البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

وحدة مهارات العملية الإفتائية

67 views

. مهارة تصوير الفتوى.

٢. مهارة تكييف الفتوى.

٣. مهارة تنزيل الفتوى.

٤. مهارة بيان الحكم.

مهارة تصوير الفتوى

١

 

إن الفتوى التي يقوم المفتي بإصدارها لا بد أن تمر بعدة مراحل ذهنية قبل إصدارها، والمرحلة الأولى والأهم تُسمَّى بتصور الفتوى.

و«التصوير» مأخوذ من «الصورة»، والمقصود به: حصول صورة الشيء وماهيته التي يتميز بها عن غيره في ذهن المفتي.

ومرحلة «التصوير» هذه مرحلة دقيقة ومهمة للغاية، فهي بمثابة الأساس الذي تبنى عليه الفتوى، ولا تصح الفتوى إلا بعد كمال التصور للمسألة المستفتى عنها، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولهذا أكثر العلماء من الاعتناء بمرحلة «التصوير» وبيان أهميتها وخطرها للوصول للفتوى الصائبة السديدة، فوضعوا تلك الضوابط التي تعنى بصحة التصور، حتى قال ابن الصلاح: «إن التصوير الصحيح للمسائل لا يقدر عليه إلا فقيه النفس، ذو حظ من الفقه» (1).

وكما قيل: صحة البدايات يترتب عليها صحة النهايات، وصحة البدايات هنا هي: مرحلة تصوير الفتوى، والنهايات هي: الحكم.

التعريف بالمهارة:

هي قدرة المتصدر للفتوى على معرفة حقيقة المسألة المعروضة عليه وتمييزها عن غيرها، وتحديدها باستخراج المعلومات المهمة من المستفتي في الواقعة التي نزلت به أو بغيره.

الأصل الشرعي للمهارة:

تبنى مهارة «التصوير» على قاعدة «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» وهي مسلَّمة عقلية اتفق عليها العلماء في جميع العلوم والفنون، فلا يستطيع أحدٌ الحكم على الشيء إلا بعد تمام تصوره، لذلك يصدر العلماء مبحثا لــ«التعريفات» في بداية مصنفاتهم، وهذه القاعدة لها شواهد شرعية يمكن الاستئناس بها:

  1. قول الله تبارك وتعالى :» ﴿  ﴾ [الإسراء: ٣٦]
  2. قول الله سبحانه وتعالى :» ﴿ ﴾[ الكهف: ٦٨]
  3. نَهيُ النبي ﷺ للقاضي أن يحكم وهو في حال اختلال المزاج كالغضب ونحوه، وما ذلك إلا لأن هذا يصنع خللًا في تصور المسألة، وبالتالي خطأ في صحة الحكم.

رُتبة المتصدر للفتوى:

هذه المهارة يحتاجها المتصدر للفتوى في كل مستوياتها، فحتى لوكانت الفتوى من الفتاوى المعتادة المكررة يلزمه أن يحسن التصور حتي لايخلط بين المسائل المتشابهة والمتناظرة، والمستوى الإفتائي الأعلى يحتاج أيضًا لهذه المهارة في الاستقصاء والاستفصال سواء من المستفتي أو من أهل الخبرة والاختصاص للوقوف على ماهية وحقيقة السؤال، إذًا هذه المهارة مهمة أو لاغنى عنها للمفتين بكل درجاتهم ومستوياتهم.

النطاق الفقهي للمهارة:

تشمل مهارة التَّصويرِ جميع الأبواب الفقهيَّة، ولكن تزداد أهميتها في الآتي:

  1. مجال العبادات : حيث تتشابه المسائل وتتناظر، فيقوم المفتي بمزيد استفصال واستيضاح مما يجعله يستطيع التفريق بين مسألة وأخرى متشابهة معها، فيستطيع بذلك تصوير المسألة وتمييزها عن غيرها.
  2. في النوازل المعاصرة والقضايا الفقهيَّة الحديثة لا بدَّ من التأني في تصور المسألة، والاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص للوصول إلى التَّصورِ الكَاملِ الصحيح.
  3. في المعاملات الحديثة والماليات المعاصرة، تبرز هنا مهارة المفتي في تصور المسألة على حقيقتها، وهذا يحتاج منه إلى اطلاع واسع على أحوال الناس وطبيعة معاملاتهم واحتياجاتهم.
  4. المواريث والوصايا:فلا غنى عن استيضاح السؤال من المستفتي واستقصائه من جوانبه المختلفة للوصول للتصور الكامل الصحيح.

خطوات إعمال المهارة:

  1. جمع المعلومات المساعدة في تصور السؤال والاستقصاء عنها عن طريق:

أ. الاستقصاء الذاتي: حيث يقوم المفتي بجمع المعلومات والاستقصاء عنها بنفسه، وذلك في المسائل العامة والبسيطة التي لا تحتاج إلى أطراف متعددة ومتخصصة في بناء التصور الكامل للمسألة.

ب. الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص في المسائل التي يحتاج المفتي فيها إلى الاستعانة بالمتخصصين حتى يكون تصوره صحيحًا وكاملًا (انظر: مهارة الاستعانة بأهل الخبرة والتخصص).

  1. تحليل المعلومات وتكوين بناء تصوري متماسك لها، وذلك بـ:

أ . مناقشة جميع أطراف المسألة.

ب. التأكد من المعلومات وصحتها.

جـ. تهذيبها وترتيبها بطريقة متسلسلة ومترابطة

  1. تحرير الحقائق و المعاني:

أ . الحقيقة الشرعية

ب. الحقيقة اللغوية

جـ. الحقيقة العرفية

  1. تحديد العلاقات بين التعربفات والمصطلحات والمفاهيم.
  2. تحرير محل التشابه والاختلاف بين التصورات المتقاربة.
  3. صياغة التصور النهائي للمسألة.
  4. سبر صحة هذا التصور بمشاورة الآخرين.

المثال التطبيقي: حكم التسويق الشبكي

السؤال: عن حكم التسويق الشبكي

الجواب: قد جاء الإسلام بمنهاج تشريعي وهداية للبشرية لينقلهم من الظلمات إلى النور، قال الله تعالى: ﴿ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ [ إبراهيم: ١]، وقد كان من هذا المنهاج أحكام تضبط علاقات الناس ببعضهم وتقوَّم هذه العلاقة في إطار غائي مصلحي ترشدهم إلى الأقوم لهم، وتدلهم على وظيفتهم في هذه الحياة وهو عبادة الله تعالى وإعمار الأرض.

ويعتبر العصر الحديث هو عصر الثورة المعرفية والتطور التكنولوجي بشتى أنواعه…، وقد ظهر في العصر الحديث كثير من المعاملات الاقتصادية المعقدة التي تحتاج إلى بيان ودراسة من الفقهاء ليضبطوا تعاملات الناس في إطار نصوص الوحي ومقاصده، ومن هذه المعاملات التسويق الشبكي.

ودراسة المعاملات المستحدثة – كالتسويق الشبكي- تتطلب ثلاث مراحل وهي:

  • المرحلة الأولى:تصوير المسألة وشرحها من أهلها، وتتطلب هذه المرحلة عرض المسألة المستحدثة من الناحية الفنيَّةِ التطبيقيَّةِ، والتصوير الصحيح المطابق للواقع شرط أساسي لصحة الفتوى ومطابقتها للواقع الفعلي المسؤول عنه، فالتصوير الخاطئ يؤدي إلى فتوى تتناسب مع ما فهم من هذا التصوير، لا ما هو في الحقيقة وفي نفس الأمر.
  • المرحلة الثانية:التكييف الفقهي للمسألة المستحدثة: أي إلحاق الصورة المسؤول عنها بما يناسبها من أبواب الفقه ومسائله، أو أنها من قسم مُسمَّى منها أو من العقود الجديدة غير المسماة، وهذه مرحلة تهيئ لبيان حكم المسألة الشرعي.

ويتوقف التكييف الفقهي للمسألة المستحدثة على تصورها وفهمها بشكل صحيح.

تتجلى مشكلة البحث في دراسة التسويق الشبكي وفق مراحله الثلاثة، ابتداء من الشرح الفني لمفهوم التسويق الشبكي، وبيان نشأة هذه المعاملة المستحدثة، وموقف الأنظمة والدول منها، والتعريج على آراء الخبراء الاقتصاديين، وبيان الآثار الاقتصادية الإيجابية.

وأما الموقف الفقهي في المسألة فلا بد من عرض الاتجاهات والآراء الفقهية المعاصرة في المسألة، ومن ثم بناء الحكم الشرعي بناء على المناط الصحيح والتخريج الفقهي الدقيق.

وقد رأى من تصدر للإفتاء في هذه المسألة أن التسويق الشبكي عبارة عن صورة مطورة من التسويق، يكون فيه نظام توزيع العمولات أكثر تعقيدًا وتنظيمًا، حيث تتطلب الشبكة الواحدة عملًا جماعيًّا وتواصلًا بين أفراد الشبكة، ولذلك فإن التكييف الفقهي الدقيق لهذه المعاملة هو ابتناؤها على عقد الجعالة؛ لأن المقصد الأساسي الذي أنشأت المعاملة لأجله هو التسويق والترويج للسلع والخدمات.

وأن هذا التكييف له أثر في الحكم الشرعي على التسويق الشبكي؛ من حيث الفهم والمقارنة بين مبرر نشأة التسويق الشبكي والواقع الذي امتلأ بشركات التسويق الشبكي.

فنظام التسويق الشبكي لا إشكال فيه من حيث ذاته، ولكن هذا النظام قد انحرف عن مساره في الواقع العملي وأصبح غطاء لشركات الاحتيال الهرمية، فالتسويق الشبكي في الواقع الذي وصل إليه قد خرج عن مقصوده من ترويج السلع والخدمات، وأصبح وسيلة للكسب السريع والأرباح الخيالية.

وانتهت الفتوى إلى أن الحكم الشرعي لشركات التسويق الشبكي، والتي تشترط على المجند دفع مبلغ مالي أو شراء سلعة، هو التحريم بسبب وجود محذور الغرر الكثير، وبسبب انتشار حالات النصب والاحتيال، وأصبحت مفاسده أكبر بكثير من مصالحه، والقاعدة الفقهية تقرر أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.(2)

فيجب على المفتي قبل أن يصدر فتواه أن يفهم صورة المسألة المعروضة، خاصة إذا كانت من المسائل الاقتصادية، فلا بد أن يستعين بآراء الخبراء الاقتصاديين والقانونيين؛ ليتمكن من إصدار الفتوى بما يتوافق مع نصوص الشريعة ومقاصدها، ولا يبني الفتوى على كلام سطحي لا علاقة له بحقيقة المعاملة.

فالتسويق الشبكي قد يبدو بصورته السطحية معاملة مستحدثة تقوم على الجعالة وتوفير فرص العمل لكثير من الشباب، فيغتر المفتي بظاهر ذلك، ويحكم بجوازه دون أن يبحث في تفصيل المسألة المعروضة، خاصة إذا كانت المسألة قد عمت وانتشرت وكثر الجدال فيها، وتباينت مواقف الأنظمة والدول منها، فلا بد للمفتي حينئذٍ من الاستعانة بآراء القانونيين والاقتصاديين.

ولهذا نجد موقف دار الإفتاء المصرية من التسويق الشبكي منضبطًا موافقًا للواقع؛ لأنها قد استشارت مجموعة من الخبراء الاقتصاديين، وبينت الفتوى الآثار الاقتصادية للتسويق الشبكي…،

كيفية تطبيق الخطوات الإجرائية على هذا المثال:

مالخطــــــواتالتطبيــــق 
١جمع المعلومات المساعدة في تصور السؤال والاستقصاء عنها.حيث يقوم المفتي بجمع كل ما له صلة بالسؤال محل الفتوى (التسويق الشبكي) بمعرفة نشأته وحقيقته، وتدوين الملحوظات حول الغوامض التي تحتاج إلى توضيح واستفسار من الأطراف المتخصصة. 
بعد إلمام المفتي بمقدمات وأساسيات معاملة (التسويق الشبكي) يقوم بالاستعانة بالمتخصصين من علماء الاقتصاد والقانون لاستجلاء حقيقة المعاملة. 
٢تحليـــل المعلومات وتكوين بناء تصوري متماسك لها.فلكي يكون التصور كاملًا وصحيحًا ينبغي الاستقصاء من جميع أطراف المسألة وهم:

1.                                     العميل (المستفتي).

2.                                     شركة التسويق (مالكة المنتج).

3.                                     الوزارات الحكومية التي لها حق التصريح بالمعاملات التجارية.

 
كما ينبغي الرجوع إلى أهل التخصص من أهل الاقتصاد والقانون لمعرفة الآثار والنتائج المترتبة على هذه المعاملة. 
وبعد جمع المعلومات بالخطوات الفائتة والتأكد من صحتها وترتيبها وتنسيقها يكون لدينا بناء متماسك وتصور صحيح حول (التسويق الشبكي). 
٣
تحريـــــر الحقائــق والمعاني:حيث حررت الفتوى العوامل المؤثرة في تصور المسألة وبالتالي انعكاسها على التكييف الشرعي للمعاملة ككونها «جعالة» أو «سمسرة»، أو وكالة بأجر أو غير ذلك. 
فعلى المفتي أن يحرر حقيقة المصطلحات والمعاني، ففي تحرير مفهوم التسويق الشبكي بينت الفتوى أنه قد يختلط مفهوم التسويق الشبكي بالتسويق الهرمي ونظام بونزي، وأنه لا بد من التفريق بين المصطلحات الثلاثة. 
٤تحديد العلاقات بين التعريفات والمصطلحات والمفاهيم.فأثناء دراسة (التسويق الشبكي) قام المفتي بدراسة (التسويق العادي)، و(التسويق الهرمي)، و(نظام بونزي)، وقد فرقت الفتوى بين هذه المصطلحات بالفعل. 
٥تحرير محل التشابه والاختلاف بين التصورات المتقاربة.حيث قام المفتي بدراسة كل من هذه الأنظمة، وفصل القول في التمييز بين (التسويق الشبكي) و(التسويق الهرمي)، وبيان أوجه التشابه والاختلاف. 
٦صياغة التصور النهائي للمسألة.فبعد الجمع والتأكيد والتنسيق والترتيب يقوم المفتي بصياغة التصور النهائي للمسألة للانتقال إلى الخطوة التالية وهي «التكييف الشرعي». 
٧سبر صحة هذا التصور بمشاورة الآخرين.فالمفتي في هذه المسألة اطلع على تصورات الآخرين من مجامع فقهية وأفراد متخصصين في الشريعة وغيرها، كمجمع الفقه الإسلامي بالسودان، ودار الإفتاء المصرية وغيرهما وذلك لأن المسائل المعقدة المركبة كلما تم فيها مشاورة الآخرين كان ذلك أدعى لصحة التصور. 

المعارف والتدريب اللازمان لاكتساب هذه المهارة:

  1. الاطلاع الواسع على كتب القواعد الفقهية وتخريج الفروع على الأصول
  2. الحصول على دورات تخصصية في مقدمات بعض العلوم كالطب والاقتصاد وغيرهما
  3. اكتساب مهارات الحوار و النقاش مع الآخرين
  4. القدرة على ترتيب المعلومات وتنظيمها
  5. مجالسة ومعايشة أهل الخبرة من المتمرسين بالإفتاء فترة مناسبة يكتسب فيها هذه الدربة

المهارات المتعلقة:

  1. مهارة إدراك الواقع
  2. مهارة التثبت والتأني في الفتوى
  3. مهارة المشاورة في الفتوى

1 انظر: أدب المفتي والمستفتي، (ص ١٠٠).

2 التسويق الشبكي من منظور اقتصادي إسلامي، إعداد مديرية الدراسات والبحوث– دائرة الإفتاء العام بالمملكة الأردنية الهاشمية بتاريخ ٣٠-٠٣-٢٠١٧

مهارة تكييف الفتوى

٢

 

المرحلة الثانية من مراحل العملية الإفتائية «التكييف الإفتائي»، فبعد قيام المفتي بتصور المسألة المستفتى فيها تصورًا صحيحًا، يشرع في الخطوة الثانية، وهي تكييف هذه المسألة تكييفًا شرعيًّا يناسبها، وعملية التكييف يمكننا أن نطلق عليها «التوصيف» أيضًا، وهي أشبه ما تكون بما يقوم به الطبيب من كشف على المريض ومحاولة تشخيص وتوصيف المرض.

والمسألة الفقهية التي ينظرها المفتي لا تخلو من أمرين: إما أن تكون مسماة في الفقه وهذه أمرها ظاهر، أو غير مسماة وهذه إما أن يكون لها نظير في الأبواب الفقهية فيلحقها بما يماثلها ويناسبها بعد تأكده من استيفاء شروط الإلحاق، أو أن تكون المسألة جديدة ليست مسماة في الشرع أو كتب الفقه ولا نظير لها فيلحقها بها، فحينئذ يلجأ للاجتهاد في محاولة لتكييفها تكييفًا شرعيًّا مناسبًا، وقد يحتاج المفتي في بعض الأحيان لتكييف المسألة إلى تفكيكها وتحليلها إذا لم تكن المسألة بسيطة وكانت مركبة من أكثر من عقد.

التعريف بالمهارة:

هي قُدرة المتصدِّر للفتوى على إلحاق المسائل الفقهية بما يناسبها من أبواب الفقه الإسلامي إن كان لها نظير، فإن لم يجد لها نظيرًا في الأبواب الفقهية فبالاجتهاد فيها -إن كان متأهِّلًا له- بما يتوافق مع الأصول والقواعد الشرعية.

الأصل الشرعي للمهارة:

مهارة «التكييف» هي في حقيقتها إجالة النظر والفكر في المسألة المستفتى فيها وإلحاقها بما يناسبها من العقود المسماة في الشرع أو الفقه، وهذا كله مبناه على «الاجتهاد»؛ سواء في تلك المسائل المسماة في الفقه (النمطية)، أو تلك المسائل التي لم تسم وتحتاج إلى تكييف جديد، فيمكن الاستئناس

بهذه الأدلة:

  1. قول الله سبحانه: ﴿ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾ [النساء: ٨٣].
  2. استخدامه ﷺ القياس، وهو من أهم مسالك التكييف الإفتائي، ففي حديث الخثعمية حين سألت النبي ﷺ فقالت: ((إن أبي أدركته فريضة الله في الحج وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان يجزي؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق))، وعن ابن عباس : ((أن امرأة أتت رسول الله ﷺ فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال: أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء)).
  3. وكذلك كان فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم، كما في كتاب سيدنا عمر بن الخطاب  إلى أبي موسى الأشعري: «الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك، مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، اعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عندك، فاعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، فيما ترى».

رُتبة المتصدر للفتوى:

نظرًا لكون التكييف الإفتائي يحتاج إلى نوع اجتهاد، وهذا يحتاج إلى اطلاع واسع مع ذكاء وجودة قريحة حتى يكون التوصيف صحيحًا والتكييف صائبًا؛ سواء هذا في المسائل المسماة (النمطية) أو غير المسماة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد، فالمتصدر لهذه المرحلة ينبغي أن يكون في المستوى الإفتائي المتوسط، يعني مجتهد الفتيا ومَن فوقه من المستويات الإفتائية (المفتي المجتهد في المذهب- المفتي المنتسب- المفتي المجتهد المطلق).

النطاق الفقهي للمهارة:

يشمل النطاق أو المجال الفقهي لهذه المهارة أمرين:

أ. جميع الموضوعات والأبواب الفقهية، وهو ما يُسمَّى بالعقود والمعاملات المسماة في الفقه والشرع.

ب. النوازل والمعاملات المستحدثة والتي لا نظير لها في الأبوابِ الفقهيَّةِ وتسمَّى بالعقود غير المسماة، وتحتاج إلى اجتهاد جديد يتوافق مع القواعد والأصول الفقهيَّة.

خطوات إعمال المهارة:

  1. تصور المسألة تصورًا كاملًا.
  2. تفكيك المسألة وتبسيطها إلى صورها الأولية إذا كانت المسألة مركبة أو معقدة (انظر مهارة تحليل الفتوى).
  3. النظر والفحص الدقيق للمسألة من حيث:
    • كونها من العقود المسماة في الفقه الإسلامي
    • كونها من العقود غير المسماة في الفقه الإسلامي (من المسائل المستحدثة).
  4. حصر الأبواب أو العقود أو المعاملات الفقهية من العقود المسماة التي يمكن للمسألة الجديدة أن تندرج تحتها أو تلحق بها.
  5. فرز الفروض واستبعاد ما لا تتطابق عليه شروط التسكين والإلحاق.
  6. اختبار المطابقة بين المسألة الجديدة الملحقة والملحقة بها، وفق شروط المطابقة:

أ. المطابقة في المفاهيم والتعريفات والأوصاف.

ب. المطابقة في الأركان والشروط.

ج. المطابقة في الضوابط والأحكام.

  1. إعمال النظر والاجتهاد الجديد في المسائل المستحدثة (النوازل المعاصرة) التي ليس لها ما يشبهها من الأبواب والعقود والمعاملات في الفقه الإسلامي. (انظر مهارة التعامل مع النوازل المعاصرة).

المثال التطبيقي:

المثال: حكم معاملة الفوركس

السؤال: حكم معاملة الفوركس.

الجـواب

إن انتشار معاملة بعينها يتطلب عند الإفتاء فيها قدرًا كبيرًا من الحرص والتحري في كل مراحل الإفتاء الأربع: التصوير، والتكييف، والحكم، وإصدار الفتوى؛ حيث تتناسب الحاجة للبحث والتحري طرديًّا مع انتشار المعاملة، فالفتوى من حيث انتشارُها ثلاثة أنواع:

فتوى شخصية، وفتوى عامة، وفتوى أمة.

والحاجة للتحري والبحث في فتاوى الأمة تكون في أعلى درجاتها، تليها في ذلك الفتاوى العامة، ثم الفتاوى الشخصية.

ومعاملة الفوركس FOREX يمكن تصنيفها على أقل تقدير لحجم انتشارها أنها من الفتاوى العامة؛ وهذا يعني أنها تحتاج لمزيد من التحري والبحث؛ لعموم البلوى بها.

وكلمة الفوركس FOREX هي اختصار لكلمتَي Foreign Exchange ومعناهما: صرف العملات الأجنبية.

والصورة الغالبة على هذه المعاملة أنها تتم من خلال ما يعرف بـالهامش (المارجن… Margin).

معاملة الفوركس من المعاملات ذات التفاصيل الفنية الدقيقة، وهناك عدد من الممارسين لهذه المعاملة في سوق تبادل العملات.

وقد قابَلَتْ أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصرية عددًا من الخبراء الذين يمثلون أهم نوعين من هؤلاء الممارسين لهذه المعاملة؛ فقابلت: خبراء يمثلون البنوك، وخبراء يمثلون شركات السمسرة. وكان من أهم مَا نبَّه عليه خبراء البنوك في هذا السياق:

  • أن التعامل بنظام الفوركس مع البنوك يضيف عنصرًا من الحماية للمستثمر يتمثل فيما يتعلق بالأعراف والتقاليد البنكية التي تجعل البنوك عند الخلاف مع المستثمر حريصة على حل هذا النزاع بصورة تحافظ على سمعتها البنكية.
  • وأن الوسطاء (السماسرة) يدربون المستثمر على نماذج (Demo, Software) عند بداية التعامل، وهذه النماذج لا تعبر عن الحركة الحقيقية للتعامل في أسواق تبادل العملات؛ فإن الثَّانيةَ تؤثر فيها.
  • وأن الخبرة عامل مهم جدًّا في عالم الوساطة في هذه المعاملة، وخاصة في جانب تقليل احتمالات الخسائر، ولكن تبقى هذه الاحتمالات هي الأعلى في الأسواق المالية.

وكان من أهم ما نبَّه إليه خبراء الشركات العاملة في نشاط الفوركس:

  • أن كثيرًا من الشركات التي تقوم بجمع الأموال من المستثمرين الراغبين في العمل في هذه المعاملة وتقوم بدور السمسار قد تكون في الحقيقة مجرد سمسار لشركة أكبر هي التي تنفذ عمليات التبادل في سوق تبادل العملات.
  • وأن هناك شركات كبرى تعمل في هذا النشاط ذات قوانين صارمة تحاول من خلالها الوصول لثقة المستثمر، ولكن يبقى الأساس في تعامل المستثمر مع هذه الشركات هو الثقة بها.
  • كما لم يفت أمانةَ الفتوى بدار الإفتاء المصرية الاستعانةُ بالخبراء من علماء الاقتصاد؛ حيث قابلتهم الأمانة. وكانت أهم نتائج النقاش معهم:
  • أن معاملة الفوركس تحتاج إلى دراسة عميقة لتشعبها وفنيَّاتها الدقيقة؛ كشأن صور التعامل في سوق الصرف، إضافة إلى الحاجة الشديدة لضبط شروط هذه المعاملة والتكييف الصحيح لها.

أما تكييف معاملة الفوركس فيتوقف على معرفة أركانها وعلاقاتها التعاقدية ومحل التعاقد فيها؛ فأطراف معاملة الفوركس هم: المستثمر (وهو العميل)، والقائم بأعمال الوساطة لصالح المستثمر (وهو السمسار أو البنك)، والبائع، وفي حالة وجود (المارجن) يضاف إليهم: المموِّل وهو دافع الرافعة للمستثمر (وهو في الغالب البنك الذي يتعامل معه السمسار، وقد يكون السمسارَ نفسَه).

وتحليل معاملة الفوركس يُظهِرُ أنها تشتمل على عدة عمليات:

  • العملية الأولى:عملية مضاربة بين العميل من جهة والسمسار (شركة كان أو بنكًا) من جهة أخرى؛ حيث يقوم السمسار بالمضاربة بأموال العميل لحسابه، على أن يدفع العميل له عوضًا مقابل عمله.
  • العملية الثانية: عملية تمويل؛ حيث يقوم السمسار بجلب التمويل المالي وهو المارجن أو الرافعة المالية.
  • العملية الثالثة:عملية توثيق لحق المموِّل (وهو في الغالب البنك الذي يتعامل معه السمسار)؛ حيث يستوثق البنك أو السمسار لحقه على العميل بما يلي:
  • حساب الهامش وهو المال المقدم من العميل للمضاربة.
  • المال المموَّل به عمليةُ المضاربة من قِبل البنك أو السمسار للعميل.
  • العملات المشتراة بمجموع حساب الهامش والمال المموَّل به.
  • العملية الرابعة:عملية مبادلة العملات عن طريق المضاربة من قِبل السمسار في أموال العميل لحسابه؛ حيث يقوم السمسار بمبادلة أموال العميل من حساب الهامش والرافعة المالية في سوق العملات الأجنبية.

وتكييف هذه المعاملة بإجراءاتها المختلفة له اتجاهان في الفقه المعاصر -كشأن مثيلاتها من المعاملات المستحدثة-؛ اتجاه يرى هذه المعاملة عبارة عن عمليات بسيطة متتابعة، واتجاه آخر يراها مركبة.

فالاتجاه الأول: يرى أن العملية الأولى -وهي عملية الوساطة بين العميل والسمسار- تُكَيَّف بأنها عملية سمسرة، والسمسرة عند الفقهاء تكون من باب الإجارة إذا كان العمل مضبوطًا مقدَّرًا، ومن باب الجعالة إذا كان غير مضبوط.

وأما تكييف العملية الثانية (وهي عملية التمويل بالرافعة المالية) على الاتجاه الأول: فهناك رأيان في تكييفها:

الأول: يرى أنها عقد قرض، فالبنك أو السمسار هو المُقرِض، والعميل هو المقترض، والقرض هو الرافعة المالية، وهو المارجن الصالح للاستعمال.

أما تكييف العملية الثالثة (وهي عملية توثيق حق المموِّل): فهي عقد رهن، فالراهن هو العميل، والمرتهن هو البنك أو السمسار، والرهن هو الهامش، بالإضافة إلى المال المموَّل به عمليةُ المضاربة (الرافعة المالية)، وما يُشتَرَى بهما.

وآخر هذه العمليات العملية الرابعة (وهي عملية مبادلة العملات عن طريق المضاربة من قبل السمسار أو البنك في أموال العميل لحسابه)، فتكييفها أنها عقد بيع للعملات.

والتحقيق: أن معاملة الفوركس مركبة من أربعة عقود، وهي: عقدان جديدان: أحدهما من عقود السمسرة، وثانيهما من عقود التمويل، وعقدان قديمان من العقود المسماة في الفقه الموروث هما: رهن وبيع، وهذا العقد بهذا التركيب من العقود المستحدثة التي لم يرد ذكرها في الفقه الموروث.

وكما أن الأصل في العقود المالية البسيطة الإباحة، فكذلك الأصل في العقود المركبة الإباحة أيضًا؛ لأن الحكم في العقود مجتمعةً كالحكم فيها منفردةً، وعلى ذلك تواردت نصوص الفقهاء.

وقد ذهب لمنع التعامل في الفوركس بعض المؤسسات الفقهية؛ كمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة.

ولذا نرى تحريم معاملة الفوركس والمنع من الاشتراك فيها؛ لِمَا تشتمل عليه ممارستها من مخاطر على العملاء والدول(1).

كيفية تطبيق الخطوات الإجرائية على هذا المثال:

مالخطــــــواتالتطبيــــق
١تصور المسألة تصورًا كاملًا.نظرًا لكون معاملة الفوركس من المعاملات ذات التفاصيل الفنية الدقيقة فقد قابلت أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصرية عددًا من الخبراء الذين يمثلون أهم نوعين من هؤلاء الممارسين لهذه المعاملة، فقابلت خبراء يمثلون البنوك وخبراء يمثلون شركات السمسرة، كما استعانت بخبراء في الاقتصاد للوصول إلى تصور كامل وواقعي وصحيح عن المعاملة.
٢تفكيك المسألة وتبسيطها إلى صورها الأولية إذا كانت المسألة مركبة أو معقدة.بتحليل معاملة الفوركس يظهر أنها تشتمل على عدة عمليات:

1.                                     عملية مضاربة بين العميل من جهة والسمسار من جهة أخرى.

2.                                     عملية تمويل.

3.                                     عملية توثيق لحق الممول (في الأغلب البنك).

4.                                     عملية مبادلة العملات عن طريق المضاربة من قبل السمسار في أموال العميل لحسابه.

٣النظر والفحص الدقيق للمسألةترى دار الإفتاء أن معاملة الفوركس تتكون من أربعة عقود، اثنان منهما من العقود المسماة في الفقه الموروث وهما:

5.                                     عقد رهن.

6.                                     عقد بيع.

وعقدان جديدان من العقود المستحدثة، وهما:

7.                                     عقد السمسرة.

8.                                     عقد التمويل.

وهذا العقد بهذا التركيب من العقود المستحدثة التي لم يرد ذكرها في الفقه الموروث.

٤حصر الأبواب أو العقود أو المعاملات الفقهية في العقود المسماة التي يمكن للمسألة الجديدة أن تندرج تحتها أو تلحق بها.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٥فرز الفروض واستبعاد ما لا تتطابق عليه شروط التسكين والإلحاق.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٦اختبار المطابقة بين المسألة الجديدة الملحقة والملحقة بها، وفق شروط المطابقة.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٧إعمال النظر والاجتهاد الجديد إذا كانت صورة المسألة من المسائل المستحدثة (النوازل المعاصرة) وليس لها ما يشبهها من الأبواب والعقود والمعاملات في الفقه الإسلامي.ترى دار الإفتاء جواز استحداث عقود جديدة غير مسماة في الفقه الموروث بشرط الخلو من الغرر والضرر، وبناء على ذلك فقد أعملت آلية الاجتهاد في المسألة وقد أفتت بالتحريم لأن هذه المعاملة تشتمل ممارستها على مخاطر على الأفراد والدول.

المعارف والتدريب اللازمان لاكتساب المهارة:

  1. الاطلاع الواسع على كتب أصول الفقه لمعرفة الأصول التي تبنى عليها الأحكام الشرعيَّة ومن أهمها القياس باعتباره من أهم مسالك التكييف الإفتائي.
  2. اكتساب مهارة تخريج الفروع على الأصول بالاستعانة بالمؤلفات التي تعنى بهذه المهارة من الجانب التطبيقي العملي، ككتاب التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي، فهو بمثابة برنامج عملي وتدريبي لطلبة العلم لاكتساب هذه المهارة.
  3. ومن المهم جدًّا وضوح الخريطة الذهنية لأصول الأبواب والموضوعات الفقهية والعقود والمعاملات الشرعية، حتي يستطيع أن يلحق كل مسألة بما يناسبها ويماثلها.
  4. كثرة النظر في الكتب التي تعنى بالقواعد الفقهية والتفريق بين المسائل المتشابهة كالأشباه والنظائر للسيوطي ولابن نجيم الحنفي.

المهارات المتعلقة:

  1. مهارة تخريج الفتوى على القواعد الأصولية.
  2. مهارة تخريج الفتوى على القواعد الفقهية.
  3. مهارة التخريج الفقهي.
  4. مهارة المشاورة في الفتوى.

1 فتوى دار الإفتاء المصرية رقم ( ٣٦١٥) بتاريخ ١٧/١١/٢٠١٣

مهارة تنزيل الفتوى

٣

 

إن صناعة الإفتاء من الصناعات العلمية المعقدة التي تحتاج إلى مهارة خاصة للقيام بها في سبيل إصدار الفتوى في صورتها الصحيحة. وتتعدد العلوم والمهارات المطلوبة في عملية الإفتاء ما بين حصيلة علمية ضرورية لدى المتصدر للفتوى ومهارات ذهنية في تصور الواقعة وتكييفها وتنزيل الأحكام الشرعية عليها، وما يُبنى عليه التصور من استنباطات من الخارج قائمة على نقاشات ومحاورات مع المستفتي، وتتواءم هذه العلوم والمهارات في سلسلة متراتبة تمثل أربع مراحل أساسية هي: مرحلة التصوير، ومرحلة التكييف، ومرحلة بيان الحكم، ومرحلة التنزيل أو الإصدار؛ لتخرج بعدها الفتوى في صورتها التي يتلقاها المستفتي.

ومرحلة «تنزيل الفتوى» لا يستطيعها إلا المجتهدون من المفتين لما يكتنفها من أبعاد ومآلات وإدراك عميق للواقع، والقدرة على الموازنة بين المصالح والمفاسد، ومراعاة المقاصد الكلية للتشريع؛ حيث لا تقتصر مهمة المفتي المجتهد في هذه المرحلة على مجرد استخلاص حكم الله من النصوص؛ بل يقوم ببذل الجهد والطاقة من أجل الوصل بين الوحي والواقع على معنى تبيين المسالك والكيفيات التي يأخذ بها الوحي مجراه نحو الواقع، ويأخذ بها الواقع مجراه نحو التكليفات بإلزامات الوحي.

وفي هذا المعنى يقول تقي الدين السبكي في فتاويه: «واعلم يا أخي أن العلماء الكاملين المبرزين يجيئون من الفقه على ثلاث مراتب:

(إحداها) معرفة الفقه في نفسه، وهو أمر كلي؛ لأن صاحبه ينظر في أمور كلية وأحكامها كما هو دأب المصنفين والمعلمين والمتعلمين، وهذه المرتبة هي الأصل.

(الثانية) مرتبة المفتي وهي النظر في صورة جزئية، وتنزيل ما تقرر في المرتبة الأولى، فعلى المفتي أن يعتبر ما يسأل عنه وأحوال تلك الواقعة، ويكون جوابه عليها، فإنه يخبر أن حكم الله في هذه الواقعة كذا، بخلاف الفقيه المطلق المصنف المعلم لا يقول في هذه الواقعة، بل في الواقعة الفلانية وقد يكون بينها وبين هذه الواقعة فرق، ولهذا نجد كثيرًا من الفقهاء لا يعرفون أن يفتوا، وأن خاصية المفتي تنزيل الفقه الكلي على الموضع الجزئي، وذلك يحتاج إلى تبصر زائد على حفظ الفقه وأدلته ولهذا نجد في فتاوى بعض المتقدمين ما ينبغي التوقف في التمسك به في الفقه ليس لقصور ذلك المفتي معاذ الله؛ بل لأنه قد يكون في الواقعة التي سئل عنها ما يقتضي ذلك الجواب الخاص فلا يطرد في جميع صورها وهذا قد يأتي في بعض المسائل، ووجدناه بالامتحان والتجربة في بعضها ليس بالكثير، والكثير أنه مما يتمسك به، فليتنبه لذلك، فإنه قد تدعو الحاجة إليه في بعض المواضع فلا نلحق تلك الفتوى بالمذهب إلا بعد هذا التبصر…»(1) .

التعريف بالمهارة:

هي قدرة المفتي المجتهد على تنزيل الحكم الشرعي بما يقتضيه الواقع من مآلات وموازنات وأبعاد مقصودة لدى الشارع.

الأصل الشرعي للمهارة:

  1. من السنة: مواقف كثيرة رويت عن النبي ﷺ راعى فيها الواقع بأبعاده المتعددة والظروف المحيطة به أو مآلات الأمور، أو عرف الناس وعاداتهم، منها:

أ- امتناعه ﷺ عن قتل المنافقين رغم استحقاقهم للعقوبة جراء ما يفعلونه من أفعال، فامتنع النبي ﷺ وقال عن سبب ذلك: ((لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))(2).

ب- امتناع النبي ﷺ عن إعادة بناء الكعبة على قواعد سيدنا إبراهيم -رغم علمه أن هذا هو الصواب- إلا أنه ﷺ ذكر سبب عدم الإقدام حينما قال: ((يا عائشة، لولا أن قومك حديثُ عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه))(3).

ج- استخدامه ﷺ الْمُداراة مع بعض الناس اتقاء شرهم كحديث ((…بئس أخو العشيرة))(4).

د- مراعاة التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية كالخمر مثلًا.

  1. أما في أفعال الصحابة فهو كثير جدًّا: كجمع القرآن في مصحف واحد، وإسقاط حد السرقة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم، وإحداث الأذان يوم الجمعة قبل الظهر كما فعله سيدنا عثمان ووضع سكة يتعامل بها المسلمون

وغير ذلك.

رُتبَة المتصدر للفتوى:

هذه المرحلة من العملية الإفتائية لا يتصدر لها إلا المجتهدون من المفتين؛ حيث تقوم المؤسسات والمراكز الإفتائية بقصر هذه المرحلة على المستويات الإفتائية العليا؛ كأعضاء «مجلس أمانة الفتوى»، أو اعتماد قرارات بعض مؤسسات الاجتهاد الجماعي كالمجامع الفقهية المعتمدة.

النطاق الفقهي للمهارة:

هذه المهارة تشمل جميع الأبواب الفقهية، وقد تظهر هذه المهارة بشدة في القضايا الفقهية المعاصرة أو النوازل المستجدة، فهي تشمل:

  1. العبادات.
  2. المعاملات.
  3. الأحوال الشخصية.
  4. الأقضية والعقوبات.
  5. النوازل المعاصرة.
  6. السياسة الشرعية.

خطوات إعمال المهارة:

  1. تصور المسألة تصورًا كاملًا صحيحًا.
  2. القيام بتوصيفها الوصف الشرعي المناسب لها (التكييف).
  3. بيان الحكم الشرعي إزاءها، ويشمل هذه الأحكام التكليفية:

(الوجوب- الندب- المكروه- المباح- الحرام).

  1. فحص الفتوى والتأكد من عدم مخالفتها:
    • نصًّا مقطوعًا به.
    • إجماعًا متفقًا عليه.
    • قاعدة أصولية أو فقهية مستقرة.
  2. فحص مآلات الفتوى وفق الآتي:
    • حصر مآلات الفتوى من آثار ومترتبات.
    • التأكد من أن هذه المآلات حقيقية وليست متوهمة.
  3. التحقق من مراعاة الفتوى لمقاصد الشريعة الكبرى:
    • حفظ الدين.
    • حفظ النفس.
    • حفظ العقل.
    • حفظ المال.
    • حفظ النسل.
  4. الموازنة بين المصالح والمفاسد، وفق أمرين:
    • التأكد أن المصلحة أو المفسدة معتبرة شرعًا وليست ملغاة.
    • مرتبة هذه المصلحة أو المفسدة من حيث كونها ضرورية أو حاجية أو تحسينية
  5. التأكد من مراعاتها: (للأعراف والعادات).

المثال التطبيقي:

المثال: حكم قطع إشارة المرور

السؤال: ما حكم التجاوز الخاطئ، وقطع الإشارة الحمراء؟

الجواب

حفظ النفس من أهم مقاصد الشريعة، فلا يجوز الاعتداء عليها بحال، وقد شرع الإسلام الأحكام الكفيلة بالمحافظة على هذا المقصد، فحرم القتل قال الله تعالى: ﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ [النساء: ٩٣]، ولقوله ﷺ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)) رواه مسلم(5). وقد جعلت الشريعة الإسلامية لولي الأمر صلاحية وضع القوانين التي تساهم في المحافظة على النظام العام، بما يكفل حفظ النفوس والأموال، وبما لا يتصادم مع نصوص الشريعة الغراء.

وبما أن قانون السير يمنع قطع الإشارة الحمراء والتجاوز الخاطئ ويرتب العقوبة عليها، وهذا القانون لا يتصادم مع نصوص الشريعة، بل يتوافق مع مقاصد الشريعة ويساهم في المحافظة على النفوس والمال؛ لأن هذه المخالفات يترتب عليها أضرار جسيمة في المال والأبدان قد تنتهي بالوفاة، فيكون العمل بهذا القانون واجبًا شرعيًّا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والمحافظة على الأنفس والأموال لا تكتمل إلا بإصدار مثل هذه القوانين والعمل بها.

وبالتالي فقطع الإشارة الحمراء والتجاوز الخاطئ لا يجوز؛ لما يترتب عليهما من مآلات ممنوعة شرعًا وأضرار جسيمة، والنبي ﷺ يقول: ((لا ضَرَرَ ولا ضِرَار)) رواه ابن ماجه(6). ولما فيه من مخالفة ولي الأمر فيما أمر بما لا يتصادم مع الشريعة الإسلامية، مما يؤول إلى الخلل والعشوائية في حياة الناس، فنوصي السائقين الالتزام بقواعد السير، حفاظًا على أرواحهم وأرواح الآخرين(7).

كيفية تطبيق الخطوات الإجرائية على هذا المثال:(8)

مالخطــــــواتالتطبيــــق
١تصور المسألة تصورًا كاملًا صحيحًا:السؤال عن حكم تجاوز سائق السيارة الإشارة وقت إشارتها باللون الأحمر، مما يعني وجوب التزامه بعدم المرور المؤقت كما في القانون.
٢القيام بتوصيفها الوصف الشرعي المناسب لها (التكييف):إن تجاوز السائق وقطعه الإشارة يظن أنه قد يؤدي إلى اصطدام بسيارة أخرى، فيؤدي إلى إتلاف مال أو نفس، وهذا هو الظن الغالب، فيمكن هنا إنزال المظنة منزلة المئنة كما قرره الفقهاء في قواعدهم، قال القرافي: «إن مظنة الشيء تعطى حكم ذلك الشيء وإن أمكن الوقوف عليه كالتقاء الختانين مظنة الإنزال أعطي حكمه» (٢).
٣بيان الحكم الشرعي إزاءها:هذا الفعل -إتلاف المال أو النفس- حرام شرعًا.
٤فحص الفتوى والتأكد من عدم مخالفتها للأصول الشرعية المعتبرة:بفحص الفتوى وجدنا أنها لا تخالف الأصول الشرعية المعتبرة.
٥فحص مآلات الفتوى.يترتب على هذه الفتوى حفظ النظام العام بما يمنع الضرر من إتلاف للمال والنفس.
مآلات الفتوى حقيقية كما يشهد الحس بذلك؛ حيث يؤدي الالتزام بهذه الإرشادات إلى التقليل من الحوادث أو منعها؛ فتقل الخسائر في الأموال والأنفس، وعدم الالتزام يؤدي إلى العكس.
٦التحقق من مراعاة الفتوى لمقاصد الشريعة الكبرى:تحقق هذه الفتوى المقاصد الشرعية الكبرى من حفظ للمال والأنفس.
٧الموازنة بين المصالح والمفاسد:ما دامت القوانين تحقق مصلحة شرعية؛ حيث إن الهَدفَ منها حفظ الأنفس والأموال، فهذا داخل تحت المصالح المرسلة المعتبرة شرعًا.

o  فحفظ المال والنفس من الضياع والتلف مصلحة ضروريَّة لدى الشارع.

كما أن هذه الفتوى تتماشى مع القانون والنظام العام للدولة التي أصدرت فيها وتحقق مصلحة شرعية عامة معتبرة.

المعارف والتدريب اللازمان لاكتساب المهارة:

  1. الحصول على قسط كافٍ من التدريب علي يد المفتين المجتهدين لتنمية هذه الملكة.
  2. تنمية وتطوير الملكة الأصولية في التعامل مع النصوص الشرعية.
  3. الاطلاع الواسع على الواقع والثقافات المختلفة.

المهارات المتعلقة:

١. مهارة مراعاة مآلات الأفعال.

٢. مهارة إدراك الواقع.

٣. مهارة الاستعانة بأهل الخبرة.

1 فتاوى السبكي، (٢/ ١٢٢).

2 متفق عليه: أخرجه البخاري، (٤٩٠٥)، ومسلم، (٢٥٨٤).

3 متفق عليه: أخرجه البخاري، (١٥٨٦)، ومسلم، (١٣٣٣)، واللفظ للبخاري.

4 متفق عليه: أخرجه البخاري، (٦٠٣٢)، ومسلم، (٢٥٩١).

5 أخرجه مسلم، (٢٥٦٤).

6 أخرجه ابن ماجه، (٢٣٤١).

7 فتوى دار الإفتاء الأردنية رقم (٣٢١٨) بتاريخ ١٧-٠٨-٢٠١٦

8 الذخيرة، (١/ ٢٢٦).

مهارة بيان الحكم الشرعي

٤

 

المتصدر للفتوى بعد أن ينتهي من تصوير المسألة المعروضة عليه، ثم تكييفها سينتقل إلى المرحلة الثالثة والمهمة وهي بيان الحكم الشرعي المتعلق بفعل المكلف.

والمراد بالحكم هنا هو ما يستعمله الفقهاء فهو عندهم الصفة التي هي أثر الخطاب، من الوجوب والحرمة والكراهة والإباحة والاستحباب، بخلاف الأصوليين فهو عندهم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، فنفس الخطاب هو الحكم عند الأصوليين، وأثره المتعلق بأفعال المكلفين أي ما ثبت بذلك الخطاب هو الحكم عند الفقهاء.

وهذه المرحلة الأصل فيها أن تتم بواسطة المجتهدين، فيستنبطون الأحكام من مصادرها المعلومة بحسب ترتيب الأدلة فيبحث في القرآن الكريم ثم السنة النبوية إلى آخر الأدلة المتفق عليها وما أداه إليه اجتهاده من الأدلة المختلف فيها، وبعد أن استقرت المذاهب ودونت وقُررت أدلتها أصبح البحث مقصورًا عليها، وفي حالة غير المنصوص يلجأ أهل كل مذهب إلى التخريج على أقوال أئمتهم، ولكن لا يخلو الزمان من مجتهد كما قرره السيوطي في رسالته «الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض»، فمن اجتمعت فيه أدوات الاجتهاد عليه أن يستنبط الأحكام للمسائل المستجدة، وكذا الاجتهاد الجماعي فإنه يقوم بهذا الفرض.

التعريف بالمهارة:

هي قدرة المتصدر للفتوى على تقرير الحكم الشرعي في المسألة المعروضة عليه، وذلك بالنقل عن مذاهب الأئمة المعتبرة، أو بالتخريج عليها، أو بالاستنباط المباشر من الأدلة بالشروط المقررة.

الأصل الشرعي للمهارة:

تستند هذه المهارة على ما هو مقرر في الأصول أن الوقائع لا تخلو عن حكم لله تعالى فيها، قال الزركشي «لعلمنا بأن الصحابة على طول الأعصار ما انحجزوا عن واقعة، وما اعتقدوا خلوها عن حكم الله تعالى، بل كانوا يهجمون عليها هجوم من لا يرى لها حصرًا، ورأيت في كتاب «إثبات القياس» لابن سريج: ليس شيء إلا ولله  فيه حكم؛ لأنه تعالى يقول: ﴿ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ﴾ [النساء: ٨٦] ﴿ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾ [النساء: ٨٥] وليس في الدنيا شيء يخلو من إطلاق أو حظر أو إيجاب؛ لأن جميع ما على الأرض من مطعم أو مشرب أو ملبس أو منكح أو حكم بين متشاجرين أو غيره لا يخلو من حكم ويستحيل في العقول غير ذلك، وهذا مما لا خلاف فيه أعلمه، وإنما الخلاف كيف دلائل حلاله وحرامه»(1).

رُتبة المتصدر للفتوى:

هذه المهارة لا بد أن تتحقق لكل متصدر للفتوى بمعنى أن يعرف حكم ما يسأل فيه إما بمعتمد المذهب إن كان يعتمد على مذهب، أو اختيار ومعتمد المؤسسة، إن كان لا يعتمد على مذهب معين.

وأما الاختيار الفقهي واستنباط الأحكام للنوازل الحادثة فهذا يكون للمستويات العالية في المؤسسة كأعضاء «مجلس أمانة الفتوى» الذين ترفع إليهم هذه الوقائع للبت فيها بحكم، ومَن يضع معتمدات المؤسسة الإفتائية.

النطاق الفقهي للمهارة:

تدخل هذه المهارة في الإفتاء في جميع أفعال المكلفين وبالتالي تشمل جميع مسائل وأبواب الفقه الإسلامي.

خطوات إعمال المهارة:

  1. تعيين المسألة.
  2. تصوير المسألة (انظر مهارة التصوير).
  3. تكييف المسألة (انظر مهارة التكييف).
  4. تحديد أهي من المنصوص عليها في المذاهب أم لا.

فإن: كانت من المنصوص نظر:

  • إن كانت من المجمع عليه قرر حكمها ولم يخالفه
  • وإن كانت من المختلف فيه قام المتصدر للفتوى بما يأتي:
  • حصر الأقوال في المسألة.
  • معرفة أدلة كل قول.
  • الترجيح بين الأدلة.
  • طرح الأقوال التي لا دليل عليها أو ضعف مدركها.
  • تقرير الحكم مما قوي مدركه والذي يحقق المصلحة.
  • وإن كانت غير منصوصة (نازلة جديدة) قام المتصدر للفتوى بما يأتي:
  • التخريج على المذاهب المعتمدة (انظر مهارة التخريج الفقهي).
  • التخريج على الضوابط الفقهية (انظر مهارة تخريج الفتوى على الضوابط الفقهية).
  • التخريج على القواعد الفقهية (انظر مهارة تخريج الفتوى على القواعد الفقهية).
  • الاجتهاد المباشر من الأدلة بشروطه، أو الاجتهاد الجماعي المتمثل في قرارات المجامع الفقهية.
  1. مراعاة المآلات (انظر مهارة مراعاة المآلات في الفتوى).
  2. تقرير الحكم في النازلة.

المثال التطبيقي:

المثال: حكم تأجير الأرحام

السؤال

ما الرأي الشرعي في تأجير رحم امرأة ليكون بديلًا عن رحم زوجتي التي لا يمكنها الحمل مستقبلا؟ على أن يوضع في هذا الرحم البديل الحيوانات المنوية الخاصة بي والبييضات الخاصة بزوجتي لا الخاصة بصاحبة الرحم البديل، وذلك تحت الضوابط الطبية ذات الشأن.

الجواب

مع التطور العلمي الهائل في شتى المجالات العلمية صرنا نتسامع كل يوم باكتشاف جديد، والطب عمومًا من أخصب المجالات التي ظهر فيها هذا التطور، وفرع الإنجاب الصناعي خصوصًا من الفروع الطبية سريعة التطور، فلا تكاد تمر فترة وجيزة إلا وتحمل لنا الوسائل الإعلامية بعض الاكتشافات الطبية والعلمية الجديدة فيه. وكانت شرارة البدء في هذا المجال عندما ولدت أول طفلة بطريق تلقيح صناعي في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، فكان هذا الحدث هو موضوع الساعة وقتئذ. ومن ذلك الحين وطب الإنجاب الصناعي في ثورة مستمرة وتطور دائم. ومن طفرات هذا الفرع من فروع الطب ما يعرف بـ «الرحم البديل»، وصورته أن تلقح بييضة المرأة بماء زوجها ثم تعاد اللقيحة إلى رحم امرأة أخرى، وعندما تلد البديلةُ الطفلَ تسلمه للزوجين. وأسباب اللجوء إليه متعددة؛ كمن أزيل رحمها بعملية جراحية مع سلامة مبيضها، أو أن الحمل يسبب لها أمراضًا شديدة؛ كتسمم الحمل، أو للمحافظة على تناسق جسدها، وتخلصها من أعباء ومتاعب الحمل والولادة. وهذه الصورة قد انتشرت مؤخرًا في الغرب بشكل ملحوظ، وصارت المرأة التي تبذل رحمها لتحمل بييضة غيرها تفعل هذا في مقابل مادي فيما عرف بـ «مؤجرات البطون»، وقد بدأت هذه الممارسات في محاولات للتسلل إلى عالمنا الإسلامي. والذي تضافرت عليه الأدلة هو حرمة اللجوء إلى طريق الرحم البديل سواء أكان بالتبرع أم بالأجرة، وهذا هو ما ذهب إليه جماهير العلماء المعاصرين، وبه صدر قرار مجمع البحوث الإسلامية بمصر رقم ١ بجلسته المنعقدة بتاريخ الخميس ٢٩ مارس ٢٠٠١م، وقرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثامنة المنعقدة بمقر رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت ٢٨ ربيع الآخر ١٤٠٥هـ إلى يوم الإثنين ٧ جمادى الأولى ١٤٠٥هـ الموافق من ١٩ – ٢٨ يناير ١٩٨٥م.

ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: ﴿ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ﴾ [المؤمنون: ٥ – ٧]، ولا فرق في وجوب حفظ الفرج بين الرجال والنساء، وحفظ الفرج مطلق يشمل حفظه عن فرج الآخر وكذلك عن مَنيِّه.

ومن الأدلة كذلك أن الأصل في الأبضاع التحريم، ولا يُباح منها إلا ما نص عليه الشارع، والرحم تابع لبُضع المرأة، فكما أن البُضع لا يحل إلا بعقد شرعي صحيح، فكذلك الرحم لا يجوز شغله بغير حمل الزوج، فيبقى على أصل التحريم.

ومنها أن الرحم ليس قابلا للبذل والإباحة، فإن الشارع حرّم استمتاع غير الزوج ببُضع المرأة؛ لأنه يؤدي إلى شغل رحم هذه المرأة التي استمتع ببُضعها بنطفة لا يسمح الشرع بوضعها فيها إلا في إطار علاقة زوجية يقرها الشرع، فيكون الرحم أيضًا غير قابل للبذل والإباحة من باب أولى؛ وذلك للمحافظة على صحة الأنساب ونقائها. وما لا يقبل البذل والإباحة لا تصح هبته، وكذلك إجارته؛ لأن الإجارة: «عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم»، وقد نصَّ الفقهاء أن قولهم في التعريف: «قابلة للبذل والإباحة»؛ للاحتراز عن منفعة البُضع، فإنها غير قابلة للبذل والإباحة.

ومن الأدلة أيضا وجود شبهة اختلاط الأنساب؛ لاحتمال أن تفشل عملية التلقيح بعد وضع اللقيحة في الرحم المؤجر، ويحدث الحمل عن طريق مباشرة الزوج لزوجته، فيُظَنّ أن الحمل والوليد للمستأجر، مع أنه في الواقع ليس له. وكذلك ترد هذه الشبهة في حالة استمرار الزوج في مباشرة زوجته وهي حاملة للبييضة الملقحة؛ لأن الجنين يتغذى بماء الزوج، كما يتغذى من الأم الحامل، وقد ورد النهي الصريح عن وطء الحامل التي هي من هذا القبيل، فعن رُوَيفِع بن ثابت الأنصاري  أن رسول الله ﷺ قال: ((لا يَحِلُّ لامرئ يُؤمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ أَن يُسقِيَ ماءَه زَرعَ غيرِه))(2)، يعني: إتيان الحُبالى. وفي رواية: ((فلا يسقِ ماءَه وَلَدَ غيرِه))(3).

وقال ابن القيم: «فالصواب أنه إذا وطئها حاملا صار في الحمل جزءٌ منه؛ فإن الوطء يَزِيدُ في تخليقه. قال الإمام أحمد: الوطء يزيد في سمعه وبصره، وقد صرح النبي ﷺ بهذا المعنى في قوله: ((لا يحل لرجل أن يسقي ماءه زرع غيره)). ومعلوم أن الماء الذي يسقى به الزرع يزيد فيه، ويتكون الزرع منه»(4). اهـ.

ولا يمكن أن نقول بمنع الزوج من وطء زوجته مدة الحمل؛ لما في هذا من منعه من واجب عليه إذا لم يكن له عذر، كما هو منصوص مذهب المالكية والحنابلة، بل قد يكون واجبًا عليه بالإجماع إذا خاف على نفسه الوقوع في الزنا، والمنعُ من الواجب حرام، وما يؤدي إلى الحرام يكون حرامًا. كما أن اشتراط منع الزوج من وطء زوجته شرط باطل؛ لمخالفته لمقتضى العقد. ونزيد على ذلك من الأدلة أن التلقيح بهذه الطريقة مستلزم لانكشاف عورة المرأة، والنظر إليها ولمسها. والأصل في ذلك أنه محرم شرعًا، لا يجوز إلا لضرورة أو حاجة شرعيتين، ولو سلمنا بقيام حالة الضرورة أو الحاجة في حق صاحبة البييضة، لم نسلمها في حق صاحبة الرحم البديل؛ لأنها ليست هي الزوجة المحتاجة للأمومة. أضف إلى ذلك أن الإجارة لا يجوز التوسع فيها بالقياس؛ لأنها شرعت على خلاف الأصل، فإن الأصل في التملك هو تملك الأعيان والمنافع معًا، وليس تملك المنافع دون الأعيان، والإجارة عقد على تملك المنافع فقط، فكانت مشروعيتها على خلاف الأصل. وما شرع على خلاف الأصل لا يجوز التوسع فيه بالقياس عليه، بل يُقتَصَرُ فيه على مورد النص المُجِيزِ فقط. فإذا كانت الإجارة بصفة عامة لا يجوز التوسع فيها بالقياس عليها، فإجارة المرأة للرضاع لا يجوز التوسع فيها بالقياس عليها من باب أولى؛ كما أننا يمكنا التدليل على تحريم تأجير الأرحام بالضرر الذي سيقع على المرأة المؤجرة لرحمها، فإنها لا تخلو من إحدى حالتين: إما أن تكون متزوجة، أو تكون غير متزوجة، فإن كانت متزوجة: جاءت شبهة اختلاط الأنساب. وإن كانت غير متزوجة: عرضت نفسها للقذف وقالة السوء.

كما أن القول بإجازة الحمل لحساب الغير فيه إزالة لضرر امرأة محرومة من الحمل بضرر امرأة أخرى هي التي تحمل وتلد، ثم لا تتمتع بثمرة حملها وولادتها وعنائها، والقاعدة المقَرَّرة: «أن الضرر لا يُزال بالضرر».

ومن الأسباب التي تدعونا للقول بالحرمة أيضا غلبة المفاسد المترتبة على هذه العملية، ومنها: إفساد معنى الأمومة كما فطرها الله وعرفها الناس، وصَبغُها بالصبغة التجارية، مما يناقض معنى الأمومة التي عظمتها الشرائعُ وناطت بها أحكامًا وحقوقًا عديدة، ونَوَّه بها الحكماء، وتَغَنّى بها الأدباء. وهذا المعنى وذلك التعظيم لا يكون من مجرد بييضة أفرزها مبيض امرأة ولَقَّحَها حيوان منوي من رجل، إنما تتكون من شيء آخر بعد ذلك هو الوَحَم والغثيان والوهن في مدة الحمل، وهو التوتر والقلق والطلق عند الولادة، وهو الضعف والهبوط والتعب بعد الولادة.

فهذه الصحبة الطويلة هي التي تُوَلِّد الأمومة؛ كما أن تغطية الأمومة بهذا الحاجز الضبابي يؤدي إلى تنازع الولاء عند الطفل بعد الإنجاب: هل سيكون ولاؤه لصاحبة البييضة، أو للتي حملته وأرضعته من ثدييها؟ مما قد يعرضه لهزة نفسية عنيفة، إذ إنه لن يعرف إلى من ينتمي بالضبط: إلى أمه الأولى أم أمه الثانية؟ ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح.

لهذه الأدلة وغيرها ولما قررته المجامع الفقهية نخلص إلى القول في واقعة السؤال إلى حرمة تأجير الرحم محل السؤال(5).

كيفية تطبيق الخطوات الإجرائية على هذا المثال:

مالخطــــــواتالتطبيــــق
١تعيين المسألة:تأجير الرحم.
٢تصوير المسألة:هو أن تلقح بييضة المرأة بماء زوجها ثم توضع اللقيحة في رحم امرأة أخرى بديلة لصاحبة البييضة إما لتعذره أو رغبة في التهرب من آلام الحمل والولادة أو للمحافظة على الجمال، ولما تضع المرأة -صاحبة الرحم البديل- الطفل تسلمه للزوجين.
٣تكييف المسألة:هذه المسألة تندرج تحت عدة أبواب من الفقه الإسلامي، فالباب الأول: المعاملات تحت فرع الإجارة وهو قابلية الرحم للتأجير، والباب الثاني: النكاح وتوابعه لما في المسألة من شبهة اختلاط الأنساب، وإذا كانت ذات زوج ففي مدة الإجارة له أن يقربها أم لا، والباب الثالث: الحدود لما في المسألة من حكم قذف المرأة الحامل بهذه الطريقة وهي غير ذات زوج، فالمسألة مترددة بين هذه الأبواب، فلا بد عند الفتوى من النظر لجميع هذه النقاط.
٤تحديد أهي من المنصوص عليها في المذاهب أم لا:مسألة تأجير الرحم ليست من المنصوص عليه عند الفقهاء، فهي من النوازل الجديدة.

فيقوم المتصدر للفتوى بتخريجها على الضوابط الفقهية كما يأتي:

١- الأصل في الأبضاع التحريم، ولا يباح منها إلا ما نص الشارع.

٢- الرحم ليس قابلا للبذل والإباحة، وما لا يقبل البذل لا تجوز هبته وإجارته.

وتخرج المسألة أيضًا على القواعد الفقهية الآتية:

١- المشغول لا يشغل: ففي حال كونها متزوجة فالرحم مشغول بحق الزوج، وفي حالة وضع اللقيحة من غيره يؤدي إما إلى منع صاحب الحق منه، أو إلى غشيانها، وقد ورد النهي عن إتيان الحبالى كما في الحديث ((لا يسقي ماءه ولد غيره)).

٢- الضرر يزال: فالمرأة المؤجرة لرحمها إما أن تكون متزوجة وفيها شبهة اختلاط الأنساب، وإن كانت غير متزوجة عرضت نفسها للقذف وقالة السوء.

كما يعتمد المتصدر للفتوى الاجتهاد الجماعي كقرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة المنعقدة بمقر رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة المنعقد من ١٩ إلى ٢٨ يناير سنة ١٩٨٥م، وكذا قرار مجمع البحوث الإسلامية بمصر رقم ١ بجلسته المنعقدة بتاريخ ٢٩ مارس ٢٠٠١م، بحرمة اللجوء إلى الرحم البديل سواء أكان بالإجارة أم التبرع.
٥مراعاة المآلات:هذا الفعل يؤدي إلى ما يلي:

١- إفساد معنى الأمومة كما فطرها الله تعالى وعرفها الناس، وتصبغ بالصبغة التجارية التي تناقض معنى الأمومة التي عظمتها الشرائع وناطت بها أحكامًا وحقوقًا عديدة.

٢- تعرض الطفل لهزة نفسية عنيفة لعدم معرفته لمن انتماؤه بالضبط إلى أمه صاحبة البييضة، أم التي حملته ووضعته.

٦تقرير الحكم الشرعي في النازلة:حرمة تأجير الرحم البديل، أو التبرع به.

المعارف والتدريب اللازمان لاكتساب المهارة:

  1. الاطلاع الجيد على الفروع الفقهية.
  2. القدرة على البحث في المذاهب الفقهية المختلفة.
  3. الاطلاع على كتب الفتاوى لفقهاء المذاهب المختلفة، وفتاوى المؤسسات الإفتائية.
  4. الاطلاع على قرارات المجامع الفقهية.

المهارات المتعلقة:

  1. مهارة إدراك الواقع.
  2. مهارة مراعاة مآلات الفتوى.
  3. مهارة الاستفادة من فتاوى المجامع الفقهية.

1 البحر المحيط في أصول الفقه (١/٢١٧).

2 أخرجه أبو داود، (٢١٥٨).

3 أخرجه الترمذي، (١١٣١).

4 انظر حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (٦/١٣٦).

5 فتوى دار الإفتاء المصرية المقيدة برقم (١٤٤٥) بتاريخ ١١/٨/٢٠٠٩م

اترك تعليقاً