البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الرابع: الفتوى في عصور التقليد.

52 views

تمهيد وتقسيم:

في هذا الطور من أطوار الفتوى فترت همم العلماء عن الاجتهاد المطلق، وعن الرجوع إلى المصادر التشريعية الأساسية لاستمداد الأحكام من نصوص القرآن والسنة، واستنباط الأحكام فيما لا نص فيه بأي دليل من الأدلة الشرعية، والتزموا اتباع ما استمدوه من الأئمة المجتهدين السابقين من الأحكام.

ابتدأ هذا العهد من منتصف القرن الرابع الهجري بالتقريب حين طرأت على المسلمين عدة عوامل: سياسية، وعقلية، وخلقية، واجتماعية أثرت في كل مظهر من مظاهر نهوضهم وأحالت نشاطهم التشريعي إلى فتور.

وهذا ما ستتناوله المباحث الثلاثة التالية:

  • المبحث الأول: الأحداث التي أثرت في المسيرة الإفتائية في عصور التقليد.
  • المبحث الثاني: المتصدرون للفتوى في عصور التقليد.
  • المبحث الثالث: سمات الفتوى في عصور التقليد.

المبحث الأول

الأحداث التي أثرت في المسيرة الإفتائية في عصور التقليد

في عصور التقليد طرأت على المسلمين عدة عوامل: سياسية، وعقلية، وخلقية، واجتماعية أثرت في كل مظهر من مظاهر نهوضهم وأحالت نشاطهم التشريعي إلى فتور.

وأبرز هذه العوامل الفرقة السياسية حيث انقسمت الدولة الإسلامية إلى عدة دول تتربص كل واحدة بغيرها وتكيد لها، فأثر ذلك بمقدار على الحياة العلمية فضعفت روح الاستقلال، ووقفت حركة الاجتهاد والتقنين، وماتت في العلماء روح الاستقلال الفكري، فلم يردوا المعين الذي لا ينضب ماؤه وهو القرآن والسنة، بل راضوا أنفسهم على التقليد، ورضوا أن يكونوا عالة على فقه الأئمة السابقين: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأقرانهم، وحصروا عقولهم في دوائر محدودة من فروع مذاهب هؤلاء الأئمة وأصولها. وحرموا على أنفسهم أن يخرجوا عن حدودها، وبذلوا جهودهم في ألفاظ أئمتهم، وعباراتهم لا في نصوص الشارع ومبادئه العامة، وبلغ من ركونهم إلى أقوال أئمتهم أن قال أبو الحسن الكرخي من العلماء الحنفية: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ. وبهذا وقف التشريع عند ما وصل إليه أئمة العهد السابق، وقصر عن مسايرة ما يجد من التطورات، والمعاملات، والأقضية، والوقائع.(1)

وليس من شك في أنه كان في كل طور من الأطوار مجتهدون ومقلدون، ولكن هذا الطور سرى فيه روح التقليد سريانا عاما، واشترك فيه العلماء وغيرهم من جمهرة الأمة؛ فبعد أن كان مريد الفقه يشتغل بدراسة الكتاب ورواية السنة، صار في هذا الطور يتلقى كتاب إمام معين، ويدرس طريقته، فإذا أتم ذلك صار من العلماء الفقهاء، وربما ارتفعت ببعضهم همته فألف كتابا في أحكام إمامه اختصارا أو جمعا أو شرحا، دون أن يستجيز لنفسه أن يقول في مسألة من المسائل قولا يخالف ما أفتى به إمامه.(2)

وقد بلغ الأمر حدا من الجمود حتى نادى بعض العلماء بإقفال باب الاجتهاد، وقالوا: لم يترك الأوائل للأواخر شيئا.

وكانت حجتهم في ذلك قصور الهمم وخراب الذمم، وتسلط الحكام المستبدين، وخشية أن يتعرض للاجتهاد من ليس أهلا له ، إما رهبة أو رغبة ، فسدا للذرائع أفتوا بإقفال باب الاجتهاد.

وتعرض بعض من خالف الأوائل في آرائهم لسخط العامة والخاصة، ولكن مع هذا فقد كان يظهر بين الفينة والفينة من ادعى الاجتهاد أو ادعي له، وكانت لهم اجتهادات لا بأس بها كابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والكمال بن الهمام الحنفي المذهب، فقد كانت له اجتهادات خرج فيها على المذهب . . . ومن هؤلاء تاج الدين السبكي صاحب جمع الجوامع، وأبوه من قبله.

وأيا ما كان فقد كان اجتهاد هؤلاء لا يخرج عن ترجيح رأي على رأي، أو حل لمشكلة عارضة لم يتعرض لها الأئمة المتقدمون.

ومما أدى إلى جمود الفقه في هذه الحقبة أن جهود العلماء التشريعية في هذا العهد اتجهت إلى أقوال الأئمة وأحكامهم، وأنهم بدل أن ينظروا في النصوص الشرعية وتعليلها، والتوفيق بين مظاهر التعارض منها، واستنباط الأحكام منها، قصروا نظرهم على أقوال الأئمة وتعليلها والترجيح بين المتعارضات منها، وبعد أن كان المسلمون في العهد السابق فيهم عامة يقلدون، وأئمة يقلدون صاروا كلهم في العهد مقلدين، ونسي العلماء ما قاله أبو حنيفة فيمن سبقه، من الفقهاء: هم رجال ونحن رجال.

وما قاله مالك بن أنس: ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم .

وقول الشافعي: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.(3)

والذي تركن إليه النفس ويحث عليه الشرع أنه لا بد أن يكون في الأمة علماء متخصصون، على علم بكتاب الله وسنة رسوله ومواطن الإجماع وفتاوى الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم. كما ينبغي أن يكونوا على دراية تامة باللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ودونت بها السنة النبوية، وأن يكونوا قبل ذلك وبعد ذلك على الصراط المستقيم، لا يخشون في الله لومة لائم، لترجع إليهم الأمة فيما نزل بها من أحداث، وما يجد من نوازل، وألا يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فيلج فيه من لا يحسن قراءة آية من كتاب الله في المصحف، كما لا يحسن أن يجمع بين أشتات الموضوع، ويرجح بعضها على بعض.

والذين أفتوا بإقفال باب الاجتهاد إنما نزعوا عن خوف من أن يدعي الاجتهاد أمثال هؤلاء ، وأن يفتري على الله الكذب ، فيقولون هذا حلال وهذا حرام ، من غير دليل ولا برهان.(4)

أبرز الأسباب التي أدت إلى شيوع التقليد بين العلماء:

يمكن إجمال أبرز الأسباب التي ساعدت على انتشار التقليد بين العلماء وعدم التطلع إلى الاجتهاد فيما يلي:

  1. انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك، يتناحر ملوكها وولاتها وأفرادها، فهذا الانقسام شغل ولاة الأمور بالحروب والفتن، وتدابير وسائل القهر والغلبة، وشغل الناس معهم؛ فدب الانحلال العام، وفترت الهمم في العلوم والفنون، وكان لهذا الانحلال أثره في وقوف حركة التشريع.
  2. تدوين المذاهب الفقهية ووثوق الناس بها؛ لما توافر لها من التهذيب والترتيب والتنقيح، فأخذ الجمهور بها، ومضت سنة الناس عليها، فكان ذلك حائلا أمام أي رأي جديد يأتي من خارج المذاهب الفقهية؛ لأنهم لا يثقون في غيرهم ثقتهم في أئمة المذاهب المتبوعة.
  3. القضاء: فقد كان الخلفاء يختارون قضاتهم فيما مضى من الذين يتوسمون فيهم العلم بكتاب الله وسنة رسوله ، والقدرة على استنباط الأحكام؛ ثم يكلون إليهم الحكم بما يظهر لهم بعد أن يأخذوا عليهم ألا يعملوا إلا بالنصوص فيما فيه نص، أو بالرأي الذي هو أقرب للنص؛ كما في رسالة أمير المؤمنين عمر إلى قاضيه أبي موسى الأشعري، وفيها يقول: “القضاء فريضة محكمة أو سنة متبعة، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك، مما ليس في كتاب ولا سنة، فاعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق فاعمل به”(5)

ثم كان القضاة إذا لم يظهر لهم وجه الصواب في حادثة يستشيرون من معهم في بلدهم من المفتين، وكانت ثقة الجمهور بهؤلاء القضاة عظيمة، حتى تغيرت الحال الاجتماعية بامتداد الزمن، فضعفت الثقة بهم، وانضاف إلى ذلك –في لزوم العلماء المذاهب الأربعة مع قدرتهم على الاستنباط- ما يرويه ولي الله الدهلوي عن أبي زرعة تلميذ البلقيني: من أن الامتناع عن الاجتهاد مع القدرة عليه؛ إنما كان من أجل أن الامتناع من ذلك إنما كان للوظائف التي قدرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وأن من خرج على ذلك واجتهد لم ينله من تلك الوظائف شيء، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس من استفتائه.

ومهما يكن مبلغ هذا القول الذي رواه أبو زرعة ووافقه عليه شيخه البلقيني من الغلو؛ فإن شيئا من هذا لا بد أن يكون قد حدث في كثير من الأمكنة، على اختلاف الأقطار والأمصار.(6)

  1. إهمال المسلمين تنظيم السلطة التشريعية وعدم وضع نظام يضمن استمرار قيام المجتهدين في الأئمة:

لما أهمل المسلمون تنظيم السلطة التشريعية ولم يضعوا نظاما كفيلا بألا يجترئ على الاجتهاد إلا من هو أهل؛ دبت الفوضى في التشريع والاجتهاد، وادعى الاجتهاد من ليس أهلا له، وتصدى لإفتاء المسلمين جهال عبثوا بنصوص الشريعة وبحقوق الناس ومصالحهم؛ وبهذا تعددت الفتاوى وتباينت، وتبع هذا تعدد الأحكام الأقضية، حتى كان القضاء يختلف في الحادث الواحد في البلد الواحد، وكل ذلك نافذ في المسلمين، وكله يعتبر من أحكام الشريعة، فلما فزع من هذه الفوضى العلماء حكموا في أواخر القرن الرابع بسد باب الاجتهاد، وتقيد المفتين والقضاة بأحكام الأئمة السابقين، فعالجوا الفوضى بالجمود.(7)

حدود التقليد المذموم:

يبالغ بعض الناس في الطعن على من قلد عالما في أمر من أمور دينه، وربما شبه بعضهم المقلدين بالمشركين في قولهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}، ويستدلون بهذه الآية على منع التقليد مطلقا سواء كان في الأصول أو في الفروع، وسواء كان الشخص قادرا على الاجتهاد أم لا.

والحق أن التقليد في العقائد والمسائل الأساسية في الدين، وهي المعلومة من الدين بالضرورة لا تقليد فيها لعالم، مهما كانت مكانته، بل لا بد من اقتناع تام بثبوتها عن صاحب الشرع ولو بصفة إجمالية.

أما المسائل الفرعية التي تتطلب النظر في الأدلة التفصيلية فإن تكليف العامة بالنظر في الأدلة تكليف شاق لا تستقيم معه الحياة، إذ لو كلفنا كل مسلم أن ينظر في كل مسألة نظرة المجتهد فإن الصناعات ستتعطل، ومصالح الناس ستهمل. وما لنا نطيل الكلام في ذلك وسلف الأمة – وهم خير القرون كما شهد لهم الرسول  – لم يكونوا كلهم مجتهدين ، بل كان المجتهدون قلة قليلة ، وكان المكثرون منهم لا يتجاوزون الثلاثة عشر شخصا.

على أن من استطاع أن يجتهد فعليه أن يجتهد متى توفرت له أسبابه وتوفرت فيه شروطه.

ومن العجب أن بعض هؤلاء المغالين يقول: إنه يكفي الشخص ليكون مجتهدا أن يكون لديه مصحف وسنن أبي داود وقاموس لغوي، فيصبح بذلك مجتهدا لا حاجة له إلى تقليد إمام من أئمة المسلمين، فلو أنه يكتفي بالمصحف وبسنن أبي داود والقاموس لكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم مجتهدين؛ لأنهم إما عرب خلص، أو نشأوا في بيئة عربية خالصة، وشاهدوا أحداث التنزيل، وقريبو عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك الادعاء يكذبه الواقع. والقول بأن تقليد الأئمة في الأمور الظنية شرك وتأليه لهم، قول لا أصل له، فليس هناك أمي – فضلا عن متعلم – يرى أن للأئمة حق التحليل والتحريم الذي هو حق خالص لله سبحانه وتعالى، بل كل ما يعتقد فيهم أن هذا الإمام أو ذاك موثوق بعلمه موثوق بدينه أمين على دين الله غير متهم.

ومن العجب أن أكثر هؤلاء الذين يدعون الاجتهاد ويدعون إليه في هذه الأيام لا يحسن أحدهم أن يقرأ آية صحيحة من المصحف، فضلا عن أن يستنبط منها حكما شرعيا، فأقل ما يجب أن يتصف به المجتهد أن يكون متعمقا في اللغة العربية، عالما بالناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص والمطلق والمقيد، إلى غير ذلك مما يتطلب إعدادا خاصا لا يتوفر إلا للقلة القليلة المتفرغة.(8)

فالاجتهاد مرتبة سامية لا يتسنمها إلا من تأهل لها وجمع أدواتها، وليس بابا مفتوحا يلجه كل من هب ودب، ومن لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد يسعه تقليد أحد المجتهدين في مسائل الفقه.

1 علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع (ص ٢٦٠).

2 راجع معالم الشريعة، (ص٢٢٧).

3 علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع (ص٢٦٣).

4 راجع الموسوعة الفقهية الكويتية، (١/٤٢).

5 أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار، (٧/١٠٣).

6 معالم الشريعة، (ص٢٢٩) وما بعدها.

7 علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع (٢٦١).

8 راجع الموسوعة الفقهية الكويتية، (١/٤٠ وما بعدها).

المبحث الثاني

المتصدرون للفتوى في عصور التقليد

تصدى للفتوى في هذا العصر فقهاء المذاهب الفقهية التي كتب لها البقاء والاستمرار، وكان الواحد منهم لكي يصل إلى هذه المرتبة لا بد وأن يجالس العلماء ويأخذ عنهم حتى يشتهر بذلك بين الناس ويطمئنوا إلى علمه وديانته فيستفتونه في شئونهم، أو كان الواحد منهم يحصل على إجازة مكتوبة من شيخة بالإفتاء وذلك إذا آنس الشيخ منه رشدا ونبوغا في الفتوى.

ويمكن أن تعتبر الإجازة في هذا العصر وفي سابقه بمنزل الشهادة العلمية التي يحصل عليها طالب العلم لكي يسوغ تعينه في وظيفة مناسبة لمؤهله الدراسي، فكانت الإجازة تحدد التخصص الذي برع فيه الخريج، والمجال الذي يصلح للعمل فيه، ولا يسمح له بالعمل إلا في المجال الذي حصل على الإجازة فيه، فثمة إجازات في الفقه، وأخرى في الإفتاء، وثالثة في الحديث، ورابعة في النحو، وغير ذلك من مجالات العلوم المختلفة.

وكانت مكانة الخريج تتوقف على مكانة أساتذته الذين تلقى عنهم العلم، أو حصل على الإجازات منهم، ولذلك تجد كتب التراجم التي تترجم للقضاة والمفتين في هذه الحقبة تحرص على ذكر أسماء أساتذة المترجم له، بل وذكر نصوص الإجازات التي حصلوا عليها أحيانا.

وكانت الإجازة بالإفتاء من أهم الإجازات التي يمكن أن تمنح لطالب العلم؛ لأن العمل بالفتوى ليس متاحا لكل فقيه كما هو معلوم، وكان الأستاذة يذكرون في الإجازة السبب الذي جعلهم يمنحون الطالب تلك الإجازة، والمميزات التي تميز بها الطالب، وكان بعض تلك الإجازات قطعا بلاغية رائعة، حتى إن بعض المؤلفين لكتب التراجم كان يحرص أحيانا على تدوين نص الإجازة التي حازها المترجم له.(1)

وقد ذكرنا في عصر الأئمة المجتهدين أن هناك جملة من المذاهب الفقهية قد نشأت إلا أن جميع هذه المذاهب لم يكتب لها الاستمرار، فهناك مذاهب انقرضت، كمذهب سفيان الثوري المتوفى سنة (١٦١هـ)، وقد أخذ عنه الأوزاعي (ت ١٨٠هـ) إمام أهل الشام، ومذهب الليث بن سعد عالم مصر ومفتيها في زمانه، ومذهب إسحاق بن راهويه (ت ٢٤٠هـ).

أما المذاهب التي كتب لها الانتشار والسيادة على غيرها في القرن الرابع الهجري: المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، ومذهب الداودية، كما نرى مذاهب أخرى أقل انتشارا كالمذهب الحنبلي، ومذهب الراهوية ومذهب الأوزاعي.

على أن السيادة قد أصبحت على مر الزمن للمذاهب الأربعة المشهورة، وظلت على ذلك إلى وقتنا هذا، وقد وقف الاجتهاد عند هذه المذاهب(2).

فقد أخذت المذاهب الأربعة تتغلب مع الزمن، وغيرها من المذاهب السنية يَدْرُسُ، حتى إذا كان القرنُ السابع تم لها التغلب والتمكن. وأفتى الفقهاء بوجوب اتباعها، فدرس ما عداها إلا بقايا من المذهب الظاهري، بقيت في بعض البلاد إلى القرن الثامن، ثم درست كما قدمنا.

قال المقريزي: “فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس البُنْدُقْدَارِيِّ، ولي بمصر(3) والقاهرة أربعة قضاة وهم: شافعي، ومالكي، وحنفي، وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة خمس وستين وستمائة، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعري وعملت لأهلها المدارس والخوانات والزوايا والربط، في سائر ممالك الإسلام، وَعُودِيَ من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه، ولم يُوَلِّ قاض ولا قبلت شهادة أحد، ولا قدِّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلدًا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم”.(4)

ويعلق أحمد تيمور باشا على كلام المقريزي السابق فيقول:

“ولا ريب في أن المراد عند جمهور المسلمين، وإلا فمذهب الإباضية كان ولم يزل معمولاً به في بلادهم شرقًا وغربًا، وفقه الشيعة معمول به في فارس وغيرها من البلدان.

وفي قوله: «وعقيدة الأشعري» نظر لأن الحنفية يتبعون في الأصول عقيدة الماتريدي، إلا أن يكون عَدَّهُمْ من الأشعرية بالمعنى الذي أراده التاج السبكي وسبق لنا بيانه، وكأنه لم يعتد بالحنابلة لقلتهم مع أن لهم عقيدة خاصة كما قدمنا”(5).

ثم ختم كلامه بذكر مبلغ انتشار المذاهب الفقهية الآن عند جمهور المسلمين، فقال:

“الغالب على المغرب الأقصى الآن المذهب المالكي، وهو الغالب أيضًا على الجزائر وتونس وطرابلس، لا تكاد تجد فيها من مقلدي غيره إلا الحنفية بقلة، وهم من بقايا الأسر التركية وأكثرهم في تونس، ومنهم أفراد بيت الإمارة بها، ولهذا تمتاز حاضرتها بالقضاء الحنفي مشاركًا للقضاء المالكي، وأما سائر أعمالها فقضاتها مالكية، وفي الحاضرة كبير المفتين وهما: الحنفي ويلقب بشيخ الإسلام وله التقدم والزعامة المعنوية على الجميع، والمالكي وله المقام الثاني، وقد تساهلوا الآن في تلقيبه بشيخ الإسلام أيضًا.

ومع قلة المقلدين للمذهب الحنفي فإن من السنن المتبعة عندهم أن يكون نصف مُدَرِّسِي جامع الزيتونة حنفية، والنصف مالكية. وإنما امتاز الحنفي بذلك لكونه مذهب الأسرة المالكة.

ويغلب في مصر الشافعي والمالكي: الأول في الريف، والثاني في الصعيد والسودان. ويكثر الحنفي وهو مذهب الدولة وَالمُتَّبَعُ في الفتوى والقضاء، والحنبلي قليل بل نادر.

ويغلب الحنفي في بلاد الشام، يكاد يشمل نصف أهل السنة بها، والربع شافعية، والربع حنابلة.

ويغلب الشافعي على فلسطين، ويليه الحنبلي، فالحنفي، فالمالكي.

ويغلب الحنفي على العراق، ويليه الشافعي، ويليه مالكية وحنابلة والغالب على الأتراك العثمانيين والألبان وسكان بلاد البلقان: الحنفي، وعلى بلاد الأكراد الشافعي، وهو الغالب على بلاد أرمينية لأن مسلميها من أصل تركماني أو كردي.

والسنيون من أهل فارس أغلبهم شافعية وقليل منهم حنفية.

والغالب على بلاد الأفغان: الحنفي، ويقل الشافعي والحنبلي. والغالب على تركستان الشرقية المسماة أيضًا بالصينية فكان الغالب عليها الشافعي، ثم تغلب الحنفي بمسعى العلماء الواردين عليها من بخارى.

والغالب على بلاد القوقاز وما والاها: الحنفي، وفيهم الشافعية.

والغالب في الهند: الحنفي، ويقدر اتباعه بنحو ٤٨ ألف ألف، وأتباع الشافعي بنحو ألف ألف، ويكثر بها أهل الآثار، وفيها مذاهب أخرى مما لم نتعرض لذكره.

ومسلمو جزيرة سَرَنْدِيبْ (سَيْلاَنْ) وجزائر الفلبين والجاوة وما جاورها من الجزائر: شافعية، وكذلك مسلمو سِيَامْ، ولكن بها حنفية بقلة وهم النازحون إليها من الهنود.

ومسلمو الهند الصينية شافعية، وكذلك مسلمو أستراليا. وفي البرازيل من أمريكا نحو ٢٥ ألف مسلم حنفية، وفي البلاد الأمريكية الأخرى مسلمون مختلفو المذاهب ويبلغ عدد الجميع نحو ١٤٠ ألفًا.

والغالب على الحجاز: الشافعي والحنبلي، وفيه حنفية ومالكية في المدن، وأهل نجد حنابلة، وأهل عسير شافعية، والسنيون في اليمن وعدن وحضرموت شافعية أيضًا – وقد يوجد بنواحي عدن حنفية.

والغالب على عُمَانَ «مذهب الإباضية» ولكنها لا تخلو من حنابلة وشافعية، ويغلب على قطر والبحرين المالكي، وفيهما حنابلة من الواردين عليها من نجد.

والغالب على أهل السنة في الإحساء الحنبلي والمالكي والغالب على الكويت: المالكي، والله أعلم(6).

فكان في كل إقليم مفت أو أكثر على حسب المذاهب الفقهية الموجودة في كل إقليم، وقد يجتمع أربعة مفتون للمذاهب الأربعة كما كان الحال في مصر أيام دولة المماليك.

1 راجع الإفتاء المصري من الصحابي عقبة بن عامر إلى الدكتور علي جمعة (ص٢٧١) وما بعدها.

2 راجع تاريخ الإسلام، حسن إبراهيم حسن، (٤/٤٢١، وما بعدها).

3 المراد بمصر «الفسطاط» وكانت منفصلة عن القاهرة، ثم اتصلت بها بعد ذلك وصارت قسمًا من أقسامها، وهي ما يعرف اليوم: بقسم مصر القديمة.

4 المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المقريزي (٤/ ١٦٧).

5 نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة وانتشارها عند جمهور المسلمين، أحمد تيمور باشا، (ص٨٦).

6 نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة وانتشارها عند جمهور المسلمين، (ص٨٦) وما بعدها.

المبحث الثالث

سمات الفتوى في عصور التقليد

  1. مصادر الفتوى في هذا العصر كانت هي كتب المذاهب الفقهية الأربعة فكان كل مفت يتقيد بمذهبه الفقهي ولا يخرج عنه، ويحرص على المنصوص عليه في كتب علماء المذهب أنه معتمد الفتوى.
  2. أن الفتوى كانت عملا تطوعيا كما كان الشأن في عصر الصحابة والتابعين وعصر أئمة الاجتهاد، فكان يمارس الفتوى من أجازه مشايخه بها بعد أن رأوه أهلا لذلك، فإذا جمع مع العلم الورع والتقوى أقبل الناس عليه وقدموه على من دونه.
  3. تعدد المفتين وفقا لتعدد المذاهب الفقهية في المصر الواحد، أو الاقتصار على مفت واحد إذا كان المصر يروج فيه هذا المذهب ولا يزاحمه فيه غيره.
  4. انحصرت اهتمامات العلماء في ذلك العهد في الانتصار لمذهب من المذاهب الفقهية الأربعة، والإشادة بإمامه وبأعيانه، كما تصدى للفتوى كثير ممن لا يحسنونها ولا يتقنون أدواتها؛ فظهرت فتاوى متناقضة ومتعارضة في المسألة الواحدة، مما أوقع المستفتين في حيرة لم يعرفوا معها وجه الحق فيما يريدون معرفته.(1)

1 راجع مقومات الإسلام، د. أحمد الطيب، (ص٢٢١).

اترك تعليقاً