البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المدخل إلى علم الإفتاء

مقدمة فضيلة مفتي الديار المصرية

83 views

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإن نعم الله سبحانه وتعالى على تلك الأمة لا يحصيها عدٌّ ولا يحيط بها حصر، ومن أجلِّ نعمه عليها أنه سبحانه وتعالى تكفَّل بحفظ كتابها وشريعتها، ولم يكلْ ذلك الحفظ لبشر كائنًا من كان، فقال جل شأنه:﴿ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﴾[الحجر: ٩]، وضَمن حيوية دائمة لذلك الشرع الحنيف منذ بعثة النبي  إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فقضى أنها لن تعدم مجتهدًا في عصر من العصور، كما أخبر  أن الله سبحانه وتعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها، وأولئك المجددون الذين يقيِّضهم الله سبحانه وتعالى لتجديد الدين في تلك الأمة هم أهل العلم ودعاة الإصلاح بلا نزاع، كما قرر ذلك عامة العلماء الذين تناولوا ذلك الحديث بالشرح.

إن أهل العلم والإصلاح هم ركيزة تلك الأمة وحراسها الأمناء، وفي القلب من أولئك العلماء أهل الفتيا من الفقهاء الذين ينطقون عن ربهم ببيان الحلال من الحرام، فبهم تتجلى الأحكام الشرعية، وبواسطتهم يتعبد الناس لربهم بفعل ما يجب عليهم وباجتناب ما يحرم.

والإفتاء أو الفتوى هي: الإخبار عن حكم شرعي في واقعة عن دليل لمَنْ سأل عنه من غير إلزام، ومن خلال ذلك التعريف يمكن فض الاشتباك الذي قد يحصل في الذهن بين مدلول مصطلح “الفتوى” وبين مجموعة من المصطلحات الأخرى مثل “الفقه” و”القضاء”، وبيان العلاقة بينهم.

فالمفتي يختلف في دلالته عن الفقيه وعن القاضي، وقد تقدم تعريف الفتوى، أما الفقه، فهو: ” العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية ” كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة، وأن الوتر مندوب وأن النية من الليل شرط في صوم رمضان، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي، وغير واجبة في الحلي المباح، وأن القتل بمثقل يوجب القصاص، ونحو ذلك من مسائل الخلاف.

أما القضاء، فهو: “إلزام ذي الولاية بحكم شرعي بعد الترافع إليه”. ومن خلال التعريفات الثلاثة للفتوى والفقه والقضاء، يمكن ملاحظة أبرز الفروق بين المناصب الثلاثة، وأهمها:

  • أولًا: أن الفقيه يستنبط أحكام الله تعالى من الأدلة التفصيلية، وتلك الأحكام تحقق مقاصد الشريعة الكلية.

أما المفتي: فيدرس الواقع ثم يلتفت إلى الفقه ليأخذ منه حكم الله تعالى في مثل هذه الواقعة بما يحقق مقاصد الشريعة، فالإفتاء قضية شخصية تتعلق بحال المستفتي وواقعه الزماني والمكاني، ونحو ذلك من الملابسات.

والقاضي: هو الذي يتدخل لتغيير الواقع ويلزم أطراف النزاع بما عليه حكم الله تعالى.

ومن الأمثلة التي يمكن أن تبين الفرق بين الأمور الثلاثة، أن الفقيه يقول: إن الخمر حرام؛ لقوله تعالى: ﴿ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﴾ [المائدة: ٩٠].

والمفتي يفتي المضطر الذي تاه في صحراء مثلًا، أو لم يجد الماء بجواز شرب الخمر لحفظ نفسه، وارتكاب أخف الضررين.

والقاضي يقيم الحد على من شرب الخمر، ولا يقيمه على المضطر، ويحكم بإراقة الخمر.

وعلى الرغم من أن تلك الوظائف الثلاثة قد تتداخل في بعض الأحيان، فنجد الفقيه هو المتصدر للفتوى، أو هو من يتقلد منصب القضاء، إلا أن تلك الفروق تبقى مستقرة بين الوظائف الثلاثة حال انفصالها.

  • ثانيًا: أن القرابة والصداقة والعداوة لا تؤثر في صحة الفتوى كما تؤثر في القضاء، والشهادة، فيجوز أن يفتي أباه أو ابنه أو صديقه أو شريكه أو يفتي عدوه، فالفتوى في هذا بمنزلة الرواية؛ لأن المفتي في حكم المخبر عن الشرع بأمر عام لا اختصاص له بشخص؛ ولأن الفتوى لا يرتبط بها إلزام، بخلاف حكم القاضي، وكذا يجوز أن يفتي نفسه؛ والقاضي ملزم بالحكم وله حق الحبس والتعزير عند عدم الامتثال، كما أن له إقامة الحدود والقصاص، بخلاف المفتي الذي لا يتسم قوله بالإلزام.
  • ثالثًا: أن الفتوى محض إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة، أما الحكم: فإخبار مآله الإنشاء والإلزام. فالمفتي –مع الله تعالى- كالمترجم مع القاضي ينقل عنه ما وجده عنده وما استفاده من النصوص الشرعية بعبارة أو إشارة أو فعل أو تقرير أو ترك.

والحاكم (القاضي) –مع الله تعالى- كنائب ينفذ ويمضي ما قضى به –موافقًا للقواعد- بين الخصوم.

  • رابعًا: أن كل ما يتأتى فيه الحكم تتأتى فيه الفتوى، ولا عكس؛ ذلك أن العبادات كلها لا يدخلها الحكم (القضاء) وإنما تدخلها الفتيا فقط، فلا يدخل تحت القضاء الحكم بصحة الصلاة أو بطلانها.

وكذلك أسباب العبادات كمواقيت الصلاة ودخول شهر رمضان وغير هذا من أسباب الأضاحي والكفارات والنذور والعقيقة؛ لأن القول في كل ذلك من باب الفتوى وإن حكم فيها القاضي. ومن ثَمَّ كانت الأحكام الشرعية قسمين: ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى، فيجتمع الحكمان كمسائل المعاملات من البيوع، والرهون والإيجارات والوصايا والزواج والطلاق، وما لا يقبل إلا الفتوى كالعبادات وأسبابها وشروطها وموانعها.

وعليه فإن الفتوى أعم من القضاء من جهة الموضوعات التي تتناولها، ويزيد القضاء في الإلزام،

وكذلك تفارق الفتوى القضاء في أن هذا الأخير إنما يقع في خصومة يستمع فيها القاضي إلى أقوال

المدعي والمدعى عليه، ويفحص الأدلة التي تقام من بينة وإقرار وقرائن.

أما الفتوى فليس فيها كل ذلك، وإنما هي واقعة يبتغي صاحبها الوقوف على حكمها من واقع مصادر الأحكام الشرعية.

ويختلف المفتي والقاضي عن الفقيه المطلق؛ بأن القضاء والفتوى أخص من العلم بالفقه؛ لأن هذا أمر كلي يصدق على جزئيات أو قواعد متنوعة، وبعبارة أخرى: فإن عمل المفتي والقاضي تطبيقي، وعمل الفقيه تأصيل لقاعدة أو تفريع على أصل مقرر.

  • خامسًا: أن المفتي يفتي بالديانة –أي باطن الأمر- ويدين المستفتي، والقاضي يقضي بالظاهر،

كما أن المفتي ليس من شأنه أن يفحص الأدلة والبينات وأن يستجلب الشهود، بل هذا من صميم عمل القاضي.

والإفتاء من فروض الكفايات، فلا بد للمسلمين ممن يبين لهم أحكام دينهم فيما يقع لهم، ولا يحسن ذلك لكل أحد، فوجب أن يقوم به من لديه القدرة، المستجمع للشروط المعتبرة.

ولم يكن الإفتاء فرض عين؛ لأنه يقتضي تحصيل علوم جمة، ومعارف يطول الزمان لتحصيلها،

فلو كُلفها كل واحد لأفضى إلى تعطيل أعمال الناس ومصالحهم، لانصرافهم إلى تحصيل علوم

الإفتاء، وانصرافهم عن غيرها من العلوم النافعة، والأعمال التي تعمر بها الأرض.

ومع كونه فرض كفاية إلا أنه قد يتعين، بمعنى أن يصير فرض عين على أحد المفتين،

بحيث يأثم بتركه، ولا يتعين الإفتاء على المسئول إلا بشروط منها:

  • أن لا يوجد في البلد غيره ممن يتمكن من الإجابة، ففي تلك الحالة يجب على من سئل عن حكم الله تعالى في مسألة أن يجيب السائل، أما إذا كان هناك في البلد أحد المفتين القادرين على الفتوى وأمكن المستفتي سؤاله، لم يتعين الإفتاء على المفتي المسئول، وله أن يحيل المستفتي على المفتي الآخر، وهذا ما كان حاصلًا في عهد السلف رضوان الله عليهم، فيقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا؛ حتى ترجع إلى الأول.
  • أن يكون المتصدر للفتوى قادرًا على الإجابة، بمعنى علمه بالحكم الشرعي، سواء كان ذلك العلم حاضرًا وقت الفتوى، أو قدر على تحصيله والإجابة على سؤال المستفتي ولو في وقت لاحق للفتوى، وإن لم يكن المتصدر للفتوى قادرًا على ذلك، وعالمًا بالحكم الشرعي في المسألة المستفتى فيها، لم يتعين عليه بطبيعة الحال.
  • والشرط الأخير لتعين الفتوى على المفتي أن لا يكون ثَمَّ مانع بينه وبين الجواب، أيًّا كان ذلك المانع سواء رجع إليه أو إلى المستفتي أو إلى الواقع.

وهذا إن كان هو الأصل في حكم الإفتاء، إلا أنه قد يعتريه الأحكام التكليفية الخمسة وهي الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، بسبب حال السائل أو موضوع السؤال.

وقد بيَّن ذلك الإمام الشاطبي في حديثه عن جواب العالم للمتعلم فقال: “فيلزم الجواب إذا كان عالمًا بما سئل عنه متعينًا عليه في نازلة واقعة أو في أمر فيه نص شرعي بالنسبة إلى المتعلم، لا مطلقًا، ويكون السائل ممن يحتمل عقله الجواب، ولا يؤدي السؤال إلى تعمق ولا تكلف، وهو مما يبنى عليه عمل شرعي، وأشباه ذلك، وقد لا يلزم الجواب في مواضع، كما إذا لم يتعين عليه، أو المسألة اجتهادية لا نص فيها للشارع، وقد لا يجوز، كما إذا لم يحتمل عقله الجواب، أو كان فيه تعمق أو أكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط” (1)

ولا خلاف في أن الفتوى وجدت منذ الصدر الأول للإسلام، فقد استفتى المسلمون رسول الله

فقام بواجبه من البيان والبلاغ للأحكام الشرعية، قال تعالى: “يستفتونك قل الله يفتيكم “..

الآية.

وعلى هذا النهج سار فقهاء الصحابة، فقاموا بواجب الإفتاء لكل من يستفتيهم، ومن بعدهم فقهاء التابعين الذين تفرقوا في الأمصار، يعلمون الناس ويفتونهم في أمور دينهم، إلى أن بدأت حركة التدوين للعلوم في الحضارة الإسلامية، ونشطت في القرن الثاني الهجري، ودوِّن الفقه ثم دون علم أصول الفقه بكتابة الإمام الشافعي للرسالة، التي كانت نقطة الانطلاق للتصنيف في علم الأصول، وتتابعت الكتب المصنفة في أصول الفقه، وكان من بين أبحاثها ما يتعلق بالفتوى وأركانها، وشروط المفتي، الذي هو في حقيقة الأمر: مجتهد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وفي الوقت ذاته مبلغ لها لمن يستفتيه فيها.

وبهذا يكون علم الفتوى قد نشأ كمبحث من مباحث علم الأصول، كما نشأ علم الميراث كمبحث

من مباحث الفقه، ثم استقل بعد ذلك وأفرده العلماء بالتصنيف وخصوه بمزيد عناية واهتمام.

والأمر نفسه تكرر مع علم الإفتاء، فنشأ في بادئ أمره في ظلال علم الأصول، ثم أدرك العلماء خطورة هذا العلم وأهميته، فكتبوا فيه الكتب المستقلة.

والمقصود بعلم الإفتاء: المباحث المتعلقة بمكونات العملية الإفتائية التي هي المفتي والمستفتي

والفتوى، فكل المباحث العلمية التي كتبت في هذا الشأن سواء كانت منثورة في علوم أخرى أو كتبت مستقلة فهي المقصودة:

ومن أمثلة المصنفين في علم الإفتاء، أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين الصيمري ت (٣٨٦ه،) فألف “أدب المفتي والمستفتي.”

ثم الحافظ أبو عمرو بن الصلاح (ت ٦٤٣ه) له كتاب “أدب المفتي والمستفتي”.

والإمام أحمد بن حمدان الحراني، له كتاب “صفة الفتوى والمفتي والمستفتي”.

وابن القيم (ت ٧٥١ه) له كتاب “إعلام الموقعين عن رب العالمين.”

وقد كتبت فيه –أيضًا- الأبحاث المتقنة لكنها لم تكن مستقلة، بل كانت مرفقة بأبحاث أخرى لها

علاقة بالفقه أو الأصول، أو القضاء، أو غير ذلك، منها على سبيل المثال ما كتبه:

الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ه) في كتابه “الفقيه والمتفقه” تكلم في نهايته عن أدب المفتي والمستفتي.

والإمام النووي في مقدمة كتابه “المجموع” استفاد بما كتبه السابقون لا سيما الصيمري

والخطيب البغدادي وابن الصلاح، وأضاف عليه الإمام القرافي (ت ٦٨٤ه) “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام.”

والحاصل أن علم الفتوى لم يوجد مستقلًّا، بل خرج من رحم أصول الفقه، ثم أصبح علمًا مستقلًّا بعد ذلك له كتبه المستقلة عن الأصول، وما زالت تلك المسيرة العلمية متواصلة إلى اللحظة الراهنة، وما زالت غزارة الإنتاج الإفتائي مستمرة ومتنوعة بين: كتب مستقلة، ورسائل جامعية، وبحوث ومقالات، وموسوعات علمية.

وعلى الرغم من الحراك الكبير الحالي في مجال الإفتاء، إلا أننا ما زلنا في احتياج شديد لتوسيع البحث فيه، نظرًا لأنَّ الاطلاع على الكتب المصنفة فيه والدراية بتاريخه يجعل المتصدر للفتوى قادرًا على فهم التراث الفقهي الذي قام فيه الأئمة الفقهاء بواجب الوقت فيما يتصل بزمانهم، حيث أصبحت الحاجة ماسة إلى فهم مناهجهم التي بنوا عليها أحكام المسائل الفقهية الجزئية التي جاءت نتيجة اشتغالهم بواجب وقتهم، فيما يمكن أن نسميه بالسباحة عبر أذهان المجتهدين، وهذا هو المعنى الذي عناه الإمام القاضي أبو حامد المروروذي (ت ٣٦٢هــ) أحد كبار الشافعية في زمنه عندما كان يقول: “السير بحر الفتيا وخزانة القضاء، وعلى قدر اطلاع الفقيه عليها يكون استنباطه”(2).

ومع هذا التغير الشديد والتطور الواسع الذي نعيشه في هذا العصر، بل والتدهور في كثير من الأحيان، أصبح واجبًا على حملة الفقه أن يكونوا أكثر إدراكًا لمقاصد الشريعة واطلاعًا على مراميها، وأن يسعوا إلى الجمع في فقههم بين الأصالة والمعاصرة؛ عن طريق فهم المناهج الكلية للفقه الموروث من غير التزام حرفي بمسائله الجزئية التي تغيَّر واقعها، وأن يتوخوا في الأحكام والفتاوى مقاصد الشرع ومصالح الخلق التي تحتاج إلى إدراك سديد للواقع وفهم مستقيم له، ومن المعلوم أنه إذا تغير الوقت تغير واجبه(3).

وقد مر الإفتاء بالعديد من المراحل والأطوار، وأهم ما يميز تلك المراحل والأطوار أنها لم تكن متمايزة، بحيث يمكن الفصل بين كل طور منها والذي يليه بحدود زمنية واضحة، بل هي متداخلة فيما بينها ويؤثر السابق منها في اللاحق ويمهد له.

فبدأ الإفتاء منذ صدر الإسلام ثم عصر الصحابة والتابعين مرورًا بعصور الدول الإسلامية المتتابعة، وانتهاء بالعصر الحديث، عصر “مأسسة الفتوى”، والاتجاه الكبير إلى اعتماد الاجتهاد الجماعي والفتوى المؤسسية بدلًا عن الاجتهادات الفردية.

ولا يزال الطريق إلى التطوير والارتقاء بعلم الإفتاء منوطًا بالجهود المتواصلة في الاهتمام بالجانب العلمي والإداري على حد سواء، فالعلم هو مناط البقاء، وبه تستمر قوة الأمة وتحافظ على عنفوانها وفتوتها، وبضده تهوي إلى مدارك التخلف والضعف والانهيار؛ ولذلك فإننا لا نمل من تجديد الدعوة دائمًا إلى ضرورة صرف الهمم والجهود والموارد إلى الاهتمام بالبحث العلمي والمشروعات العلمية؛ لكونها الأمل الوحيد للأمة الإسلامية فى بعث مشروع حضاري نهضوي قادر على خلق معطيات جديدة من شأنها أن تضع تلك الأمة في مكانها الخليق بها، ومن شأنها أن تساهم في التجديد المنشود الذي تسعى إليه الأمة الإسلامية بشكل عام.

إن قضية التجديد التي اتخذت موقعها في عقول المفكرين الإسلاميين على مر العصور، أصبحت اليوم قضية مركزية وفاصلة، فإن التجديد الشامل الذي ندعو ونسعى إليه أصبح ضرورة ملحة للأمة الإسلامية لتجاوز كافة الإخفاقات التي تعرضت لها في القرون الأخيرة، لتأسيس قيامة جديدة تتبوأ فيها الصدارة بين العالمين.

ولا شك أن أهم مجالات ذلك التجديد التي ندعو إليها جميع علماء الأمة ومفكريها وكل من جمعهم ذلك الهم المشترك، هو الخطاب الديني بفروعه المختلفة، فالخطاب الديني قد عانى كثيرًا في الفترات الأخيرة جراء اختطافه من بعض قوى الظلام والجهل، وأُقحمت فيه الكثير من الأفكار الدخيلة على الثقافة الإسلامية والشريعة الغراء، وتعرض لجمود كبير جعله يقف عاجزًا في بعض الأحيان عن تحقيق مقصوده من هداية الخلق وإرشادهم إلى سواء السبيل.

ونحن إذ ندعو إلى ضرورة التجديد، فإننا ننبه على أن الخطاب الديني الذي ندعو لاستمرار الجهود المتواصلة فيه -والتي تبنتها العديد من المؤسسات الدينية العريقة والحكومات الرشيدة- لا يقتصر على عدة خطابات دعوية فقط، بل هو خطاب شامل يتناول قضايا الدعوة والعمل، وقضايا الإصلاح والتزكية والإرشاد، وقضايا العلم والتعلم والبحث.

ولذلك فإننا ننظر بعين الرضا إلى ظهور “المعلمة المصرية لعلوم الإفتاء” إلى النور، ونعدُّها أحد المحاولات الجدية لتجديد الخطاب الديني، والتي سعت إليها دار الإفتاء المصرية بكل عزم وقوة، كخطوة كبيرة وفاصلة في تجديد الخطاب الإفتائي، ونحسبها ولادة كاملة وحقيقية لعلم الإفتاء، ونؤمل أن تمثل نقلة نوعية في مسيرة العلوم الإفتائية، وأرضًا صلبة يستطيع الباحثون والعلماء في شتى أنحاء العالم الانطلاق منها إلى تطوير ذلك العلم والتجديد المستمر فيه بالشكل اللائق الذي يستحقه بوصفه أحد أهم العلوم الإنسانية الإسلامية الخالصة.

إن مساعي دار الإفتاء الحثيثة لتجديد الخطاب الديني، والإفتائي على وجه الخصوص، والذي توجته أخيرًا بتلك المعلمة المباركة يعكس إيماننا بأهمية عملية التجديد والإصلاح، وارتكازها في المقام الأول على البحث والمشروعات العلمية، ويضع أفراد الأمة الإسلامية جميعًا وفي مقدمتهم علماؤها ومفكروها أمام مسؤليتهم الكبيرة تجاة خدمة ذلك الدين، وما يجب عليهم من حيث كونهم شهداء على الأمم يوم القيامة، ومسئولين عن علمهم وعملهم.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل تلك الجهود من القائمين عليها والمشاركين فيها، وأن ينفع بها أبناء الأمة الإسلامية جميعًا، وأن يحقق الغاية منها والأهداف التي رصدت من أجل تحقيقها.

والله من وراء القصد.

1 الموافقات، للشاطبي (٥/٧٢).

2 طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي (٣/١٣).

3 تقديم الدكتور علي جمعة للإفتاء المصري (١/١٢).

أ. د. شوقي إبراهيم علام

مفتي الديار المصرية

رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم

اترك تعليقاً