البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثالث التعريف ببعض كتب الفتوى

54 views

تمهيد وتقسيم:

بعد أن قدمنا في الفصل السابق عرضا لأهم كتب الفتاوى وهي تعتبر الدعامة الثانية للمتصدر للفتوى بعد كتب الفقه، نتناول في هذا الفصل التعريف ببعض كتب الفتاوى، وسنكتفي بالتعريف بكتابين من كتب الفتاوى المعتمدة عند كل مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة.

وسيكون التعريف بالكتاب، وبمصنفه وبمنهجه مع ذكر نموذج منه ليسترشد به من لم يسبق له التعامل معه فيعرف أسلوبه وطريقة تناوله للسؤال ثم للإجابة عليه، ويقع هذا الفصل في أربعة مباحث على النحو التالي:

  • المبحث الأول: التعريف بالمختار من فتاوى الحنفية.
  • المبحث الثاني: التعريف بالمختار من فتاوى المالكية.
  • المبحث الثالث: التعريف بالمختار من فتاوى الشافعية.
  • المبحث الرابع: التعريف بالمختار من فتاوى الحنابلة.

المختار من فتاوى الحنفية

يأتي هذا المبحث للتعريف بكتابين من أهم كتب الفتاوى في المذهب الحنفي، أحدهما عمل جماعي وهو الفتاوى الهندية، والآخر عمل فردي اشتمل على معتمد المذهب في الفتوى عند المتأخرين، وسنقوم بالتعريف بالفتاوى وذكر ترجمة موجزة لصاحبها، مع الإشارة إلى منهجه في فتاويه على النحو التالي:

أولا: الفتاوى الهندية (العالمكيرية).

التعريف بالكتاب:

هو مجموعة من الأحكام الفقهية المأخوذة من مذهب الحنفية قام بتأليفها جماعة من علماء الهند برئاسة الشيخ نظام الدين البلخي بأمر من سلطان الهند أبي المظفر محيي الدين محمد أورنك زيب والهدف من تأليفها أن يسهِّلوا على الناس الوقوف على الروايات الصحيحة في المذهب الحنفي والأقوال المعتمدة والراجحة فيه، وما تجري عليه الفتوى من أحكام المذهب والتزم مؤلفوه المحافظة على عبارات الكتب التي نقلوا عنها وأسندوا كل حكم نقلوه إلى الكتاب الذي أخذ عنه، وأغلب الأحكام مجردة عن الأدلة، وختموا هذه المجموعة بكتاب المحاضر والسجلات وكتاب الشروط، وهذه الفتاوى من أشهر الكتب المطولة في الفقه الحنفي، واحتوت على الأحكام التي لا توجد في كتاب سواها وشارك في إنجازها (٢٣) فقيها من كبار علماء الهند.

جاء في مقدمتها: “فإن الفقه حد حاجز بين الهداية والضلال، وقسطاس مستقيم لمعرفة مقادير الأعمال، وعيالمه الزاخرة لا يوجد لها قرار، وأطواده الشامخة لا يدرك فنونها بالأبصار، إلا أن الكتب المصنفة المتداولة، والصحف المؤلفة المتناولة، في هذا الفن لا تشفي العليل، ولا يفأم منها الغليل، إذ بعضها طارح لشطر المسائل، وأكثرها منطوٍ على الروايات المختلفة المتعارضة الدلائل، فيشجر المبتغي للتمسك بالأليق والأقوى، كمن هام في الهيماء في الليل الأهيم، ويضجر المستهتر بأخذ ما هو أقرب للتقوى، كفاقد العيهم في الغيهم”(1).

ثم ذكر أنه بإلهام وأمر من السلطان أبي المظفر محيي الدين محمد أورنك زيب، وأنه حشد الفقهاء الحاذقين في المذهب، ليجمعوا الروايات ويميزوا بين الغث والسمين وما عليه العمل.

ثم وضحوا منهجم في العمل فكان على النحو الآتي:

  1. جمعوا كتب ظاهر الرواية التي اتفق عليها وأفتى بها أئمة المذهب
  2. جمعوا كتب النوادر التي تلقتها العلماء بالقبول
  3. ميزوا بين الصحيح والضعيف من الروايات
  4. اختاروا في ترتيب الكتاب ترتيب الهداية.
  5. أسقطوا ما تكرر في الكتب من الروايات والزوائد.
  6. الإعراض عن ذكر الدلائل والشواهد إلا دليل مسألة يوضحها أو يتضمن مسألة أخرى واقتصروا في الأكثر على ظاهر الروايات ولم يلتفتوا إلا نادرا إلى النوادر والدرايات وذلك فيما لم يجدوا جواب المسألة في ظاهر الروايات أو وجدوا جواب النوادر موسوما بعلامة الفتوى ونقلوا كل رواية من المعتبرات بعبارتها مع انتماء الحوالة إليها
  7. ٧. الحفاظ على العبارة إلا لداعي ضرورة عن وجهها، ولإشعار الفرق بينهما أشاروا إلى الأول “بكذا” وإلى الثاني “بهكذا”، وإذا وجدوا في المسألة جوابين مختلفين كل منهما موسوم بعلامة الفتوى وسمة الرجحان أو لم يكن واحد منهما معلما بما يعلم به قوة الدليل والبرهان أثبتوهما في الكتاب”(2).

وهذه الفتاوى تذكر الكتاب أو الباب فتذكر ما هو موجود في كتب الفقه من ذكر التعريف والشروط والأركان ثم تذكر المسائل الغريبة الموجودة في كتب الفقه في المذهب وكتب الفتاوى معزوة إليها.

وهي مطبوعة في ستة مجلدات بالمطبعة البولاقية، ومطبوع على هامشها الفتاوى البزازية، وفتاوى قاضي خان.

نموذج لإحدى الفتاوى من كتاب الفتاوى الهندية:

“وَيَجِبُ غَسْلُ كُلِّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مِنْ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَالْكَفِّ الزَّائِدَةِ. كَذَا فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ.

وَلَوْ خُلِقَ لَهُ يَدَانِ عَلَى الْمَنْكِبِ فَالتَّامَّةُ هِيَ الْأَصْلِيَّةُ يَجِبُ غَسْلُهَا وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ فَمَا حَاذَى مِنْهَا مَحَلَّ الْفَرْضِ يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِلَّا فَلَا. كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بَلْ يُنْدَبُ غَسْلُهُ. كَذَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.

فِي فَتَاوَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ إنْ بَقِيَ مِنْ مَوْضِعِ الْوُضُوءِ قَدْرُ رَأْسِ إبْرَةٍ أَوْ لَزِقَ بِأَصْلِ ظُفْرِهِ طِينٌ يَابِسٌ أَوْ رَطْبٌ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ تَلَطَّخَ يَدُهُ بِخَمِيرٍ أَوْ حِنَّاءٍ جَازَ

وَسُئِلَ الدَّبُوسِيُّ عَمَّنْ عَجَنَ فَأَصَابَ يَدَهُ عَجِينٌ فَيَبِسَ وَتَوَضَّأَ قَالَ: يُجْزِيهِ إذَا كَانَ قَلِيلًا. كَذَا فِي الزَّاهِدِيِّ وَمَا تَحْتَ الْأَظَافِيرِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ عَجِينٌ يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ. كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَأَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ.

ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو نَصْرٍ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الظُّفُرَ إذَا كَانَ طَوِيلًا بِحَيْثُ يَسْتُرُ رَأْسَ الْأُنْمُلَةِ يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ وَإِنْ كَانَ قَصِيرًا لَا يَجِبُ. كَذَا فِي الْمُحِيطِ.

وَلَوْ طَالَتْ أَظْفَارُهُ حَتَّى خَرَجَتْ عَنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ وَجَبَ غَسْلُهَا قَوْلًا وَاحِدًا. كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ وَافِرِ الظُّفُرِ الَّذِي يَبْقَى فِي أَظْفَارِهِ الدَّرَنُ أَوْ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ الطِّينِ أَوْ الْمَرْأَةِ الَّتِي صَبَغَتْ أُصْبُعَهَا بِالْحِنَّاءِ، أَوْ الصَّرَّامِ، أَوْ الصَّبَّاغِ قَالَ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ يُجْزِيهِمْ وُضُوءُهُمْ إذْ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إلَّا بِحَرَجٍ وَالْفَتْوَى عَلَى الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَدَنِيِّ وَالْقَرَوِيِّ. كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَكَذَا الْخَبَّازُ إذَا كَانَ وَافِرَ الْأَظْفَارِ. كَذَا فِي الزَّاهِدِيِّ نَاقِلًا عَنْ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ”(3).

ثانيا: العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية.

التعريف بالمؤلف:

  • اسمه ونسبه: هو الإمام العلامة المفسر المحدث الفقيه النحوي اللغوي السيد محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم المتصل نسبه الشريف إلى سيدنا الحسين سبط سيد المرسلين وشرف وكرم وعظم.
  • شهرته ولقبه: اشتهر المترجم بابن عابدين الحسيني ولقب بإمام الحنفية في عصره،؛ لأنه كان المرجع عند اختلاف الآراء في المذهب، وتكفيه حاشيته المشهورة المنسوبة إليه
  • مولده: ولد بدمشق الشام سنة (١١٩٨ه)
  • نشأته: نشأ في حجر والده وحفظ القرآن المجيد، وهو صغير جدا ثم اشتغل بطلب العلم مع الاجتهاد في التحصيل حتى تفنن وأفتى ودرس وصنف

فابتدأ بعد حفظ القرآن الكريم بتجويده على الإمام القدوة الشيخ سعيد الحموي شيخ القراء بها، وقرأ عليه الميدانية والجزرية والشاطبية بعد ما حفظها قراءة تدبر وإمعان وبحث وإتقان، وتلقى منه القراءات بأوجهها وطرقها حتى جمعها عليه.

ثم قرأ عليه طرفاً من النحو والصرف وفقه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وحفظ متن الزبد وكان شافعي المذهب وقتئذ، ثم لزم شيخه الشيخ شاكر العقاد رحمه الله تعالى وقرأ عليه في المعقولات، وألزمه شيخه المذكور بالتحول لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان عليه الرحمة والرضوان، فتفقه عليه، وقرأ عليه الفرائض والحساب حتى مهر في فن الأصول والحديث والتفسير والتصوف والمعقول، وقرأ عليه في الفقه: الملتقى، والكنز، والبحر لابن نجيم وصدر الشريعة، والدراية، والهداية، وبعض شروحها وغير ذلك، ثم شرع في قراءة الدر المختار على شيخه المذكور مع جماعة، ولم تتم قراءة الدر فأتمه مع بعض من حضر معه من إخوانه على الشيخ سعيد الحلبي المذكور، وقرأ على الشيخ سعيد غير ذلك من الفقه وغيره من الفنون، وحين أتم الدر عليه استجازه فأجازه.

  • مصنفاته: ابن عابدين صاحب التآليف العديدة والتصانيف المفيدة، وابتدأ التصنيف صغيرا فشرح متن الكافي وألف حاشية على شرح نبذة الإعراب وهو ابن سبع عشرة سنة، وله كتابات على المطول ومجموع كبير جمع فيه من نفائس الفوائد النثرية والشعرية وعرائس النكات والملح الأدبية ما يروق الناظر ويسر الخاطر وله أيضا كتاب الرحيق المختوم شرح قلائد المنظوم وشرح عقود رسم المفتي وتنبيه الولاة والحكام وبحار الفيض وله رسائل عديدة ناهزت الثلاثين من كل فن.

وله تعاليق على هوامش الكتب وحواشيها، وكتابته على أسئلة المستفتين والأوراق التي سودها بالمباحث الرائقة والدقائق الفائقة فلا تكاد تحصى، ولا يمكن أن تستقصى وبالجملة فكان شغله من الدنيا التعلم والتعليم والتفهم والتفهيم، والإقبال على مولاه والسعي في اكتساب رضاه مقسما زمنه على أنواع الطاعة والعبادة من صيام وقيام وتدريس وإفتاء وتأليف وإفادة وكانت ترد إليه الأسئلة من غالب البلاد وانتفع به خلق كثير من حاضر وباد.

ومن مؤلفاته أيضا هذا الكتاب المسمى بالعقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية وحاشيته على الدر المسماة “رد المحتار على الدر المختار” وهي المشهورة باسمه، وحاشية على “البحر الرائق” وحاشية على “شرح المنار” للعلائي وحاشيتان على “النهر” و”شرح الملتقى” إلا أنهما لم يجردا من الهامش.

  • وفاته: توفي ضحوة يوم الأربعاء الحادي والعشرين من ربيع الثاني سنة اثنتين وخمسين ومائتين بعد الألف من الهجرة (١٢٥٢ه)ودفن -رحمه الله- بمقبرة دمشق في باب الصغير بالتربة الفوقانية.(4)

التعريف بكتاب “العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية”:

هو كتاب اختصره ابن عابدين من كتاب شيخه حامد أفندي العماوى وهو (مغني المستفتي عن سؤال المفتي) لأنه وجد فيه إطناب وتكرار لبعض الأسئلة وتعداد للنقول في الجواب، فحذف ابن عابدين المكرر ولخص الأدلة وجمع ما تفرق على وضع محكم واستدرك بعض التحريرات في بعض المسائل المغلقة وجعل ذلك في كتاب سماه (العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية) وجعل كتابه على شكل سؤال وجواب، يعتمد فيه على ذكر أقوال أئمة مذهبه ويرجح بينهم، ويأتي أحيانا بآراء وأقوال أئمة مذهبه ويرجح بينها، ويأتي أحيانا بآراء وأقوال المذاهب الأخرى من غير ذكر الدليل.

يقول في مقدمته: “إن كتاب مغني المستفتي عن سؤال المفتي للإمام العلامة والحبر الفهامة حامد أفندي العمادي مفتي دمشق الشام عليه رحمة الملك السلام كتاب جمع جل الحوادث التي تدعو إليها البواعث مع التحري للقول الأقوى وما عليه العمل والفتوى لم أر للمبتلى بالفتوى أنفع منه حيث جمع ما لا غنى عنه غير أن فيه نوع إطناب بتكرار بعض الأسئلة وتعداد النقول في الجواب فأردت صرف الهمة نحو اختصار أسئلته وأجوبته وحذف ما اشتهر منها ومكرراته وتلخيص أدلته، وربما قدمت ما أخر وأخرت ما قدم وجمعت ما تفرق على وضع محكم وزدت ما لا بد منه من نحو استدراك أو تقييد أو ما فيه تقوية وتأييد ضاما إلى ذلك أيضا بعض تحريرات نقحتها في حاشيتي على البحر المسماة منحة الخالق على البحر الرائق وحاشيتي التي علقتها على شرح التنوير المسماة رد المحتار على الدر المختار وما حررته من الرسائل الفائقة في بعض المسائل المغلقة مع ما يفتح به الفتاح العليم في حال الكتابة من تحرير بعض المسائل المشكلة والوقائع المعضلة فدونك كتابا حاويا لدرر الفوائد خاويا عن مستنكرات الزوائد هو العمدة في المذهب والحري بأن يكتب بماء الذهب حملني على جمعه من لا يسعني إلا امتثال أمره أفاض الله علي وعليه من وابل خيره وبره وقد سميت ذلك بـ(العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية) وحيث قلت: قال المؤلف فمرادي به صاحب الأصل وكل ما كان من زياداتي أصدره بلفظ أقول والله تعالى هو المسئول في بلوغ ذلك المأمول والتوفيق والسداد وإتمام هذا المراد وفي أن ينفعني به والمسلمين فإنه أكرم الأكرمين”(5).

والكتاب مطبوع في جزئين.

نموذج لإحدى الفتاوى من كتاب “العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية”:

(سُئِلَ) فِي الْمُقْتَدِي إذَا كَانَ الْإِمَامُ حِذَاءَهُ هَلْ يَنْوِيهِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ أَمْ فِي الْيَمِينِ فَقَطْ وَهَلْ قَالَ بِهِ أَحَدٌ أَمْ لَا؟

(الْجَوَابُ) : نَعَمْ يَنْوِيهِ فِيهِمَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَنْوِيهِ فِي الْيَمِينِ فَقَطْ عَلَى مَا فِي الْخَانِيَّةِ وَفِيهَا زِيَادَةٌ لَا بَأْسَ بِهَا وَهِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَقْدَمَ هَاهُنَا بَنِي آدَمَ عَلَى الْحَفَظَةِ فِي الذِّكْرِ وَفِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَخَّرَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْقِبْلَةِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ جُمْلَةُ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ جُمْلَةِ بَنِي آدَمَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ جُمْلَةُ بَنِي آدَمَ أَفْضَلُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ.

وَالْمَذْهَبُ الْمُرْتَضَى أَنَّ خَوَاصَّ بَنِي آدَمَ وَهُمْ الْمُرْسَلُونَ أَفْضَلُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ وَعَوَامِّ بَنِي آدَمَ وَهُمْ الْأَتْقِيَاءُ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ وَخَوَاصُّ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّ بَنِي آدَمَ وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّفْضِيلِ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ دُونَ التَّرْتِيبِ. اهـ.

(سُئِلَ) هَلْ السُّنَّةُ بَعْدَ فَرْضِ الْعِشَاءِ عَلَى مَذْهَبِنَا رَكْعَتَانِ أَمْ أَرْبَعُ وَقَبْلَ الْفَرْضِ هَلْ هِيَ عِنْدَنَا مُؤَكَّدَةٌ أَمْ مَنْدُوبَةٌ؟

(الْجَوَابُ): الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَالْأَرْبَعُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا مَنْدُوبَةٌ وَشُرِعَتْ النَّوَافِلُ قَبْلَ الْفَرْضِ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَبَعْدَهُ لِقَطْعِ طَمَعِ الشَّيْطَانِ (أَقُولُ) الصَّوَابُ الْعَكْسُ فِي الدُّرِّ.

(سُئِلَ): فِي اقْتِدَاءِ الْحَنَفِيِّ بِشَافِعِيٍّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟

(الْجَوَابُ): رَأَيْت فِي مَجْمُوعَةِ الشَّيْخِ عَفِيفِ الدِّينِ ابْنِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرْشِدِيِّ مُفْتِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ رِسَالَةً لِلشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَسْعُودٍ الْقُونَوِيِّ الْحَنَفِيِّ فِي عَدَمِ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ لَمْ يَرْوِ الْبُطْلَانَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ – رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى – إلَّا مَكْحُولٌ النَّسَفِيُّ فَقَطْ”(6).

1 الفتاوى الهندية (١/٢).

2 انظر : الفتاوى الهندية (١/٣).

3 الفتاوى الهندية (١/٤)

4 انظر ترجمته في حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر ، عبد الرزاق البيطار(ص ١٢٣٠: ١٢٣٩)

5 العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية (١/٢).

6 العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية (١/٥).

المبحث الثاني

المختار من فتاوى المالكية

نتناول في هذا المبحث التعريف بمصدرين من كتب الفتاوى في المذهب المالكي، وقدر راعينا أن يكون أحد المصادر من كتب الفتاوى المتقدمة، والآخر من كتب المتأخرين، وذلك على النحو التالي:

أولا: التعريف بكتاب “الأجوبة” لمحمد بن سحنون.

التعريف بصاحب كتاب الأجوبة:

  • اسمه ونسبه: هو الإمام الفقيه المحدث محمد بن سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي.
  • شهرته وكنيته: يكنى المترجم بأبي عبد الله، واشتهر بابن سحنون.
  • مولده: ولد سنة اثنتين ومائتين (٢٠٢ه) وقيل: على رأس المائتين.
  • نشأته: قال ابن فرحون: “تفقه بأبيه وسمع من بن أبي حسان وموسى بن معاوية وعبد العزيز بن يحيى المدني وغيرهم ورحل إلى المشرق فلقي بالمدينة أبا مصعب الزهري وابن كاسب وسمع من سلمة بن شبيب. كان إماماً في الفقه ثقة عالماً بالذب عن مذاهب أهل المدينة عالماً بالآثار صحيح الكتاب لم يكن في عصره أحذق بفنون العلم منه وكان الغالب عليه الفقه والمناظرة وكان يحسن الحجة والذب عن أهل السنة والمذهب. كان عالماً فقيهاً مبرزاً متصرفاً في الفقه والنظر ومعرفة اختلاف الناس والرد على أهل الأهواء. وكان قد فتح له باب التأليف وجلس مجلس أبيه بعد موته. وكان من أكثر الناس حجة وألقنهم بها.

وكان يناظر أباه. وقال سحنون: ما أشبهه إلا بأشهب. وقال: ما غبنت في ابني محمد إلا أني أخاف أن يكون عمره قصيراً.

وكان يقول لمؤدبه: لا تؤدبه إلا بالكلام الطيب والمدح فليس هو ممن يؤدب بالتعنيف والضرب واتركه على بختي فإني أرجو أن يكون نسيج وحده وفريد أهل زمانه.

  • ثناء العلماء عليه: قيل لعيسى بن مسكين: من خير من رأيت في العلم؟ فقال: محمد بن سحنون وقال أيضاً: ما رأيت بعد سحنون مثل ابنه محمد. وقال فيه إسماعيل القاضي بن إسحاق: هو الإمام بن الإمام.

وذكر له مرة ما ألفه العراقيون من الكتب فقال إسماعيل: عندنا من ألف في مسائل الجهاد عشرين جزءاً وهو محمد بن سحنون. يفخر بذلك على أهل العراق.

قال ابن حارث: كان من الحفاظ المتقدمين المناظرين المتصرفين وكان كثير الكتب غزير التأليف له نحو من مائتي كتاب في فنون العلم. ولما تصفح محمد بن عبد الله بن عبد الحكم كتابه وكتاب بن عبدوس قال في كتاب بن عبدوس: هذا كتاب رجل أتى بمذهب مالك على وجهه.

وفي كتاب بن سحنون: هذا كتاب رجل سبح في العلم سبحاً. وكان بن سحنون إمام عصره في مذهب أهل المدينة بالمغرب جامعاً لخلال قل ما اجتمعت في غيره: من الفقه البارع والعلم بالأثر والجدل والحديث والذب عن مذهب أهل الحجاز كريماً في معاشرته نفاعاً للناس مطاعاً جواداً بماله وجاهه وجيهاً عند الملوك والعامة جيد النظر في الملمات.

  • مصنفاته: كان ابن سحنون غزير التصنيف حتى عد ذلك من مناقبه كما مضي في مدح ابن الحارث قوله:” وكان كثير الكتب غزير التأليف له نحو من مائتي كتاب في فنون العلم

فمن مصنفاته كتابه “المسند” في الحديث وهو كبير وكتابه الكبير المشهور بـ “الجامع” جمع فيه فنون العلم والفقه، فيه عدة كتب نحو الستين، وله في فنون العلم مصنفات كثيرة منها كتاب السير: عشرون كتاباً وكتابه في المعلمين ورسالته في السنة وكتاب في تحريم المسكر ورسالة فيمن سب النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسالة في آداب المتناظرين جزآن وكتاب الحجة على القدرية وكتاب الحجة على النصارى وكتاب الإمامة وكتاب الرد على البكرية وكتاب الورع وكتاب الإيمان والرد على أهل الشرك وكتاب الرد على أهل البدع ثلاثة كتب وكتاب في الرد على الشافعي وعلى أهل العراق وهو كتاب الجوابات خمسة كتب وكتاب التاريخ ستة أجزاء.

قال بعضهم: ألف بن سحنون كتابه الكبير مائة جزء: عشرون في السير وخمسة وعشرون في الأمثال وعشرة في آداب القضاة وخمسة في الفرائض وأربعة في الإقرار وأربعة في التاريخ في الطبقات والباقي في فنون العلم. قال غيره: وألف في أحكام القرآن.

  • أخباره وفضائله: قال: دخل علي أبي وأنا أؤلف كتاب تحريم النبيذ فقال: يا بني إنك ترد على أهل العراق ولهم لطافة أذهان وألسنة حداد فإياك أن يسبقك قلمك لما يعتذر منه.

ورأى عبد العزيز الزاهد في منامه قائلاً يقول له: مالك لم تقبل على بن سحنون وهو ممن يخشى الله؟ وفي رواية: وهو ممن يحب الله ورسوله؟ فبلغت بن سحنون فبكى بكاء شديداً ثم قال: لعله بذبي عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

كان ابن سحنون من أطوع الناس كريماً في نفسه يصل من قصد بالعشرات من الدنانير ويكتب لمن يعنى به إلى الملوك فيعطي الأموال الجسيمة نهاضاً بالأثقال واسع الحيلة جيد النظر.

وفاته: توفي بالساحل سنة ست وخمسين ومائتين، (٢٥٦ه) بعد موت أبيه بست عشر سنة وجيء به من الساحل إلى القيروان فدفن بها وسنّه أربع وخمسون سنة”(1).

التعريف بكتاب الأجوبة:

كتاب الأجوبة هو عبارة عن إجابات محمد بن سحنون على أسئلة كثيرة ومتنوعة وجهها له تلميذه أبو عبد الله محمد بن سالم، والأسئلة والأجوبة قائمة على أسلوب المحاورة والاستفسار أحيانا عما يبهم، وقد يخالف ابن سحنون أباه في بعض الأجوبة ويثبت كلام أبيه ثم يخالفه ويثبت رأيه، وقد مات محمد بن سالم في حياة شيخه وقد نقحها ابن سحنون وهذبها مرة أخرى بعد وفاة محمد بن سالم بسبب العبث بنسخها كما نص عليه في خاتمة الكتاب مع إعادة ترتيبها ورجوعه عن بعض الأجوبة، وجعلها على عشرين فصلا لتتميز عن الأولى التي كانت مختلطة غير مرتبة بل على حسب ورود الأسئلة، وقد جاء في خاتمتها: “اعلم وفقك الله أيها الناظر لما يحبه ويرضاه، أن هذا الكتاب المسمى بأجوبة ابن سحنون قد اعتنى بالبحث عن السؤال عنها وجمعها وتأليفها الفقيه الحافظ أبو عبد الله محمد بن سالم الأشعري –رحمه الله- للعالم الأجل محمد بن سحنون -رضي الله عنه- فكتبها وكتب عنه وكثر فيها رغبة الناس، واعتنوا بها وانتشرت بأيدي الناس، فوقعت بين بعض المبطلين، فأدركتهم الغيرة والحسد فزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون، فاستدركوا فيها خلافا كثيرا، وزادوا فيها ما ليس للإمام فيها ذكر ولا يليق به مذهب من المذاهب، وأرادوا كذبا كثيرا، ونسبوه إلى العلماء من الصحابة والتابعين ومالك بن أنس –رضي الله عنه ورحمه- وأصحابه ونظائرهم من علماء الأمصار –رضي الله عنهم أجمعين- فنظر في ذلك أولو الألباب والنهى من أهل الفضل والتقى، فرفعوا أمرها إلى الإمام محمد بن سحنون بعد موت مؤلفها محمد بن سالم -رحمه الله تعالى- فاستحضروها فأتى بها ونظر فيها من أولها إلى آخرها، فألفاها على ما ذكرت له من الخلل والفساد، فعزم على حرقها، فقيل له: قد انتشرت بأيدي الناس فلا يمكن ذهابها وزوالها بكليتها، ثم أخذ في تهذيبها وتصحيحها، ورجع هو عن الكثير مما أجاب به محمد بن سالم، وطرح كل ما ليس له فيها سبب؛ فأمر بكتبها وتجانس أجوبتها ورد بعضها إلى بعض بخلاف التي جمعها وألفها محمد بن سالم، وقد كانت متفرقة الأجوبة على حسب ورود الأسئلة، فكانت بعد التهذيب والتصحيح مفصلة على عشرين فصلا، منها نقلت هذه النسخة، فما وجدت غير مفصل ولا متجانس والتصحيح على عشرين فصلا فاعلم أنه من النسخ الفاسدة، فلا تعتمد عليها، ولا تغش، ولا تعمل بشيء منها إلا بما وافق المذهب الصحيح”(2).

وقد حقق هذا الكتاب الأستاذ حامد العلويني فكان أطروحته للدكتوراة بجامعة السربون بباريس تحقيق ودراسة، وقد طبعت بتونس بدار سحنون للنشر والتوزيع.

نموذج من الفتاوى:

“قال محمد بن سالم: سألت محمد بن سحنون –رضي الله عنه- عن الرجل ناول زوجه قطعة لحم فقال لها : أنت مني طالق إن لم تأكليها، ثم أخذتها منه ووضعتها ونيتها أن تأكلها، فجاءت هرة هربت بها فأكلتها: أتراه حانثا أم لا؟

فقال: إن كانت المرأة توانت عنها وغفلت عن أكلها أو حفظها فهو حانث، وإن كانت لم تغفل عنها وليس معها تفريط؛ فلا أراه حانثا.

قلت له: وكيف يعرف أنها غفلت وفرطت أم لا؟

قال: إن لم تلتفت في تلك الساعة إلى حاجة عرضت لها في بيتها، فليس معها تفريط، وإن التفتت وفرطت فهي طالق.

وسألته عن رجل قال في كلمة واحدة: أنت طالق مائة طلقة إلا تسعا وتسعين؟ قيل يلزمه البتة؟

قال محمد: وأنا أقول: هي واحدة ولا أكثر والله الموفق للصواب.

قلت له: فرجل توضأ فمر به رجل فقال له: قم معي إلى حاجة كذا، فقال: امرأتي طالق إن قمت معك حتى أتوضأ وضوئي للصلاة، فتوضأ وانصرف معه، ثم تذكر أنه نسى المضمضة أو الاستنشاق أو مسح الأذنين أو مسح الرأس؟

قال: قال سحنون: هو حانث حين ذكر الوضوء الذي يتوصل الناس به للصلاة، قال محمد: وأنا أقول: لا حنث عليه، وإن كان نسى شيئا من فروض الوضوء أو من مسنونه؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام:” رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” وقاله مالك- رحمه الله-“(3).

ثانيا: التعريف بكتاب “فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك”.

التعريف بصاحب كتاب فتح العلي المالك:

  • اسمه ونسبه: هو الشيخ الفقيه العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد عليش.
  • شهرته ولقبه: اشتهر المترجم بـ “الشيخ عليش”، قال الزركلي: “في التيمورية (٣/ ٢١٢) عليش: بالتصغير، هو المشهور على الألسنة، وقد ضبطه هو بكسر العين واللام في شرحه (موصل الطلاب) في النحو، قلت: وكذا ينطقه أهل المغرب، وينطقون كل مصغر”(4).

وهو مغربي الأصل، من أهل طرابلس الغرب،

  • مولده: ولد سنة (١٢١٧ه/١٨٠٢م) بالقاهرة
  • نشأته: حفظ القرآن وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ثم تعلم في الأزهر الشريف، وأخذ من أكابر علمائه منهم الشيخ محمد الأمير الصغير، والعلامة عبد الجواد الشباسي، والعلامة التاج مصطفى البولاقي، والشيخ يوسف الصاوي وغيرهم كثير، وتوسع في علوم المعقول والمنقول وله فيها مؤلفات، وصار من أكابر العلماء في عصره، وخاصة الفقه المالكي، وتولي مشيخة المالكية، ووظيفة الإفتاء بالديار المصرية في شهر شوال سنة (١٢٧٠ه).
  • مصنفاته: اشتهر المترجم بكثرة التصنيف في العلوم في العقيدة والفقه واللغة وغيرها؛ فمن تصانيفه (فتح العليّ المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك)، وهو مجموع فتاويه، وهو ما قصدنا التعريف به هنا، و(منح الجليل على مختصر خليل)، و(هداية السالك) حاشية على الشرح الصغير للدردير، في الفقه، و(حاشية على رسالة الصبان) في البلاغة، و(تدريب المبتدي وتذكرة المنتهى) في الفرائض، و(حل المعقود من نظم المقصود) في الصرف، و(موصل الطلاب لمنح الوهاب) في النحو، و(القول المنجي) حاشية على مولد البرزنجي، و(شرح العقائد الكبرى للسنوسي) وغيرها.
  • وفاته: في عهد الثورة العرابية اتهم الشيخ عليش بموالاتها، فأخذ من داره، وهو مريض، محمولا لا حراك به، وألقي في سجن المستشفى، فتوفي فيه، بالقاهرة بعد أذان المغرب من ليلة الأحد التاسع من ذي الحجة لعام تسع وتسعين بعد المائتين وألف، (١٢٩٩ه/١٨٨٢م) ودفن في صبيحة يوم عرفة بقرافة المجاورين.

التعريف بكتاب “فتح العلي المالك”:

هو مجموعة فتاوى صدرت عن الشيخ العلامة محمد عليش شيخ السادة المالكية في وقته، عندما كان مفتيا للسادة المالكية في مصر، يذكر المسألة بنصها أو بمعناها ويبدأ بقوله: ما قولكم في مسألة كذا، ثم يجيب عنها بقوله: فأجبت بما نصه، ثم بدأ بالفتاوى التي تتعلق بالعقائد ثم بأصول الفقه، ثم رتب الباقي على أبواب الفقه، ويعرض في الفتوى لأقوال العلماء في قسم العقيدة وأصول الفقه، ويقتصر على أقوال المالكية في قسم الفقه مع التعليل والتوجيه وبعض الأدلة، وقد ذكر فيها بعض الرسائل كما في رسالته في حكم شرب الدخان.

يقول في مقدمته: “إن أولى ما يشتغل به العاقل اللبيب، ويحتاج إليه الكامل الأريب التفقه في دينه والاجتهاد في توضيحه وتبيينه، ولما كانت الفتوى مما لا يستغنى عنها في جميع الأزمان، ومن أهم ما يعتنى وأجل ما يقتنى لنوع بني الإنسان قيدت ما وقع لي من الأسئلة والأجوبة وجمعتها ورتبتها على أبواب الفقه بعد أن هذبتها ونقحتها، وسميتها بـ (فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك) راجيا من الله – سبحانه وتعالى – التوفيق للصواب، سائلا منه تعالى أن يثيبنا دار الفضل والثواب، وأن ينفع بها الطلاب ويجعلها عمدة لأولي الألباب إنه ولي الإجابة وإليه الإنابة”(5).

وهذه الفتاوى مطبوعة أكثر من طبعة، وطبعته القديمة في مجلدين وعلى هامشها كتاب تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لابن فرحون.

نموذج من الفتاوى:

(ما قولكم) فيمن يتوضأ بنحو خمسة أبرقة زاعما أنه لا يكفي أقل منها وأن الوسوسة لا تعتري إلا الصالحين.

فأجبت بما نصه: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله من المعلوم ضرورة أن السنة تقليل الماء وإحكام الغسل والإكثار منه غلو وبدعة، وقد روي «أن رسول الله  توضأ بمد واغتسل بصاع وأنه توضأ بنصف مد». وقال مالك رأيت عباس بن عبد الله الصالح الفقيه الفاضل يجعل في القدح قدر ثلث مد هشام ويتوضأ منه ويفضل منه ويصلي فأعجبني ذلك من فعله فبان بطلان زعمه أنه لا يكفي أقل من ذلك.

وأما زعمه أن الوسوسة لا تعتري إلا الصالحين فقاله بعض الصوفية لكن قالوا لا تدوم إلا على جاهل أو مهوس، قال سيدي زروق: الوسوسة بدعة أصلها جهل بالسنة أو خبال في العقل.

قال بعض مشايخ الصوفية: لا تعتري الوسوسة إلا صادقا لأنها تحدث من التحفظ في الدين ولا تدوم إلا على جاهل أو مهوس لأن التمسك بها اتباع للشيطان وآفات الوضوء الإكثار من صب الماء فإنه ربما اتكل عليه، وترك الدلك وأنه يبطئ حتى تفوته صلاة الجماعة أو غيرها وأنه يضر بغيره في الماء ممن يريد الطهارة أو غيرها وأنه يعتاد ذلك فلا تمكنه الطهارة مع قلة الماء وأنه يورث الوسوسة، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم”(6).

1 انظر ترجمته في الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب ، ابن فرحون (٢/ ١٦٩- ١٧٣).

2 كتاب الأجوبة، محمد بن سحنون (٤٢٣، ٤٢٤).

3 كتاب الأجوبة (ص١٥١، ١٥٢).

4 الأعلام ، الزركلي (٦/٢٠).

5 فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك(١/٥).

6 فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (١/١١٥).

المبحث الثالث

المختار من فتاوى الشافعية

نتناول في هذا المبحث أيضا التعريف بكتابين من كتب فتاوى المذهب الشافعي، ويعتبر الكتابان من أهم كتب الفتاوى عند الشافعية، وقد راعينا فيهما التنوع الزماني والمكاني، فكان أحدهما للإمام النووي والآخر للإمام ابن حجر، كما يلي:

أولا: فتاوى الإمام النَّوَوَيِ المُسمَّاةِ: بالمَسَائِل المنْثورَةِ.

التعريف بصاحب المسائل المنثورة:

  • اسمه ونسبه: هو الإمام الحافظ، عمدة مذهب الشافعي، شيخ الإسلام علم الأولياء، محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري الحزامي الحوراني الشافعي، صاحب التصانيف النافعة:
  • لقبه وشهرته: اشتهر المترجم بنسبته إلى نوى فيقال له: النووي والنواوي.
  • مولده: ولد في المحرم سنة (٦٣١ه).
  • نشأته: حفظ القرآن وقد ناهز الاحتلام، ثم قدم دمشق سنة تسع وأربعين وستمائة؛ فسكن في المدرسة الرواحية، فحفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف وقرأ ربع المهذب حفظًا في باقي السنة على شيخه الكمال إسحاق بن أحمد ثم حج مع أبيه وأقام بالمدينة النبوية شهرًا ونصفًا ومرض أكثر الطريق.

قال تلميذه أبو الحسن بن العطار أن الشيخ محيي الدين ذكر له: أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسًا على مشايخه شرحًا وتصحيحًا؛ درسين في الوسيط، ودرسًا في المهذب، ودرسًا في الجمع بين الصحيحين، ودرسًا في صحيح مسلم، ودرسًا في اللمع لابن جني، ودرسًا في إصلاح المنطق، ودرسًا في التصريف، ودرسًا في أصول الفقه، ودرسًا في أسماء الرجال، ودرسًا في أصول الدين؛ قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة وضبط لغة وبارك الله تعالى في وقتي، وخطر لي أن أشتغل في الطب واشتريت “كتاب القانون” فأظلم قلبي وبقيت أيامًا لا أقدر على الاشتغال فأفقت على نفسي وبعت القانون فأنار قلبي.

قال الذهبي: “سمع من الرضى بن البرهان وشيخ الشيوخ عبد العزيز بن محمد الأنصاري وزين الدين بن عبد الدائم وعماد الدين عبد الكريم بن الحرستاني وزين الدين خالد بن يوسف وتقي الدين بن أبي اليسر وجمال الدين بن الصيرفي وشمس الدين بن أبي عمر وطبقتهم، وسمع الكتب الستة والمسند والموطأ وشرح السنة للبغوي وسنن الدارقطني وأشياء كثيرة وقرأ الكمال للحافظ عبد الغني على الزين خالد، وشرح في أحاديث الصحيحين على المحدث أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي وأخذ الأصول على القاضي التفليسي وتفقه على الكمال إسحاق المغربي وشمس الدين عبد الرحمن بن نوح وعز الدين عمر بن سعد الإربلي والكمال سلار الإربلي”.

وقرأ النحو على الشيخ أحمد المصري وغيره وقرأ على ابن مالك كتابًا من تصنيفه ولازم الاشتغال والتصنيف ونشر العلم والعبادة والأوراد والصيام والذكر والصبر على العيش الخشن في المأكل والملبس ملازمة كلية لا مزيد عليها، ملبسه ثوب خام وعمامته شبختانية صغيرة، تخرج به جماعة من العلماء منهم الخطيب صدر الدين سليمان الجعفري وشهاب الدين أحمد بن جعوان وشهاب الدين الأربدي وعلاء الدين بن العطار، وحدث عنه ابن أبي الفتح والمزي وابن العطار.

قال ابن العطار: ذكر لي شيخنا -رحمه الله تعالى- أنه كان لا يضيع له وقتًا لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق.

قلت: مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها كان حافظًا للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليله رأسًا في معرفة المذهب.

  • فضائله وأخلاقه: قال الرشيد بن المعلم: عذلت الشيخ محيي الدين في عدم دخوله الحمام وتضييق العيش في مأكله وملبسه وأحواله، وخوفته من مرض يعطله عن الاشتغال فقال: إن فلانًا صام وعبَد الله حتى اخضر جلده وكان يمنع من أكل الفواكه والخيار ويقول: أخاف أن يرطب جسمي ويجلب النوم، وكان يأكل في اليوم والليلة أكلة ويشرب شربة واحدة عند السحر.

قال ابن العطار: كلمته في الفاكهة فقال: دمشق كثيرة الأوقاف وأملاك من تحت الحجر والتصرف لهم لا يجوز إلا على وجه الغبطة لهم، ثم المعاملة فيها على وجه المساقاة وفيها خلاف فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك؟

وكان لا يقبل من أحد شيئًا إلا في النادر ممن لا يشتغل عليه، أهدى له فقير إبريقًا فقبله، وعزم عليه الشيخ برهان الدين الإسكندراني أن يفطر عنده فقال: أحضر الطعام إلى هنا ونفطر جملة فأكل من ذلك وكان لونين، وربما جمع الشيخ بعض الأوقات بين إدامين، وكان يواجه الملوك والظلمة بالإنكار ويكتب إليهم ويخوفهم بالله تعالى، كتب مرة: من عبد الله يحيى النواوي سلام الله ورحمته وبركاته على المولى المحسن ملك الأمراء بدر الدين، أدام الله له الخيرات وتولاه بالحسنات وبلغه من خيرات الدنيا والآخرة كل آماله وبارك له في جميع أحواله آمين.

وينهى إلى العلوم الشريفة من أهل الشام في ضيق وضعف حال بسبب قلة الأمطار, وذكر فصلا طويلا وفي طي ذلك ورقة إلى الملك الظاهر فرد جوابها ردًّا عنيفًا مؤلمًا فتنكدت خواطر الجماعة.

وله غير رسالة إلى الملك الظاهر في الأمر بالمعروف، وكان شيخنا ابن فرح يشرح على الشيخ في الحديث فقال: نوبة الشيخ محيي الدين قد صار إلى ثلاث مراتب، كل مرتبة لو كانت لشخص لشدت إليه الرحال، العلم والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

  • مصنفاته: رزق النووي الحلاوة والشهرة في تصانيفه، وانتفع بها الموافق والمخالف على الرغم من قصر حياته، فمنها “شرح صحيح مسلم” و”رياض الصالحين” و”الأذكار” و”الأربعين” و”الإرشاد” في علوم الحديث و”التقريب” مختصرة و”كتاب المبهمات” و”تحرير الألفاظ” للتنبيه و”العمدة في تصحيح التنبيه” و”الإيضاح” في المناسك مجلد، وله ثلاثة مناسك سواه و”التبيان” في آداب حملة القرآن، وفتاواه مجموعة في مجيليد و”الروضة” أربعة أسفار و”شرح المهذب” إلى باب المصراة في أربع مجلدات وشرح قطعة من البخاري وقطعة من الوسيط، وعمل قطعة من الأحكام، وجملة كثيرة من الأسماء واللغات، ومسودة في طبقات الفقهاء، ومن التحقيق في الفقه إلى باب صلاة المسافر.
  • وفاته: زار بيت المقدس وعاد إلى نوى فمرض عند والده فحضرته المنية فانتقل إلى رحمة الله في الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة (٦٧٦ه)، وقبره ظاهر يزار”(1).

التعريف بالفتاوى:

هي أسئلة وردت الإمام النووي، فأجاب عليها، ولما تجمع عنده قدر منها جعلها في مصنف، ولم يرتبها على الأبواب، بل جعلها على حسب ورودها عليه، يقول الإمام النووي: ” ولا ألتزم فيها ترتيبًا لكونها على حسب الوقائع فإن كملت أرجو ترتيبها، وألتزم فيها الإيضاحَ وتقريبها إلى أفهام المبتدئين ومن لا اختلاط له بالفقهاء لتكون أعمَّ نفعًا، وأحرص على إِتقانها وتهذيبها والِإشارة إِلى بعض أدلة ما قد يخفى منها، وإِضافة بعض ما يُستغرب منها إِلى قائله أو ناقله، وأقتصر على الأصح في معظم ذلك، ولا أذكر الخلاف في المسائل المختَلف فيها إِلا نادرًا لحاجة، وبالله التوفيق”(2).

وقد حقق رجاء النووي بترتيبها تلميذه علاء الدين ابن العطار(3)، فقد رتبها بعد وفاة النووي، ليسهل العثور على مسائلها، وألحق بها الفتاوى التي كانت ترد في مجلس الإمام النووي والتي كان ابن العطار يقيدها بنفسه، ولم يذكره النووي وأسماه المسائل المنثورة، قال في مقدمتها: “فقد استخرت الله تعالى في ترتيب “الفتاوى” التي لشيخي وقدوتي إلى الله تعالى، أبي زكريا يحيى بنِ شرف النووي العالمِ الرباني -تغمده الله تعالى برحمته، وجمع بيني وبينه في دار كرامته- على أبواب الفقه ليسهل على مطالعها كشفُ مسائلها، ويظهرَ له تحقيقُها ودقائقُ دلائلها، وألحق فيها من المسائل ما كتبته عن الشيخ رحمه الله في مجلسه، مما سئل عنه ولم يذكره فيها، وما كان فيها من المسائل مما لا تعلق له بالفقه أورده في أبواب في آخرها، وأنا سائل أخًا -انتفعَ بشيء منها- أن يدعوَ لمؤلفها ومرتبها، واللهَ أسألُ أن يجعل ذلك خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع بها من طالعها، وقرأها، وكتبها. وحسبي الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”(4).

وتمتاز فتاوى النووي بدقة الإجابة مع سهولة العبارة، والخلو عن الحشو والتطويل إلا لحاجة، ويذكر الخلاف في المذهب مع التصحيح بأوجز عبارة، ولا يلتزم ذكر الأدلة بل يذكرها عند الحاجة، وكذا الخلاف خارج مذهبه، فهي على طريقة المفتين وليست على طريقة البحث والإكثار من النقولات، وقد يذكر السؤال ثم يجيب عليه، وقد لا يذكره بل يتكلم عن المسألة مباشرة.

وفتاوى الإمام النووي مطبوع، وطبعاته أكثر من أن تحصر.

نموذج من الفتاوى:

“مسألة: إذا سقى الزرع، والبقل، والثمر، ماءً نجسًا أو زبلت أرضه هل يحل أكله؟

الجواب: يحل أكله، والله أعلم.

مسألة: السواك بالأصبع فيه ثلاثة أوجه: أصحها: لا يجزئ، والثاني: يجزئ، والثالث: أنه يجزيه إِن فقد غيرها ولا يجزئ مع إِمكان غيرها.

مسألة: ما حكم خضاب اللحية البيضاء؟

الجواب: خضابها بحمرة أو صفرة سنة، وخضابها بالسواد حرام على الصحيح. وقيل: مكروه. وهذا في حق الرجل والمرأة إِلا الرجل المجاهد، قال الماوردي: لا يحرم في حقه. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- حين رأى لحية أبي قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بيضاء قال: “غَيِّرُوا هذا واجْتَنِبُوا السوَادَ”.

مسألة: لو مات إِنسان غيرَ مختون ففيه ثلاثة أوجه:

الصحيح: أنه لا يختن لا الصغير ولا الكبير.

والثاني: يختنان.

والثالث: يختن الكبير دون الصغير.

ولو ولد مختونًا فلا ختانَ عليه، ذكره الشيخ أبو محمد في كتابه التبصرة”(5).

ثانيا: الفتاوى الفقهية لابن حجر الهيتمي المسماة بالفتاوى الفقهية الكبرى.

التعريف بصاحب الفتاوى الفقهية:

  • اسمه ونسبه: هو الإمام العلامة عمدة المذهب، صاحب اليد في العلوم أحمد بن محمد بدر الدين بن محمد شمس الدين بن علي نور الدين بن حجر من بني سعد بالشرقية من أقاليم مصر.
  • شهرته ولقبه: اشتهر المترجم بنسبته إلى جده؛ فيقال ابن حجر، قال تلميذه الفاكهي: “سمي جده بحجر لما أنه مع شهرته بين قومه بأنه من أكابر شجعانهم وأبطال فرسانها كان ملازما للصمت لا يتكلم إلا لضرورة حاقة وإلا فهو مشغول عن الناس بما منّ الله عليه به فلذلك شبهوه بحجر ملقى لا ينطق فقالوا: حجر، وقد رآه شيخنا وقد جاوز المائة والعشرين وأمن الخرف.
  • مولده: ولد ابن حجر في أواخر سنة (٩٠٩ه) بالشرقية.
  • نشأته: مات أبوه وهو صغير في حياة جده، فحفظ القرآن وكثيرا من المنهاج ثم مات جده فكفله شيخا أبيه العارفان الكاملان الشمس الشناوي وشيخه الشمس بن أبي الحمائل من أعظم تلامذة شيخ الإسلام الشرف المناوي ظاهرا وباطنا، ثم نقلاه من بلدته إلى مقام العارف بالله السيد أحمد البدوي، فقرأ على عالمين كانا به من مبادئ العلوم ثم نقله إلى الجامع الأزهر أول سنة أربع وعشرين وتسعمائة، ثم سلمه لرجل صالح فأقرأه متن المنهاج وغيره وجمعه بعلماء مصر مع صغر سنه؛ فأخذ عن تلامذة شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني وأجلهم شيخ الإسلام زكريا بل أكثر الأخذ عنه أكثر من بقيتهم قال: ما اجتمعت به قط إلا قال أسأل الله أن يفقهك في الدين.

وأخذ أيضا الشيخ عن الإمام الزيني عبد الحق السنباطي وسمع عليه وعلى الشيخ الإمام مجلي ومن في طبقتهما بعض كل من الكتب الستة في جمع كثيرين وأجازوا له بباقيها وبغيرها وعن الشمس المشهدي والشمس السمنودي وابن عز الدين الباسطي والأمين العمري وشيخ والده السابق الشمس بن أبي الحمائل وهؤلاء كلهم عمروا كثيرا وأدركوا ابن حجر وأهل عصره ثم بعد ذلك اشتغل بحل متونه فبذل جهده فيها إلى أن أجازه مشايخه الشهاب أحمد الرملي والشيخ ناصر الدين الطبلاوي وتاج العارفين الإمام البكري وغيرهم أواخر سنة تسع وعشرين بالإفتاء والتدريس وعمره دون العشرين من غير سؤال منه لذلك وفي خلال تلك المدة قرأ النحو على الشمس البدري والشمس الحطابي والشمس اللقاني والشمس الضيروطي والشمس الطهوي وغيرهم والتصريف للغزي على الطبلاوي والجاربردي على الحطابي، والمعاني والبيان على الشمس المناوي والشمس الدلجي قال ابن حجر: “وهو أعلم من رأيت في هذا العلم”، وعلم الأصلين عليه وعلى الشيخ ناصر الدين الطحان والطبلاوي والبكري والشهاب بن عبد الحق والشمس العبادي والشهاب البرلسي وغيرهم والمنطق على النور الطهوي والمحقق الشيخ عبيد الشنشوري والدلجي وغيرهم والفرائض والحساب على إمام وقته فيهما الشمس بن عبد القادر الفرضي وغيره كالشهاب الصالح البطوي.

وحضر الطب عند إمام وقته فيه الشهاب الصائغ الحنفي والتصوف على العبادي وابن الطحان والبكري وغيرهم ولازم إمام محققي زمنه الإمام ناصر الدين اللقاني في عدة علوم، مدة مديدة كالمنطق للغزي ففي القطب وحواشيه، والأصلين، وشرح العقائد، وشرح المواقف، وشرح جمع الجوامع للمحلي، فالعضد، والمعاني والبيان: المختصر، فالمطول، والنحو: التوضيح والصرف: شرح السعد التفتازاني والجاربردي.

وفي حال قراءته النحو شرح ألفية ابن مالك شرحا مزجا متوسطا حاويا لأكثر شروحها والتوضيح وحواشيه وفرغ منه سنة (٩٣٠ه) وفي سنة اثنين وثلاثين منها ألزمه شيخه الشناوي بالتزوج ثم زوجه من ابنة أخيه، ثم حج هو وشيخه البكري في السنة التي تليها وجاورا بمكة سنة (٩٣٤ه) وخطر له فيها أن يؤلف في الفقه فتوقف إلى أن رأى في النوم الحارث بن أسد المحاسبي وهو يأمره بالتأليف فاستبشر وابتدأ في شرح الإرشاد ولما رجع من مكة اختصر متن الروض.

وشرحه شرحا مستوعبا لما في شرح الروض والجواهر وكثير من شروح المنهاج والأنوار ثم حج مرة أخرى في سنة (٩٣٧ه) وجاور مرة أخرى، ورجع إلى مصر ثم حج مرة أخرى سنة أربعين ثم أقام بمكة من ذلك الزمن يؤلف ويفتي ويدرس، إلى أن مات بمكة.

  • مصنفاته: شرح المنهاج والإيضاح كلاهما للإمام النووي، وشرح الإرشاد شرحين ثم شرح العباب شرحا عظيما جمع المذهب جمعا لم يسبق إليه مع غاية من التحرير والتدقيق والتنقيح مستوعبا لما في الكتب، ولكنه لم يتمه، وشرح المنهج القويم وشرح المشكاة، والهمزية للبوصيري، وصنف الإحكام في قواطع الإسلام، والزواجر عن اقتراف الكبائر، وغيرها الكثير فقد أكثر من التصنيف حتى أربت على نحو الخمسين مؤلفا.
  • وفاته: توفى ابن حجر بمكة في رجب سنة (٩٧٤ه)(6).

التعريف بالفتاوى:

هذه الفتاوى جمعها: تلميذ ابن حجر الهيتمي، الشيخ عبد القادر بن أحمد بن علي الفاكهي المكي(7)، قال في مقدمتها: فَإِنَّ أَكَابِر الْعُلَمَاء مَا زَالَتْ تُدَوَّن أَقْوَالهمْ وَتُنْقَل أَحْوَالهمْ لَا سِيَّمَا فَتْوَاهُمْ فِي الْعَوِيصَات الَّتِي لَا يُهْتَدَى إلَيْهَا وَآرَاؤُهُمْ فِي الْمُدْلَهِمَّاتِ الَّتِي لَا يُعَوَّل إلَّا عَلَيْهَا وَاسْتِنْبَاطهمْ فِي الْمُعْضِلَات مَا هُوَ الْحَقّ الصَّرِيح وَالْمَذْهَب الصَّحِيح.

وَكَانَ مِمَّنْ انْتَشَرَتْ فَتْوَاهُ شَرْقًا وَغَرْبًا وَعَجَمًا وَعَرَبًا سَيِّدنَا وَشَيْخنَا الْإِمَام الْعَالِم الْعَلَّامَة الْحَبْر الْبَحْر الْحُجَّة الْفَهَّامَة مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ صَدْر الْمُدَرِّسِينَ بَقِيَّة الْمُجْتَهِدِينَ بَرَكَة بِلَاد اللَّه الْأَمِين أَحْمَدُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ حَجَرٍ الشَّافِعِيُّ فَسَّحَ اللَّه لِلْمُسْلِمِينَ فِي مُدَّتِهِ وَنَفَعَنَا اللَّه بِعُلُومِهِ وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَته أَعْظِمْ بِهِ عَالِمًا كَتَبَ الْفَتَاوَى بِقَلَمِهِ فَوَقَّعَ عَنْ الْبَارِي وَأَطْلَعَ كَوَاكِب أَلْفَاظه فِي آفَاقهَا فَقِيلَ هَذِي النُّجُوم الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي فَرُبَّ قَضَايَا لَا يَكْشِف إشْكَالَهَا غَيْرُ فَتْوَاهُ وَأُمُور يَنْحَلُّ الْحَقّ بِبَيَانِهَا وَيُنْتَظَر جَدْوَاهُ فَإِنَّهُ لَا سِيَّمَا حِينَ اتَّخَذَ مَكَّةَ وَطَنًا وَآثَرَهَا سَكَنًا انْتَشَرَ صِيتُهُ فِي الْآفَاق وَوَقَعَ عَلَى سَعَة عِلْمه وَصِحَّة اسْتِنْبَاطه وَبَاهِر فَهْمِهِ الِاتِّفَاقُ فَقَصَدَهُ الْأَئِمَّة وَغَيْرهمْ بِالْفَتَاوَى مِنْ سَائِر الْأَقَالِيم الْمَشْهُورَة لِمَا اُشْتُهِرَ مِنْ حَدِيث فَضْله عِنْدهمْ مِنْ كُلّ طَرِيق صَحِيحَة مَأْثُورَة كَمِصْرِ وَالشَّامِ وَحَلَبَ وَبِلَادِ الْأَكْرَادِ وَالْعِرَاقَيْنِ وَالْبَصْرَةِ وَنَجْدٍ وَالْحَسَا وَالْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَنِ وَالسَّوَاحِلِ وبر عَجَم وَحَضْرَمَوْتَ وَالْهِنْدِ وَالسِّنْدِ وَدَلْهَى وَأَعْمَالِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا الْقَادِمِينَ إلَى الْحَجِّ مِنْ الْبِلَادِ الشَّاسِعَة الْمَهْجُورَة.

فَحِين إذْ رَأَيْت ذَلِكَ وَمَا يَقَع فِي خِلَالِ تِلْكَ الْفَتَاوَى مِنْ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا وَالْمُعْضِلَاتِ الَّتِي مَا سَارَ أَحَدٌ فِي حَلِّهَا كَسَيْرِهَا وَالْأَبْكَارِ الَّتِي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ وَلَا جَانٌّ وَالْأَفْكَارِ الَّتِي حَكَّتْ أَفْكَارَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالْبُرْهَانِ وَالنُّقُولِ الَّتِي طَالَمَا خَفِيَ قَبْلَ إظْهَارِهَا خَبَايَا زَوَايَاهَا عَلَى الْأَعْيَانِ وَالتَّرَاجِيحِ وَالنُّقُودِ وَالرُّدُودِ الَّتِي عَوَّلَ عَلَى فَضْلِهِ فِيهَا الْمُتَنَازِعُونَ وَانْتَهَى إلَى قَوْلِهِ فِيهَا الرَّاسِخُونَ أَرَدْت جَمْعَ الْمُهِمِّ فَبَادَرْت إلَى تَتَبُّعِهَا وَبَذَلْت فِيهِ الْجَهْدَ الْجَهِيدَ وَتَفَرَّغْت لِجَمْعِهَا الْأَزْمِنَةَ الطَّوِيلَةَ صَوْنًا لَهَا مِنْ حَاسِدٍ عَنِيدٍ أَوْ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ إلَى أَنْ ظَفِرْت مِنْهَا بِالْكَثِيرِ الطَّيِّبِ وَالْوَلِيِّ الْوَسْمِيِّ الصَّيِّبِ وَالْفَوَائِدِ الْفَرَائِدِ وَالْأَوَابِدِ الْعَوَائِدِ فَدَوَّنْتهَا فِي هَذَا الدِّيوَانِ لِيَعُمَّ النَّفْعُ بِهَا فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ وَلِيَعُودَ عَلَى بَرَكَةِ جَمْعِهَا وَحِفْظِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهَا فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَلَا يُجْدِي فِيهَا غَيْرُهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ بَدَائِعِ التَّحْرِيرِ وَوَاضِحَاتِ الْبَرَاهِينِ لَا سِيَّمَا فِي الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا نَقْلَ فِيهَا.

وَلَا كَلَامَ لِمَنْ سَبَقَهُ يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي قَوَادِمِهَا وَخَوَافِيهَا وَلِيَحْصُلَ لِي إنْ شَاءَ اللَّهُ ثَوَابُ ذَلِكَ الْجَزِيلِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِي حَدِيثِهِ الَّذِي أَرْوَى بِهِ الْغَلِيلَ وَشَفَى بِهِ الْعَلِيلَ حَيْثُ أَفَادَ فِيهِ أَنَّ «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» وَأَنَّ الْمُعِينَ عَلَى عَمَلٍ كَعَامِلِهِ حَقَّقَ اللَّهُ لِي فِي ذَلِكَ أَفْضَلَ مِمَّا أَمَلْت وَأَعْظَمَ مِمَّا قَصَدْت وَجَعَلَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى أَنْ أَرْضَاهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَإِلَى أَنْ أَلْقَاهُ إنَّهُ بِكُلِّ خَيْرٍ كَفِيلٌ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَرَتَّبْتُهَا لِيَسْهُلَ الْكَشْفُ مِنْهَا عَلَى الْمُضْطَرِّينَ وَالظَّفَرُ بِمَا فِي زَوَايَاهَا عَلَى الْمُسْتَرْشِدِينَ وَإِذَا اشْتَمَلَ السُّؤَالُ عَلَى مَسَائِلَ مُخْتَلِفَةِ الْأَبْوَابِ فَغَالِبًا أَجْعَلُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا وَقَدْ أَذْكُرُهَا جَمِيعًا فِي أَنْسَبِ الْأَبْوَابِ بِمُعْظَمِهَا لِارْتِبَاطِ الْجَوَابِ فِيهَا بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ كَمَا وَقَعَ لَهُ فِي الْبَيْعِ.

فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْأَسْئِلَةِ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ بِمَا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ لَكِنْ بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ وَالتَّبَعِ فَذَكَرْتُهُ لِارْتِبَاطِ الْكَلَامِ فِيهِ بِمَا قَبْلَهُ مَعَ أَنَّ الْأَحَقَّ بِهِ بَابُ الْقَضَاءِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِيهَا كَثِيرَةٌ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ عَلَى ذِكْرٍ مِنْك هَذَا”(8).

وقد عرفت هذه الفتاوى “بالفتاوى الفقهية” تمييزا لها عن “الفتاوى الحديثية” له أيضا، وهي مرتبة على أبواب الفقه، وبها الكثير من المؤلفات والرسائل المفردة لابن حجر أكثرها في مسائل تقع بينه وبين معاصريه فيها تخالف؛ فأثبتها الفاكهي داخل الفتاوى، لأنه رآها في حكم الفتاوى كما نص عليه أثناء ترجمته لابن حجر.

وتختلف إجابات ابن حجر طولا وقصرا على حسب مقتضى الحال، ولكنها مهمة في تحرير بعض المسائل في المذهب لكون صاحبها انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي، وبها المسائل الكثيرة التي يتردد الحكم فيها في المذهب ويختلف الأئمة فيه فيرجعون إلى ابن حجر ليبين لهم المعتمد فيها، ولذلك قد استقرت معتمدات المذهب عنده، ومن بعده الشمس الرملي وما اتفقا عليه هو معتمد المذهب، ولا تجوز الفتوى بما يخالفهما، وعند اختلافهما فإن كان المفتي من أهل الترجيح في المذهب أفتى بما ظهر له ترجيحه، وأن لم يكن من أهل الترجيح فاختلف فيهم: فذهب علماء حضر مصر أو أكثرهم اعتماد ما قاله الشيخ محمد الرملي في كتبه خصوصا النهاية؛ لأنها قرئت على المؤلف إلى آخرها في أربعمائة من العلماء فنقدوها وصححوها؛ فبلغت صحتها حد التواتر.

وذهب علماء حضر موت والشام والأكراد وداغستان وأكثر اليمن والحجاز إلى أن المعتمد ما قاله ابن حجر في كتبه بل في تحفته لما فيها من إحاطة نصوص الإمام مع مزيد تتبع المؤلف فيها ولقراءة المحققين لها عليه الذين لا يحصون كثرة، ثم فتح الجواد ثم الإمداد ثم شرح العباب ثم فتاويه.

وهذه الفتاوى طبعت أكثر من طبعة وطبعته القديمة لمكتبة ومطبعة المشهد الحسيني في أربعة مجلدات، وعلى هامشها فتاوى الشهاب الرملي.

نموذج من الفتاوى:

“وسئل – رضي الله عنه – عن أرواث الفئران إذ عمت البلوى بها في بلاد مليبار هل يعفى عنها لأن عموم البلوى بها أكثر وأظهر من ذرق الطيور أو لا؟

(فأجاب) – نفع الله بقوله – صرح النووي في مجموعه بأنه يعفى عن النجاسة التي على منفذ الفأر إذا وقعت تلك الفأرة وعلى منفذها النجاسة في ماء قليل أو مائع، ونقله ابن الرفعة في الكفاية عن الأصحاب.

ولما ذكرت ذلك في شرح العباب قلت عقبه: (ويؤخذ من ذلك بالأولى العفو عما تلقيه الفأرة في بيوت الأخلية من النجاسة ويؤيده قول الفزاري يعفى عن بعرها إذا وقع في مائع (فأجاب) فسح الله في مدته بأن ما نقل من أن الشعر طاهر ما لم يعلم كونه من غير مذكاة دون بقية أجزاء الحيوانات التي لا تصير أجزاؤها طاهرة إلا بالذبح لم أره في كلام أحد من الأئمة وكأن وجهه أن الشعر أي ونحوه كالصوف والوبر والريش إذا كان من مأكول، وانفصل في الحياة يكون طاهرا بخلاف نحو القرن والعظم والظلف فإنها لا تكون طاهرة من المأكول إلا إذا انفصلت بعد الذبح دون ما إذا انفصلت قبله فقد عهد لنحو الشعر حالة يحكم له فيها بالطهارة مع الحكم بالنجاسة في تلك الحالة لنحو العظم فمن ثم افترقا فهذا الفرق، وإن تخيل لكنه لا يجدي ما ذكر من الحكم بالطهارة لنحو الشعر والنجاسة لنحو العظم.

فإن هذا الفرق إنما يتأتى في نحو شعر علم حاله ونحو عظم كذلك وهذا لا كلام فيه وإنما الكلام فيما جهل حاله منهما فلم يدر هل هو من مأكول أو من غيره أو انفصل قبل الذبح أو بعده أو في حال الحياة أو الموت، وكل منهما حينئذ على حد سواء؛ لأنا إن نظرنا لحالة اتصالهما فهما طاهران أو لحالة انفصالهما بعد الذبح، وهما من مأكول فهما كذلك أو بعد الموت فهما نجسان أو في حالة الحياة فأمرهما مشكوك، فهما عند الجهل بحالهما على حد سواء فإما أن يقال بطهارتهما أو نجاستهما، والذي يظهر أن الكل طاهر ما لم يتحقق أنه من غير مأكول، وأنه انفصل منه بعد موته وذلك؛ لأنا تيقنا طهارته عند اتصاله وشككنا في موجب نجاسته وهو كونه من غير مأكول انفصل بعد موته أو في حياته بالنسبة لنحو العظم، والأصل عدم طرق ما ينجسه فهو من قاعدة تعارض الأصل وغيره.

وحاصل ما في المجموع وغيره فيها عن الأصحاب، أن الأصل واليقين لا يترك حكمه بالشك إلا في مسائل يسيرة لأدلة خاصة، وبعضها إذا حقق كان داخلا في القاعدة فلو كان معه نحو ماء أو عصير مما أصله الطهارة وتردد في نجاسته لم يضر تردده وهو باق على طهارته سواء كان تردده بين الطهارة والنجاسة مستويا أو ترجح احتمال النجاسة حتى غلب على الظن الحكم بها، فإنه لا يلتفت إليه وإن استند الحكم بها إلى سبب معين لا بقيده الآتي، كمقبرة شك في نبشها وثياب متدينين بالنجاسة ومدمني الخمر والصبيان والمجانين والقصابين والجوخ، وقد اشتهر عمله بشحم الخنزير، والورق ينشر رطبا على الحيطان النجسة والخزف الآجر خلافا لمن قطع بنجاسته كالماوردي وغيره نظرا لاطراد العادة باستعمال السرجين فيه والجبن المجلوب من بلاد الفرنج.

وإن اشتهر عمله بإنفحة الخنزير أو الملح الذي في جلدها والفراء السنجاب ونحوها وإن اشتهر أنها لا تذبح وإنما تخنق، فكل هذه محكوم بطهارتها عملا بالأصل نعم يكره استعمال ما غلبت فيه النجاسة، ثم محل العمل بالأصل إذا استند ظن النجاسة إلى غلبتها فحسب. أما لو استند إلى علامة تتعلق بالعين فيعمل بها كما لو رأى ظبية تبول في ماء كثير فوجده عقب البول متغيرا وشك في أن تغيره به أو بنحو طول المكث واحتمل تغيره به فحينئذ يحكم بنجاسته عملا بالظاهر؛ لاستناده إلى سبب معين كخبر العدل بخلاف ما لم يوجد عقب البول متغيرا بأن غاب عنه زمنا ثم وجده متغيرا أو وجد عقب البول غير متغير ثم تغير، ولم يقل أهل الخبرة أن تغيره منه أو وجد عقبه متغيرا ولم يحتمل تغيره به لقلته فإنه في هذه الصور كلها طاهر؛ لأن الأصل لم يعارضه شيء.

وكما لو وجد قطعة لحم مكشوفة في غير إناء أو كانت في إناء أو خرقة لكن في بلد فيه من لا يحل ذبحه ومن تحل ذبيحته سواء استويا أو غلب من لا تحل ذبيحته فإنها لا تحل حينئذ عملا بالظاهر أما عند غلبة من لا تحل ذبيحته فواضح وأما عند استوائهما فتغليبا للمانع بخلاف ما لو كان من تحل ذبيحته أغلب فإنها تحل؛ لأنه يغلب على الظن أنها ذبيحة مسلم، وكما لو جرح صيدا فغاب عنه ثم وجد ميتا فإن وجد الموت عقب الجرح أحيل على السبب وإلا فلا ففي هذه المسائل الثلاث ونحوها أعني مسألة الظبية وما بعدها حكم فيها بالنجاسة أو عدم الحل على خلاف الأصل أو سبب قوي اقتضى ذلك، وهو العلامة المتعلقة بالعين الظاهر أثرها بخلاف غيرها مما مر ونحوه فإنه لم يوجد فيه سبب قوي كذلك يقتضي الخروج عن الأصل فحكم بطهارته على الأصل فكذا يقال في نحو الشعر والعظام: الأصل فيه الطهارة ولم يوجد سبب قوي كذلك يخرجه عن الأصل فعمل به فيه.

سبب فيه كذلك يخرجه عن الأصل بل وجد ما أخرجه عنه، نظير ما تقرر في مسألة القطعة اللحم المذكورة قلت الذي تقرر في طعم اللحم إنما هو بالنسبة لحل أكلها وعدمه كما قدمنا الإشارة إليه بفرض الحكم في حل الأكل وعدمه أما بالنسبة إلى النجاسة فلا كما صرح به بعض مختصري الروضة حيث قال عقب التفصيل في القطعة اللحم وهذا بالنسبة للأكل أما لو أصابت شيئا فلا تنجسه اهـ. فإن قلت فما الفرق بين حل الأكل وحرمته والطهارة والنجاسة؟ قلت: يفرق بينهما بأن الأصل في اللحم حال اتصاله في حال الحياة حرمة أكله؛ فعملنا فيه بالأصل المذكور حتى يوجد سبب قوي يقتضي حله وهو كونه في إناء ومن تحل ذبيحته أغلب.

والأصل في نحو الشعر والعظم حال اتصاله في حال الحياة الطهارة فعملنا بها فيه حتى يوجد سبب قوي يقتضي نجاسته ولم يوجد ذلك فيه؛ فأبقيناه على أصله ولم ننظر إلى أن ما يوجد منهما مرميا مثلا الغالب أنه يكون من ميتة على أنه لا نسلم أن الغالب ذلك فظهر فرقان: ما بين حل الأكل وحرمته والطهارة والنجاسة فلا يشكل عليك بعد ذلك إحدى المسألتين على الأخرى. وما قلناه في قطعة اللحم يأتي حرفا بحرف فيما قالوه في صيد جرحه فغاب عنه ثم وجد ميتا وبهذا الفرق الذي ذكرته هنا اتضح قولي في شرح مختصر الروض بعد ذكر التفصيل في قطعة اللحم: وهل نحو الجلد والشعر والعظام الملقاة في الشوارع كاللحم فيما ذكر من التفصيل أو هي طاهرة مطلقا؟ لأن كون قطعة اللحم مرمية بلا إناء يغلب على الظن أنها ميتة بخلاف هذه، الظاهر الثاني اهـ. وبما قررته يعلم الجواب عن قول السائل – حفظه الله – ونحن نجدهم يأتون بالسمن. . . إلخ.

وحاصل الجواب عن ذلك؛ المعلوم أنها طاهرة أيضا وأن القول بنجاسة ذلك غير صحيح لما علمته على أنه يحتمل أن القائل بالتفصيل بين نحو الشعر ونحو العظم جرى في ذلك على مذهب عمر بن عبد العزيز والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق والمزني وابن المنذر فإن هؤلاء ذهبوا إلى أن الشعر والوبر والصوف والريش من الميتة طاهرة، والعظم والقرن والسن والظفر نجسة وقال آخرون: إن هذه نجسة لكنها تطهر بالغسل وقد استوفي في شرح المهذب حكاية الخلاف في ذلك والاستدلال لمذهبنا من أن الحياة تحل الجميع بما ليس هذا محل بسطه. وعلى التنزل والقول بما مر من أن نحو العظم نجس ما لم يعلم أنه انفصل من مذكاة فلا نقول بنجاسة السمن والزباد ووعائهما وأنصبة الشفار ولأنا نعلم بالضرورة أن من ذلك ما هو من مذكى وما هو من غيره.

وقد صرحوا بأنه لو اشتبه إناء بول بأواني بلد أو ميتة بمذكياته أخذ منهما ما شاء بلا اجتهاد إلا واحدا، وذكر الإناء مثال فلو اشتبه أكثر من واحد أخذ ما عدا العدد المشتبه فكذا يقال هنا: قد اشتبه أعيان نجسة بأعيان طاهرة فيجوز الأخذ منها بلا اجتهاد ولا نحكم بنجاسة بعضها على التعيين. وقد نقل في المجموع عن ابن الصلاح ما يؤيد ذلك فإنه نقل عن الشيخ أبي محمد الجويني أنه بالغ في ذم من يغسل فاه بعد أكل الخبز زاعما أن الحنطة تداس بالبقر وهي تبول وتروث عليها أياما طويلة، وعن الشيخ أبي عمرو بن الصلاح أنه قال: (والفقه في ذلك أن ما بأيدي الناس من القمح المتنجس بذلك قليل جدا بالنسبة إلى القمح السالم من النجاسة فقد اشتبه إذا واختلط قمح قليل متنجس بقمح طاهر ولا ينحصر ولا منع من ذلك، بل يجوز التناول من أي موضع أراد كما لو اشتبهت أخته بنساء لا ينحصرن؛ فله نكاح من شاء وهذا أولى بالجواز) أهـ. وبه يتأيد ما ذكرته وإن كان مبنيا على ضعيف وهو أن بول البقر على الحنطة مثلا وهي تدوسها لا يعفى عنه والصحيح أنه يعفى عن ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب”(9).

“وسئل – أمدنا الله من مدده – ما الحكمة في تنجس الكلب؟ وهل سم الحيات ونحوها نجس؟

(فأجاب) – أفاض الله علي من فيض مدده – الحكمة في تنجس الكلب التنفير مما كان يعتاده أهل الجاهلية من القبائح كمؤاكلة الكلاب، وزيادة إلفها ومخالطتها مع ما فيها من الدناءة والخسة المانعة لذوي المروآت وأرباب العقول من معاشرة من تحلى بهما ومن ثم حرم الجلوس على نحو جلد النمور والسباع لأن ذلك كان فعل المتكبرين من الجاهلية؛ فنهى الشارع عن التأسي بهم في ذلك فلما لم يكن في التأسي بهم هنا ما ليس فيه من الدناءة ثم كان ثم حرمة ونجاسة، وهنا حرمة فقط، وسم نحو الحيات نجس كما صرح به جمع متقدمون ومتأخرون والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب”(10).

1 انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ للذهبي (٤/١٧٤)، وما بعدها. وقد افردت سيرته بمصنفات منها تحفة الطالبين لتلميذه ابن العطار، المنهاج السوي في ترجمة الإمام النووي للسيوطي، وحياة الإمام النووي للسخاوي.

2 فتاوى الإمام النووي المسماة «المسائل المنثورة» (ص ١٠).

3 هو الإِمَام العَالم المُحدث الفقيه أَبُو الْحسن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن دَاوُد بن سلمَان بن سُلَيْمَان عَلَاء الدَّين بن الْعَطَّار.

ولد يَوْم عيد الفطر سنة (٦٥٤ه)، اشتهر بأخذه عن لإمام النووي وتفقهه به وبملازمته له حتى لقبه بعضهم بـ”مختصر النووي” قال قاضي شهبة: “سمع من خلائق وتفقه على الشَّيْخ محيي الدَّين النواوي وَأخذ عَن جمال الدَّين بن مَالك وَولي مشيخة دَار الحَدِيث النورية وَغَيرهَا ودرس بالقوصية بالجامع مرض زَمَانا بالفالج”، توفّي بِدِمَشْق فِي ذِي الْحجَّة سنة (أَربع وَعشْرين وَسَبْعمائة)، لمزيد من التفصيل حول ترجمته يراجع طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (٢/٢٧٠).

4 فتاوى الإمام النووي (ص ٩).

5 فتاوى الإمام النووي ( ص ٢١: ٢٥).

6 انظر ترجمته في شذرات الذهب في أخبار من ذهب (١٠/ ٥٤١-٥٤٣).وترجمة تلميذه الفاكهي جامع الفتاوى في مقدمة الفتاوى (١/ ٣-٥).

7 هو الشيخ العلامة عبد القادر بن أحمد بن علي الفاكهي، من أهل مكة، مولدا ووفاة. ولد فِي شهر ربيع الأول من عَام عشْرين وَتِسْعمِائَة، وكانت وفاته بعد وفاة شيخه ابن حجر بثمان سنين في سنة (٩٨٢ه) ومن مؤلفاته ” عقود اللطائف في محاسن الطائف” و ” شرح منهج القاضي زكريا ” وشرحان على ” بداية الهداية ” للغزالي. وللمزيد يراجع: النور السافر (ص ٣١٦)، وشذرات الذهب (١٠/٥٨٢).

8 الفتاوى الفقهية الكبرى(١/ ٢-٣).

9 الفتاوى الفقهية الكبرى (١/٢٥: ٢٧).

10 الفتاوى الفقهية الكبرى (١/٢٨).

المبحث الرابع

المختار من فتاوى الحنابلة

أولا: مسائل حرب الكرماني.

التعريف بصاحب الكتاب:

  • اسمه ونسبه: هو الإمام، العلامة، حرب بن إسماعيل السيرجاني الكرماني.
  • كنيته وشهرته: يكنى حرب بأبي محمد، واشتهر باسمه مجردا مع نسبته إلى بلده فيقال له: “حرب الكرماني”
  • مولده: لم تحدد المصادر سنة ولادته، ولكنهم ذكروا أنه قد عمر وقارب التسعين فحينئذ مع تحديد سنة وفاته فتكون ولادته ما بين (١٩٠: ١٩٣ه) تقريبا.
  • نشأته: حبب إليه العلم فرحل في طلب العلم، وأخذ عن شيوخ كثيرن منهم: أبي الوليد الطيالسي، وأبي بكر الحميدي، وأبي عبيد، وسعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.

ولازم الإمام أحمد وأكثر من الأخذ عنه واشتهر بتلمذته عليه، وكان الإمام أحمد يكرمه ويقرأ عليه بعض مصنفاته، واشتهر بمسائله عنه، قال حرب الكرماني: “خرج أبو عبد الله ليقرأ على قال: أحسبه قال: كتاب الأشربة قال: فجاء عبد الله ابنه فقال: أليس وعدتني أن تقرأ علي وهو إذ ذاك غلام قال: فجعل أبو عبد الله يصبره قال: فبكى عبد الله قال: فقال: لي أبو عبد الله أصبر لي حتى أدخل أقرأ عليه قال: فدخل أبو عبد الله فقرأ عليه وخرج فلما قدمت من كرمان سألني عبد الله عن حرب وعما عنده من المسائل والأحكام والعلل وجعل يسألني عما جمعت من مسائل أبي عبد الله فقال: لي أنت أحوج إلى ديوان يعني لكثرتها”(1).

  • تلاميذه: أخذ عنه القاسم بن محمد الكرماني، نزيل طرسوس، وعبد الله بن إسحاق النهاوندي، وعبد الله بن يعقوب الكرماني، وأبو حاتم الرازي؛ رفيقه، وأبو بكر الخلال، وآخرون.
  • ثناء العلماء عليه: قد مضى إكرام الإمام أحمد له، وقال الخلال: “كان رجلا جليلا، حثني المروذي على الخروج إليه”(2).
  • مصنفاته: لم يكثر حرب الكرماني من التصنيف فاشتهر بمسائله هذه، وله رسالة أخرى تٌسمى بـ “السنة والجماعة”.
  • وفاته: توفى سنة (٢٨٠ه) قال الذهبي: “عمر، وقارب التسعين”(3).

التعريف بالكتاب:

اشتهر حرب الكرماني بمسائله في حياته وبعد وفاته، وامتازت بأنها أكثر مسائل من غيرها ممن شاركه الراية عن أحمد حتى قال الإمام الذهبي: “مسائل حرب من أنفس كتب الحنابلة، وهو كبير في مجلدين”(4).

ولم يكتف فيها بسؤال الإمام أحمد فقط بل جمع معه مسائل إسحاق بن راهويه، قيل: إنها جمعت أربعة ألاف مسألة عنهما، كما ذكره ابن عبد الهادي في معجم الكتب، وقال: ” كانت مسائله مسائل حسانا جدا أغرب على أصحابه وجاء عنه بما لم يجئ به عنه غيره لم يجئ بمثله عن غيره”.(5)

وقد قسم حرب مسائله إلى الكتب، وابتدأ بكتاب الطهارة، ويذكر تحت كل كتاب أبوابا متفرقة، ويذكر أدلتها بأسانيده على طريقة أهل الحديث، وهو في أثناءها يطالب بإيضاح الجواب، ويتحرى في نقل العبارة وما يفهمه منها يحكيه بقوله: “كأنه ذهب…، أو كأنه رخص…، وغيرها من العبارات الدالة عن فهمه منها.

ومسائله لم تطبع كاملة في كتاب واحد، بل حققت كرسائل جامعية، وطبع بعضها.

نموذج من المسائل:

” باب: إذا لم يبلغ الماءُ أصولَ شعرِ شاربيه

قلت لأحمد: رجل على شاربيه غالية كثيرة، فإن توضأ لم يبلغ الماء أصول الشعر؟ قال: ليس في هذا حديث. قلت: إن أمرّ عليه الماء، أترجو أن يجزئه؟ فسهّل فيه.

حدثنا عمرو بن عثمان قال: ثنا الوليد بن مسلم قال: قال أبو عمرو: يتوضأ ويمسح الضماد على الصدغين، قال الوليد: وأقول: لا ينبغي أن يضع الضماد إلا على طهر ووضوء، فإن لم يفعل، نزعهما، فإن لم يفعل، توضأ وتيمم بعد الوضوء.

باب من نسي أن يحرك خاتمه في الوضوء

قلت لإسحاق: فنسي أن يحرك خاتمه؟ فسهّل فيه إذا علم أن الماء قد وصل.

وسئل إسحاق عن تحريك خاتمه في الوضوء؟ قال: شديدًا.

حدثنا محمود بن خالد قال: ثنا عمر بن عبد الواحد قال: سألت الأوزاعي عن الرجل يكون عليه الخاتم الضيق، فنسي أن يحركه حتى يصلي، ثم تذكر في الوقت أو بعدما خرج؟ قال: أحب أن لا يدع تحريكه، فإن نسي مضت صلاته.

حدثنا محمد بن جامع قال: ثنا يزيد بن زريع قال: ثنا المعلى بن جابر، عن الأزرق بن قيس قال: رأيت ابن عمر إذا توضأ حرك خاتمه”(6).

ثانيًا: مجموعة فتاوى ابن تيمية.

التعريف بصاحب الفتاوى:

  • اسمه ونسبه: هو أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن تَيْمِية الْحَرَّانِي ثمَّ الدِّمَشْقِي الْحَنْبَلِيّ.
  • لقبه وشهرته: يلقب بـ”تَقِيّ الدّين” واشتهر أيضا “ابن تيمية” وليتميز عن أبيه وجده يقال له الحفيد” كما اشتهر أيضا بلقب “شيخ الإسلام”.
  • مولده: ولد فِي حران عَاشر ربيع الأول سنة (٦٦١ه)
  • نشأته: تحول بِهِ أَبوهُ من حران سنة (٦٦٧) فَسمع من ابْن عبد الدَّائِم وَالقَاسِم الأربلي وَالْمُسلم ابْن عَلان وَابْن أبي عمر وَالْفَخْر فِي آخَرين وَقَرَأَ بِنَفسِهِ وَنسخ سنَن أبي دَاوُد وَحصل الْأَجْزَاء وَنظر فِي الرِّجَال والعلل وتفقه وتمهر وتميز وَتقدم وصنف ودرس وَأفْتى وفَاق الأقران وَصَارَ عجبا فِي سرعَة الاستحضار وَقُوَّة الْجنان والتوسع فِي الْمَنْقُول والمعقول.

قال ابن حجر: “قَالَ الذَّهَبِيّ مَا ملخصه: كَانَ يقْضِي مِنْهُ الْعجب إِذا ذكر مَسْأَلَة من مسَائِل الْخلاف وَاسْتدلَّ وَرجع وَكَانَ يحِق لَهُ الِاجْتِهَاد لِاجْتِمَاع شُرُوطه فِيهِ قَالَ وَمَا رَأَيْت أسْرع انتزاعاً للآيات الدَّالَّة على الْمَسْأَلَة الَّتِي يوردها مِنْهُ وَلَا أَشد استحضاراً للمتون وعزوها مِنْهُ كَانَ السّنة نصب عَيْنَيْهِ وعَلى طرف لِسَانه بِعِبَارَة رشيقة وَعين مَفْتُوحَة وَكَانَ آيَة من آيَات الله فِي التَّفْسِير والتوسع فِيهِ وَأما أصُول الدّيانَة وَمَعْرِفَة أَقْوَال الْمُخَالفين فَكَانَ لَا يشق غباره فِيهِ هَذَا مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْكَرم والشجاعة والفراغ عَن ملاذ النَّفس وَلَعَلَّ فَتَاوِيهِ فِي الْفُنُون تبلغ ثَلَاثمِائَة مُجَلد بل أَكثر وَكَانَ قوالاً بِالْحَقِّ لَا يَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم قَالَ وَمن خالطه وعرفه فقد ينسبني إِلَى التَّقْصِير فِيهِ وَمن نابذه وَخَالفهُ قد ينسبني إِلَى التغالي فِيهِ وَقد أوذيت من الْفَرِيقَيْنِ من أَصْحَابه وأضداده وَكَانَ أَبيض اسود الرَّأْس واللحية قَلِيل الشيب شعره إِلَى شحمة أُذُنَيْهِ وَكَأن عَيْنَيْهِ لسانان ناطقان ربعَة من الرِّجَال بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ جَهورِي الصَّوْت فصيحاً سريع الْقِرَاءَة تعتريه حِدة لَكِن يقهرها بالحلم قَالَ وَلم أر مثله فِي ابتهاله واستغاثته وَكَثْرَة توجهه وَأَنا لَا أعتقد فِيهِ عصمَة بل أَنا مُخَالف لَهُ فِي مسَائِل أَصْلِيَّة وفرعية فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ سَعَة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدّين بشرا من الْبشر تعتريه حِدة فِي الْبَحْث وَغَضب وشظف للخصم تزرع لَهُ عَدَاوَة فِي النُّفُوس وَإِلَّا لَو لاطف خصومه لَكَانَ كلمة إِجْمَاع فَإِن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بشنوفه مقرون بندور خطائه وَأَنه بَحر لَا سَاحل لَهُ وكنز لَا نَظِير لَهُ وَلَكِن ينقمون عَلَيْهِ إخلافاً وأفعالاً وكل أحد يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك قَالَ وَكَانَ محافظاً على الصَّلَاة وَالصَّوْم مُعظما للشرائع ظَاهرا وَبَاطنا لَا يُؤْتى من سوء فهم فَإِن لَهُ الذكاء المفرط وَلَا من قلَّة علم فَإِنَّهُ بَحر زخار وَلَا كَانَ متلاعباً بِالدّينِ وَلَا ينْفَرد بمسائله بالتشهي وَلَا يُطلق لِسَانه بِمَا اتّفق بل يحْتَج بِالْقُرْآنِ والْحَدِيث وَالْقِيَاس ويبرهن ويناظر أُسْوَة من تقدمه من الْأَئِمَّة فَلهُ أجر على خطائه وأجران على إِصَابَته إِلَى أَن قَالَ تمرض أَيَّامًا بالقلعة بِمَرَض جد إِلَى أَن مَاتَ لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الْعشْرين من ذِي الْقعدَة وَصلي عَلَيْهِ بِجَامِع دمشق وَصَارَ يضْرب بِكَثْرَة من حضر جنَازَته الْمثل وَأَقل مَا قيل فِي عَددهمْ أَنهم خَمْسُونَ ألفا”(7).

وقال الشوكاني: “قد وَقع لَهُ مَعَ أهل عصره قلاقل وزلازل وامتحن مرة بعد أُخْرَى في حَيَاته وَجَرت فتن عديدة وَالنَّاس قِسْمَانِ فِي شَأْنه فبعض مِنْهُم مقصر بِهِ عَن الْمِقْدَار الَّذِي يسْتَحقّهُ بل يرميه بالعظائم وَبَعض آخر يُبَالغ في وَصفه ويجاوز بِهِ الْحَد ويتعصب لَهُ كَمَا يتعصب أهل الْقسم الأول عَلَيْهِ وَهَذِه قَاعِدَة مطردَة في كل عَالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بِالْكتاب وَالسّنة فإنه لَا بُد أَن يستنكره المقصرون وَيَقَع لَهُ مَعَهم محنة بعد محنة ثمَّ يكون أمره الْأَعْلَى وَقَوله الأولى وَيصير لَهُ بِتِلْكَ الزلازل لِسَان صدق في الآخرين وَيكون لعلمه حَظّ لَا يكون لغيره وَهَكَذَا حَال هَذَا الإمام فإنه بعد مَوته عرف النَّاس مِقْدَاره واتفقت الألسن بالثناء عَلَيْهِ إلا من لَا يعْتد بِهِ وطارت مصنفاته واشتهرت مقالاته”(8)

  • مصنفاته: لقد أكثر ابن تيمية من التصنيف في المعقول والمنقول، فمن ذلك “الصارم المسلول على شاتم الرسول” والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح” و”منهاج السنة النبوية”، و”السياسة الشرعية” و”درء تعارض العقل والنقل”، و”الفتاوى” وغير ذلك.
  • وفاته: حبس فِي شعْبَان سنة (٧٢٦ه) بِسَبَب مَسْأَلَة الزِّيَارَة واعتقل بالقلعة فَلم يزل بهَا إِلَى أَن مَاتَ فِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الْعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة (٧٢٨ه)(9).

التعريف بالفتاوى:

هي من أضخم الموسوعات الإفتائية الصادرة من عالم واحد في أكثر من علم وفنّ؛ فهي تشتمل على فتاوى ورسائل في العقيدة، والتفسير، والحديث، والتصوف، وأصول الفقه، والفقه المذهبي والمقارن، ولذلك يقول تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي: “وللشيخ -رَحمَه الله- من المصنفات والفتاوى وَالْقَوَاعِد والأجوبة والرسائل وَغير ذَلِك من الْفَوَائِد مَالا يَنْضَبِط وَلَا أعلم أحدا من مُتَقَدِّمي الْأمة وَلَا متأخريها جمع مثل مَا جمع وَلَا صنف نَحْو مَا صنف وَلَا قَرِيبا من ذَلِك مَعَ أَن أَكثر تصانيفه إِنَّمَا أملاها من حفظه وَكثير مِنْهَا صنفه فِي الْحَبْس وَلَيْسَ عِنْده مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْكتب”(10).

وَقد اشتهر ابن تيمية بكثرة فتاواه في عصره وما بعده، وعد ذلك من مناقبه وذكره العلماء والشعراء في مراثيهم له.

فمن ذلك ما قاله جمال الدّين مَحْمُود بن الْأَمِير الْحلَبِي في رثاء ابن تيمية:

(11)

كم فتاوي أَتَتْهُ مَعَ كل شخصأعجزت كل عَالم صمصام
حلهَا كالنسيم فِي الْحَال وجلىلصداها من عِلّة الأسقام
طبق الأَرْض بالفتاوي اللواتيهِيَ منقذات الورى من الآثام(١١)

ومن رثاء الشَّيْخ عبد الله بن خضر بن عبد الرحمن الرُّومِي: (12)

أَلَيْسَ الَّذِي قد شاع فِي الْكَوْن ذكرهوَعم البرايا بالفتاوى الْعَظِيمَة (١٢)

ومن رثاء الشَّيْخ الْفَقِيه أَمِين الدّين عبد الْوَهَّاب بن سلار الشَّافِعِي: (13)

يَا إِمَام الْعُلُوم من للفتاويولحل الأشكال حبرًا تفِيد (١٣)

وجمع أصحابه فتاواه وصنفوا فيما تفرد به ونظموه أيضا، وهناك أكثر من كتاب يجمع فتاويه كالفتاوى المصرية المسماة بـ”الدُّرَر المضية من فتاوي ابْن تَيْمِية”، و”الفتاوى الكبرى” المطبوعة في ست مجلدات وقدم لها الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية، وغيرها، والكلام على مجموع فتاويه المشهورة والمطبوعة في (٣٥) مجلد، التي جمعها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وعاونه فيها ابنه محمد، وأدرجوا فيها الكثير من رسائل ابن تيمية وبعض كتبه الصغيرة.

منهجه في الفتيا:

المسائل العقدية عند ابن تيمية أثارت جدلا كبيرا في عصره إلى يوم الناس هذا، وغالبها مثبت في مجموع فتاواه، ولن نتكلم عن منهجه فيها، وإنما الذي يهمنا هنا هو الفتاوى الفقهية، وهي تبدأ في المطبوع من المجلد التاسع عشر، وقد رتبها الشيخ عبد الرحمن بن القاسم على ترتيب كتاب “زاد المستقنع” تيسيرا للمراجعة.

ومنهج الشيخ ابن تيمية في فتاواه الفقهية أنه لا يتقيد فيها بمذهب غالبا، وإن كان ملتزما بأصول المذهب الحنبلي على العموم، وله انفرادات معروفة على خلاف المذاهب الأربعة أدّاها إليه اجتهاده في بعض المسائل، يقول ابن عبد الهادي:” إِن الشَّيْخ رَحمَه الله بعد وُصُوله من مصر إِلَى دمشق واستقراره بهَا لم يزل ملازما للاشتغال والإشغال وَنشر الْعلم وتصنيف الْكتب وإفتاء النَّاس بالْكلَام وَالْكِتَابَة المطولة وَغَيرهَا ونفع الْخلق وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَالِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَفِي بعض الْأَحْكَام يُفْتِي بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده من مُوَافقَة أَئِمَّة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَفِي بَعْضهَا قد يُفْتِي بخلافهم أَو بِخِلَاف الْمَشْهُور من مذاهبهم”(14).

ولابن تيمية نفس طويل في الفتيا فيحكي الخلاف والدليل والتعليل غالبا، ولذلك قال ابن القيم: ” وَمِنَ الْجُودِ بِالْعِلْمِ: أَنَّ السَّائِلَ إِذَا سَأَلَكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ: اسْتَقْصَيْتَ لَهُ جَوَابَهَا جَوَابًا شَافِيًا، لَا يَكُونُ جَوَابُكَ لَهُ بِقَدْرِ مَا تُدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، كَمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْتُبُ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا: نَعَمْ، أَوْ: لَا، مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا، وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ – قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ – فِي ذَلِكَ أَمْرًا عَجِيبًا، كان إذا سُئل عن مسألة حُكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة -إذا قَدَر- ومأْخَذَ الخلاف، وترجيح القول، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته، وهذه فتاويه -رحمه الله- بين الناس، فمَنْ أحبَّ الوقوفَ عليها رأى ذلك”(15).

ولذلك كان يعيب على من يوجز العبارة للمستفتي بما لا يفهمها قال ابن القيم: ” كان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى، وهو مقدَّم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى، فيكتب: يجوز كذا -أو يصح كذا، أو ينعقد- بشرطه، فأرسل إليه يقول له: تأتينا فتاوى منك فيها: يجوز -أو ينعقد أو يصح- بشرطه، ونحن لا نعلم شرطه، فإما أن تبين شرطه، وإما أن لا تكتب ذلك، وسمعت شيخنا يقول: كلُّ أحدٍ يحسن أن يفتي بهذا الشرط، فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها: يجوز بشرطه، أو يصح بشرطه، أو يقبل بشرطه … ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم، ولا يفيد فائدة أصلًا سوى حيرة السائل وتنكّده”(16).

وكان يلتزم أن يدل السائل على البديل الشرعي إن وجد، قال ابن القيم: “أن من فِقْه المفتي ونُصْحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه إليه أن يدلَّه على ما هو عِوَض له منه، ثم قال: «ورأيت شيخنا -قدس الله روحه- يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرًا فيها”(17).

والفتاوى والمسائل الفقهية التي انفرد بها يجنح فيها في الأغلب إلى جانب التيسير على المكلفين كما في اليمين بالطلاق، والطلاق المعلق، والطلاق الثلاث، وغيرها وقد أخذ بها كمعتمد للفتوى كثير من المفتين والمؤسسات الإفتائية في العصر الحديث، فوجدوا فيها حلّا لمشكلات فقهية كبيرة.

نموذج من الفتاوى:

“وسئل: عن مسائل كثير وقوعها؛ ويحصل الابتلاء بها؛ ويحصل الضيق والحرج والعمل بها على رأي إمام بعينه؟: منها مسألة المياه اليسيرة ووقوع النجاسة فيها من غير تغير وتغييرها بالطاهرات؟ .

فأجاب -رحمه الله تعالى-:

الحمد لله رب العالمين. أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات: كالأشنان والصابون والسدر والخطمي والتراب والعجين وغير ذلك مما قد يغير الماء مثل الإناء إذا كان فيه أثر سدر أو خطمي ووضع فيه ماء فتغير به مع بقاء اسم الماء: فهذا فيه قولان معروفان للعلماء. أحدهما: أنه لا يجوز التطهير به كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه التي اختارها الخرقي والقاضي وأكثر متأخري أصحابه؛ لأن هذا ليس بماء مطلق فلا يدخل في قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} ثم إن أصحاب هذا القول استثنوا من هذا أنواعا بعضها متفق عليه بينهم وبعضها مختلف فيه فما كان من التغير حاصلا بأصل الخلقة أو بما يشق صون الماء عنه: فهو طهور باتفاقهم. وما تغير بالأدهان والكافور ونحو ذلك: ففيه قولان معروفان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. وما كان تغيره يسيرا: فهل يعفى عنه أو لا يعفى عنه أو يفرق بين الرائحة وغيرها؟ على ثلاثة أوجه إلى غير ذلك من المسائل. والقول الثاني: أنه لا فرق بين المتغير بأصل الخلقة وغيره ولا بما يشق الاحتراز عنه؛ ولا بما لا يشق الاحتراز عنه فما دام يسمى ماء ولم يغلب عليه أجزاء غيره كان طهورا كما هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه وهي التي نص عليها في أكثر أجوبته. وهذا القول هو الصواب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} وقوله: {فلم تجدوا ماء} نكرة في سياق النفي فيعم كل ما هو ماء لا فرق في ذلك بين نوع ونوع. فإن قيل: إن المتغير لا يدخل في اسم الماء؟

قيل: تناول الاسم لمسماه لا فرق فيه بين التغير الأصلي والطارئ ولا بين التغير الذي يمكن الاحتراز منه والذي لا يمكن الاحتراز منه فإن الفرق بين هذا وهذا إنما هو من جهة القياس لحاجة الناس إلى استعمال هذا المتغير دون هذا فأما من جهة اللغة وعموم الاسم وخصوصه فلا فرق بين هذا وهذا؟ ولهذا لو وكله في شراء ماء أو حلف لا يشرب ماء أو غير ذلك: لم يفرق بين هذا وهذا؛ بل إن دخل هذا دخل هذا وإن خرج هذا خرج هذا فلما حصل الاتفاق على دخول المتغير تغيرا أصليا أو حادثا بما يشق صونه عنه: علم أن هذا النوع داخل في عموم الآية. وقد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: {هو الطهور ماؤه الحل ميتته} والبحر متغير الطعم تغيرا شديدا لشدة ملوحته. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن ماءه طهور -مع هذا التغير- كان ما هو أخف ملوحة منه أولى أن يكون طهورا وإن كان الملح وضع فيه قصدا؛ إذ لا فرق بينهما في الاسم من جهة اللغة. وبهذا يظهر ضعف حجة المانعين؛ فإنه لو استقى ماء أو وكله في شراء ماء لم يتناول ذلك ماء البحر ومع هذا فهو داخل في عموم الآية فكذلك ما كان مثله في الصفة. وأيضا فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم {أمر بغسل المحرم بماء وسدر} {وأمر بغسل ابنته بماء وسدر} {وأمر الذي أسلم أن يغتسل بماء وسدر} ومن المعلوم: أن السدر لا بد أن يغير الماء فلو كان التغير يفسد الماء لم يأمر به.

وقول القائل: إن هذا تغير في محل الاستعمال فلا يؤثر: تفريق بوصف غير مؤثر لا في اللغة ولا في الشرع؛ فإن المتغير إن كان يسمى ماء مطلقا وهو على البدن فيسمى ماء مطلقا وهو في الإناء. وإن لم يسم ماء مطلقا في أحدهما لم يسم مطلقا في الموضع الآخر؛ فإنه من المعلوم أن أهل اللغة لا يفرقون في التسمية بين محل ومحل. وأما الشرع: فإن هذا فرق لم يدل عليه دليل شرعي فلا يلتفت إليه. والقياس عليه إذا جمع أو فرق: أن يبين أن ما جعله مناط الحكم جمعا أو فرقا مما دل عليه الشرع وإلا فمن علق الأحكام بأوصاف جمعا وفرقا بغير دليل شرعي: كان واضعا لشرع من تلقاء نفسه شارعا في الدين ما لم يأذن به الله. ولهذا كان على القائس أن يبين تأثير الوصف المشترك الذي جعله مناط الحكم بطريق من الطرق الدالة على كون الوصف المشترك هو علة الحكم. وكذلك في الوصف الذي فرق فيه بين الصورتين عليه أن يبين تأثيره بطريق من الطرق الشرعية. وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم {توضأ من قصعة فيها أثر العجين} ومن المعلوم أنه: لا بد في العادة من تغير الماء بذلك لا سيما في آخر الأمر إذا قل الماء وانحل العجين. فإن قيل: ذلك التغير كان يسيرا؟ قيل: وهذا أيضا دليل في المسألة؛ فإنه إن سوى بين التغير اليسير والكثير مطلقا كان مخالفا للنص؛ وإن فرق بينهما لم يكن للفرق بينهما حد منضبط لا بلغة ولا شرع ولا عقل ولا عرف ومن فرق بين الحلال والحرام بفرق غير معلوم لم يكن قوله صحيحا. وأيضا: فإن المانعين مضطربون اضطرابا يدل على فساد أصل قولهم منهم من يفرق بين الكافور والدهن وغيره ويقول: إن هذا التغير عن مجاورة لا عن مخالطة. ومنهم من يقول: بل نحن نجد في الماء أثر ذلك. ومنهم من يفرق بين الورق الربيعي والخريفي. ومنهم من يسوي بينهما ومنهم من يسوي بين الملحين: الجبلي والمائي. ومنهم من يفرق بينهما. وليس على شيء من هذه الأقوال دليل يعتمد عليه لا من نص ولا قياس ولا إجماع؛ إذ لم يكن الأصل الذي تفرعت عليه مأخوذا من جهة الشرع. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وهذا بخلاف ما جاء من عند الله فإنه محفوظ كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فدل ذلك على ضعف هذا القول. وأيضا. فإن القول بالجواز موافق للعموم اللفظي والمعنوي؛ مدلول عليه بالظواهر والمعاني؛ فإن تناول اسم الماء لمواقع الإجماع كتناوله لموارد النزاع في اللغة وصفات هذا كصفات هذا في الجنس فتجب التسوية بين المتماثلين. وأيضا. فإنه على قول المانعين: يلزم مخالفة الأصل وترك العمل بالدليل الشرعي لمعارض راجح؛ إذ كان يقتضي القياس عندهم: أنه لا يجوز استعمال شيء من المتغيرات في طهارتي الحدث والخبث لكن استثني المتغير بأصل الخلقة وبما يشق صون الماء عنه للحرج والمشقة فكان هذا موضع استحسان ترك له القياس وتعارض الأدلة على خلاف الأصل. وعلى القول الأول: يكون رخصة ثابتة على وفق القياس من غير تعارض بين أدلة الشرع؛ فيكون هذا أقوى.

فصل:

وأما الماء إذا تغير بالنجاسات: فإنه ينجس بالاتفاق. وأما ما لم يتغير ففيه أقوال معروفة: أحدها: لا ينجس. وهو قول أهل المدينة ورواية المدنيين عن مالك وكثير من أهل الحديث وإحدى الروايات عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ونصرها ابن عقيل في المفردات؛ وابن البناء وغيرهما. والثاني: ينجس قليل الماء بقليل النجاسة. وهي رواية البصريين عن مالك. والثالث: وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى – اختارها طائفة من أصحابه – الفرق بين القلتين وغيرهما. فمالك لا يحد الكثير بالقلتين والشافعي وأحمد يحدان الكثير بالقلتين. والرابع: الفرق بين البول والعذرة المائعة وغيرهما فالأول ينجس منه ما أمكن نزحه دون ما لم يمكن نزحه بخلاف الثاني؛ فإنه لا ينجس القلتين فصاعدا. وهذا أشهر الروايات عن أحمد واختيار أكثر أصحابه. والخامس: أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة سواء كان قليلا أو كثيرا؛ وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه لكن ما لم يصل إليه لا ينجسه. ثم حدوا ما لا يصل إليه: بما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر. ثم تنازعوا: هل يحد بحركة المتوضئ أو المغتسل؟ وقدر ذلك محمد بن الحسن بمسجده فوجدوه عشرة أذرع في عشرة أذرع.

وتنازعوا في الآبار إذا وقعت فيها نجاسة: هل يمكن تطهيرها؟ فزعم المزني: أنه لا يمكن. وقال أبو حنيفة وأصحابه. يمكن تطهيرها بالنزح ولهم في تقدير الدلاء أقوال معروفة. والسادس: قول أهل الظاهر الذين ينجسون ما بال فيه البائل دون ما ألقي فيه البول ولا ينجسون ما سوى ذلك إلا بالتغير.

وأصل هذه المسألة من جهة المعنى: أن اختلاط الخبيث وهو النجاسة بالماء: هل يوجب تحريم الجميع أم يقال: بل قد استحال في الماء فلم يبق له حكم؟ فالمنجسون ذهبوا إلى القول الأول؛ ثم من استثنى الكثير قال: هذا يشق الاحتراز من وقوع النجاسة فيه فجعلوا ذلك موضع استحسان كما ذهب إلى ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد. وأما أصحاب أبي حنيفة فبنوا الأمر على وصول النجاسة وعدم وصولها وقدروه بالحركة أو بالمساحة في الطول والعرض دون العمق. والصواب: هو القول الأول وأنه متى علم أن النجاسة قد استحالت فالماء طاهر سواء كان قليلا أو كثيرا وكذلك في المائعات كلها وذلك لأن الله تعالى أباح الطيبات وحرم الخبائث والخبيث متميز عن الطيب بصفاته فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث: وجب دخوله في الحلال دون الحرام. وأيضا فقد ثبت من حديث أبي سعيد {أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء} قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح. وهو في المسند أيضا عن ابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الماء طهور لا ينجسه شيء} وهذا اللفظ عام في القليل والكثير وهو عام في جميع النجاسات. وأما إذا تغير بالنجاسة فإنما حرم استعماله لأن جرم النجاسة باق ففي استعماله استعمالها بخلاف ما إذا استحالت النجاسة فإن الماء طهور وليس هناك نجاسة قائمة. ومما يبين ذلك: أنه لو وقع خمر في ماء واستحالت ثم شربها شارب لم يكن شاربا للخمر؛ ولم يجب عليه حد الخمر؛ إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها ولو صب لبن امرأة في ماء واستحال حتى لم يبق له أثر وشرب طفل ذلك الماء: لم يصر ابنها من الرضاعة بذلك. وأيضا: فإن هذا باق على أوصاف خلقته؛ فيدخل في عموم قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} فإن الكلام إنما هو فيما لم يتغير بالنجاسة لا طعمه ولا لونه ولا ريحه. فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد {نهى عن البول في الماء الدائم وعن الاغتسال فيه}؟ قيل: نهيه عن البول في الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول؛ إذ ليس في اللفظ ما يدل على ذلك بل قد يكون نهيه سدا للذريعة؛ لأن البول ذريعة إلى تنجيسه؛ فإنه إذا بال هذا ثم بال هذا تغير الماء بالبول فكان نهيه سدا للذريعة. أو يقال: إنه مكروه بمجرد الطبع لا لأجل أنه ينجسه. وأيضا فيدل نهيه عن البول في الماء الدائم أنه يعم القليل والكثير فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله فيما فوق القلتين؟ إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص؛ وإن حرمته فقد نقضت دليلك. وكذلك يقال لمن فرق بين ما يمكن نزحه وما لا يمكن: أتسوغ للحجاج أن يبولوا في المصانع المبنية بطريق مكة؟ إن جوزته خالفت ظاهر النص؛ فإن هذا ماء دائم والحديث لم يفرق بين القليل والكثير وإلا نقضت قولك. وكذلك يقال للمقدر بعشرة أذرع: إذا كان لأهل القرية غدير مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق أتسوغ لأهل القرية البول فيه؟ فإن سوغته خالفت ظاهر النص؛ وإلا نقضت قولك فإذا كان النص بل والإجماع دل على أنه نهى عن البول فيما ينجسه البول؛ بل تقدير الماء وغير ذلك فيما يشترك فيه القليل والكثير: كان هذا الوصف المشترك بين القليل والكثير مستقلا بالنهي فلم يجز تعليل النهي بالنجاسة ولا يجوز أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن البول فيه لأن البول ينجسه؛ فإن هذا خلاف النص والإجماع. وأما من فرق بين البول فيه وبين صب البول فقوله ظاهر الفساد؛ فإن صب البول أبلغ من أن ينهى عنه من مجرد البول؛ إذ الإنسان قد يحتاج إلى أن يبول وأما صب الأبوال في المياه فلا حاجة إليه. فإن قيل: ففي حديث القلتين أنه سئل عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب فقال: {إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث} وفي لفظ {لم ينجسه شيء}؟ قيل: حديث القلتين فيه كلام قد بسط في غير هذا الموضع؛ وبين أنه من كلام ابن عمر لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم”(18).

1 طبقات الحنابلة لأبي يعلى (١/١٨٣)

2 سير أعلام النبلاء (١٣/٢٤٥)

3 سير أعلام النبلاء (١٣/٢٤٥)

4 سير أعلام النبلاء (١٣/٢٤٥)

5 معجم الكتب لابن عبد الهادي الحنبلي (ص ٣٤)

6 مسائل حرب الكرماني للإمامين: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه (ص ٢٤٦: ٢٤٧)

7 الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ابن حجر العسقلاني (١/ ١٧٥-١٧٧).

8 البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، الشوكاني (١/٦٥)

9 قد افردت ترجمة ابن تيمية بأكثر من تأليف فلابن قدامة كتاب في سيرته سماه (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية) وكذا لابن عبد الهادي بنفس الاسم وللشيخ مرعي الحنبلي كتاب (الكواكب الدرية) في مناقبه.

10 العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ابن عبد الهادي الحنبلي (ص ٤٢).

11 العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص ٤٩٤)

12 العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص ٤٨٦)

13 العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص٤٦١).

14 العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص ٣٧٣).

15 مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (٢/٢٧٩).

16 إعلام الموقعين عن رب العالمين (٤/ ١٣٦).

17 إعلام الموقعين عن رب العالمين (٤/ ١٢١، ١٢٢).

18 مجموع الفتاوى(٢١/ ٢٤-٣٥).

اترك تعليقاً