البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المبحث الرابع: علاقة الإفتاء بالتحكيم

60 views

قد يتنازع شخصان أو أكثر في بعض الحقوق أو الواجبات، ويحتاجا إلى من يبين لهم حكم الشرع فيما تنازعوا فيه، ولديهم من الوازع الديني ما يجعلهم يلتزمون حكم من ارتضياه حكما بينهما طواعية واختيار من غير احتياج إلى سلطة لإنفاذ الحكم والإلزام به، وتعرف هذه العملية بالتحكيم، وهو أمر تعارف الناس عليه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فكان العرب يحتكمون إلى من يثقون في رجاحة عقله ونزاهته، كما حدث منهم عند بناء الكعبة فقد اختلفوا حول من يضع الحجر الأسود في مكانه وكاد أن ينشب قتال بين قبائل العرب إلا أنهم هدوا إلى تحكيم أول من يدخل عليهم، قال ابن إسحاق: “ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتحالفوا، وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا: لعقة الدم، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها، قال يا معشر قريش اجعلوا بينكم – فيما تختلفون فيه – أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا: فكان أول داخل عليهم رسول الله  فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر، قال  “هلم إلي ثوبا”، فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال “لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا”، ففعلوا، حتى إذا بلغوا موضعه وضعه هو بيده ثم بنى عليه”(1)

ويفهم من هذه الواقعة أن التحكيم كان معروفا عند العرب في الجاهلية، وقد كان الحكم هو صاحب الرأي فيما يعرض عليه بناء على رغبة الأطراف المتنازعة، بدليل أنهم رضوا حكمه  بينهم ولم يعترض عليه أحد.

تعريف التحكيم:

التحكيم في اللغة: مصدر حكمه في الأمر والشيء، أي: جعله حكما، وفوض الحكم إليه، وفي التنزيل العزيز: ﴿ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﴾.

وَحَكَّمَهُ بَيْنَهُمْ: أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ. فَهُوَ حَكَمٌ، وَمُحَكَّمٌ.

وَفِي الْمَجَازِ: حَكَّمْتُ السَّفِيهَ تَحْكِيمًا: إِذَا أَخَذْتَ عَلَى يَدِهِ، أَوْ بَصَّرْتَهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَكِّمِ الْيَتِيمَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدكَ. أَيِ: امْنَعْهُ مِنَ الْفَسَادِ كَمَا تَمْنَعُ وَلَدَكَ وَقِيلَ: أَرَادَ حُكْمَهُ فِي مَالِهِ إِذَا صَلَحَ كَمَا تُحَكِّمُ وَلَدَكَ.(2)

وَمِنْ مَعَانِي التَّحْكِيمِ فِي اللُّغَةِ: الْحَكَمُ.

يُقَالُ: قَضَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَقَضَى لَهُ، وَقَضَى عَلَيْهِ.

وَفِي الاصْطِلاحِ: التَّحْكِيمُ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا.(3)

وفي مجلة الأحكام العدلية: التحكيم عبارة عن اتخاذ الخصمين حاكما برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما. ويقال لذلك: حكم بفتحتين، ومحكم بضم الميم، وفتح الحاء، وتشديد الكاف المفتوحة(4)

مشروعية التحكيم:

التحكيم مشروع، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب الكريم فقوله تعالى: ﴿ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﴾.

قال القرطبي: إن هذه الآية دليل إثبات التحكيم.

وأما السنة المطهرة، ” فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ  رَضِيَ بِتَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَمْرِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، حِينَ جَنَحُوا إِلَى ذَلِكَ وَرَضُوا بِالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِهِ “.

وفي الحديث الشريف: “أَنَّ أَبَا شُرَيْحٍ هَانِئَ بْنَ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  مَعَ قَوْمِهِ، سَمِعَهُمْ يُكَنُّونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ . ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ  : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ ؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا . ، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ ؟ قَالَ : لِي شُرَيْحٌ ، وَمُسْلِمٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ . قَالَ : فَمَا أَكْبَرُهُمْ ؟ قُلْتُ : شُرَيْحٌ . قَالَ : أَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ . وَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ” .

أما الإجماع ، فقد كان بين عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما منازعة في نخل ، فحكما بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه.

واختلف عمر مع رجل في أمر فرس اشتراها عمر بشرط السوم، فتحاكما إلى شريح.

كما تحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم رضي الله عنهم، ولم يكن زيد ولا شريح ولا جبير من القضاة.

وقد وقع مثل ذلك لجمع من كبار الصحابة، ولم ينكره أحد فكان إجماعا.

وبناء على ذلك ذهب الفقهاء إلى جواز التحكيم، إلا أن من الحنفية من امتنع عن الفتوى بذلك، وحجته: أن السلف إنما يختارون للحكم من كان عالما صالحا دينا، فيحكم بما يعلمه من أحكام الشرع، أو بما أدى إليه اجتهاد المجتهدين. فلو قيل بصحة التحكيم اليوم لتجاسر العوام، ومن كان في حكمهم إلى تحكيم أمثالهم، فيحكم الحكم بجهله بغير ما شرع الله تعالى من الأحكام، وهذا مفسدة عظيمة، ولذلك أفتوا بمنعه.

وقال أصبغ من المالكية: لا أحب ذلك، فإن وقع مضى.

ومنهم من لم يجزه ابتداء، ومن الشافعية من قال بعدم الجواز، ومنهم من قال بالجواز إذا لم يكن في البلد قاض، ومنهم من قال بجوازه في المال فقط.

ومهما يكن فإن جواز التحكيم هو ظاهر مذهب الحنفية والأصح عندهم، والأظهر عند جمهور الشافعية، وهو مذهب الحنابلة، أما المالكية: فظاهر كلامهم نفاذه بعد الوقوع.

وطرفا التحكيم هما الخصمان اللذان اتفقا على فض النزاع به فيما بينهما، وكل منهما يسمى المحكم بتشديد الكاف المكسورة.(5)

محل التحكيم:

اختلف الفقهاء فيما يصلح أن يكون محلا للتحكيم، فعند الحنفية لا يجوز التحكيم في الحدود الواجبة حقا لله تعالى باتفاق الروايات.

وحجتهم: أن استيفاء عقوبتها مما يستقل به ولي الأمر، وأن حكم المحكم ليس بحجة في حق غير الخصوم، فكان فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.

وما اختاره السرخسي من جواز التحكيم في حد القذف فضعيف؛ لأن الغالب فيه حق الله تعالى، فالأصح في المذهب عدم جواز التحكيم في الحدود كلها.

أما القصاص، فقد روي عن أبي حنيفة أنه لا يجوز التحكيم فيه، واختاره الخصاف، وهو الصحيح من المذهب، لأن التحكيم بمنزلة الصلح، والإنسان لا يملك دمه حتى يجعله موضعا للصلح.

وما روي من جوازه في القصاص قياسا على غيره من الحقوق فضعيف رواية ودراية؛ لأن القصاص ليس حقا محضا للإنسان – وإن كان الغالب فيه حقه – وله شبه بالحدود في بعض المسائل.

ولا يصح التحكيم في ما يجب من الدية على العاقلة، لأنه لا ولاية للحكمين على العاقلة، ولا يمكنهما الحكم على القاتل وحده بالدية، لمخالفته حكم الشرع الذي لم يوجب دية على القاتل وحده دون العاقلة، إلا في مواضع محددة -كما لو أقر بالقتل خطأ-، أما في تلك المواضع المحددة، فإن التحكيم جائز ونافذ.

وليس للحكم أن يحكم في اللعان كما ذكر البرجندي، وإن توقف فيه ابن نجيم. وعلة ذلك أن اللعان يقوم مقام الحد.

وأما فيما عدا ما ذكر آنفا، فإن التحكيم جائز ونافذ. وليس للمحكم الحبس، إلا ما نقل عن صدر الشريعة من جوازه.

وأما المالكية، فإن التحكيم عندهم جائز إلا في ثلاثة عشر موضعا هي: الرشد، وضده، والوصية، والحبس ( الوقف )، وأمر الغائب، والنسب، والولاء، والحد، والقصاص، ومال اليتيم، والطلاق، والعتق، واللعان؛ لأن هذه مما يختص بها القضاء.

وسبب ذلك أن هذه الأمور إما حقوق يتعلق بها حق الله تعالى، كالحد والقتل والطلاق، أو حقوق لغير المتحاكمين، كالنسب، واللعان.

وقد وضع ابن عرفة حدا لما يجوز فيه التحكيم، فقال: ظاهر الروايات أنه يجوز التحكيم فيما يصح لأحدهما ترك حقه فيه، وقال اللخمي وغيره: إنما يصح في الأموال، وما في معناها.

وأما الشافعية فإن التحكيم عندهم لا يجوز في حدود الله تعالى، إذ ليس فيها طالب معين، وعلى هذا المذهب.

ولو حكم خصمان رجلا في غير حد الله تعالى جاز مطلقا بشرط أهلية القضاء، وفي قول: لا يجوز، وقيل: بشرط عدم وجود قاض بالبلد.

وقيل: يختص التحكيم بالأموال دون القصاص والنكاح ونحوهما.

وأما الحنابلة: فقد اختلفوا فيما يجوز فيه التحكيم.

ففي ظاهر كلام أحمد أن التحكيم يجوز في كل ما يمكن أن يعرض على القاضي من خصومات، كما قال أبو الخطاب، يستوي في ذلك المال والقصاص والحد والنكاح واللعان وغيرها، حتى مع وجود قاض، لأنه كالقاضي ولا فرق، وقال القاضي أبو يعلى بجواز التحكيم في الأموال خاصة، وأما النكاح والقصاص والحد فلا يجوز فيها التحكيم، لأنها مبنية على الاحتياط، فلا بد من عرضها على القضاء للحكم(6).

الفرق بين الإفتاء والتحكيم:

من خلال ما سبق من بيان المقصود بالتحكيم ومعرفة حكمه في المذاهب الأربعة، وذكر محله واختلافهم فيه، نستطيع أن نذكر بعض أوجه الاتفاق والاختلاف بين الإفتاء والتحكيم في النقاط التالية:

  1. ١- التحكيم منزلة وسط بين الإفتاء والقضاء، فالتحكيم يشترك مع القضاء في كثير من الأمور إلا أن القضاء أشمل من التحكيم، وأيضا قوة الإلزام والإنفاذ في القضاء كاملة بخلاف التحكيم.

ويشترك التحكيم مع الإفتاء في بيان الحكم الشرعي في الواقعة بغير إلزام في الإفتاء، أما التحكيم فالإلزام فيه منشأه رضا الطرفين.

  1. ولكل واحد من المحكمين أن يرجع ما دام الحكم لم يصدر حكمه لأنه مقلد من جهتهما فلهما عزله قبل أن يحكم، أما إذا حكم فيما حكِّم فيه قبل عزله نفذ الحكم ولم يبطله هذا العزل، بخلاف الإفتاء فلا إلزام فيه ابتدأ وانتهاء.
  2. الإفتاء يكون في جميع الأبواب الفقهية باتفاق العلماء، أما التحكيم فلا يدخل في كل الأبواب الفقيهة وقد مر بيان خلاف المذاهب الفقهية الأربعة في ذلك، فليراجع.
  3. ويشترك الإفتاء مع التحكيم في أن طالب الفتوى وطالب التحكيم له حرية اختيار المفتي وحرية اختيار المحكم، بخلاف القضاء.

1 راجع الروض الأنف السهيلي (٢/ ١٨٢، ١٨٣).

2 راجع: أساس البلاغة للزمخشري (١/ ٢٠٦)، مادة «حكم»، تاج العروس للزبيدي (٣١/ ٥١٤)، مادة «حكم».

3 الدر المختار للحصكفي ٥ / ٤٢٨ ، مع حاشية ابن عابدين.

4 مجلة الأحكام العدلية، المادة ١٧٩٠.

5 الموسوعة الفقهية الكويتية، (١٠/ ٢٣٥، ٢٣٦).

6 راجع الموسوعة الفقهية الكويتية، (١٠/ ٢٣٩، ٢٤٠).

اترك تعليقاً