البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

التمهيد

المبحث السادس: استقلالية الإفتاء عن علم أصول الفقه

92 views

أولًا: نشأة علم الإفتاء:

لا خلاف في أن الفتوى وُجِدت منذ الصدر الأول للإسلام، فقد استفتى المسلمون رسول الله ، فقام بواجبه من البيان والبلاغ للأحكام الشرعية، قال تعالى: “يستفتونك قل الله يفتيكم ..” الآية.

وعلى هذا النهج سار فقهاء الصحابة، فقاموا بواجب الإفتاء لكل من يستفتيهم، ومن بعدهم فقهاء التابعين الذين تفرقوا في الأمصار، يعلمون الناس ويفتونهم في أمور دينهم، إلى أن بدأت حركة التدوين للعلوم في الحضارة الإسلامية، ونشطت في القرن الثاني الهجري، ودُوِّن الفقه ثم دون علم أصول الفقه بكتابة الإمام الشافعي للرسالة، التي كانت نقطة الانطلاق للتصنيف في علم الأصول، وتتابعت الكتب المصنفة في أصول الفقه، وكان من بين أبحاثها ما يتعلق بالفتوى وأركانها، وشروط المفتي، الذي هو في حقيقة الأمر: مجتهد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وفي الوقت ذاته مبلغ لها لمن يستفتيه فيها.

وبهذا يكون علم الفتوى قد نشأ كمبحث من مباحث علم الأصول، كما نشأ علم الميراث كمبحث من مباحث الفقه، ثم استقل بعد ذلك وأفرده العلماء بالتصنيف وخصوه بمزيد عناية واهتمام.

والأمر نفسه تكرر مع علم الإفتاء، فنشأ في بادئ أمره في ظلال علم الأصول، ويأتي كلام عليه في نهاية مباحث علم الأصول في أثناء الكلام على الاجتهاد والتقليد، يأتي ذكر شروط المفتي والمستفتي.

ثم أدرك العلماء خطورة هذا العلم وأهميته، فكتبوا فيه الكتب المستقلة، منهم على سبيل المثال:

  • أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين الصَّيْمَري ت (٣٨٦ه)، له “أدب المفتي والمستفتي”.
  • ثم الحافظ أبو عمرو بن الصلاح (ت ٦٤٣ه) له كتاب “أدب المفتي والمستفتي”.
  • الإمام أحمد بن حمدان الحراني كتاب “صفة الفتوى والمفتي والمستفتي”
  • ابن القيم (ت ٧٥١ه) كتاب “إعلام الموقعين عن رب العالمين”.

وكتبت فيه –أيضا- الأبحاث المتقنة لكنها لم تكن مستقلة، بل كانت مرفقة بأبحاث أخرى لها علاقة بالفقه أو الأصول، أو القضاء، أو غير ذلك، منها على سبيل المثال ما كتبه:

  • الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ه) في كتابه “الفقيه والمتفقه” تكلم في نهايته عن أدب المفتي والمستفتي.
  • الإمام النووي في مقدمة كتابه الماتع “المجموع” استفاد بما كتبه السابقون لا سيما الصيمري والخطيب البغدادي وابن الصلاح، وأضاف عليه.
  • الإمام القرافي (ت ٦٨٤ه) “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام”.

ومما سبق يتضح لنا أن علم الفتوى لم يوجد مستقلا، بل خرج من رحم أصول الفقه، ثم أصبح علما مستقلا بعد ذلك له كتبه المستقلة عن الأصول.

فقام العلماء المعاصرون بمواصلة المسيرة العلمية، التي اتسمت بغزارة الإنتاج الإفتائي، وتنوعت مؤلفاتهم ما بين:

  • كتب مستقلة.
  • رسائل جامعية.
  • بحوث ومقالات.
  • موسوعات علمية.

والمقصود بعلم الإفتاء: المباحث المتعلقة بمكونات العملية الإفتائية التي هي المفتي والمستفتي والفتوى، فكل المباحث العلمية التي كتبت في هذا الشأن سواء كانت منثورة في علوم أخرى أو كتبت مستقلة فهي المقصودة.

ثانيا: أهمية الإحاطة بعلم الإفتاء.

من دوائر العلوم التي تحتاج إلى توسيع البحث فيها واستخراج كنوزها علم الإفتاء، فإن الاطلاع على الكتب المصنفة فيه والدراية بتاريخه يجعل المتصدر للفتوى قادرا على فهم التراث الفقهي الذي قام فيه الأئمة الفقهاء بواجب الوقت فيما يتصل بزمانهم، حيث أصبحت الحاجة ماسة إلى فهم مناهجهم التي بنوا عليها أحكام المسائل الفقهية الجزئية التي جاءت نتيجة اشتغالهم بواجب وقتهم، فيما يمكن أن نسميه بالسباحة عبر أذهان المجتهدين، وهذا هو المعنى الذي عناه الإمام القاضي أبو حامد المروروذي (ت ٣٦٢هــ) أحد كبار الشافعية في زمنه عندما كان يقول: “السير بحر الفتيا وخزانة القضاء، وعلى قدر اطلاع الفقيه عليها يكون استنباطه”(1)

ومع هذا التغير الشديد والتطور الواسع الذي نعيشه في هذا العصر، بل والتدهور في كثير من الأحيان، أصبح واجبا على حملة الفقه أن يكونوا أكثر إدراكا لمقاصد الشريعة واطلاعا على مراميها، وأن يسعوا إلى الجمع في فقههم بين الأصالة والمعاصرة؛ عن طريق فهم المناهج الكلية للفقه الموروث من غير التزام حرفي بمسائله الجزئية التي تغير واقعها، فيتوخوا في الأحكام والفتاوى مقاصد الشرع ومصالح الخلق التي تحتاج إلى إدراك سديد للواقع وفهم مستقيم له، ومن المعلوم أنه إذا تغير الوقت تغير واجبه.(2)

1 طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي(٣/١٣).

2 راجع تقديم الدكتور على جمعة للإفتاء المصري، (١/ ١٢).

اترك تعليقاً