البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثالث مناهج الفتوى

الفصل الثاني: العلاقة بين "الفتوى" و"والاجتهاد

126 views

قبل أن نلج إلى المقصود وهو مناهج الفتوى، نحن بحاجة إلى إلقاء الضوء على الاجتهاد لما بينه وبين الإفتاء من الصلة الوثيقة لا سيما في كتابات المتقدمين حيث إن الاجتهاد كان من لوازم الإفتاء، ولا شك أن هذه الصلة الوثيقة بين الاجتهاد والإفتاء، تؤثر في مناهج الإفتاء.

ويمكن أن نتناول الحديث عن الاجتهاد في النقاط التالية:

أولا: تعريف الاجتهاد ومجاله وشروطه:

أ- معنى الاجتهاد:

  • الاجتهاد في اللغة: بذل المجهود، واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد، فيقال: اجتهد في حمل حجر الرحا، ولا يقال اجتهد في حمل خردلة.

ثم صار هذا اللفظ في عرف العلماء مخصوصا: باستفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعي.

والاجتهاد التام أن يبذل الفقيه الوسع في الطلب، بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب(1).

والاجتهاد في الشريعة الإسلامية هو ينشأ عن الفهم الصحيح لكتاب الله تعالى وسنة رسوله ، وهو وسيلة لمعرفة الحكم الشرعي فيما يواجه المسلمين من مشكلات العصر ووقائعه المستجدة، وإن ما يبذله المجتهد في ذلك من الجهد عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى في نطاق البحث عن الأحكام التي أمر الله عباده أن يلتزموا بها.

والاجتهاد هو سر حيوية الشريعة الإسلامية، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، فإن الوقائع التي تستجد حكمها موجود في الشريعة إما نصا أو استنباطا.

ب- مجال الاجتهاد:

وأما مجال الاجتهاد فقد قال الآمدي: «وأما ما فيه الاجتهاد فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظنيًّا». فالمجتهَد فيه -إذن- هو ما لم يكن فيه دليل صحيح الثبوت صريح الدلالة من الكتاب والسنة بناء على قاعدة «لا اجتهاد مع النص»(2).

فمجال الاجتهاد هو الأحكام الظنية الدليل، وإنما تأتي ظنية الدليل من جهة ثبوته أو من جهة دلالته أو من جهتهما معًا.

فلا اجتهاد في القطعيات، وإنما الاجتهاد في الظنيات.

ج- ضرورة الاجتهاد في هذا العصر:

الاجتهاد من فروض الكفايات، ولا بد للأمة من مجتهد يقوم بهذا الواجب الكفائي وإلا وقع الجميع في الحرج الشرعي، وقد يكون المجتهد فردا، أو مجموعة أفراد، والأنسب لزماننا هذا هو الاجتهاد الجماعي الذي تقوم به المؤسسات العلمية المنوط بها النظر فيما يستجد من الوقائع.

والاجتهاد ضرورة في هذا العصر؛ تلبية لحاجة المستفتين فيما يعرض لهم من مستجدات نتيجة التطور السريع في حركة الحياة، فلا يمكن أن نتخيل مجتمعًا يريد أن يتقدم ويتطور وهو لا يتوفر على مؤسسات علمية مختلفة يتخرج فيها المتخصصون في شتى صنوف المعرفة.

فإن المجتمع لا يتطور ولا يتقدم إلا بوجود المتخصصين الذين يساعدون على وصول المجتمع إلى هدفه، كذلك الأمر بالنسبة للمجتمع الإسلامي فهو يحتاج كباقي المجتمعات إلى متخصصين في شتى صنوف المعرفة وفي مقدمتهم أهل الاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي.

لقد كان الاجتهاد دائمًا ضرورة فقد اجتهد النبي  واجتهد الصحابة واجتهد التابعون، ثم برز أئمة الاجتهاد من أصحاب المدارس الفقهية الذين وضعوا مناهج الاستنباط والاستدلال، ولم يخلُ الزمان من مجتهد.

وفي عصرنا الحاضر صار الاجتهاد أكثر ضرورة فإن القضايا المعروضة أمام المسلمين اليوم هي أشد تعقيدًا من القضايا التي طُرحت في العصور الماضية، والإسلام قادر دائمًا على أن يواجه الواقع والقضايا ليخضعها لتصوراته؛ فنحن بحاجة إلى فقه إسلامي معاصر ينبني على دراسات عميقة لقضايانا.

د- الشروط الواجب توافرها في المجتهد:

لقد نص العلماء على الشروط التي لا بد من توافرها ليكون المجتهد أهلًا لهذا المنصب، وقد تباينت هذه الشروط فيما بينها بين عصر وآخر وبين طبقات المجتهدين، وقد فرقوا بين المجتهد العام الذي يفتي في كل أبواب الفقه والمجتهد الخاص الذي يجتهد في باب معين.

وقد حفلت كتب الأصول بالحديث عن الشروط التي يجب توافرها في طبقات المجتهدين، وقد نوقشت تلك الشروط واختلفت الأقوال فيها، إلا أن هناك شروطًا لا تتغير من عصر لآخر منها:

  1. وجوب العلم باللغة العربية، ولا يقصد منه استيعاب كل مفرداتها واستعمالات قبائلها، إنما علم المجتهد يجب ألا يتقاصر عن معرفة أسرارها في الجملة؛ لأن الأحكام التي يتصدى لبيانها وعاؤها الأول القرآن الكريم، وهو أبلغ كلام في اللغة العربية.
  2. المعرفة بالقرآن معرفة عامة يدرك بها ما اشتمل عليه القرآن من أسرار، مع التركيز على آيات الأحكام التي أوصل العلماء عددها إلى خمسمائة آية.
  3. وجوب العلم بالسنة، ويجب على المجتهد أن يكون له أصل يرجع إليه في المباحث التي تمكنه من الانتفاع بالسنة ككتب الرجال وكتب مصطلح الحديث وغيرها.
  4. معرفة المجتهد بالمجمع عليه والمختلف فيه، وذلك يقتضي منه الاطلاع على التراث الفقهي بصفة عامة ليكون على علم بمواضع الإجماع التي أجمع عليها السلف.
  5. العلم بمقاصد الشريعة؛ لأن المدرك لأسرار الشريعة العالم بمقاصدها الملم بالغاية التي بُعث من أجلها الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي يستطيع أن يستعمل الأدوات المعرفية ليستقيم اجتهاده.

ثانيا: علاقة الاجتهاد بالفتوى:

سبق أن أشرنا إلى وجود صلة وثيقة بين الاجتهاد والفتوى، ونوضح هنا -في هذه النقطة- علاقة الاجتهاد بالفتوى، فالفتوى أعم من الاجتهاد من حيث الماهية؛ فكل فتوى اجتهاد، وليس كل اجتهاد فتوى، وذلك باعتبار أن الفتوى استنباط للحكم ثم إعلام وإخبار عن ذلك الحكم خلافًا للاجتهاد فإنه استنباط للحكم، ولا يجب بالضرورة الإعلام والإخبار عن الحكم، وخاصة إذا لم يكن هناك سؤال أو حاجة.

والفتوى أعم من الاجتهاد من حيث الأدوات الواجب توافرها فيمن يتصدى لكل واحد؛ فكل مفتٍ مجتهد (يجب أن يكون مجتهدًا)، وليس كل مجتهد مفتيًا؛ وذلك لأن الفتوى منصب زائد ورتبة زائدة على رتبة الاجتهاد؛ فكأن المرء يبدأ مجتهدًا بتحصيله أدوات الاجتهاد، ثم يصير بعد ذلك مفتيًا باستثماره أدوات الاجتهاد وأدوات إضافية متمثلة في معرفة الواقع ومعرفة الناس ومعرفة العادات والتقاليد والأعراف إلخ.

وتقريرًا لهذه العلاقة يذهب غالب الأصوليين إلى اعتبار الاجتهاد شرطًا من شروط الإفتاء، وبناء على ذلك فإن ثمة اتفاقًا بين المحققين من الأصوليين على كون أدوات الاجتهاد جزءًا لا يتجزأ من أدوات الإفتاء، فمن لم يتمكن من أدوات الاجتهاد فإنه لا ينبغي له أن يتصدى للفتوى بل إنه يحرم عليه ممارسة الإفتاء شرعًا وعقلًا، وإذا أفتى قبل إشرافه علي أدواته عُدَّت فتواه افتئاتًا على الله تعالى وقولًا بغير علم، وقد ورد النهي الصريح عن ذلك في قوله تعالى: ﴿ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﴾[النحل: ١١٦] .

وأكد هذا النهي عدة أحاديث نبوية منها ما أخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه»(3).

فنخلص من هذا إلى أن الاجتهاد يُعد في حقيقته مقدمة ضرورية للفتوى، بمعنى أنه لا يجوز لامرئ غير حائز على أدوات الاجتهاد التصدي لصناعة الفتوى، ويُستأنس لذلك بما دأبت عليه المدونات الأصولية من الاكتفاء بذكر شروط الاجتهاد عند بيان شروط الإفتاء، وقررت أن ذات الشروط الواجب توافرها في الاجتهاد يجب توافرها فيمن يتصدى للإفتاء من باب أولى، وتنضاف إليها شروط وآداب وخصال أخرى.

فخلاصة الأمر: أن الاجتهاد والفتوى لا يتقابلان وإنما يتكاملان، وأن بينهما العموم والخصوص؛ فالفتوى أعم من الاجتهاد، والاجتهاد أخص من الإفتاء، كما أن الاجتهاد يعد مقدمة ضرورية للفتوى، مما يعني توقف القيام بمهمة الإفتاء على تمكن المتصدي للفتوى من أدوات الاجتهاد قبلًا.

ثالثًا: الاجتهاد ومفتي الضرورة:

الأصل في اختيار من يتصدر للقيام بمهمة الإفتاء أن يكون قد بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق، يقول الكمال بن الهمام: «لا يفتي إلا المجتهد، وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كأبي حنيفة على جهة الحكاية، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي»(4).

وعلى الرغم من اعتبار الاجتهاد شرطًا في المفتي إلا أن الحنفية المتأخرين نصوا على اعتباره شرط أولوية لا شرط صحة، ولذا فيجوز عندهم تولية المقلد منصب الإفتاء لتعذر الاجتهاد في الأزمنة المتأخرة، لكن إذا وُجد المجتهد كان هو الأولى.

يقول الإمام ابن القيم عن جواز الفتوى بالتقليد: «والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل»(5).

مفتي الضرورة:

أدى شيوع التقليد بعد نهاية القرن الثالث الهجري وعدم توفر المجتهدين للقيام بوظيفة الإفتاء إلى ظهور مصطلح “مفتي الضرورة”، وهو ذلك الفقيه الذي لم تتوافر فيه شروط المفتي وعلى رأسها الاجتهاد، فهو مقلد، واقتضت الضرورة أن يكون متصدرًا للفتوى لسبب أو لآخر.

وقد تناول العلماء الكلام على مفتي الضرورة في مؤلفاتهم عند حديثهم عن حكم (تقليد المقلد)، وذلك إذا دعت الضرورة إلى ذلك.

يقول ابن حمدان: «فمن أفتى وليس على صفة من الصفات المذكورة من غير ضرورة فهو عاص آثم؛ لأنه لا يعرف الصواب وضده، فهو كالأعمى الذي لا يقلد البصير فيما يعتبر له البصر؛ لأنه بفقد البصر لا يعرف الصواب وضده»، وقال بعد أن ذكر آراء العلماء في تقليد المقلد: «فعلى هذا: من عددناه من أصناف المفتين من المقلدين ليس على الحقيقة من المفتين، ولكن قاموا مقامهم وأدوا عنهم، فعدوا معهم، سبيلهم في ذلك أن يقولوا مثلًا: “مذهب أحمد كذا وكذا، ومقتضى مذهبه كذا وكذا”، أو نحو ذلك، ومن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامه: إن كان ذلك منه اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح بالمقال جاز»(6).

وقد علل ابن صلاح قول المانعين لتقليد المقلد بــــــأن: “من قال: لا يجوز أن يفتي بذلك، معناه أنه لا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه، بل يضيفه ويحكيه عن إمامه الذي قلده، فعلى هذا من عددناه في أصناف المفتين من المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتين، ولكنهم قاموا مقام المفتين وأدوا عنهم فعدوا معهم، وسبيلهم في ذلك أن يقولوا مثلًا: مذهب الشافعي كذا وكذا، ومقتضى مذهبه كذا وكذا، وما أشبه ذلك، ومن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامه إن كان ذلك “منه” اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح بالمقال فلا بأس”(7).

إذًا فــالأصل أن يتولى منصب الإفتاء المستجمعون لشروط الإفتاء، فإن تعذر ذلك لسبب أو لآخر فلا بأس بالاستعانة بــ(مفتي الضرورة) حينذاك.

أسباب الاستعانة بـ(مفتي الضرورة):

  1. عدم توافر المفتين المجتهدين أو قلتهم.
  2. أنه قد يوجد المفتون المجتهدون ولكن يتعذر الوصول إليهم والتواصل معهم.
  3. أن اتساع العمران وانتشار البشر في أماكن متفرقة على سطح الأرض والوصول إلى أماكن لم يصلها الإنسان قبل ذلك، أفرز واقعًا جديدًا لم يكن موجودًا من قبل متمثلًا في وجود أقليات مسلمة في أطراف متنائية، وفي مثل هذه الظروف يكون من الصعب وجود الذين تتوفر فيهم شروط الإفتاء على الهيئة المذكورة.
  4. كثرة الأسئلة الإفتائية بحد يفوق قدرة استيعاب المفتين المجتهدين –على فرض وجودهم-مما يلجئ للاستعانة بـ(مفتي الضرورة).
  5. أن قصر الفتوى على المفتين المجتهدين فقط يؤدي إلى خلل عظيم في حفظ الدين الذي هو أحد المقاصد الخمسة الضرورية التي جاءت بها الشريعة السماوية؛ فحفظ الدين يكون ببيانه للناس حتى يتعلموه ويعملوا به ويبلغوه لمن بعدهم، ومهمة المفتي الأساسية هي بيان حقائق الدين وأحكامه للناس ليعرفوها ويلتزموا بتطبيقها فتنصلح بذلك حياتهم الدنيوية والأخروية؛ فلو خلا منصب الإفتاء من المفتين ترتب على ذلك الإخلال بمهمة بيان الدين مما يؤدي إلى الإخلال بتطبيقه تطبيقًا صحيحًا فيؤدي إلى جهل الناس بالدين وترك العمل به.

1 المستصفى، الغزالي (ص٣٤٢).

2 الإحكام في أصول الأحكام (٤/١٦٤)

3 سبق تخريجه.

4 فتح القدير (٧/٢٥٦).

5 إعلام الموقعين عن رب العالمين (١/٣٦، ٣٧).

6 صفة الفتوى والمفتي والمستفتي (ص٢٤-٢٦).

7 أدب المفتي والمستفتي (ص١٠٣).

اترك تعليقاً