كانوا شافعية، وكانوا من أسرة واحدة هي أسرة البكري التي توارثت المنصب، ولم تكن لهذا المنصب حدود وظيفية معروفة، وربما لم تكن له اختصاصات على الإطلاق، كما لم يكن شاغلوه من كبار الفقهاء المتصدرين للإفتاء، وإنما كان هذا المنصب نوعًا من الوجاهة الاجتماعية لأفراد أسرة البكري، ولهذا لم ينجح شاغلو هذا المنصب في إبطال مناصب الإفتاء التطوعية فاستمر مفتو المذاهب يقومون بدورهم. ومن ثم نستطيع القول بأن «مرحلة الإفتاء المزدوج: الرسمي والتطوعي» قد استمرت طوال القرن الحادي عشر.
  3. «مرحلة ترسيخ الإفتاء المذهبي»: وهي المرحلة التي تبدأ من سنة ١٠٨٧هـ بعد موت محمد بن زين العابدين البكري آخر من شغل منصب «مفتي السلطنة الشريفة بالديار المصرية»، وتستمر إلى بداية حكم محمد علي باشا حيث أهمل منصب «مفتي السلطنة» بعد محمد البكري ولم يشغله أحد بعده، ولم تستطع الدولة العثمانية أن تفرض سيطرتها على الإفتاء أو تعين مفتيًا من طرفها منذ ذلك الوقت، وخلا الميدان لمفتي المذاهب الذين كانت مكانتهم تزداد رسوخًا مع مرور الوقت، حتى إن هذه المناصب غير الرسمية للإفتاء قد تحولت في النصف الثاني من القرن الثاني عشر إلى مناصب رسمية محلية بعيدة عن سلطة الدولة العثمانية فكان مفتي كل مذهب يُنتخب بمعرفة شيوخ المذهب ويتم إلباسه خِلعة المنصب بمعرفة شيخ البلد كعلي بك الكبير أو محمد بك أبو الدهب أو غيرهم من كبار الأمراء كيوسف بك أو مراد بك، ثم ازدادت رسوخًا بظهور مناصب الإفتاء في الأقاليم المصرية المختلفة؛ حيث توسع الإفتاء أفقيًّا عن طريق ظهور مناصب إقليمية للفتوى فأصبح هناك «مفتي الإسكندرية» و«مفتي جرجا» وغيرها من الأقاليم. ثم ازداد الأمر اتساعًا فأصبح هناك مفتو المذاهب في الأقاليم؛ فوجد «مفتي الشافعية بثغر الإسكندرية»، وكذلك «مفتي المالكية بثغر الإسكندرية»، ومثل ذلك في سائر المدن والأقاليم وكذلك الثغور.

ومما ساهم في ترسيخ مكانة الإفتاء المحلي بعيدًا عن سيطرة الدولة العثمانية ورقابتها اكتساب المفتين سلطات قضائية؛ حيث أصبحت فتاواهم بمثابة أحكام قضائية يلتزم بها القضاة ولا يستطيعون تجاهلها، وأصبح المتقاضون على وعي بأهمية الفتوى إلى حد أن الكثيرين من المدعين والمدعى عليهم استخدموا الفتاوى في مرافعاتهم كوسائل لإثبات دعواهم أو لنفي ما ادعى به الآخرون عليهم، إلى جانب الدور السياسي للفتاوى الذي برز على الساحة بشكل طاغٍ خلال القرن الثاني عشر حيث لعبت الفتاوى دورًا كبيرًا في حسم كثير من الصراعات السياسية وصلت إلى حد عزل وتعيين الحكام.

  1. «مرحلة سيادة المذهب الحنفي»: وتبدأ هذه المرحلة مع تولي محمد علي باشا حكم مصر سنة ١٢٢٠هـ/١٨٠٥م.

لم يكتف محمد علي باشا بتعيين المفتين في المجالس التشريعية والقضائية التي أنشأها بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بتعيين مفتين في الدواوين -النظارات والوزارات فيما بعد- التي لها صلة بالعمل الشرعي والقضائي والجماهيري مثل ديوان الوالي وديوان الأوقاف، وسرعان ما اتسع المجال ليشمل عددًا أكبر من الدواوين في عهد خلفاء محمد علي فتم تعيين مفتين لديوان المعية السنية وديوان بيت المال وديوان الأوقاف الخصوصية وديوان الحقانية، وهذا كله إلى جانب تعيين مفتين في كل المديريات والمحافظات. وبذلك شكلت منظومة الإفتاء في مصر هرمًا مثلث القاعدة على رأسه مفتي السادة الحنفية بالديار المصرية –مفتي الديار المصرية فيما بعد-يليه مفتي الحقانية ثم مفتي الأوقاف ويليهم مفتو المجالس التشريعية والقضائية، ويمثل مفتو المديريات قاعدة هرم الإفتاء المصري المنبسطة على كل أقاليم مصر.

وقد عمل محمد علي تدريجيًّا على تأكيد سيادة المذهب الحنفي على سائر المذاهب بصفته المذهب الرسمي للدولة العثمانية؛ فتطور منصب «مفتي السادة الحنفية بالديار المصرية» وتغير مسماه عدة مرات؛ ففي البداية كان يسمى «مفتي أفندي الحنفية»، وله المكانة نفسها التي يتمتع بها مفتو المذاهب الأخرى في المجالس القضائية والتشريعية، ثم أصبح يسمى «مفتي أفندي مصر»، وأصبحت له الأفضلية على سائر المذاهب، ثم تحول في أواخر القرن الثالث عشر الهجري إلى «مفتي الديار المصرية»، ولم تعد لمفتي المذاهب الأخرى أية صفة رسمية، وقد تحوَّل مسمى منصب الإفتاء الحنفي من «مفتي السادة الحنفية بالديار المصرية» إلى «مفتي الديار المصرية» في عهد الشيخ محمد البناء الذي تولى منصب الإفتاء سنة ١٣٠٤هـ فهو أول من حمل لقب «مفتي الديار المصرية» بشكل رسمي.

وقد تحول مفتي المذهب الحنفي من مجرد مفتي مذهب إلى أن أصبح بمثابة مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر، فقد كان الشيخ محمد العباسي المهدي أول من جمع بين منصبي المشيخة والإفتاء، كما كان أول من تولى مشيخة الأزهر من فقهاء المذهب الحنفي والتي كانت حكرًا على الفقهاء الشافعية منذ أن تولاها الشيخ عبد الله الشبراوي، وبفقدان الشافعية لمنصب شيخ الأزهر لم يعد لهم أي وجود رسمي في دواوين الدولة(2)

وقد استقر أمر الفتوى في مصر في دار الإفتاء المصرية فهي الجهة الرسمية لإصدار الفتاوى الشرعية، وهذا لم يمنع قيام لجان للفتوى تابعة للأزهر الشريف في مختلف الأقاليم المصرية، وسوف يأتي مزيد بيان وإيضاح عن دار الإفتاء المصرية في هذه الدراسة.

الإفتاء في الدول الإسلامية المعاصرة:

على غرار إنشاء دار للفتوى في مصر نشأت دور وهيئات للإفتاء في معظم الدولة الإسلامية في العصر الحديث، وكل دار أو هيئة لها ظروفها الخاصة التي نشأت فيها والمقام لا يتسع لتفصيل القول حول نشأة كل واحدة منها، ومنهج الإفتاء الذي سارت عليه، فهذا له موضع آخر، لكن الذي ينبغي أن نشير إليه هو التأكيد على أهمية تعزيز دور هذه الهيئات الرسمية للفتوى حتى تتمكن من القيام بدورها على الوجه المطلوب الذي يواكب العصر ويلبي حاجة المستفتين وفق مقاصد الشرع الشريف حتى لا يطلبوا الفتوى من غير أهلها.

كذلك نؤكد على حسن التعاون بين هيئات ودور الإفتاء في العالم من خلال الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء العالمية التي تعتبر المرحلة التالية لمأسسة الفتوى.

وتعد الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء قنطرة لتبادل الخبرات بين المؤسسات الإفتائية، ودعامة للكيانات الإفتائية الناشئة، ويحسن بنا أن نختم هذا الباب بالتعريف بالأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء.

الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء إحدى ثمرات مأسسة الفتوى:

بعد أن أصبحت دار الإفتاء المصرية من أعرق المؤسسات الإفتائية في العالم الإسلامي، وقيامها بالدور المنوط بها وهو إصدار الفتاوى الشرعية تلبية لحاجة المستفتين، ومواكبة لمتغيرات العصر ومستجداته، خطت خطوة واسعة، ستكون بعيدة المدى عميقة الأثر.

وقد تمثلت هذه الخطوة في إنشاء الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء بالعالم، وذلك لمواصلة السعي الحثيث لقيادة قاطرة العالم الإسلامي في إصدار خطاب إفتائي منضبط بمناهج الإفتاء العلمية التي ورثناها عن علمائنا السابقين، وتبلورت في خبرات عملية متراكمة على مر السنين.

وقد تم إنشاء الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، يوم الرابع من شهر ربيع الأول ١٤٣٧هـ الموافق الخامس عشر من شهر ديسمبر ٢٠١٥م.

وضمت عضوية الأمانة ممثلين لأكثر من (٣٥) مفتيًا يمثلون دولهم من مختلف قارات العالم ونتطلع إلى مضاعفة هذا العدد في أقرب وقت ممكن.

ثم إننا نهدف من خلال هذه المقدمة إلى التعريف بالأمانة العامة وأهميتها ورؤيتها الخاصة ومساراتها وأهدافها وأهم مبادراتها والاحتياجات اللازمة للقيام بدورها والتعاطي الفعال مع القضايا الإفتائية للأمة؛ وذلك بهدف تقديم إطار شامل وكامل وجامع لهذا الكيان المهم والضروري للأمة والعالم ليعيد الوسطية إلى الخطاب الديني ويزيل عنه ما لحق به من تشوهات من هنا وهناك.

الأهمية والتوقيت:

يدرك الكثير من المراقبين والمهتمين بالشأن الديني بوجه عام، وشؤون الفتوى على وجه الخصوص، أن التشدد والتطرف يمثلان الخطر الأكبر والأهم على الأمة الإسلامية في شتى بقاع الأرض، بل إنه تخطى العالم الإسلامي ليشكل تهديدًا خطيرًا وملحًّا على الأمم والشعوب غير الإسلامية، وقد لعبت الفتاوى الدينية دورًا أساسيًّا في تلك العملية بما لها من قوة وتأثير لدى المسلمين، فقد تلاعبت جماعات العنف والتطرف بالفتوى الدينية لتشكل بها لبنة في بناء العنف والإرهاب المستشري في العالم، حتى وصلنا إلى مستويات غير مسبوقة أضحت معه جماعات العنف الديني العامل الأهم في هدم الدول وتفتيت الشعوب؛ لذا فإن مواجهة هذا الداء والقضاء عليه يمثل واجب الوقت والفريضة الأولى على علماء الأمة ومؤسساتها الوسطية.

ومن أجل رسم سياسات متعلقة بمعالجة فوضى الفتاوى والتصدي لفتاوى العنف والتطرف، تم إنشاء الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، لتشكل الخيط الناظم لمؤشرات الفتوى وضوابطها ليس في مصر والعالم الإسلامي بتنوعاته وتقسيماته وامتداده فحسب بل عند المسلمين أجمعين عبر دول العالم كله.

لماذا الأمانة العامة؟

تكمن أهمية الأمانة العامة في سياق زمانها ومكانها، فالتوقيت الآن يشهد موجة عنف لتيارات تبحث عن فتاوى تبرر لها العنف. وما الإحصائيات عنا ببعيد، فما يقدر بخمسين ألف مقاتل في صفوف “داعش” نصفهم من أبناء الأقليات المسلمة، وإعلام التنظيم يتحدث بـ١٢ لغة؛ ولذا كان على المؤسسات الدينية العريقة ذات الشأن في هذا المجال أن تعلن عن نفسها لترد بقوة وبحسم على الأفكار الضالة بمنهجية علمية رصينة.

أما المكان فقد تم الإعلان عن ميلاد هذه المظلة التي تجمع دور وهيئات الإفتاء في العالم على أرض مصر التي حملت لواء الاعتدال والتجديد والاستنارة على مر العصور والأزمان، لتشارك الإنسانية كلها هَمَّ مواجهة التطرف.

ويمكن القول بأن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم هي استجابة لمعطيات الواقع ومشكلات المسلمين وأوضاع دولهم وجالياتهم، فالأزمات والمشكلات التي يمر بها المسلمون في مختلف أرجاء المعمورة تتطلب استجابات نوعية تواكب حجم المشكلات والتحديات الراهنة، وقد كانت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم أول مؤسسة إسلامية في العالم تعنى بتجميع وتكتيل المؤسسات والهيئات الإفتائية في مختلف بقاع الأرض لتعيد إلى الفتوى دورها الإيجابي في حياة المجتمعات والشعوب، ولتزيل عنها ما لحق بها بسبب تصدر غير المتخصصين وأنصاف العلماء وأصحاب التوجهات المتطرفة للفتوى والرأي الديني.

رؤية الأمانة العامة:

تسعى الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم لأن تكون المظلة الجامعة لهيئات الإفتاء سواء في الدول الإسلامية أو لدى الجاليات المسلمة في كافة أرجاء المعمورة.

وتؤمن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم أيضًا بأن الفتوى الصحيحة هي إحدى اللبنات الرئيسية لبناء فرد ومجتمع ودولة وأمة مستقرين وفاعلين بين الأمم.

أهداف الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم:

تهدف الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم إلى:

  • ترسيخ منهج الوسطية في الفتوى.
  • إيجاد منظومة علمية وتأهيلية للقيادات المسلمة في العالم ترسخت عندهم قيم الوسطية والتعايش.
  • تبادل الخبرات العلمية والعملية والتنظيمية بين دور وهيئات الإفتاء من الأعضاء.
  • تقديم الاستشارات العلمية والعملية لدور وهيئات الإفتاء لتنمية وتطوير أدائها الإفتائي.
  • بناء شراكات علمية تدعم المنهج الوسطي في بلادها باعتبارها خط الدفاع الأول عن مبادئ الإسلام الصحيح.
  • المشاركة الفاعلة في تجديد الخطاب الديني عبر تقديم النماذج الواقعية في التجديد والتطوير وتأسيس المناهج وترسيخ الأفكار وتقديم البدائل.
  • تحقيق تكامل الجهود بين دور وهيئات الإفتاء في شكل منضبط ومنظم للإسهام في تصحيح الصورة والمفاهيم المغلوطة المشوهة، ومن ثم تخفيف ما لحق بالإسلام من عداء وتشويه تقوم به الجماعات المتطرفة.
  • تقليل فجوة الاختلاف بين جهات الإفتاء من خلال التشاور العلمي بصوره المختلفة.
  • تدعيم العلماء أصحاب المنهج الوسطي المعتدل.
  • التصدي لظاهرتي الفوضى والتطرف في الفتوى.
  • نشر قيم الإفتاء الحضارية في العالم للمشاركة في صياغة فلسفة البناء الحضاري العالمي.
  • التأكيد على أن الفتوى التي تصدر من غير المتخصصين تسبب اضطرابًا كبيرًا في المجتمعات كما نرى الآن في حالة داعش وأخواتها.
  • إعداد الكوادر الإفتائية والشرعية وزيادة خبرتها في مجالات العمل الإفتائي.
  • تدعيم الاستقرار والسلم الوطنيين والعالميين بمحاربة أفكار المتشددين والسعي في إجراءات المواجهة.(3)

1 انظر: الإفتاء المصري من الصحابي عقبة بن عامر إلى الدكتور علي جمعة (١/ ٣٠٣- ٣٧٠).

2 انظر: «الإفتاء المصري من الصحابي عقبة بن عامر إلى الدكتور علي جمعة»، الأجزاء: الثاني إلى الرابع.

3 موقع الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء الرابط التالي:http://www.fatwaacademy.org/ViewStaticPage.aspx?Code=About

اترك تعليقاً