البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثاني صناعة الفتوى

الفصل الأول صناعة الفتوى، المفهوم، والمراحل، والمهارات

115 views

تمهيد وتقسيم:

يتناول هذا الفصل مفهوم “صناعة الفتوى” من حيث الأصل اللغوي ثم المعنى الاصطلاحي مستفيضًا في الحديث عن معنى هذا المفهوم، ويستعرض المراحل الأساسية لتلك الصناعة وما يحدث في ذهن المفتي، ثم يستعرض مهارات تلك الصناعة، والحديث في هذا الفصل مقسم وفق المباحث التالية:

  • المبحث الأول: مفهوم صناعة الفتوى.
  • المبحث الثاني: مراحل صناعة الفتوى.
  • المبحث الثالث: مهارات صناعة الفتوى.

مفهوم صناعة الفتوى

لكي نحدد مفهوم صناعة الفتوى لا بد وأن نقف أولا على معنى لفظة “صناعة” من خلال الرجوع إلى كتب اللغة.

تعريف الصناعة لغة:

تدور مادة (صنع) على كل ما يعمل ويظهر فيه أثر العمل، حرفة كان أو كلاما، أو مظهرا، أو خلقا خيرا كان أم شرا، وعلى الحذق في العمل فيقال للحاذق فيه صَنَع وصَنَاع.

يقول ابن فارس: “الصَّادُ وَالنُّونُ وَالْعَيْنُ أَصْلٌ صَحِيحٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ عَمَلُ الشَّيْءِ صُنْعًا، وَامْرَأَةٌ صَنَاعٌ وَرَجُلٌ صَنَعٌ، إِذَا كَانَا حَاذِقَيْنِ فِيمَا يَصْنَعَانِهِ. قَالَ:

خَرْقَاءُ بِالْخَيْرِ لَا تَهْدِي لِوِجْهَتِهِوَهْيَ صَنَاعُ الْأَذَى فِي الْأَهْلِ وَالْجَارِ

وَالصَّنِيعَةُ: مَا اصْطَنَعْتَهُ مِنْ خَيْرٍ، وَالتَّصَنُّعُ: حُسْنُ السَّمْتِ، وَفَرَسٌ صَنِيعٌ: صَنَعَهُ أَهْلُهُ بِحُسْنِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ. وَالْمَصَانِعُ: مَا يُصْنَعُ مِنْ بِئْرٍ وَغَيْرِهَا لِلسَّقْيِ”(1).

ويقول صاحب القاموس: “صَنَعَ إليه مَعْروفاً، كمنَع، صُنعاً، بالضم، وصَنَعَ به صَنيعاً قبيحاً: فَعَلَهُ، والشيءَ صَنْعاً بالفتح والضم: عَمِلَهُ، وما أحسَنَ صُنْعَ اللهِ، بالضم، وصَنيعَ اللهِ عندَكَ، والصِّناعةُ، ككتابةٍ: حِرْفَةُ الصانِعِ، وعَمَلُه: الصَّنْعَةُ، وصَنْعَةُ الفرسِ: حُسْنُ القِيامِ عليه، صَنَعْتُ فَرَسِي صَنْعاً وصَنْعَةً، والصَّنِيعُ: ذلك الفرسُ، والسيفُ الصَّقِيلُ المُجَرَّبُ، والسَّهْمُ كذلك، والطعامُ، والإِحْسَانُ، كالصَّنِيعَةِ، ج: صنائِعُ.

وهو صَنِيعِي وصَنيعَتي، أي: اصْطَنَعْتُه ورَبَّيْتُه وخَرَّجْتُه، وصُنِعَتِ الجاريةُ، كعُنِيَ: أُحْسِنَ إليها حتى سَمِنَتْ، كصُنِّعَتْ، بالضم، تَصْنِيعاً، أو اصْنَعِ الفرسَ، بالتخفيف، وصَنِّعِ الجاريةَ، بالتشديد، أي: أحْسِنْ إليها وسَمِّنْها، لأن تَصْنِيعَ الجاريةِ لا يكونُ إلا بأشياءَ كثيرةٍ وعِلاجٍ، ورجلٌ صِنْعُ اليدَينِ، بالكسر وبالتحريك، وصَنيعُ اليدَينِ، وصنَاعُهُما: حاذِقٌ في الصَّنْعَةِ من قومٍ صُنْعَى الأَيْدِي، بضمةٍ وبضمتينِ وبفتحتينِ وبِكَسْرَةٍ، وأصْناعِ الأيْدي، وحُكِيَ: رِجالٌ ونِسْوَةٌ صُنُعٌ، بضمتين، ورجلٌ صَنَعُ اللسانِ، محركةً، ولسانٌ صَنَعٌ: يقالُ للشاعِرِ، ولكلِّ بَليغٍ، وامرأةٌ صَناعُ اليدينِ، كسحابٍ: حاذِقةٌ، ماهِرةٌ بعَمَلِ اليدينِ، وامرأتانِ صَناعانِ، ونِسْوَةٌ صُنُعٌ، ككُتُبٍ”(2).

وتأتي المادة نفسها للدلالة على الإيجاد والإتقان، والتعهد حتى بلوغ الغاية، قال ابن منظور: “وَقَوْلُهُ تَعَالَى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ؛ قَالَ أَبو إِسحاق: الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، فَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الْمَصْدَرِ لأَن قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ، دَلِيلٌ عَلَى الصَّنْعةِ كأَنه قَالَ صَنَعَ اللهُ ذَلِكَ صُنْعاً، وَمَنْ قرأَ صُنْعُ اللَّهِ فَعَلَى مَعْنَى ذَلِكَ صُنْعُ اللَّهِ. واصْطَنَعَه: اتَّخَذه. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) … قَالَ الأَزهري: أَي رَبَّيْتُكَ لِخَاصَّةِ أَمري الَّذِي أَردته فِي فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. وَفِي حَدِيثِ آدَمَ: قَالَ لِمُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: أَنت كَلِيمُ اللَّهِ الَّذِي اصْطَنَعَك لِنَفْسِهِ”(3)

تعريف: الصناعة اصطلاحا:

قال الجرجاني: “الصناعة: ملكة نفسانية تصدر عنها الأفعال الاختيارية من غير روية”(4).

وقال أبو البقاء الكفوي: “الصِّنَاعَة: كل علم مارسه الرجل سَوَاء كَانَ استدلاليا أَو غَيره حَتَّى صَار كالحرفة لَهُ فَإِنَّهُ يُسمى صناعَة، وَقيل: كل عمل لَا يُسمى صناعَة حَتَّى يتَمَكَّن فِيهِ ويتدرب وينسب إِلَيْهِ.

وَقيل: الصَّنْعَة (بِالْفَتْح) الْعَمَل، والصناعة قد تطلق على ملكة يقتدر بهَا على اسْتِعْمَال المصنوعات على وَجه البصيرة لتَحْصِيل غَرَض من الْأَغْرَاض بِحَسب الْإِمْكَان والصناعة (بِالْفَتْح): تسْتَعْمل فِي المحسوسات، وبالكسر فِي الْمعَانِي، وَقيل: بِالْكَسْرِ حِرْفَة الصَّانِع وَقيل: هِيَ أخص من الحرفة، لِأَنَّهَا تحْتَاج فِي حُصُولهَا إِلَى المزاولة، والصنع أخص من الْفِعْل كَذَا الْعَمَل أخص من الْفِعْل فَإِنَّهُ فعل قصدي لم ينْسب إِلَى الْحَيَوَان والجماد”(5).

فالصناعة على ذلك أخص من العمل ما دام اشترط فيها حصول الملكة التي يتمكن بها من مزاولة صنعته، و”الملَكة هي صفة راسخة في النفس، وتحقيقه أنه تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، ويقال لتلك الهيئة: كيفية نفسانية، وتسمى: حالة، ما دامت سريعة الزوال، فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها وصارت بطيئة الزوال فتصير مَلَكَة، وبالقياس إلى ذلك الفعل: عادةً وخلقًا”(6).

ولذلك المبتدئ في صناعة ولم تحصل له ملكة فيها يُعد دخيلا فيها ما لم يحذقها، قال أبو البقاء الكفوي: “والدخيل فِي الصِّنَاعَة: الْمُبْتَدِئ فِيهَا يُقَال: هَذَا دخيل فِي بني فلَان: إِذا انتسب إِلَيْهِم وَلم يكن مِنْهُم”(7).

وبعد أن بينا معنى الصناعة لغة واصطلاحا، وسبق لنا بيان معنى الفتوى قبل ذلك، ننتقل إلى بيان معنى المركب الإضافي منهما بعد أن صار لقبا على جملة من المعارف والملكات.

تعريف صناعة الفتوى بالمعنى اللقبي:

مصطلح “صناعة الفتوى” مركب إضافي فلابد من طلب معناه بعد الإضافة، ونستطيع أن نعرفه من خلال ما سبق بأنه: الملكة التي يقتدر بها على تصور وتكييف النوازل الحادثة ثم تنزيل الأحكام الشرعية عليها مع مراعاة الواقع، وإجادة توصيلها للمستفتين عبر الوسائل المتنوعة.

وهذا التعريف أولى من قول بعضهم: “تلك الملكة الراسخة وذلك العلم المنهجي الموضوعي الواعي الذي يقتدر به على إخبار السائل عن حكم الشرع بدليله في نازلة إخبارا يمكنه من تمثل ذلك الحكم والصدور عنه في ضوء الواقع المعيش”(8).

لأن التعريف غير جامع إذ لم يستوعب أركان الصنعة الإفتائية، مع اشتراطه ذكر الدليل وهو لا يشترط عند الجمهور، ولا يكون المفتي فاقدا للصنعة إذا لم يذكره، وغير ذلك.

والركن الأهم للصنعة الإفتائية معرفة كيفية تنزيل حكم الله تبارك وتعالى على الواقع بمراعاة جهات الفتوى الأربع من الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، حتى تكون الفتوى صحيحة وصائبة ومتوافقة مع المقاصد الشرعية، ويظهر لنا هذا المعنى بجلاء ما حدث في عهد النبي  في حديث (صاحب الشجة): فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي  أخبر بذلك فقال: “قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر -أو يعصب شك موسى-على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده”(9).

فقد ذم النبي  الذين أفتوا (صاحب الشجة)، بظاهر علمهم من أن المحتلم يجب عليه الاغتسال كما هو ظاهر القرآن والسنة، وهي فتوى خاطئة بل وقاتلة، لأن الأمر ليس مجرد مجموعة من النصوص، بل هذه النصوص لها فقه دقيق في (الفهم والتنزيل)، وهو أمر لا يقوم به ولا يتصدر له إلا أهل (التخصص)، ثم بين النبي  الواجب في مثل هذه الحادثة أمرين:

الأول: ردع المتهجمين على الفتوى بغير علم، فجعل المتصدر للفتوى بغير علم كأنه هو الذي باشر القتل بنفسه ولم يتأول لهم أو يعتذر عنهم، فدعا عليهم وقال: “قتلوه قتلهم الله”، قال الإمام الخطابي: “في هذا الحديث من العلم أنه عابهم بالفتوى بغير علم وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم وجعلهم في الإثم قتلة له”(10).

الثاني: الدعوة إلى سؤال أهل الذكر والمتخصصين فقال: “ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال”، قال ابن رسلان: “(فَإِنمَا شِفَاءُ العِيِّ) بكسر العَين هو: التحير في الكلام، قيل هو: ضد البَيَان، (السُّؤَالُ) يعني: لمَ لمْ يسألوا، ولم لم يتعلموا ما لا يعلمون؟ فإنَّه لا شفَاء لداءِ الجَهْل إلا التعلم… وفيه أن الجهَل داء عضال، فينبغي أن يَطلب دَوَاؤه وهو سُؤَال أهْل العلم وأي داء أدوى مِنَ الجهَل؟! قَالَ اللهُ تعالى: ﴿ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﴾ ونظير مسألة المستفتي سُؤَال الطَبيب إذا أتلفَ بطبه واللهُ أعَلَم”(11).

إذًا فالفتوى ليست أمرًا ساذجا وبسيطًا، بل هي نوع من القضايا المركبة التي تقترن بمقدمات كبرى وصغرى للوصول إلى نتيجةٍ هي الفتوى؛ لذلك فهي (صنعة) و(صناعة)، “ووجه كون الفتوى صناعة: أن المفتي عندما ترد إليه نازلة يقلب فيها النظر أولًا في الواقع، وهو حقيقة الأمر المستفتَى فيه إن كان عقدًا من العقود المستجدة، كيف نشأ وماهي عناصره المكونة له؟ كعقود التأمين والإيجار المنتهى بالتمليك مثلًا، وبعد تشخيص العقد وما يتضمنه يبحث عن الحكم الشرعي الذي ينطبق على العقد إن كان بسيطًا، وعلى أجزائه إن كان مركبًا، مستعرضًا الأدلة على الترتيب من نصوص وظواهر -إن وجدت-وإلا فاجتهاد بالرأي من قياس بشروطه، واستصلاح، واستحسان”(12).

وغير ذلك من طرق الاستنباط، فالحقيقة أن مرحلة التشخيص والتكييف للموضوع مرحلة “معقدة” و “مركبة” وهي “صنعة” بكل ما تحمله هذه اللفظة من معاني ودلالات.

فالفتوى تعتبر من الصناعات الثقيلة لما يكتنفها من إعداد وتأهيل وتدريب، وما يترتب عليها من آثار ومآلات.

والمقصود الأهم من جعل الفتوى صناعة إخراج غير المعلومين بها وغير المؤهلين للفتيا وإقصائهم من دائرة المفتين، لأن أهل الصنعة مع اختلاف رتبهم فيها لابد من توافر شروط فيهم ولو بالحد الأدنى حتى يتسم باسم صانع فتوى، وكذا دلالة المبتدئين الذين لم تحصل لهم الملكة على عدم تسرعهم حتى يتقنوا صنعتهم.

بين صناعة الفتوى وفقه النفس:

مصطلح صناعة الفتوى وإن لم يكن شائعا في كتابات المتقدمين إلا أنه ليس ببعيد عما ذُكر في كتب الأصوليين، وكتب أدب الفتوى من اشتراطهم في المفتي أن يكون فقيه النفس، سواء أكان مجتهدا أم دونه، والمقصود بفقه النفس: أن يكون شديد الفهم بالطبع لمقاصد الكلام، أي أن يكون له استعداد فطري يؤهله للاجتهاد.

وقد عد إمام الحرمين هذا الفقه رأس مال المجتهد، وقال: “ولا يتأتى كسبه؛ فإن جبل على ذلك فهو المراد، وإلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب”(13).

والمراد باشتراطها في المجتهد –المطلق أو المنتسب- أن تكون عنده “القدرة على استخراج أحكام الفقه من أدلتها كما يعلم ذلك من حد الفقه، فتضمن ذلك أن يكون عنده سجية وقوة يقتدر بها على التصرف بالجمع، والتفريق، والترتيب، والتصحيح، والإفساد؛ فإن ذلك ملاك صناعة الفقه.

قال الغزالي: إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها فليس بفقيه”(14).

واشتراطها فيمن لم يبلغ رتبة المجتهد بمعنى أنه “حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، وبنصرته، يصور، ويحرر، ويمهد، ويقرر، ويزيف، ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك، إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لكونه لم يرتضي في التخريج والاستنباط كارتياضهم، وإما لكونه غير متبحر في علم أصول الفقه على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أداته، على أطراف من قواعد أصول الفقه، وإما لكونه مقصرًا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد”(15).

ونقل هذه الملكة لا يكون إلا بالتعليم، والتعليم كما قرره ابن خلدون صنعة من جملة الصنائع ودلل على ذلك بقوله: ” وذلك أنّ الحذق في العلم والتّفنّن فيه والاستيلاء عليه إنّما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله.

وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفنّ المتناول حاصلا. وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي. لأنّا نجد فهم المسألة الواحدة من الفنّ الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفنّ وبين من هو مبتدئ فيه وبين العاميّ الّذي لم يعرف علما وبين العالم النّحرير، والملكة إنّما هي للعالم أو الشّادي في الفنون دون من سواهما فدلّ على أنّ هذه الملكة غير الفهم والوعي، والملكات كلّها جسمانيّة سواء كانت في البدن أو في الدّماغ من الفكر وغيره كالحساب، والجسمانيّات كلّها محسوسة فتفتقر إلى التّعليم. ولهذا كان السّند في التّعليم في كلّ علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلّمين فيها معتبرا عند كلّ أهل أفق وجيل.

ويدلّ أيضا على أنّ تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه. فلكلّ إمام من الأئمّة المشاهير اصطلاح في التّعليم يختصّ به شأن الصّنائع كلّها فدلّ على أنّ ذلك الاصطلاح ليس من العلم، وإذ لو كان من العلم لكان واحدا عند جميعهم. ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدّمين والمتأخّرين وكذا أصول الفقه وكذا العربيّة وكذا كلّ علم يتوجّه إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدلّ على أنّها صناعات في التّعليم. والعلم واحد في نفسه”(16).

ومن خلال ما سبق نستطيع القول إن (صنعة الإفتاء) أو (ملكة الإفتاء) أو (فقه النفس) تقوم على ركنين أساسيين:

الأول: الدربة والممارسة: فلما تقرر أن الإفتاء صنعة فهو كسائر الصناعات يحتاج إلى دربة وممارسة كثيرة على يد أهل الخبرة من المتخصصين، وبمزيد عناية وتقويم يتعلم المرء أصول هذه الصنعة ويتشرب مهاراتها حتى تصير -صنعة وملكة الإفتاء- سجيةً وطبعًا له.

الثاني: التخصص: فقد يكون المرء عالمًا في اللغة أو متمكنًا في الفقه أو متضلعًا في الأصول، وعلى الرغم من ذلك فلا يصلح أن يكون مفتيًا؛ لأن آليات الإفتاء ومناهجه وعلومه مختلفة، وإن كانت متداخلة ومتقاطعة مع بعض العلوم التي يحتاج إليها المفتي.

1 مقاييس اللغة ، ابن فارس (٣/٣١٣) مادة «صنع».

2 القاموس المحيط (١/٧٣٨)، مادة «صنع».

3 لسان العرب (٨/٢٠٨) ، مادة «صنع».

4 التعريفات، الجرجاني (ص١٣٤).

5 الكليات، الكفوي (ص ٥٤٤).

6 التعريفات (ص٢٢٩).

7 الكليات (ص٤٤٩).

8 صناعة الفتوى المعاصرة ، قطب سانو (ص٢٤).

9 رواه أبوداود في سننه (ح٣٣٦).

10 معالم السنن، الخطابي (١/١٠٤)

11 شرح سنن أبي داود ، ابن رسلان (٢/ ٦٤٠، ٦٤٤).

12 صناعة الفتوى وفقه الأقليات، عبد الله بن بيه (ص ٢٢).

13 البرهان في أصول الفقه، الجويني (٢/١٣٣٢).

14 التحبير شرح التحرير، المرداوي (٨/٣٨٧٠).

15 أدب المفتي والمستفتي (ص٩٨).

16 ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، ابن خلدون (ص٥٤٣، ٥٤٤).

المبحث الثاني

مراحل صناعة الفتوى

قبل أن تصدر الفتوى تمر بعدة مراحل ذهنية، والمفتي الحاذق هو الذي يدقق في هذه المراحل قبل إصداره فتواه، والصنعة الإفتائية تقتضي الوقوف على هذه المراحل، والتمرس بها، والتدرب عليها، ومعرفة العلوم والمهارات المطلوبة في عملية الإفتاء في كل مرحلة من مراحل هذه الصنعة ما بين حصيلة علمية ضرورية لدى المتصدر للفتوى ومهارات ذهنية في تصور الواقعة وتكييفها وتنزيل الأحكام الشرعية عليها، وما يُبنى عليه التصور من استنباطات من الخارج قائمة على نقاشات ومحاورات مع المستفتي، وتتواءم هذه العلوم والمهارات في سلسلة متراتبة تمثل أربع مراحل أساسية هي: مرحلة التصوير، ومرحلة التكييف، ومرحلة بيان الحكم، ومرحلة التنزيل؛ لتخرج بعدها الفتوى في صورتها التي يتلقاها المستفتي، وفي هذا المبحث نلقي الضوء على هذه المراحل الأربعة اللازمة لصناعة الفتوى.

أولا: مرحلة التصوير.

المرحلة الأولى من مراحل العملية الإفتائية “تصور المسألة” ويقصد بها “معرفة حقيقة المسألة المعروضة وتمييزها عن غيرها، وتحديدها باستخراج المعلومات المهمة من المستفتي في الواقعة المسؤول عنها”.

و”التصوير” مأخوذ من “الصورة”، وقد عرفه الجرجاني بأنه:” إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات”(1).

“وهو مصطلح منطقي يراد به أن تصور المسألة لا يتأتّى إلا باستجلاء ماهيتها من خلال الحد والتعريف؛ فإذا تصورت أمكن إنهاض الدليل عليها لتحصيل الحكم التصديقي، ومن هنا شاعت عند المناطقة قاعدة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، واجتلبها الفقهاء اجتلابا إلى حيز استعمالهم الاصطلاحي للدلالة على أهمية تصور حقيقة المسألة قبل إصدار الحكم فيها”(2).

والمقصود به هنا: حصول صورة المسألة وماهيتها التي تتميز بها عن غيرها في ذهن المفتي، من غير أن يتعلق بها حكم.

ومرحلة “التصوير” هذه مرحلة دقيقة ومهمة للغاية، فهي بمثابة الأساس الذي تبنى عليه الفتوى، ولا تصح الفتوى إلا بعد كمال التصور للمسألة المُستفتى عنها، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.

ولهذا أكثر العلماء من الاعتناء بمرحلة “التصوير” وبيان أهميتها وخطرها للوصول للفتوى الصائبة السديدة، فوضعوا تلك الضوابط التي تعنى بصحة التصور، حتى قال ابن الصلاح: “إن التصوير الصحيح للمسائل لا يقدر عليه إلا فقيه النفس، ذو حظ من الفقه”(3).

والتصور الصحيح يتلوه تكييف صحيح، ثم حكم صحيح، والتصور الناقص يتلوه تكييف ناقص ومن ثمّ تخرج الفتوى غير دقيقة، وكما قيل: صحة البدايات يترتب عليها صحة النهايات، وبداية العملية الإفتائية تكون بـ “تصوير المسألة”.

ولتصور النازلة تصورا صحيحا قد يتطلب:

  • استقراء نظريا وعمليا.
  • اجراء استبانة أو مقابلة شخصية.
  • المعايشة والمعاشرة.
  • استشارة أهل الاختصاص.

فالاستقراء يكون بقيام المفتي بجمع المعلومات والاستقصاء عنها بنفسه؛ وذلك في المسائل العامة والبسيطة التي لا تحتاج إلى أطراف متعددة ومتخصصة في بناء التصور الكامل للمسألة.

وأما المعايشة والمعاشرة فتكون بمعرفة عادات وأعراف البلد الذي يفتي له فإن كان من غير أهلها فلا يتصدى للإفتاء حتى يعاشرهم ويستوثق من نفسه أنه قد علم عاداتهم وأعرافهم ثم ينزل المسائل على ذلك، وكذا إن سأله أحد من غير هذه البلد فلا يتسرع في الفتيا حتى يسأله عن عرف بلده في المسألة، يقول القرافي: “إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده واجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحا مستغنية عن النية”(4).

واستشارة أهل الخبرة والاختصاص تكون في المسائل التي يحتاج المفتي فيها إلى الاستعانة بالمتخصصين حتى يكون تصوره صحيحًا وكاملًا، كأن تكون المسألة لها علاقة بالعلوم التجريبية أو الطبية ونحوها إذ لا تتضح الصورة ولا تعرف حقيقتها إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما هو مقرر في الأصول.

ومرحلة التصوير يشترك فيها المفتي مع المستفتي، “فالمفتي يجلس يسأل المستفتي ويعينه على استخراج الحقيقة للوصف الواقعي غير المتحيز للحادثة، ويحاول بقدر الإمكان أن يفهمها فهما دقيقا بكل جوانبها، وهذه خبرة لا توجد عند كثير من الناس وهي كيفية السؤال حتى نصل إلى الحقيقة، فالمفتي لا بد عليه أن يكون مدربا على كيفية سؤال المستفتي، والوصول إلى صورة صحيحة أقرب ما تكون إلى الواقع، وهذا ما يفتقده كثير ممن يتعلمون الفقه؛ لأنهم لا يتعلمون كيفية الفتوى؛ فالفتوى تحتاج إلى تدريب”(5).

تنبيه: الإفتاء في المسائل التي تتغير صورتها عبر الزمن يتطلب من المفتي معرفة ما طرأ على المسألة المعروضة عليه من تغيير عبر العصور المختلفة، ثم تتبع كلام الفقهاء في المسألة بعد عصر حدوثها ومعرفة من أفرد المسألة بالتصنيف، وحصر أقوالهم ثم قدرته على تحرير محل النزاع، وتحديد سبب الخلاف، ثم تبيين ما طرأ على الفتوى من تغيير، ودراسة أسباب هذا التغير ليستفيد بها في فتواه في نفس هذه المسألة.

ثانيا: مرحلة التكييف.

المرحلة الثانية من مراحل العملية الإفتائية “تكييف المسألة”، ويقصد به “إلحاق المسائل الفقهية بما يناسبها من أبواب الفقه الإسلامي إن كان لها نظير، فإن لم يجد لها نظيرا في الأبواب الفقهية فبالاجتهاد فيها -إن كان متأهلا له- بما يتوافق مع الأصول والقواعد الشرعية”.

فالتكييف مأخوذ من الكيف التي هي استفهام عن حال الشيء وصفته، والمراد بالتكييف الفقهي للنازلة: “تحريرها وبيان انتمائها إلى أصل معين معتبر”(6).

ومصطلح التكييف لم يكن معروفا عند المتقدمين من الفقهاء، بل كان “تصوير المسائل” شامل له، كما يظهر من كلام ابن الصلاح الماضي ذكره، وكذا يعبر عنه بماهية المسألة أو حقيقتها، وغير ذلك من العبارات المرادفة له، ثم استعمله المعاصرون وسرى إليهم باحتكاكهم بفقهاء القانون، أو بوجود جيل جمع بين الدراستين.

فبعد قيام المفتي بتصور المسألة المستفتى فيها تصورًا صحيحًا، يشرع في الخطوة الثانية، وهي تكييف هذه المسألة تكييفًا شرعيًا يناسبها، وعملية التكييف يمكننا أن نطلق عليها “التوصيف” أيضا، وهي أشبه ما تكون بما يقوم به الطبيب من كشف على المريض ومحاولة تشخيص وتوصيف المرض.

وهذه المرحلة تظهر أهميتها في النوازل المعاصرة؛ فالمسألة الفقهية التي ينظرها المفتي لا تخلو من أمرين: إما أن تكون مسماة في الفقه وهذه أمرها ظاهر، أو غير مسماة وهذه إما أن يكون لها نظير في الأبواب الفقهية فيلحقها بما يماثلها ويناسبها بعد تأكده من استيفاء شروط الإلحاق، أو أن تكون المسألة جديدة ليست مسماة في الشرع أو كتب الفقه ولا نظير لها فيلحقها بها، فحينئذ يلجأ للاجتهاد في محاولة لتكييفها تكييفًا شرعيًا مناسبًا، وقد يحتاج المفتي في بعض الأحيان لتكييف المسألة إلى تفكيكها وتحليلها إذا لم تكن المسألة بسيطة وكانت مركبة من أكثر من عقد.

تنبيه: مرحلة التكييف في الفتوى تعد سببا مهما من أسباب اختلاف الفتوى المعاصرة، فكثيرا ما تتردد مسألة بين أكثر من أصل شرعي لتلحق به مما يختلف معها الحكم الناشئ عنه ولذلك ينبغي الوقوف مع التكييف في النازلة لتحرير محل التنازع.

أثر التكييف في ضبط الفتوى.

هذه المرحلة مهمة في ضبط عملية الفتوى، ومعرفة المؤهل من غيره، إذ نجد صدور أحكام وفتاوى في مسائل كثيرة فإذا طولب أصحابها بإظهار التكييف الذي صدر عنه بفتواه عجز عنه فإذا هو تجاوز هذه المرحلة وألغاها وقفز إلى الحكم مباشرة عن طريق الهوى، وهذا عبث بالأحكام الشرعية واستسهال لعملية خطيرة وهي الفتوى، فلا بد للمتصدر للفتوى من التريث وعدم الاستعجال، وقد عد الأئمة هذا الاستعجال من التساهل المذموم، قال الإمام النووي: “يحرم التساهل في الفتوى ومن عرف به حرم استفتاؤه: فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر فإن تقدمت معرفته بالمسئول عنه فلا بأس بالمبادرة وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة”(7).

ثالثا: مرحلة استخراج الحكم.

المفتي بعد أن ينتهي من تصوير المسألة المعروضة عليه، ثم تكييفها سينتقل إلى المرحلة الثالثة والمهمة وهي استخراج الحكم الشرعي المتعلق بفعل المكلف في هذه المسألة عن طريق النقل عن مذاهب الأئمة المعتبرة، أو بالتخريج عليها، أو بالاستنباط المباشر من الأدلة بالشروط المقررة.

والمراد بالحكم هنا هو ما يستعمله الفقهاء، حيث إن المقصود بالحكم عندهم: الصفة التي هي أثر الخطاب، من الوجوب والحرمة والكراهة والإباحة والاستحباب، بخلاف الأصوليين فهو عندهم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، فنفس الخطاب هو الحكم عند الأصوليين، وأثره المتعلق بأفعال المكلفين أي ما ثبت بذلك الخطاب هو الحكم عند الفقهاء.

وهذه المرحلة الأصل فيها أن تتم بواسطة المجتهدين، فيستنبطون الأحكام من مصادرها المعلومة بحسب ترتيب الأدلة فيبحث في القرآن الكريم ثم السنة النبوية إلى آخر الأدلة المتفق عليها وما أداه إليه اجتهاده من الأدلة المختلف فيها، وبعد أن استقرت المذاهب ودونت وقُررت أدلتها أصبح البحث مقصورا عليها، وفي حالة ظهور مسائل غير منصوص عليها؛ يلجأ أهل كل مذهب إلى التخريج على أقوال أئمتهم، ولكن لا يخلوا الزمان من مجتهد كما قرره السيوطي في رسالته “الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض”، فمن اجتمعت فيه أدوات الاجتهاد عليه أن يستنبط الأحكام للمسائل المستجدة، وكذا الاجتهاد الجماعي فإنه يقوم بهذا الفرض.

رابعا: مرحلة التنزيل.

المرحلة الرابعة من مراحل العملية الإفتائية “تنزيل الفتوى” ويقصد بها ” تنزيل الحكم الشرعي على الواقع بما يقتضيه من مآلات وموازنات وأبعاد مقصودة لدى الشارع”.

وهذه المرحلة لا يقوم بها إلا المجتهدون من المفتين لما يكتنفها من أبعاد ومآلات وإدراك عميق للواقع، والقدرة على الموازنة بين المصالح والمفاسد، ومراعاة المقاصد الكلية للتشريع؛ حيث لا تقتصر مهمة المفتي المجتهد في هذه المرحلة على مجرد استخلاص حكم الله من النصوص؛ بل يقوم ببذل الجهد والطاقة من أجل الوصل بين الوحي والواقع على معنى تبيين المسالك والكيفيات التي يأخذ بها الوحي مجراه نحو الواقع، ويأخذ بها الواقع مجراه نحو التكليفات بإلزامات الوحي.

وفي هذه المعني يقول تقي الدين السبكي-رحمه الله-: “مرتبة المفتي وهي النظر في صورة جزئية وتنزيل ما تقرر في المرتبة الأولى فعلى المفتي أن يعتبر ما يسأل عنه وأحوال تلك الواقعة، ويكون جوابه عليها فإنه يخبر أن حكم الله في هذه الواقعة كذا بخلاف الفقيه المطلق المصنف المعلم لا يقول في هذه الواقعة، بل في الواقعة الفلانية وقد يكون بينها وبين هذه الواقعة فرق ولهذا نجد كثيرا من الفقهاء لا يعرفون أن يفتوا، وأن خاصية المفتي تنزيل الفقه الكلي على الموضع الجزئي وذلك يحتاج إلى تبصر زائد على حفظ الفقه وأدلته ولهذا نجد في فتاوى بعض المتقدمين ما ينبغي التوقف في التمسك به في الفقه ليس لقصور ذلك المفتي معاذ الله بل؛ لأنه قد يكون في الواقعة التي سئل عنها ما يقتضي ذلك الجواب الخاص فلا يطرد في جميع صورها وهذا قد يأتي في بعض المسائل، ووجدناه بالامتحان والتجربة في بعضها ليس بالكثير والكثير أنه مما يتمسك به فليتنبه لذلك فإنه قد تدعو الحاجة إليه في بعض المواضع فلا نلحق تلك الفتوى بالمذهب إلا بعد هذا التبصر”(8).

وفهم الواقع وما يجب فيه لا يقل خطورة عن فهم النص الشرعي بشروطه، فدراسة الواقع المعيش بكل أبعاده دراسة دقيقة متفحصة هي التي تؤهل لعملية تنزيل الحكم الشرعي على هذا الواقع حتى يحدث التكامل والتناغم بين فقه الشرع وفقه الواقع، والتقصير فيه يفوت مقصود الشارع من إقامة العدل والقسط، يقول ابن القيم: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ” ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما ” إلى معرفة عين الأم، وكما توصل أمير المؤمنين علي – عليه السلام – بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب ما أنكرته لتخرجن الكتاب أو لأجردنّك إلى استخراج الكتاب منها… ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله”(9).

فالواقع له أثر في الحكم على الأشياء، فهو شريك في استنباط الحكم، ومراعاة الواقع بأبعاده المتعددة والظروف المحيطة به أو مآلات الأمور، أو عرف الناس وعاداتهم، ليس شيئا بدعا بل هو منهجا نبويا سار عليه الصحابة من بعده ثم المجتهدين، فهناك مواقف مواقف كثيرة رويت عن النبي  راعى فيها واقعه وعدل عما هو الأولى لضرورة الواقع، فمن ذلك امتناعه  عن قتل المنافقين رغم استحقاقهم للعقوبة جراء ما يفعلونه من أفعال، فامتنع النبي وقال عن سبب ذلك: “لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه”، وكذا تركه  بناء الكعبة على قواعد سيدنا إبراهيم معللا سبب عدم الإقدام بقوله: “يا عائشة لولا قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه بما أدخل منه”.

وأما في أفعال الصحابة فهو كثير جدًا: كجمع القرآن في مصحف واحد، وإسقاط حد السرقة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم، وإحداث الآذان يوم الجمعة قبل الظهر كما فعله سيدنا عثمان، ووضع سكة يتعامل بها المسلمون وغير ذلك.

“إن التنزيل والتطبيق هو عبارة عن تطابق كامل بين الأحكام الشرعية وتفاصيل الواقع المراد تطبيقها عليه، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد، في جدلية بين الواقع والدليل الشرعي، تدقق في الدليل بشقيه الكلي والجزئي، وفي الواقع والمتوقع بتقلباته وغلباته، والأثر المحتمل للحكم في صلاحه وفساده، بحيث لو تنزل بالفعل كان محمود الغب جار على مقاصد الشريعة كما يقول الشاطبي، فالبحث عن الواقع إنما هو للفت الانتباه إلى الأهمية والإمكان المتاح من خلاله لمراجعة كثير من الأحكام التي لو تركت فيها عمومات النصوص على عمومها ومطلقاتها على إطلاقها، دون تخصيص في الأولى وتقييد في الثانية، دون مراعاة للواقع لذهبت مصالح معتبرة بكلي الشرع مقدمة على الجزئي في الرتبة والوضع”(10).

وبذلك ندرك أن التراث الفقهي -بشتى مذاهبه ومدارسه الذي تفتخر به أمتنا الإسلامية- هو منجم للفقهاء والمفتين يجدون فيه بغيتهم، ويستهدون بالتخريج عليه عند الحاجة.

وهذا التراث الفقهي لا يؤخذ على علّاته، بل ينبغي التعامل معه بدقة وحذر وليس لكل أحد النقل عنه في النوازل المعاصرة بغير تبصر بفارق الزمان والمكان فالعلماء الراسخون الذين توفرت فيهم أهلية الاجتهاد والفتوى يتعاملون معه وفق ضوابط وآليات معينة ليست عند غيرهم، وكثيرا ما نشاهد من المتمذهبين فضلا عن غيرهم الاستشهاد بجزئيات من هذا التراث ويسقطونها على واقع مختلف، أو بعدم تمييز لعلل الأحكام ويخرجون بأحكام عجيبة مغايرة لمقصود الشرع، ونافرة عن الواقع المعيش كل المنافرة، وما ذلك إلا لعدم وجود آلية التمييز بين الثابت والمتغير عبر الزمان، وبعض هؤلاء حسنو النية يظنون أنهم يحافظون على تراث مذاهبهم من التغيير والضياع، ولكن يسيئون للشرع الحنيف من حيث ظنوا أنهم يحسنون صنعا، فالتراث الفقهي ثمرة تفاعل المجتهدين مع مصدري المعرفة الرئيسيين القرآن الكريم والسنة المطهرة وهذا التفاعل له واقع تاريخي، منه ما لا يتغير به، ومنه ما يتغير، كما في الأحكام المترتبة على العوائد فإنها تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت وقد أدرك كثير من أئمة المذاهب ذلك ونبهوا على أن الجمود مع المنقول أبدا ضلال في الدين، يقول القرافي: “وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده واجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين”(11).

وعقب عليه ابن القيم الحنبلي بقوله: “وهذا محض الفقه، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان”(12).

ويقول ابن عابدين:” إن كثيرا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان…إما للضرورة، وإما للعرف، وإما لقرائن الأحوال، وكل ذلك غير خارج عن المذهب لأن صاحب المذهب لو كان في هذا الزمان لقال بها”(13).

مراحل الفتوى وفق خطوات إجرائية متتابعة:

قد تناولنا في “مسرد المهارات الإفتائية” الصادر عن الأمانة العامة لدور وهيئات الفتوى بالعالم، هذه المراحل وأفردنا لكل مرحلة منها خطوات عملية يستعين بها المتدرب لإتقان هذه المراحل وسنجملها هنا ومن أراد مزيد شرح لها وتمثيلا فليرجع إلى المسرد المذكور، وهي كالآتي:

البدء بتصور المسألة عن طريق:

١. جمع المعلومات والاستقصاء عنها من خلال:

  • الاستقصاء الذاتي بمحاورة المستفتي.
  • الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص عند الحاجة.

٢. تحليل المعلومات وتكوين بناء تصوري متماسك لها، وذلك بـ:

  • مناقشة جميع أطراف المسألة.
  • التأكد من المعلومات وصحتها.
  • تهذيبها وترتيبها بطريقة متسلسلة ومترابطة.

٣. تحرير الحقائق والمعاني:

  • الحقيقة الشرعية.
  • الحقيقة اللغوية.
  • الحقيقة العرفية.

٤. تحديد العلاقات بين التعريفات والمصطلحات والمفاهيم.

٥. تحرير محل التشابه والاختلاف بين التصورات المتقاربة.

ثم ينتقل إلى تكييف المسألة بـ:

٦. حصر الأبواب التي يمكن لهذه الصورة أن تندرج تحتها أو تلحق بها.

٧. المسائل المركبة يمكن تفكيكها وتبسيطها إلى صورها الأولية.

٨. فرز الفروض واستبعاد ما لا تتطابق عليه شروط التسكين والإلحاق.

٩. اختبار المطابقة بين المسألة الجديدة الملحقة والملحق به، وفق شرط المطابقة:

  • المطابقة في المفاهيم والتعريفات والأوصاف.
  • المطابقة في الأركان والشروط.
  • المطابقة في الضوابط والأحكام.

١٠. المسائل التي ليس لها ما يشبهها من الأبواب فهي مستحدثة تصنف على أنها من النوازل الجديدة في الفقه الإسلامي، ومن ثم تحتاج إلى اجتهاد ونظر جديدين.

ثم ينتقل إلى استخراج الحكم بـ:

١١. تحديد أهي من المنصوص عليها في المذاهب أم لا.

١٢. إن كانت من المنصوص نظر:

  • إن كانت من المجمع عليه قرر حكمها ولم يخالفه
  • وإن كانت من المختلف فيه:
  • حصر الأقوال في المسألة
  • معرفة أدلة كل قول.
  • الترجيح بين الأدلة.
  • طرح الأقوال التي لا دليل عليها أو ضعف مدركها.
  • تقرير الحكم مما قوي مدركه والذي يحقق المصلحة.

١٣. وإن كانت غير منصوصة (نازلة جديدة):

  • التخريج على المذاهب المعتمدة.
  • التخريج على الضوابط الفقهية.
  • التخريج على القواعد الفقهية.
  • الاجتهاد المباشر من الأدلة بشروطه، أو الاجتهاد الجماعي المتمثل في قرارات المجامع الفقهية.

١٤. تقرير الحكم في النازلة.

ثم ينزل الحكم على الواقع بـ:

١٥. فحص الفتوى والتأكد من عدم مخالفتها:

  • نصًا مقطوعًا به.
  • إجماعًا متفقًا عليه.
  • – قاعدة أصولية أو فقهية مستقرة.

١٦. فحص مآلات الفتوى وفق الآتي:

  • حصر مآلات الفتوى من آثار ومترتبات
  • التأكد من أن هذه المآلات حقيقية وليست متوهمة

١٧. التحقق من مراعاة الفتوى لمقاصد الشريعة الكبرى:

(حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ المال، حفظ النسل).

١٨. الموازنة بين المصالح والمفاسد، وفق أمرين:

  • التأكد أن المصلحة أو المفسدة معتبرة شرعًا وليست ملغاة.
  • مرتبة هذه المصلحة أو المفسدة من حيث كونها ضرورية أو حاجية أو تحسينية.

١٩. وأخيرا إصدار الفتوى وهي آخر هذه الخطوات.

1 التعريفات (ص ٥٩).

2 صناعة الفتوى في القضايا المعاصرة ، الدكتور قطب الريسوني (ص ٢٨٧).

3 أدب المفتي والمستفتي (ص١٠٠).

4 الفروق (١/١٧٧)

5 وقال الإمام (المبادئ العظمى)، الدكتور علي جمعة (ص ١٢٣)

6 معجم لغة الفقهاء ، محمد رواس قلعه جي (ص ١٤٣).

7 المجموع شرح المهذب (١/٤٦).

8 فتاوى السبكي (٢/١٢٢).

9 إعلام الموقعين عن رب العالمين (١/٦٩).

10 تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع ، عبد الله بن بيه (ص٢٨).

11 الفروق (١/١٧٧).

12 إعلام الموقعين عن رب العالمين (٣/٦٦).

13 شرح عقود رسم المفتي من مجموع رسائل ابن عابدين (١/٤٥).

المبحث الثالث

مهارات صناعة الفتوى

من خلال ما سبق تبين أن الفتوى التي يتلقاها المستفتي ما هي إلا خلاصة عمل ذهني شديد التعقيد، والمستفتي لا تعنيه إلا النتيجة، ولكن من أراد أن يتعلم منها فلابد من معرفة سلسلة الخطوات والأفكار المتعاقبة والمرتبة التي مرت بذهن المفتي، والتي أصبحت ملكة لازمة له من كثرة ممارسته للفتوى ومن ثمّ لا يلاحظها غالبا ، والتمهير الإفتائي هو الذي يحوُّل العلوم والمعارف الإفتائية إلى خطوات تطبيقية يسهل اكتسابها إذا أحسن التدريب عليها، فتطوي الزمن، وتسد به الفجوة الكائنة بين النظرية والتطبيق؛ ولهذا السبب ظهرت الحاجة إلى التمهير الإفتائي بحيث تسجل الخطوات للنتائج المقررة لإدراك خلفياتها.

تعريف المهارة:

المهارة لغة:

اتفقت كتب اللغة على أن المهارة: هي الحذق في الشيء، والماهر فيه: هو الحاذق فيه المتقن له، قال الجوهري:” المهارة: الحذق في الشيء”(1)، وقال الأزهري:” وأكثر ما يوصف به السابح، وقال الأعشى:

مثل الفراتي إذا ما طمايقـــــــــــــــــــذف بالبُوصِــــــــــــــــــــــــــــــــــيِّ والماهِــــــــــــــــــرِ

يريد السابح”(2).

وقال الزمخشري: “مهر في الصناعة وتمهّر فيها ومهرها ومهر بها، وهو ماهر بيّن المهارة، وخطيب ماهر، وسابح ماهر، وقوم مهرة، وتمهّر فلان: سبح”(3).

وفي الحديث «مَثَلُ الْمَاهِرِ بِالقرآنِ مَثَلُ الكِرام السَّفَرَة البَرَرَة» قال ابن الأثير: “الماهر الحاذق في قراءة القرآن”(4)، والحاذق في قراءة القرآن هو المقيم لحروفه المتقن لأحكام التجويد.

تعريف المهارة اصطلاحًا:

تدور تعريفات العلماء في التخصصات المختلفة على أن المهارة هي: زمرة من العلوم والخبرات والمعارف المختلفة والتي تتسم بطابع التراكمية والا كتساب تنطبع على سلوك الفرد بحيث يستطيع إنجاز المراد منه بجودة وإتقان، وسهولة ويسر ويكون هذا وفق خطوات إجرائية متسلسلة ومنظمة.

فمفهوم المهارة عند العلماء قائم على أمرين أساسيين:

أولًا: أن تكون المهارة موجهة نحو تحقيق وبلوغ هدف معين كتعلم صنعة أو حرفة أو مهنة معينة.

ثانيًا: أن تكون وفق خطوات إجرائية محددة ومنظمة؛ بحيث يستطيع الفرد أن يكتسبها ويتدرب على تعلمها وممارستها فتصير بالتكرار سجية لسلوكه، فيؤديها بسهولة ويسر دونما تكلف ومشقة مما يؤدي إلى توفير الكثير من الجهد والوقت.

أنواع المهارات على سبيل الإجمال:

  1. المهارات العقلية (المعرفية): وهي تلك المهارات التي يغلب عليها العقل كمهارة التأليف ومهارة الاستنباط ومهارة القراءة.
  2. المهارات الاجتماعية: وهي المهارات التي يغلب عليها الجانب الاجتماعي مثل مهارة التواصل مع الآخرين ومهارة الاستيعاب ومهارة الحديث.
  3. المهارات الحركية وهي التي يغلب عليها الجانب الحركي مثل مهارة السباحة ومهارة لغة الجسد ومهارة الكتابة.

مفهوم المهارات الإفتائية:

هو توفر مجموعة من العلوم والخبرات والمعارف المختلفة والتي يستطيع المتدرب على الفتوى أن يكتسبها ويتعلمها وفق خطوات إجرائية محددة ومرتبة؛ بحيث يستطيع بتكرار ممارستها والتدرب عليها أن يخبر بالحكم الشرعي في الواقعة المسئول عنها بحذق وإتقان، ويصير هذا سجية وملكة راسخة له.

تمهير الإفتاء:

نعني بتمهير الإفتاء تحويل المعارف والعلوم الإفتائية إلى مهارات محددة الخطوات، ويعتبر التمهير من الأهمية بمكان للوصول إلى إحكام صنعة الإفتاء وإتقانها؛ حيث يتم من خلال هذا “التمهير” تقسيم المهارة إلى خطوات متسلسلة ومنظمة يحصل باتباعها وممارستها تعلم المهارة والتدريب عليها، وبتكرار الممارسة يحدث نمو وازدياد في إتقان المهارة وإحكامها حتى تصير ملكة للمتصدر للفتوى تصدر عنه بسهولة ويسر.

وثمة أمران مهمان ينبغي الإشارة لهما:

أولهما: أن نقل الخبرات الإفتائية وتوريثها للأجيال المتعاقبة لا يكون إلا وفق خطوات محددة و مرتبة يمكن تعلمها والتدريب عليها، وهذا لا يكون إلا عبر تحويل العلوم والمعارف الإفتائية إلى مجموعة من المهارات الواضحة المحددة وهو ما نطلق عليه بــــ(تمهير الإفتاء)، وهذا الاتجاه -تمهير الإفتاء- يتوافق تمامًا مع الاتجاه المعاصر من تحويل العلوم والمعارف النظرية إلى علوم ومعارف تطبيقية يسهل تعلمها واكتسابها؛ لسد الفجوة بين النظرية والتطبيق فهناك فارق بين العلم بالشيء وبين ممارسته وتطبيقه.

ثانيهما: أن “تمهير الإفتاء” بما يحويه من خطوات محددة ومنظمة يساعد في جعل “الملكة” أو “الصنعة” أمرًا يمكن تقييمه وتقويمه؛ وذلك بمقايسة ومعايرة ما وصل إليه المتدرب على المهارة الإفتائية وفق اختبارات ملائمة لطبيعة المهارة توضح مدى تمكنه من المهارة واستيعابه لها وصولًا إلى إحكامه لها وصيرورتها ملكة له.

“المهارة” طريق الوصول إلى “إحكام الصنعة” و ” ترسيخ الملكة”:

قد سبق وبينا أنّ (الصنعة الإفتائية) أو (الملكة الإفتائية) تقوم على الدربة والممارسة: فالإفتاء كسائر الصناعات يحتاج إلى دربة وممارسة كثيرة على يد أهل الصنعة من المتخصصين، وبمزيد عناية وتقويم يتعلم المرء أصول هذه الصنعة ويتشرب مهاراتها حتى تصير (صنعة وملكة) الإفتاء سجيةً وطبعًا له.

وللعلماء في العلاقة بين “المهارة” و “الملكة” مذهبان:

المذهب الأول: ويرى أنه ليس ثمة فارق بين المهارة والملكة، واللفظان مترادفان؛ حيث إن الملكة تتطابق في تعريفها وخصائصها مع المهارة.

المذهب الثاني: ويرى أن ثمة فارق بينهما، حيث إن المهارة هي أول طريق الملكة، بمعنى أن المتصدر للفتوى يتدرب ويتعلم ممارسة المهارات الإفتائية كمهارة تخريج الفتوى أو تنزيل الفتوى ثم بكثرة الممارسة والتكرار تنمو عنده هذه المهارة شيئًا فشيئًا حتى يتقنها وتصير هيئة راسخة في النفس تصدر منه بتلقائية وسهولة أو بغير روية -كما قال الجرجاني- وتلك الحالة الأخيرة من الرسوخ والإتقان تسمى “ملكة”.

مسرد المهارات الإفتائية:

هذا العنوان هو كتاب أصدرته الأمانة العامة لدور وهيئات الفتوى بالعالم والهدف منه صياغة الصنعة الإفتائية وحصرها في مجموعة مهارات محددة، وهي اللازمة للعملية الإفتائية، والتي تكونت عند أمناء الفتوى من خلال الممارسة العملية للإفتاء، ثم التعبير عن المهارة بمجموعة من النقاط، كل واحدة منها توضح جانبًا من المهارة، ومن مجموعها يحصل التصور الذهني الكامل للمهارة مع النص على كيفية إعمال المهارة في خطوات واضحة متتابعة، ثم الإتيان بمثال تطبيقي على كل مهارة، بحيث إذا قام المتدرب بمحاكتها والنسج على منوالها؛ تحصل له الدربة والتي مع طول المران تتحول إلى ملكة راسخة في النفس.

وقد استوفى هذا المسرد خمسين مهارة كاملة بحيث تعالج كل مهارة ملكة خاصة عند متصدري الفتوى، وقد صنفت هذه المهارات إلى مجموعة وحدات متناسقة، كل وحدة معنية بموضوع محدد، ثم دمج الوحدات المتشابهة الغرض في مساق واحد، فجاءت في ثلاث مساقات، كل مساق يحوي ثلاث وحدات، على النحو الآتي:

  • المساق الأول: مهارات صناعة الفتوى وطرق آدائها.
  • المساق الثاني: مهارات منهجية الفتوى وإشكاليتها.
  • المساق الثالث: مهارات استثمار المعارف ذات الصلة.

فيتناول المساق الأول الجوانب الأساسية في صناعة الفتوى وهي مراحل الفتوى ومهارات مراعاة الواقع، وطرق ووسائل أداء الفتوى في حياتنا المعاصرة، كما يتناول المساق الثاني الجوانب العلمية الدقيقة التي تشكل الأصول والقواعد التي تضبط العملية الإفتائية وفق مناهج علمية دقيقة وواضحة، كقواعد الإفتاء المذهبي، والاختيار الفقهي والتلفيق الفقهي، والخروج من الخلاف، ومراعاة الخلاف؛ لتضبط عملية الاستفادة من جميع تراثنا الفقهي، وتناول أيضا إشكاليات الفتوى كالقدرة على استعمال المخارج الفقهية وتجنب الجمود على المنقول وتصحيح معاملات الناس مع التأكيد على التمسك بمقاصد الشريعة وعدم التفلّت من أحكامها، وقواعد تخريج الفتوى على القواعد الأصولية، وتخريجها على القواعد الفقهية، وتخريجها على الضوابط الفقهية، ومهارة التخريج الفقهي لتبين كيفية التعامل مع غوامض ودقائق الصنعة الإفتائية.

وتناول المساق الثالث والأخير جملة من المهارات قد لا يلتفت إليها كثير من المتصدرين للإفتاء وهي حزمة من المعارف شديدة الصلة بالعملية الإفتائية كمهارات الحساب الشرعي، ووسائل وآليات البحث الشرعي واستشراف المستقبل الإفتائي، وسبل التواصل الفعال مع المستفتي، والرجوع لأهل الخبرة في التخصصات المختلفة، كما تناول أيضا مهارات تتعلق بالجودة كمهارة تحليل الفتوى أي رد الفتوى إلى مكوناتها الأولية التي تكونت منها لتسهل عملية تقييم الفتاوى، ومقارنتها بغيرها وصولا إلى نهاية المطاف وهو إعادة النظر في الفتوى؛ لأنها جهد بشري يعتريه السهو والخطأ والنسيان، والعصمة قد كتبها الله لأنبيائه فقط وليست لغيرهم من البشر.

وبهذا التوصيف لـ “مسرد المهارات الإفتائية” تتضح المهارات اللازمة للصنعة الإفتائية، ومن أراد زيادة تفصيل واكتساب لهذه المهارات فليرجع إليه.

اكتساب المهارة الإفتائية وتنميتها:

لا كتساب المهارة الإفتائية وتعلمها ثم العمل على تنميتها وتطويرها بحيث تصبح “ملكة راسخة” لدى المتصدر للفتوى هناك خطوات إجرائية لابد من اتباعها والسير وفقها، وهذ الخطوات تشمل الآتي:

أولًا: الجانب المعرفي: حيث إن الجانب النظري للمهارة هو بمنزلة الأساس الذي يبنى عليه غيره، فلا يمكن للمتدرب على الفتوى أن يقتصر في طريقه لتعلم مهارات الإفتاء على خطواتها الإجرائية فقط، بل لابد أن يكون ملمًا بكل ماله علاقة بهذه المهارة من علوم ومعارف، ولا نعني هنا الإحاطة الكاملة بل نقصد أن يكون ملمًا بالقدر الذي يحتاجه في العملية الإفتائية، فالجانب المعرفي هو بمثابة المخزون الرئيسي الذي يصقل المتدرب على المهارة الإفتائية ويجعله أكثر تمكنًا ورسوخًا في آدائها وممارستها، و أهم هذه العلوم والمعارف التي لا غنى للمتدرب على المهارات الإفتائية أن يكون ملمًا بأصولها:

  • علم الفقه.
  • علم أصول الفقه.
  • علم القواعد الفقهية.
  • تخريج الفروع على الأصول.
  • كتب الفتاوى.

وهناك علوم ومعارف أخرى هامة لدى المتدرب على مهارات الفتوى لا غنى له عن الإلمام بطرف منها كعلم الحساب، وعلم النفس، وبعض مبادئ العلوم الحديثة كالطب والفلك، والكيمياء، ونحن قد اكتفينا بالإشارة إلى بعضها فقط على سبيل المثال الا الحصر.

ثانيًا: الجانب الأدائي:

بعد الإلمام بمبادئ وأصول الجانب المعرفي النظري ودراسة الخطوات الإجرائية لتطبيق المهارة يأتي الجانب العملي التطبيقي، حيث يقوم المتدرب على المهارات الإفتائية بتطبيق تلك الخطوات وممارستها عمليًا والتدرب عليها على يد مفتٍ متقن لديه مهارات التعليم والتدريب، وهذا الجانب يطلق عليه بالجانب الأدائي، ويشمل الآتي:

  • ملاحظة أداء المتدرب على الفتوى ومهاراتها.
  • اتباعه للخطوات الإجرائية والأساسية للمهارة المطلوب تعلمها واكتسابها.
  • تكرار المتدرب لممارسة الخطوات التطبيقية للمهارة.
  • قيام المفتي (الذي يقوم بعملية التعليم والتدريب) بقياس وملاحظة مدى اتقان المتدرب للمهارة وإحكامه لها.

ونختم كلامنا بالتأكيد على أهمية أن تكون عملية التدريب على المهارات الإفتائية تحت إشراف مفتٍ معلم مدرب؛ حيث إنها تمثل حجر الزاوية في الشق التطبيقي والأدائي لتعلم المهارة واكتسابها وتنميتها؛ وذلك من زاويتين:

الأولى: قيام المفتي المعلم بالممارسة العملية للمهارات الإفتائية أمام المتدرب على المهارات الإفتائية، فيحصل له –أعني المتدرب- بذلك تصور ذهني تطبيقي صحيح عن كيفية ممارسة المهارة فيتكامل هذا ويتعاضد مع المعرفة النظرية للمهارة فكما قيل ليس الخبر كالعيان.

الثانية: قيام المتدرب على المهارات الإفتائية بممارسة المهارة والتدرب عليها تحت ملاحظة المفتي المعلم وإشرافه يحدث حالة من الحوار والمناقشة والتقييم والتقويم مما يكون له أعظم الأثر في (صناعة المفتي) المتشرب للمهارات المتقن لها، فتنقل فيها الخبرات ومهارات الممارسة تلقائيًّا من المفتين إلى المتدربين على الفتوى.

1 الصحاح، الجوهري (٢/ ٨٢١)، مادة «مهر».

2 تهذيب اللغة، الأزهري (٦/ ١٥٩)، مادة «مهر».

3 أساس البلاغة، الزمخشري (٢/٢٣١) مادة «مهر».

4 النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير (٤/٣٧٤)، مادة «مهر».

اترك تعليقاً