البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المساق الثاني

وحدة مهارات التعامل مع إشكاليات الفتوى

87 views
  1. مهارة استعمال المخارج الفقهية.
  2. مهارة تصحيح معاملات الناس.
  3. مهارة تفريق الأحكام.
  4. مهارة تحرير الحقيقة العُرفيَّة.
  5. مهارة تجنب الجمود على المنقول.
  6. مهارة تجنب الشذوذ في الفتوى.

مهارة استعمال المخارج الفقهية

١

 

تُعدُّ الآراء الفقهيَّة ثروة تشريعية ضخمة، أنتجتها خيرة العقول الفقهية من خلال تفعيل النصوص الشرعية في واقعها المعيش، وذلك من أهم ثمرات الفقه؛ لأنه يقدم حلولا شرعية لنوازل ومشكلات الواقع، ولهذا اتسم فقه كل عصر بسمة زمانه الذي كتب فيه، وهو أحد أسباب الخلاف الذي وقع في كلام الفقهاء، ويعبر عنه بـ «اختلاف عصر وأوان»، ويجدر بكل من يتصدر للإفتاء أن يكون مطلعًا على هذا التراث الفقهي العظيم، ليقطف من ثماره اليانعة ما يعينه على القيام بمهمته، محققًا بذلك مقصدًا من مقاصد الشرع، وهو رفع الحرج عمن يستفتيه من عموم الناس، عملًا بقوله تعالى: ﴿ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﴾ [المائدة: ٦]، وقوله تعالى: ﴿ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾ [الحج: ٧٨].

إن محاولة المفتي إيجاد المخارج الفقهيَّةِ لبعض تصرفات المستفتين، لا يرفع الحرج ويبرز وجه الشريعة السمح فقط، وإنما يشعر المستفتي أيضًا بأنه متمسك بأحكام دينه لم يخرج عن مظلته، ويرفع التعارض بين أَحكامِ الشريعة ومقتضيات الواقع، وهذا من شأنه أن يدفع اليأس عن قلوب بعض الناس الذين قد يدفعهم هذا التعارض عن الالتزام بأحكام الشرع الشريف.

ولا يتبادر إلى الذهن أن استعمال المفتي المخارج الفقهية هو تتبع الترخص والبحث عن الأقوال الشاذة والضعيفة، أو هو تفريغ للأحكامِ الشرعيَّة من مضمونها بتطويعها للواقع الذي قد يتعارض في بعض صوره مع الأحكامِ الشرعيَّةِ، بل المراد هو مراعاة المقاصد الكليَّة للشرع الشريف، واستثمار الخلاف الفقهي لتحقيق ذلك وفق منهج فقهي منضبط ينطلق من الأصول العامة للتشريع ولا يعارضها أو يخرج عنها، فلا عبرة بفرع يكرُّ على أصله بالبطلان.

يقول الإمام النووي في مقدمة المجموع: «يحرم التساهل في الفتوى، ومن عُرِفَ به حرم استفتاؤه، فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة، ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها؛ لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد»(1) .

التعريف بالمهارة:

هي أن يتمكن المتصدر للفتوى من إيجاد البدائل المباحة التي تخرج المستفتي من الحرج، وترفع عنه المشقة، ويسوغ له استعمالها.

الأصل الشرعي للمهارة:

يستدل لهذه المهارة بالكتاب والسنة وقواعد الفقه:

  1. فمن الكتاب: قول الله سبحانه لأيوب عليه السلام: ﴿ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ﴾[ص: ٤٤].
  2. ومن السنة: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة : ((أن رسول الله ﷺ استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله ﷺ: «أكل تمر خيبر هكذا؟»، قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا»))(2).
  3. القاعدة الفقهية: المشقة تجلب التيسير.

النطاق الفقهي للمهارة:

تدخل هذه المهارة في الإفتاء في المسائل الخلافية، وأهمها المسائل الداخلة في الأبواب الفقهية التالية:

  1. المستجدات والنوازل.
  2. مسائل الأقليات المسلمة في المجتمعات غير الإسلامية.
  3. الأيمان والنذور.
  4. تصحيح المعاملات التي يفرضها الواقع.

أما المسائل القطعية والمجمع عليها فلا تدخلها هذه المهارة.

خطوات إعمال المهارة:

  1. تعيين المسألة.
  2. تحديد الحكم الشرعي الأصلي لها.
  3. التحقق من وجود موجب البحث عن مخرج بسبب:
    • الضرورة.
    • الحرج والمشقة.
    • عموم البلوى.
  4. تحديد البديل الشرعي الذي يحقق الغرض، وذلك من خلال:
    • استحداث قول جديد.
    • إضافة شرط أو حذف شرط.
    • فك الجهات والارتباط المؤدي إلى المحظور.
    • استحداث عقد جديد.
    • توسيع الاختيار من المذاهب الفقهية عامة (ينظر مهارة الاختيار الفقهي).
  5. فحص البديل الشرعي بالتحقق من كونه:
    • لا يخالف أصلا شرعيًّا.
    • لا يعارض مقاصد الشريعة.
    • محققًا للمصلحة رافعًا للحرج.
  6. التفرقة بين الابتداء والدوام، فإن كان المستفتي مقبلا على الفعل بين له الحكم الأصلي الذي عليه مراعاته وينصحه بالأخذ بالأسلم والأحوط، أما إن كان قد تلبس بالفعل فعليه أن يفتيه بقول من أجاز تخلصًا من الحرمة؛ لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
  7. تقرير الحكم المستند إلى المخرج الفقهي.

المثال التطبيقي:

المثال: مفاجأة الحيض للمرأة أثناء الحج

السؤال

امرأة حاضت قبل طواف الإفاضة (وهو ركن) وليس لديها وقت؛ لأنها مرتبطة بأفواج ومواعيد الطائرات، وليس لديها ما تعيش عليه إن هي تأخرت عن الفوج، وليس لديها ثمن بدنة، فماذا تصنع؟ أتطوف وهي حائض أم تنيب عنها من يطوف بدلا منها؟

الجواب

جاء في كتاب فتح العزيز للرافعي الكبير الشافعي في الفصل التاسع في الرمي من كتاب الحج: «إن العاجز عن الرمي بنفسه لمرضٍ أو حبسٍ ينيب غيره ليرمي عنه؛ لأن الإنابة جائزة في أصل الحج، فكذلك في أبعاضه، وكما أن الإنابة في الحج إنما تجوز عند العلة التي لا يرجى زوالها، فكذلك الإنابة في الرمي، لكن النظر هنا إلى دوامها إلى آخر وقت الرمي، وكما أن النائب في أصل الحج لا يحج عن المنيب إلا بعد حجه عن نفسه، فالنائب في الرمي لا يرمي عن المنيب إلا بعد أن يرمي عن نفسه»(3).

وتخريجًا على هذا: يجوز للمرأة إذا فاجأها الحيض قبل طواف الإفاضة، ولم يمكنها البقاء في مكة إلى حين انقطاعه أن تنيب غيرها في هذا الطواف على أن يطوف عنها بعد طوافه عن نفسه، وأن ينوي الطواف عنها نائبًا مؤديًا طوافها بكل شروطه، أو أن تستعمل دواء لوقفه وتغتسل وتطوف.

أو إذا كان الدم لا يستمر نزوله طوال أيام الحيض بل ينقطع في بعض أيام مدته، عندئذ يكون لها أن تطوف في أيام الانقطاع عملًا بأحد قولي الإمام الشافعي القائل: «إن النقاء في أيام انقطاع الحيض طهر»، وهذا القول أيضًا يوافق مذهب الإمامين مالك وأحمد.

هذا وقد أجاز بعض فقهاء الحنابلة والشافعيَّة للحائض دخول المسجد للطواف بعد إحكام الشد والعصب وبعد الغسل، حتى لا يسقط منها ما يؤذي الناس ويلوث المسجد ولا فدية عليها في هذه الحال باعتبار حيضها -مع ضيق الوقت والاضطرار للسفر- من الأعذار الشرعية، وقد أفتى كل من الإمام ابن تيمية وابن القيم بصحة طواف الحائض طواف الإفاضة إذا اضطرت للسفر مع صحبتها، بشرط أن تعصب موضع خروج دم الحيض حتى لا ينزل منها شيء منه في المسجد وقت الطواف.

هذا وفي فقه مذهب أبي حنيفة: أن الحائض والنفساء لا يحل لها دخول المسجد، وإن دخلت ثم طافت أثمت وصح الطواف، وعليها ذبح بدنة، وفي موضع آخر وتطوف الركن ثم تعيده.

لما كان ذلك، فللمرأة الحاجَّة التي يفاجئها الحيض والنفاس ويحول بينها وبين طواف الإفاضة مع تعذر البقاء بمكة حتى ارتفاع عذرها أن تسلك أي طريق من هذه الطرق التي قال بها الفقهاء(4).

كيفية تطبيق الخطوات الإجرائية على هذا المثال:

مالخطــــــواتالتطبيــــق
١تعيين المسألةمفاجأة الحيض للمرأة أثناء الحج وعدم تمكنها من الانتظار بمكة إلى وقت انقطاعه خشية فوات الرفقة.
٢تحديد الحكم الشرعي الأصلي لهاعدم جواز الطواف للحائض؛ لأن من شروطه الطهارة كالصلاة.
٣التحقق من وجود موجب البحث عن مخرجموجب البحث عن مخرج أن المرأة لا تستطيع التخلف وحدها عن الفوج الذي خرجت معه حاجة، وفي تكليفها الرجوع مرة أخرى لأداء الطواف فيه ما لا يخفى من المشقة.
٤تحديد البديل الشرعي الذي يحقق الغرضحدد المتصدر للفتوى أربعة بدائل شرعية، وهي:

أ- يجوز للمرأة إذا فاجأها الحيض قبل طواف الإفاضة، ولم يمكنها البقاء في مكة إلى حين انقطاعه أن تُنيبَ غيرها في هذا الطواف على أن يطوف عنها بعد طوافه عن نفسه، وأن ينوي الطواف عنها نائبًا مؤديًا طوافها بكل شروطه.

ب- أن تستعمل دواء لوقف الدم وتغتسل وتطوف.

ج- إذا كان الدم لا يستمر نزوله طوال أيام الحيض بل ينقطع في بعض أيام مدته، عندئذٍ يكون لها أن تطوف في أيام الانقطاع عملا بأحد قولي الإمام الشافعي القائل: «إن النقاء في أيام انقطاع الحيض طهر»، وهذا القول أيضًا يوافق مذهب الإمامين مالك وأحمد.

د- أجاز بعض فقهاء الحنابلة والشافعية للحائض دخول المسجد للطواف بعد إحكام الشد والعصب وبعد الغسل، حتى لا يسقط منها ما يؤذي الناس ويلوث المسجد، فلها تقليدهم.

٥فحص البديل الشرعيالبدائل التي طرحتها الفتوى لا تخالف أصلا شرعيًّا، وتتفق مع مقاصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج.
٦تقرير الحكم المستند إلى المخرج الفقهي:للمرأة الحاجة التي يفاجئها الحيض والنفاس ويحول بينها وبين طواف الإفاضة مع تعذر البقاء بمكة حتى ارتفاع عذرها أن تسلك أي طريق من هذه الطرق التي قال بها الفقهاء.

المعارف والتدريب اللازمان لاكتساب المهارة:

  1. الاطلاع على كتب الخلاف العالي «الفقه المقارن».
  2. الإحاطة بمقاصد الشريعة.
  3. التمييز بين الحيل المشروعة والحيل المذمومة والمحرمة.

المهارات المتعلقة:

  1. مهارة الاختيار الفقهي.
  2. مهارة مراعاة مآلات.
  3. مهارة التيسير في الفتوى.
  4. مهارة المشاورة في الفتوى.

1 المجموع شرح المهذب (١/ ٤٦).

2 متفق عليه: أخرجه البخاري، (٢٢٠١)، ومسلم، (١٥٩٣).

3 انظر: فتح العزيز بشرح الوجيز، (٧/ ٤٠٠، ٤٠١).

4 فتوى دار الإفتاء المصرية رقم ٥ سجل: ١١٧ بتاريخ ١٥/ ١٢/ ١٩٨١م.

مهارة تصحيح معاملات الناس

٢

 

من القواعد المقررة بين الفقهاء: «حمل أفعال المسلمين على الصحة والسداد متى ما أمكن ذلك»، ومن هذا المنطلق: فالمفتي إذا عرضت عليه مسألة سواء كانت هذه المسألة من العبادات أو المعاملات، وأمكن حملها على مذهب معتبر من مذاهب المسلمين، فليصححها على هذا المذهب، ويعبر عنها أيضًا بأن الأصل في أقوال المسلمين وأفعالهم الصحة.

وعلى هذا المنهج سار العلماء، فنرى ذلك عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم من العلماء المعتبرين، جاء في كتب الحنفية: وجوب حمل أمور المسلمين على الصلاح ما أمكن، فالعمل بالدليل الظاهر هو الأصل في المعاملات دفعًا للضرر عن العباد…»(1) .

وقريب من هذا عند المالكية ما يسمى بــ (ما جرى عليه العمل)، وتعريفه عندهم: الأخذ بقول ضعيف أو شاذ والحكم والفتوى به في مقابل الراجح أو المشهور، ويجتمع الحكام والمفتون على العمل به لسبب اقتضى ذلك من ضَرورةٍ أو عُرفٍ أو مَصْلحةٍ أو غير ذلك.

يقول القرافي في «الفروق»: «والأصل في تصرفات المسلمين وعقودهم الصحة حتى يَرِدَ نَهيٌ فيثبت لأصل الماهيَّةِ الأصل الذي هو الصحة، ويثبت للوصف الذي هو الزيادة المتضمنة للمفسدة الوصف العارض وهو النهي، فيفسد الوصف دون الأصل وهو المطلوب، وهو فقه حسن»(2) . ويقول أيضًا: «وكذلك تصرفات المسلمين إذا أطلقت ولم تقيد بما يقتضي حلها ولا تحريمها، فإنها تنصرف للتصرفات المباحة دون المحرمة؛ لأنه ظاهر حال المسلمين»(3) .

وللعلامة جمال الدين القاسمي رسالة في هذا المعنى أسماها (الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس)؛ ومن الجدير بالذكر أنّ المقصود بهذه المهارة ما شاع وعمّ من المعاملات والعقود بحيث توجد لكثير من المكلفين في بلد معين أو أكثر من غير أن تكون مخصوصة بشخص معين، وأما ما كانت خاصة بفرد فهذه تخضع لمهارة (مراعاة الخلاف) ولا مشاحة في الاصطلاح.

التعريف بالمهارة:

هي جعل تصرفات المسلمين وعقودهم على الصحة ما دامت قد وافقت مذهبًا من مذاهب المسلمين ولم تخالف الإجماع، وكان هناك مقتضًى لهذا التصحيح من ضرورة أو حاجة تنزل منزلتها أو عرف أو مصلحة معتبرة أو غير ذلك.

الأصل الشرعي للمهارة:

  1. عن عائشة : أن قومًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أَذَكَرُوا اسم الله عليه أم لا؟ فقال رسول الله ﷺ: ((سموا الله عليه وكلوه))(4).

ووجه الدلالة: قال «الجصاص»: فلو لم تكن التسمية من شروط الذكاة لقال: وما عليكم من ترك التسمية؟ ولكنه قال: كلوا؛ لأن الأصل أن أمور المسلمين محمولة على الجواز والصحة فلا تحمل على الفساد وما لا يجوز إلا بدلالة(5) .

  1. تصحيح بعض العقود الاستثنائية، التي لم تتوافر فيها الشروط العامة لانعقاد العقد وصحته، ولكن جرت بها معاملات الناس وصارت من حاجاتهم، كعقد السَّلَم فإنه بيع معدوم وقت العقد، ولكن جرى به عرف الناس وصار من حاجاتهم. ولذا جاء في الحديث: ((نهى رسول الله ﷺ عن بيع الإنسان ما ليس عنده، ورخص في السلم)). وكذلك الاستصناع والإجارة وعقد الوصية. فهذه كلها عقود إذا طبقت عليها الشروط العامة لانعقاد العقود وصحتها في العاقد والمعقود عليه، لا تصح، ولكن الشارع رخص فيها وأجازها سدًّا لحاجة الناس ودفعًا للحرج عنهم (6).

رُتبة المتصدر للفتوى:

يمكن للمسائل المتكررة أو التي لا تحتاج إلى مزيد نظر وتأمل أن يتصدر لها مفتي الضرورة أو مفتي المذهب، والذي لديه القدرة على التفتيش والبحث عن الفروع الفقهية، أما المسائل التي تحتاج إلى تَأملٍ ونظرٍ وَمَزيد فكر فلا تكون إلا للمستويات الإفتائية العليا؛ نظرًا لكونها تحتاج إلى تقدير للواقع والموازنة بين المصالح والمفاسد ومراعاة المآلات وغير ذلك، وهذا كله يحتاج إلى اجتهاد.

النطاق الفقهي للمهارة:

الأصل أن هذه المهارة تشمل الأبواب الفقهية كلها، ولكن تظهر بشدة في الآتي:

  1. في مجال العقائد؛ حيث تحمل أفعال العباد وأقوالهم على خير محمل.
  2. في مجال العبادات:الطهارة والصيام والحج والزكاة.
  3. المعاملات:حيث ضرورات الناس واحتياجاتهم.
  4. الأحوال الشخصية:في تصحيح الأنكحة ما أمكن.

خطوات إعمال المهارة:

  1. تحديد صورة المسألة.
  2. بيان الحكم الشرعي للمسألة وفقًا للمعتمد.
  3. فحص وجود اضطراب وخلل في معاملات الناس عند العمل بالمعتمد.
  4. فحص واقع الناس وحالهم من حيث:
    • الضرورة.
    • الحاجة العامة.
    • عموم البلوى.
    • الملاءمة للأعراف والعوائد.
  5. النظر في المذاهب الفقهية وأقوال العلماء والتأصيلات الشرعية التي يمكن أن تصحح عليها معاملات المكلفين.
  6. اختيار أنسب الأقوال الفقهية وأكثرها ملاءمة للواقع والتي تراعي الآتي:

أ. ما ينبني عليه استقرار معايش المكلفين ونظمهم الاجتماعية.

ب. مراعاة التيسير بضوابطه.

ج. تحقيق مصلحة شرعية معتبرة.

  1. اعتماد هذا الحكم الجديد كبديل عند تعذر تطبيق الحكم الشرعي الأصلي وفقًا للمعتمد.

المثال التطبيقي:

المثال: حكم الخلو

الســـــــؤال

استأجر أبي محلا من سنة ١٩٨٦م وكان إيجاره الشهري عشرين جنيهًا، وكان ثمن قيراط الأرض وقتها سبعة آلاف جنيه، مع العلم أن المحل مستخدم مخزنًا إلى الآن، وأن إيجار المحل في هذا المكان اليوم يساوي مائة وخمسين جنيهًا، وعندما بنى أبي منزلا طلب منه صاحب المحل أن يسترده، وتوفي أبي وطلبنا -نحن أبناءه- من صاحب المحل مبلغًا من المال هو خمسة آلاف جنيه، فقال لنا: بأي حق لكم هذا المال؟ وتدخل بعض المشايخ وقالوا: هذا المال سحت. فنرجو من فضيلتكم أن تعطينا ردًّا يرضي كلا الطرفين، وما مقدار المبلغ؟ وما حق المالك والمستأجر؟

الجواب

عقد الإيجار في الشريعة الإسلامية يجب أن يكون مؤقتًا بمدة، ولا يجوز أن يكونَ من غير أجلٍ محدد على التأبيد؛ فإذا نُصَّ في العقد أنه مؤبد بطل، وإذا نُصَّ فيه على مدة محددة يجب الالتزام بها.

وإذا صدرت قوانين تمد أجله بشروط معينة، فإن لولي الأمر أن يقيد المباح، وتنزل حينئذ مدة العلاقة الإيجارية منزلة المدة الطويلة التي تمتد إلى خمسين سنة عند بعضهم، وإلى تسعين عند آخرين، والعلاقة بين المؤجر والمستأجر لازمة من طرف المؤجر، جائزة من طرف المستأجر، وعليه فإن للمستأجر أن يبيع باقي المدة التي بين بدء عقده وبين التسعين سنة المذكورة لصاحب الملك أو للغير بحسب الحال.

وهذا النظر يصحح عقود الإيجار المعمول بها الآن في عصرنا، ولا يبطل على الناس جُلّ عقودهم من ناحية، ولا يعارض ما ارتآه ولي الأمر لتحصيل المصالح الاقتصادية والاجتماعية لاستقرار الأمن في البلاد من ناحية أخرى، والأخير غرض شريف مطلوب في الشريعة، ومرغوب إليه فيها.

إن ما يؤخذ اليوم مما يُسمَّى بالفروغ أو خلو الرجل أو اليد لا مانع منه شرعًا في تقديري، فللمالك المؤجر أن يأخذ من المستأجر مقدارًا مقطوعًا من المال مقابل الخلو أو الفروغ، ويعد المأخوذ جزءًا معجلا من الأجرة المشروطة في العقد.

وأما ما يدفع في المستقبل شهريًّا أو سنويًّا فهو بالإضافة إلى ما تم تعجيله يعد جزءًا آخر مكملا من الأجرة مؤجل الوفاء.

وأما ما يأخذه المستأجر من الفروغ مقابل تنازله عن اختصاصه بمنفعة العقار المؤجر لشخص آخر يحل محله فهو جائز أيضًا إذا كانت مدة الإجارة باقية، وإلا كان غصبًا حرامًا، فقد صرح الشافعية أثناء كلامهم عن صيغة عقد البيع بما يقارب هذا المعنى فقالوا: «لا يبعد اشتراط الصيغة في نقل اليد في الاختصاص -أي عند التنازل عن حيازة النجاسات لتسميد الأرض- كأن يقول: رفعت يدي عن هذا الاختصاص، ولا يبعد جواز أخذ العوض عن نقل اليد كما في النزول عن الوظائف»، إلا أن ذلك كله مقيد شرعًا ضمن مدة الإيجار المتفق عليها، وتنازل المستأجر لغيره بعوض بعد انتهاء المدة مرهون برضا المالك. وبالرغم من أن أصل المذهب الحنفي لا يجيز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة، وكذا لا يجيز بيع الحق، فإن كثيرًا من الحنفية أفتى بجواز النزول عن الوظائف بمال كالإمامة والخطابة والأذان ونحوها، وتستند هذه الفتوى إلى الضرورة وتعارف الناس، وبالقياس على ترك المرأة قَسْمها لصاحبتها؛ لأن كلا منها مجرد إسقاط للحق، وقياسًا على أنه يجوز لمتولي النظر على الأوقاف عزل نفسه عند القاضي، ومن العزل الفراغ لغيره عن وظيفة النظر أو غيره، وقد جرى العرف بالفراغ بعوض.

هذا وقد وجدت رسالة للمتأخرين من علماء المالكية بعنوان: «جملة تقارير وفتاوى في الخلوات والإنزالات عند التونسيين» لمفتي المالكية إبراهيم الرياحي بتونس المتوفى سنة ١٢٦٦هـ، والشيخ محمد بيرم الرابع التونسي، والشيخ الشاذلي بن صالح باس مفتي المالكية بتونس، والشيخ محمد السنوسي قاضي تونس، يقررون فيها جواز المعاوضة عن الخلوات عملا بالعرف والعادة، ولأن المستأجر يملك المنفعة، فله أن يتنازل عنها بعوض كالإجارة وبغير عوض كالإعارة، فقد نقل البناني عن البرزلي في النزول عن الوظيفة ما يقتضي جوازه، ونقل فتوى الفاسيين بجواز بيع الخلو، وقال الشيخ محمد بيرم: وما أشبه الخلو بالمغارسة، غير أن الخلو لا تحصل به ملكية الرقبة لتعلقه بالمنفعة.

قرار مجمع الفقه الإسلامي في جدة رقم ٦ لعام ١٤٠٨هـ الموافق ١٩٨٨م: ويحسن إيراد ما تضمنه هذا القرار:

أولًا: إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغًا مقطوعًا زائدًا عن الأجرة الدورية -وهو ما يسمى في بعض البلاد خلوًّا- فلا مانع شرعًا من دفع هذا المبلغ المقطوع، على أن يعد جزءًا من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة.

ثانيًا: إذا تم الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغًا مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة، فإن بدل خلو الرجل هذا جائز شرعًا؛ لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك.

أما إذا انقضت مدة الإجارة ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمنًا عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو؛ لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر.

ثالثًا: إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعًا، مع مراعاة مقتضى عقد الإيجار المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية.

على أن في الإجارات الطويلة المدة خلافًا لنص عقد الإجارة طبقًا لما تسوغه بعض القوانين، لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك.

أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو؛ لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين، وأخذ مقابل عن المدة المتبقية في العقد هو الأصل في فقه الشريعة فهو مباح، فإذا صدر من ولي الأمر ما يمنعه فلا يجوز الافتيات على الإمام في ذلك، فيحرم من جهة حرمة مخالفة ولي الأمر.

وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز للسائل أخذ مقابل إذا تبقى من عقده مدة وهو مبلغ المثل لمحل شبيه له في المنطقة، ولو كانت بقوة القانون؛ لأن القانون هنا يمكن توجيهه شرعًا، فينزل منزلة العرف، ومعلوم أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، فإن لم يكن هناك مدة في ذلك العقد بين إنشائه وبين التسعين سنة، فلا يكون هناك موجب لأخذ المال من المالك ولا من غيره، ولا يجوز للسائل أن يطالب بشيء من ذلك(7).

كيفية تطبيق الخطوات الإجرائية على هذا المثال:

مالخطــــــواتالتطبيــــق
١تحديد صورة المسألة.حكم مال خلو الرجل أو اليد.
٢بيان الحكم الشرعي للمسألة وفقًا للمعتمد.عقد الإيجار في الشريعة الإسلامية يجب أن يكون مؤقتًا بمدة، ولا يجوز أن يكون من غير أجل محدد على التأبيد؛ فإذا نُصَّ في العقد أنه مؤبد بطل، وإذا نُصَّ فيه على مدة محددة يجب الالتزام بها.
٣فحص وجود اضطراب وخلل في معاملات الناس عند العمل بالمعتمد.هذا الحكم الذي ذكرناه هو الحكم الأصلي وفقًا للمعتمد، إلا أننا وجدنا في مسألة (خلو الرجل) أنها غير مؤقتة بمدة معينة، ولو طبقنا المعتمد لأدى هذا إلى اضطراب وخلل وتنازع في المجتمع ولأبطلنا جل عقود معاملات الناس.
٤فحص واقع الناس وحالهمإن تحصيل المصالح الاقتصادية والاجتماعية لاستقرار الأمن في البلاد، غرض شريف مطلوب في الشريعة، ومرغوب إليه فيها، وهو أمر ضروري لحسم مادة النزاع والاضطراب والفوضى في المجتمعات.

كما أنه بفحص واقع الناس نجد أن أخذ المستأجر مالًا من أجل (خلو العقار) مما استقرت عليه أعراف الناس في معاملاتهم وارتضوه بينهم.

٥النظر في المذاهب الفقهية وأقوال العلماء والتأصيلات الشرعية التي يمكن أن تصحح عليها معاملات المكلفين.١. استند المتصدر للإفتاء إلى آراء بعض الفقهاء الأقدمين بأن عقد الإيجار يجب ألا تتجاوز مدته ٥٠ سنة، وأن بعضهم ذهب إلى أنه يجب ألا تتجاوز ٩٠ سنة.

٢. طالع المتصدر للفتوى رسالة للمتأخرين من علماء المالكية بعنوان: «جملة تقارير وفتاوى في الخلوات والإنزالات عند التونسيين» لمفتي المالكية إبراهيم الرياحي بتونس المتوفى سنة ١٢٦٦هـ، والشيخ محمد بيرم الرابع التونسي، والشيخ الشاذلي بن صالح باس مفتي المالكية بتونس، والشيخ محمد السنوسي قاضي تونس، يقررون فيها جواز المعاوضة عن الخلوات عملا بالعرف والعادة، ولأن المستأجر يملك المنفعة، فله أن يتنازل عنها بعوض كالإجارة وبغير عوض كالإعارة.

٦اختيار أنسب هذه الأقوال وأكثرها ملاءمة لواقع الناسيتلاءم الحكم بجواز الخلو ويتناسب مع ما عليه أعراف الناس وعاداتهم ونظمهم الاجتماعية.
كما يترتب على القول بجواز الخلو عدم إبطال جل معاملات الناس، وعدم الافتيات على ولي الأمر.
٧اعتماد هذا الحكم الجديد كبديل عند تعذر تطبيق الحكم الشرعي الأصلي وفقًا للمعتمد.الحكم بجواز الخلو رأي معتمد حيث إنه يصحح عقود الإيجار المعمول بها الآن في عصرنا، ولا يبطل على الناس جُلَّ عقودهم من ناحية، ولا يعارض ما ارتآه ولي الأمر لتحصيل المصالح الاقتصادية والاجتماعية لاستقرار الأمن في البلاد من ناحية أخرى، والأخير غرض شريف مطلوب في الشريعة، ومرغوب إليه فيها.

المعارف والتدريب اللازمان لاكتساب المهارة:

  1. الاطلاع الواسع على الآراء الفقهية المختلفة.
  2. القدرة الجيدة على البحث الإفتائي، ويمكن الحصول على تدريب لتنمية وتطوير مهارات البحث الإفتائي.
  3. معرفة أحوال الناس معرفة جيدة والإحاطة بظروفهم واحتياجاتهم العامة والخاصة.
  4. القدرة على فهم المصطلحات الخاصة بكل مذهب، وتمييز الراجح من المرجوح والصحيح من الضعيف، والصحيح من الأصح، وكيفية استثمار هذه الأقوال واعتمادها في الفتوى.
  5. الاطلاع المتكرر على فتاوى المؤسسات الإفتائية وخاصة ما يتعلق منها بالضرورات والحاجات والنوازل وأشباهها.

المهارات المتعلقة:

  1. مهارة الاختيار الفقهي.
  2. مهارة البحث الإفتائي.
  3. مهارة التيسير في الفتوى.
  4. مهارة مراعاة الخلاف.

1 ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (٥/ ٢١٨).

2 ينظر: الفروق، (٢/ ٨٤).

3 ينظر: الفروق، (٢/ ١٩٥).

4 أخرجه البخاري، (٢٠٥٧).

5 أحكام القرآن، الجصاص (٤/١٧٣).

6 ينظر: علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع (ص١١٥).

7 الطلب الوارد إلى دار الإفتاء المصرية عبر الفاكس المقيد برقم ١٩٧٤ لسنة ٢٠٠٥م.

مهارة تفريق الأحكام

٣

 

ينبغي للمتصدر للفتوى أن يكون لديه ما يُسمَّى بــــ«العقلية الفارقة»؛ فيمكنه من خلالها في ظل ما يعرض عليه من مسائل كثيرة متشابهة، أن يجد بين المسألة والأخرى فروقات دقيقة تؤثر في تصور المسألة ذاتها ومن ثم تكييفها من الناحية الشرعية.

يظهر «أثر تلك العقلية الفارقة في مهارة المفتي وقدرته على تفريق الأحكام؛ حيث يعرض على المفتي مسألة تتعارض فيها الأدلة الشرعية؛ حيث يؤدي كل دليل إلى نتيجة بخلاف الدليل الآخر، أو يترتب عليها لازم من اللوازم يتعارض مع لوازم الحكم الآخر، وهنا يأتي دور المفتي ليحل هذا الإشكال وهذه العويصة الفقهية، فيعطي أحكامًا تتناسب مع الدليلين معًا؛ حيث لا مرجح لأحدهما على الآخر، وبعض الفقهاء يُسمِّي هذا «تبعيض الأحكام».

وهذا الأمر -أي تفريق الأحكام- قد تناوله الفقهاء بكثرة في كتبهم، وتتابعوا على الأخذ والعمل به في فروع كثيرة مذكورة في كتب الفقه، غير أن ما يجب توضيحه أن هذه المهارة من المهارات الدقيقة جدًّا وتحتاج إلى ملكة خاصة من المفتي ومزيد دربة وممارسة حتى يتمكن من هذه المهارة، يقول ابن القيم في «تعليقه على مختصر سنن أبي داود» تحت حديث «احتجبي منه يا سودة»: «أما أمره سودة وهي أخته بالاحتجاب منه، فهذا يدل على أصل وهو تبعيض أحكام النسب، فيكون أخاها في التحريم والميراث وغيره، ولا يكون أخاها في المحرميَّةِ والخلوة والنظر إليها لمعارضة الشبه للفراش، فأعطى الفراش حكمه من ثبوت الحرمة وغيرها، وأعطى الشبه حكمه من عدم ثبوت المحرمية لسودة، وهذا باب من دقيق العلم وسره لا يلحظه إلا الأئمة المطلعون على أغواره المعنيون بالنظر في مأخذ الشرع وأسراره» (1).

التعريف بالمهارة:

هي معرفة المفتي بسبل فك الاشتباه في مسألة يتنازعها أصلان، ولا يمكن ترجيح أحد الأصلين على الآخر لعدم وجود مرجح، فحينئذ يقوم بتفريق الأحكام بأن يعطي أحكامًا في بعض الفروع طبقًا لأحد الأصلين، بينما يعطي أحكامًا أخرى في غيرها طبقًا للأصل الآخر.

الأصل الشرعي للمهارة:

  1. ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أم المؤمنين عائشة  أنها قالت: ((اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهِد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله؛ ولد على فراش أبي من وليدته. فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شبهه فرأى شبها بينًا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة، قالت: فلم ير سودة قط))(2).

قال الحافظ ابن حجر: «واستدل به بعض المالكية على مشروعية الحكم بين حكمين، وهو أن يأخذ الفرع شبهًا من أكثر من أصل، فيعطى أحكامًا بعدد ذلك، وذلك أن الفراش يقتضي إلحاقه بزمعة في النسب، والشبه يقتضي إلحاقه بعتبة، فأعطى الفرع حكمًا بين حكمين، فَرُوعِيَ الفراش في النسب والشبه البين في الاحتجاب، قال: وإلحاقه بهما ولو كان من وجه أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه»(3) .

  1. ما رواه الترمذي من حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها))(4)؛ فالنبي ﷺ هنا قد حكم ببطلان العقد، وهو يقتضي إهدار ما يترتب عليه وعدم اعتباره، لكنه عقبه بما يقتضي اعتبار ثبوت المهر، وهو من آثار العقد الصحيح ولوازمه.
  2. ما ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اعتبر الطواف صلاة، فاقتضى الطهارة وستر العورة، بينما أباح فيه الكلام، وهو يتنافى مع كونه صلاة بالمعنى الشرعي؛ فروى الترمذي والنسائي -واللفظ له- عن طاوس عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الطواف بالبيت صلاة فأقلوا من الكلام))(5).

رُتبَة المتصدر للفتوى:

هذه المهارة لا يقدر عليها إلا المستويات الإفتائية العليا؛ لما تحتاجه من فهم دقيق ونظر عميق، وهذا لا يحسنه كل متصدر للفتوى فيجب أن تتوفر لأعضاء «مجلس أمانة الفتوى» ومن يضع معتمدات المؤسسة الإفتائية.

النطاق الفقهي للمهارة:

تشمل هذه المهارة جميع أبواب الفقه الإسلامي، ولكن يشتد الاحتياج إليها في الآتي:

  1. قضايا الأحوال الشخصية كالنكاح والطلاق والرضاع.
  2. مسائل المعاملات المالية.

خطوات إعمال المهارة:

  1. تعيين المسألة وتصورها تصورًا كاملًا.
  2. تحقيق المناط في المسألة.
  3. الـتأصيل للقول الأصلي في المسألة.
  4. تحديد ما يترتب على هذا القول من آثار ولوازم.
  5. توضيح الإشكال.
  6. التأصيل للقول الثاني.
  7. تحديد موطن التناقض بين الأصلين.
  8. محاولة ترجيح أحدهما على الآخر بإحدى وسائل الترجيح:
    • ترجيح المتواتر على الآحاد.
    • الصحيح على الحسن.
    • المشهور على من دونه.
    • وغير ذلك من المرجحات.
  9. تفريق الأحكام إذا تعذر ترجيح أحد الدليلين على الآخر فيعطي المفتي أحكامًا في بعض الفروع طبقًا لأحد الأصلين، بينما يعطي أحكامًا أخرى في فروع غيرها طبقًا للأصل الآخر؛ وذلك دفعًا للاشتباه.

المثال التطبيقي:

المثال: مسألة الصلاة إلى حجر إسماعيل والطواف داخله

الســـــــــــــؤال

يقول السائل: هل صحيح أن المذهب الشافعي يمنع من الطواف داخل الحجر معتبرًا الحجر من البيت، بينما يمنع الصلاة إليه معتبرًا أنه ليس من البيت؟ وهل هذا -إن صح- داخل في إطار ما يسمى بـ«تفريق الأحكام»؟ وما ضابط هذا المسمى؟

الجـــــــــــواب

ما ورد في السؤال من اعتبار السادة الشافعية منع الصلاة إلى الحجر، بينما يمنعون الطواف داخله، هو الأصح عندهم في المذهب.

قال الإمام النووي في المجموع(6) : «ولو استقبل الحِجر -بكسر الحاء- ولم يستقبل الكعبة فوجهان مشهوران حكاهما صاحب الحاوي والبحر وآخرون؛ (أحدهما) تصح صلاته؛ لأنه من البيت للحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: ((الحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ)) رواه مسلم، وفي رواية: ((ستة أذرع من الحجر من البيت))، ولأنه لو طاف فيه لم يصح طوافه، وأصحهما بالاتفاق لا تصح صلاته؛ لأن كونه من البيت مظنون غير مقطوع به، ولو وقف الإمام بقرب الكعبة والمأمومون خلفه مستديرين بالكعبة جاز، ولو وقفوا في آخر المسجد وامتد صف طويل جاز، وإن وقف بقربه وامتد الصف فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة» اهـ.

وهذا كما ورد بالسؤال من باب ما يسمى بـ«تفريق الأحكام»، وحقيقته: أن يتنازع أصلان مختلفان فرعًا واحدًا، فيكون مترددًا بينهما؛ لثبوت مناطه في كلٍّ منهما، ولا يستطاع فك الجهة في التشابه، أو جعل الفرع يأخذ حكم أحد الأصلين؛ لشدة الاشتباه وعدم ثبوت ترجيح أحدهما على الآخر، فحينئذٍ يلجأ إلى تفريق الأحكام، فيعطي الفرع أحكامًا في بعض الأحوال طبقًا لأحد الأصلين، بينما يعطي أحكامًا أخرى في غيرها من الأحوال طبقًا للأصل الآخر.

ومن الفروع أيضًا مسألة: استلحاق الأب زوجة ابنه مجهولة النسب، قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «أسنى المطالب»(7) : «(فرع) تزوج امرأة مجهولة النسب، فاستلحقها أباه، ثبت نسبها ولا ينفسخ النكاح، أي: إن لم يصدقه الزوج، حكاه المزني، ثم قال: وفيه وحشة، قال القاضي في فتاويه: وليس لنا من يطأ أخته في الإسلام إلا هذا، وقيس به ما لو تزوجت مجهول النسب، فاستلحقه أبوها، ثبت نسبه ولا ينفسخ النكاح إن لم يصدقه الزوج» اهـ.

والخلاصة: أن «تفريق الأحكام» سبيل من سبل فك الاشتباه في الفرع المتردد بين أصلين يتنازعاه، فيعطي أحكامًا في بعض الفروع طبقًا لأحد الأصلين، بينما يعطي أحكامًا أخرى في فروع غيرها طبقًا للأصل الآخر، وقد دلَّ على صحة هذا المسلك دليل الشرع، وتتابع الفقهاء على الأخذ به وإعماله عند وجود الداعي(8).

كيفية تطبيق الخطوات الإجرائية على هذا المثال:

مالخطــــــواتالتطبيــــق
١تعيين المسألة :هل تجوز الصلاة إلى حجر إسماعيل والطواف داخله؟
٢تنقيح المناط :تحديد هل الحجر من الكعبة أو البيت؟ والجواب أن الشافعيَّة يرون أن الحجر من البيت.
٣التأصيل للقول الأصلي:قوله ﷺ كما في صحيح مسلم: ((الحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ)).
٤آثار ومترتبات هذا القول:أنه لا يجوز الطواف داخل الحجر وتجوز الصلاة إليه؛ لكونه من الكعبة فهو جزء منها.
٥توضيح الإشكالأن الشافعية لا يرون جواز الصلاة إلى الحجر على الرغم من كونه من البيت.
٦تأصيل القول الثاني:أن الخبر الثابت باعتباره من البيت من أخبار الآحاد، فهو ظني غير قطعي، وهذا لا يكفي في القبلة، قال في مغني المحتاج: «بخلاف ما لو استقبل (أي: المصلي) الحِجر -بكسر الحاء- فقط فإنه لا يكفي؛ لأن كونه من البيت مظنون لا مقطوع به؛ لأنه إنما ثبت بالآحاد (٥).
٧وجه التناقض:أن القول بأن الحجر من البيت يلزم منه منع الطواف داخله وصحة الصلاة إليه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الدليل المستند عليه في هذا القول ظني غير مقطوع به؛ حيث إنه من أخبار الآحاد والتي لا تفيد القطع، وإنما تفيد مجرد الظن، وهذا لا ينهض دليلًا للاحتجاج به في إثبات القبلة.
٨محاولة ترجيح أحد الدليلين على الآخر:الأدلة متقاربة ومتساوية في الحجة، ولا يمكن ترجيح أحد الدليلين على الآخر بدون مسوغ أو مرجح.
٩تفريق الأحكام إذا تعذر ترجيح أحد الدليلين على الآخر:

(1) (2)

1٦ تحفة المحتاج في شرح المنهاج، (١/ ٤٨٣، ٤٨٤).

2٧ ينظر: تحفة المحتاج في شرح المنهاج، (٤/ ٨٠).

يتخذ المفتي مذهبًا وسطًا بين الدليلين، فيعطي أحكامًا في بعض الفروع طبقًا لأحد الأصلين، بينما يعطي أحكامًا أخرى في فروع غيرها طبقا للأصل الآخر، ففي هذه المسألة يمنع الطواف داخل الحجر نظرًا لكونه من البيت كما في الحديث، ويمنع الصلاة إليه على الرغم من كونه من البيت؛ لأن الحديث آحاد لا يفيد القطع؛ ولا بد من القطع في استقبال القبلة؛ لأن العبادة مبناها الاحتياط، وبذلك يدفع الاشتباه، قال ابن حجر الهيتمي في حديثه عن شروط الصلاة: «(استقبال) عين (القبلة) أي الكعبة وليس منها الحجر، وَالشَّاذَرْوَانُ؛ لأن ثبوتهما منها ظني وهو لا يكتفى به في القبلة» (٦).

وقال أيضا عن الطواف داخل الحجر: «(أو دخل من إحدى فتحتي الحجر)، وهو بكسر أوله ما بين الركنين الشاميين، عليه جدار قصير بينه وبين كل من الركنين فتحة… (وخرج من الأخرى) أو وضع أنملته على طرف جدار الحجر القصير كما يفعله كثير من العامة (لم تصح طوفته) أي بعضها الذي قارنه ذلك المس أو الدخول؛ لأنه حينئذٍ طائف في البيت لا به» (٧).

المعارف والتدريب اللازمان لاكتساب المهارة:

  1. الحصول على قسط وافر من التدريب العملي على الإفتاء؛ حيث تتطور الملكة والمهارة بملازمة المفتين ذوي الخبرة.
  2. الاطلاع الواسع على كتب الخلاف الفقهي والمذاهب الفقهية.
  3. مداومة النظر في الكتب التي تعنى بالتفرقة بين المسائل المتناظرة والمتشابهة، وكتب تخريج الفروع على الأصول، وخاصة ما اهتم منها بالشق التدريبي والتطبيقي كالتمهيد للإسنوي.

المهارات المتعلقة:

  1. مهارة تخريج الفتوى على القواعد الأصولية.
  2. مهارة تخريج الفتوى على القواعد الفقهية.
  3. مهارة تحليل الفتوى.

1 انظر: حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (٦/ ٢٦٢).

2 متفق عليه: أخرجه البخاري، (٢٠٥٣)، ومسلم، (١٤٥٧).

3 فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر (١٢/ ٣٨).

4 أخرجه الترمذي، (١١٠٢).

5 أخرجه الترمذي، (٩٦٠) والنسائي، (٢٩٢٢).

6 المجموع شرح المهذب (٣/ ١٩٢، ١٩٣).

7 أسنى المطالب في شرح روض الطالب، (٣/ ١٤٩).

8 فتوى دار الإفتاء المصرية، رقم الفتوى: ١٩٦ لسنة ٢٠١١م.

مهارة «تحرير الحقيقة العرفية»

٤

 

من الأمور التي اعتبرها الشرع في تقرير الأحكام العرف، قال تعالى:﴿ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﴾[الأعراف: ١٩٩].

وقد راعى الشرع أعراف الناس وأحوالهم في التشريع، وعلى المتصدر للإفتاء أن يراعي ذلك في الفتوى لا سيما الأحكام التي تبنى على العرف كالأيمان والنذور، كما جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي «قاعدة الأيمان: البناء على العرف إذا لم يضطرب، فإن اضطرب فالرجوع إلى اللغة»(1).

بل إن العلماء قد بينوا أن المعنى العرفي يقدم على الشرعي في بعض الأحوال كما بين السيوطي فقال: «فصل: في تعارض العرف مع الشرع. هو نوعان: أحدهما: أن لا يتعلق بالشرع حكم، فيقدم عليه عرف الاستعمال، فلو حلف لا يأكل لحمًا؛ لم يحنث بالسمك، وإن سماه الله لحمًا، أو لا يجلس على بساط أو تحت سقف أو في ضوء سراج، لم يحنث بالجلوس على الأرض، وإن سمَّاها الله بساطًا، ولا تحت السماء وإن سماها الله سقفًا، ولا في الشمس وإن سماها الله سراجًا، أو لا يضع رأسه على وتد لم يحنث بوضعها على جبل، أو لا يأكل ميتة أو دمًا لم يحنث بالسمك والجراد والكبد والطحال، فقدم العرف في جميع ذلك؛ لأنها استعملت في الشرع تسمية بلا تعلق حكم وتكليف.

والثاني: أن يتعلق به حكم، فيقدم على عرف الاستعمال، فلو حلف لا يصلي؛ لم يحنث إلا بذات الركوع والسجود، أو لا يصوم لم يحنث بمطلق الإمساك، أو لا ينكح حنث بالعقد لا بالوطء»(2) .

فوجب على المفتي أن يكون على دراية بالدلالة العرفية لكلام المستفتين، لتعلق بعض الأحكام بها، وتأثيرها في تكييف الفتوى، وأن يراعي تغير الأعراف عند إصداره للفتوى في الأحكام التي تبنى على العرف.

والذي يعنينا في هذه المهارة هو أن يكون المفتي قادرًا على تحديد المعنى العرفي المراد في كلام السائل حال تعدد المعاني العرفية، ولا يكتفي بظاهر الكلام.

التعريف بالمهارة:

هي قدرة المتصدر للفتوى على تحديد المعنى العرفي المراد من كلام المستفتي وتميزه عن غيره من المعاني عند الاشتراك.

الأصل الشرعي للمهارة:

تستند هذه المهارة إلى القواعد الفقهيَّة التالية:

  1. العادة محكمة.
  2. كل ما لا ضابط له في اللغة ولا في الشرع مرده إلى العرف.

وقد استندت هذه القواعد إلى أدلةٍ شرعيَّة بنيت عليها.

رتبة المتصدر للفتوى:

يلزم تحقق هذه المهارة لكل من يقوم بالإفتاء المباشر.

النطاق الفقهي للمهارة:

تدخل هذه المهارة في نطاق الإفتاء المباشر الذي يتمكن فيه المفتي من التحقيق مع السائل، خاصة أبواب:

  1. الأيمان والنذور.
  2. الوقف.
  3. الوصيَّة.
  4. الأطعمة والأشربة.
  5. الذبائح.

خطوات إعمال المهارة:

إذا عرضت على لسان المستفتي لفظة تحتمل أكثر من معنى في عرف السائل فعلي المتصدر مراعاة ما يلي:

  1. تعيين اللفظ من كلام المستفتي.
  2. تحديد دلالة اللفظ اللغويَّة والشرعيَّة والعرفيَّة.
  3. تتبع معنى اللفظ في عرف السائل والتأكد منه.
  4. شرح المعنى الشرعي إن احتاج المستفتي ذلك.
  5. تحديد المعنى العرفي للكلمة في مراد السائل وإجابته على سؤاله.

المثال التطبيقي:

المثال: ورود كلمة (فدو) على لسان المستفتي

ترد كلمة (فدو) على لسان المستفتين بمعان مختلفة، فتارة يقصد بها مطلق القربة، وتارة يقصد بها العقيقة، ومرة يقصد بها الأضحية، ومرة تأتي بمعنى الفدية أو الهدي في النسك، وأخرى يقصد بها النذر.

نص سؤال المستفتي: يا شيخ أنا سوف أقوم بعمل فدو، فهل يجوز لي أن آكل منه؟

الجواب يتوقف على تحديد المراد بكلمة «فدو»، وإلا سيحتاج المفتي التشقيق والإجابة على كل الصور التي تحتملها كلمة فدو، ولا يخفى ما في هذا من الإطالة وإهدار الجهد.

كيفية تطبيق الخطوات الإجرائية على هذا المثال:

مالخطــــــواتالتطبيــــق
١تعيين اللفظ من كلام المستفتي.اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى في عرف السائل هو «فدو».
٢تحديد دلالة اللفظ اللغوية والشرعية والعرفية:من حيث اللغة كلمة (فدو) عامية ولعلها تحريف كلمة (فدية أو فداء).
ومن حيث العرف تستعمل كلمة «فدو» على ألسنة المستفتين بمعنى: النذر- القربة- العقيقة- الأضحية- الهدي في النسك.
٣تتبع معنى اللفظ في عرف السائل والتأكد منه:ويتم ذلك من خلال محاولة فهم المعنى المراد من سياق كلام المستفتي، أو من خلال توضيحه للمقصود بالفدو، أو بسؤال المستفتي عما يقصده بهذا اللفظ، فاتضح أنه يقصد به النذر مثلا.
٤شرح المعاني الشرعية للمستفتي إن لزم ذلك:إن تردد المستفتي بين معنيين من المعاني الشرعية يشرح له المفتي كل معنى مبينًا أوجه الاختلاف بين المعنيين، بأن يبين له معنى النذر، ولو كان لا يستطيع التفريق بينه وبين العزم على فعل قربة من القربات فرق له بينهما.
٥تعيين المعنى الذي يقصده المستفتي، وإجابته على ذلك.إذا تبين أن المعنى الذي يقصده المستفتي هو النذر فإن الإجابة أن النذر يكون كله للفقراء والمساكين، ولا يجوز للناذر أن يأخذ منه شيئًا.

المعارف والتدريب اللازمان لاكتساب المهارة:

  1. معايشة المفتي لأهل زمانه ليتعرف على عاداتهم في أمور حياتهم المختلفة، والتي منها معاني بعض الكلمات في عرفهم.
  2. كثرة الأسفار ومخالطة أهل البلدان المختلفة.
  3. مجالسة المفتين المتمرسين في الفتوى والتدرب على أيديهم.
  4. دراسة قاعدة «العادة محكمة» من كتب القواعد الفقهية.

المهارات المتعلقة:

  1. مهارة مراعاة تغير العرف.
  2. مهارة إدراك الواقع.
  3. مهارة تصوير الفتوى.

1 الأشباه والنظائر، السيوطي (ص٩٥).

2 الأشباه والنظائر، (ص٩٣).

مهارة تجنب الجمود على المنقول

٥

 

التراث الفقهي الضخم على شتى مذاهبه ومدارسه حصيلة زمن ممتد عبر قرون متتابعة، فمع تراكم السنين أنشئ هذا الصرح التشريعي الذي تفتخر به أمتنا الإسلامية، وهو منجم للفقهاء والمفتين يجدون فيه بغيتهم، ويستهدون بالتخريج عليه عند الحاجة في شتى النوازل والمسائل المستجدة، ولكن العلماء الراسخين يتعاملون معه وفق ضوابط وآليات معينة ليست عند غيرهم، وكثيرًا ما نشاهد من غير المتخصصين من يستشهدون بجزئيات من هذا التراث ويسقطونها على واقع مختلف، أو بعدم تمييز لعلل الأحكام ويخرجون بأحكام عجيبة نافرة عن الواقع المعيش كل المنافرة، وما ذلك إلا لعدم وجود آلية التمييز بين الثابت والمتغير عبر الزمان، فالتراث الفقهي ثمرة تفاعل المجتهدين مع مصدري المعرفة الرئيسيين: القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهذا التفاعل له واقع تاريخي، منه ما لا يتغير به، ومنه ما يتغير، كما في الأحكام المترتبة على العوائد، فإنها تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت.

قال القرافي المالكي في الفروق: «وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين» (1).

وَعَقَّب عليه ابن القيم الحنبلي بقوله في إعلام الموقعين: «وهذا محض الفقه، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأَضَلَّ، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان»(2) .

وكذا نبَّه عليه ابن عابدين الحنفي فقال: «إن كثيرًا من الأحكام التي نصَّ عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان… إما للضرورة، وإما للعرف، وإما لقرائن الأحوال، وكل ذلك غير خارج عن المذهب؛ لأن صاحب المذهب لو كان في هذا الزمان لقال بها» (3).

التعريف بالمهارة:

هي قدرة المتصدر للفتوى على التمييز بين ما هو صالح للعمل والفتيا من الكتب الفقهية، مما يتعذر معه العمل والفتيا به، بسبب تغير الزمان.

رُتبة المتصدر للفتوى:

من اللازم تحقق هذه المهارة لأعضاء «مجلس أمانة الفتوى» الذين ترفع إليهم الوقائع الجديدة للبت فيها بحُكمٍ، وكل مَن يضع معتمدات المؤسسة الإفتائية.

النطاق الفقهي للمهارة:

تدخل هذه المهارة في الإفتاء في المسائل التي للعرف والعادة فيها دخل كبير، والمسائل التي تخضع للتطور العلمي، مما ينتج عنه تغير في تصور وتكييف المسألة، وتنزيل الحكم على الواقع.

خطوات إعمال المهارة:

المتصدِّر للفتوى المعني إذا عُرضت عليه فتوى في النطاق المذكور ينبغي عليه عند النقل من الكتب الفقهية في المسألة مراعاة ما يلي:

  1. تعيين المسألة.
  2. تعيين مظانها من الكتب الفقهية.
  3. جمع الأقوال الفقهية المتعلقة بالمسألة.
  4. طرح الكتب غير المعتمدة في المذهب إذا كان النقل من أحد المذاهب الأربعة (انظر مهارة الفتوى وفق معتمد المذهب).
  5. التحقق من ثبوت الحكم لقائله ومن عدم شذوذه إذا كان النقل خارج المذاهب الأربعة. (انظر مهارة تجنب الشذوذ في الفتوى).
  6. معرفة أدلة الأقوال.
  7. فحص الأدلة من حيث:
    • القوة والضعف.
    • مبناها على عرف معين فيتحقق من وجوده وتغيره.
    • مبناها على سد ذريعة فيتأكد من تحققها وتوهمها.
    • مبناها على قاعدة أو أصل فينظر أهو متفق عليه أم مختلف فيه؟
  8. فحص واقع المسألة القديم ومعرفة ما طرأ عليه (الواقع الجديد).
  9. مراعاة المآل (انظر مهارة معرفة مآلات الفتوى).
  10. تقرير الحكم بعد مراعاة الاعتبارات المتقدمة.

المثال التطبيقي:

المثال: حكم ختان الإناث

السؤال

ورد للجمعية المصرية للدفاع عن حقوق الإنسان والبيئة استفسارات عديدة عن حكم ختان الإناث، ولما كان هناك تضارب وتمويل من جهات مانحة عديدة عملت في الفترة السابقة على الترويج لتحريم ختان الإناث، وهناك بعض السادة المشايخ يقرون بعكس ذلك؛ مما يجعلنا غير قادرين على إبداء الرأي الشرعي، لذلك نأمل التفضل من فضيلتكم إفادتنا بالفتوى تجاه هذا الموضوع.

الجواب

الصحيح أن ختان الإناث من قبيل العادات وليس من قبيل الشعائر، فالذي هو من قبيل الشعائر إنما هو ختان الذكور باتفاق.

قال الإمام ابن الحاج في «المدخل»: «واختُلف في حَقِّهنَّ: هل يخفضن مطلقًا، أو يُفرق بين أهل المشرق وأهل المغرب؟»(4).

ويقول الإمام الشوكاني في «نيل الأوطار»(5): «ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج به فهو لا حُجَّةَ فيه على المطلوب».

ويقول شمس الحق العظيم آبادي في «عون المعبود»(6): «وحديث ختان المرأة رُوي من أوجه كثيرة، وكلها ضعيفة معلولة مخدوشة لا يصح الاحتجاج بها.

وقال ابن المنذر: ليس في الختان -أي للإناث- خبرٌ يُرجَع إليه ولا سُنَّةٌ تُتَّبَع.

وقال ابن عبد البر في «التمهيد»: والذي أجمع عليه المسلمون أن الختان للرجال. انتهى والله أعلم».

فدل كل ذلك على أن قضية ختان الإناث ليست قضية دينية تعبدية في أصلها، ولكنها قضية ترجع إلى الموروث الطبي والعادات.

وبعد البحث والتقصي وجدنا أن هذه العادة تُمارَس بطريقة مؤذية ضارَّة تجعلنا نقول إنها حرام شرعًا.

ولقد عبَّر عن هذا جماعة كثيرة من العلماء بعد بحوث مستفيضة طويلة وبعبارات مختلفة:

منهم المرحوم الشيخ/ محمد عرفة، عضو جماعة كبار العلماء، في مقال له في مجلة الأزهر رقم ٢٤ لسنة ١٩٥٢م في صفحة ١٢٤٢، حيث قال: «فإذا ثبت كل ذلك فليس على من لم تختتن من النساء من بأس»، ثم استطرد فقال: «وإذا مُنِعَ في مصر كما مُنِع في بعض البلاد الإسلامية كتركيا وبلاد المغرب فلا بأس، والله الموفق للصواب».

وفي فتوى له يقول فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور/ محمد سيد طنطاوي: «أما بالنسبة للنساء فلا يوجد نص شرعي صحيح يُحتَجُّ به على ختانهن، والذي أراه أنه عادة انتشرت في مصر من جيل إلى آخر، وتوشك أن تنقرض وتزول بين كافة الطبقات ولا سيما طبقات المثقفين»، ثم يقول: «فإننا نجد معظم الدول الإسلامية الزاخرة بالفقهاء قد تركت ختان النساء؛ ومن هذه الدول السعودية، ومنها دول الخليج، وكذلك دول اليمن والعراق وسوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين وليبيا والجزائر والمغرب وتونس».

ولعل سائلا يسأل: لم استمرت هذه العادة؟

فنقول: إنها استمرت عند عدم ظهور ضررها، أما وقد ظهر ضررها وقرره أهل الطب فمنعُها حينئذٍ واجبٌ، وحدوث الأضرار منها أصبح يقينيًّا؛ لاختلاف الملابس وضيقها، وانتشار أساليب الحياة الحديثة وسرعتها، وتلوث البيئة، واختلاف الغذاء والهواء ونمط الحياة، وتقدم الطب الذي أثبت الضرر قطعًا، بل واختلاف تحمُّل الجسد البشري للجراحات ونحو ذلك.

والمطَّلِع على كتب سلفنا الصالح يتبين حقيقة هذه العادة -حتى عند القائلين بأن ختان الإناث شعيرة كختان الذكور- مِنْ أنها مجرد إحداث جرح في جلدة تكون في أعلى الفرج دون استئصال هذه الجلدة.

قال الماوردي: «هو قطع جلدة تكون في أعلى الفرج كالنواة أو كعرف الديك، قطع هذه الجلدة المستعلية دون استئصالها» انتهى من فتح الباري(7).

وقال النووي في «المجموع»(8): «هو قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج».

ومن هنا يتبين أن القطع معناه الشق وليس الاستئصال، وهو ما يدل عليه الحديث الضعيف ((أَشِمِّي ولا تَنْهِكي))، وهذا يحتاج إلى جرَّاح تجميل متخصص في مسألة أصبحت في عصرنا الحاضر بملابساته ضارَّةً على الجسم البشري قطعًا، دون حاجة إليها شرعًا.

ولقد أحال كثير من الناس الأمر إلى الأطباء، ولقد جزم الأطباء بضررها، فأصبح من اللازم القولُ بتحريمها.

وعلى الذين يعاندون في هذا أن يتقوا الله تعالى، وأن يعلموا أن الفتوى تتصل بحقيقة الواقع، وأن موضوع الختان قد تغير وأصبحت له مضارّ كثيرة: جسدية ونفسية؛ مما يستوجب معه القولَ بحرمته والاتفاق على ذلك، دون تفرق للكلمة واختلافٍ لا مبرر له.

إن المطَّلع على حقيقة الأمر لا يسعه إلا القولُ بالتحريم(9).

كيفية تطبيق الخطوات الإجرائية على هذا المثال:

مالخطــــــواتالتطبيــــق
١تعيين المسألةختان الإناث.
٢تعيين مظانها من الكتب الفقهيةتذكر في كتاب الطهارة، وباب العقيقة من كتب الفقه.
٣جمع الأقوال الفقهية المتعلقة بالمسألةفي المسألة ثلاثة أقوال:

الأول: الوجوب عند الشافعية. والثاني: السنية أو الاستحباب عند الحنفية والمالكية. والثالث: مكرمة عند الحنابلة.

٤معرفة أدلة الأقوال:

(1) (2) (3)

1 أخرجه أبو داود، (٥٢٧١).

2 أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٢٦٤٦٨)، والطبراني في معجمه الكبير (٧١١٢).

3 أخرجه ابن ماجه، (٦١١).

أدلة هذه الأقوال من الحديث، وهي تدور حول ثلاثة أحاديث؛ الأول: عن أم عطية أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها رسول الله ﷺ: ((لَا تُنْهِكِي فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلمَرْأَةِ وَأَحَبُّ إِلَى البَعْلِ)) رواه أبو داود(١).
والثاني: عن شداد بن أوس أن رسول الله ﷺ قال: ((الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مَكْرمَةٌ لِلنِّسَاءِ)) أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني(٢).

والثالث: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا التَقَى الْخِتَانَانِ، وَتَوَارَتِ الْحَشَفَةُ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل)) رواه ابن ماجه(٣).

٥فحص الأدلة:الأدلة لا تنهض للحجيَّةِ؛ فالحديث الأول ضعفه أبو داود بعد روايته، وأعلَّه بمحمد بن حسان، فقال: إنه مجهول ضعيف، والحديث الثاني أيضًا ضعيف، فقد قال ابن عبد البر في التمهيد: هذا الحديث يدور على حجاج بن أرطأة وليس ممن يحتج به، وقال في عون المعبود: «حديث ختان المرأة روي من أوجه كثيرة وكلها ضعيفة معلولة مخدوشة لا يصح الاحتجاج بها كما عرفت، وقال ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع».

والحديث الثالث وإن صح فهو لا تسلم دلالته على ختان الأنثى؛ لأن التثنية في اللغة ترد لجمع الأمرين باسم أحدهما على سبيل التغليب، كما أطلقوا القمرين: على الشمس والقمر، والعمرين: على أبي بكر وعمر.

٦فحص واقع المسألة القديم ومعرفة ما طرأ عليه (الواقع الجديد).بغض النظر عن ضعف الأدلة، فإن الفقهاء الذين أوجبوه أو أجازوه قد تكلموا بناءً على المعارف الطبيَّة في وقتهم، والفتوى تتصل بحقيقة الواقع، وموضوع الختان قد تغير، فالختان الذي يمارس الآن أصبحت له مضار جسدية ونفسية، وهذا ما كشفت عنه الممارسات في السنوات الأخيرة، وهذا ما جزم به الأطباء، مما يستوجب معه القول بحرمته.
٧مراعاة المآل:الختان الذي أقره الفقهاء قديمًا كان يتم بقطع الجلدة التي تكون في أعلى الفرج كعرف الديك، وهذا القطع معناه الشق، وليس الاستئصال. على النحو المبين في الفتوى، وأما الصور التي تتم في الواقع فهي في أغلبها استئصال من العضو الأنثوي حتى يكاد أن يكون كاملا في بعضها، وهو عدوان يستوجب القصاص والدية.
٨تقرير الحكم بعد مراعاة الاعتبارات المتقدمةتحريم الختان في هذا العصر هو القول الصواب الذي يتفق مع مقاصد الشرع ومصالح الخلق.

ويتأكد التحريم عندما نجد أن هذه العادة تمارس بطريقة مؤذية ضارة، بحيث لو لم يكن ختان الإناث حرامًا لوجب تحريمه سدًّا للذريعة المفضية إلى الأذى والضرر.

المعارف والتدريب اللازمان لاكتساب المهارة:

  1. معرفة الواقع ومعايشته ومعرفة ما يستجد فيه من الأحوال والمعارف الجديدة التي من شأنها أن تؤثر في الفتوى وتغيرها.
  2. المعرفة الجيدة بأصول الفقه والتمهر بتخريج الفروع عليها.
  3. الجلوس مع أهل الفتوى المتقنين، والتدرب على أيديهم لفترة كافية، وملاحظة تعاملهم مع السائلين وكتابة الفتاوى التي تصدر منهم، ثم مقارنتها مع المسطور في الكتب الفقهية، ثم مناقشتهم لها معهم في حال المخالفة بينهما.

المهارات المتعلقة:

  1. مهارة تجنب الشذوذ في الفتوى.
  2. مهارة مراعاة المآلات.
  3. مهارة إدراك الواقع.
  4. مهارة تخريج الفتوى على القواعد الفقهية.
  5. مهارة تخريج الفتوى على القواعد الأصولية.

1 الفروق (١/ ١٧٦، ١٧٧).

2 إعلام الموقعين عن رب العالمين (٣/ ٦٦).

3 انظر: رسالة «شرح منظومة عقود رسم المفتي»، للعلامة ابن عابدين، ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين(ص٤٤، ٤٥).

4 المدخل، ، ابن الحاج (٣/ ٢٩٦).

5 نيل الأوطار، (١/ ١٤٦).

6 عون المعبود شرح سنن أبي داود، (١٤/ ١٢٦).

7 فتح الباري شرح صحيح البخاري، (١٠/ ٣٤٠).

8 انظر: المجموع شرح المهذب (١/ ٣٠٢).

9 فتوى دار الإفتاء المصرية بتاريخ ٢٨/١١/٢٠١١، برقم مسلسل (٤٦٧٨)

مهارة تجنب الشذوذ في الفتوى

٦

 

لكل علم ثوابت يقوم عليها ذلك العلم، بحيث إذا خالفها مخالف فهو هادم لذلك العلم، ناقض لصرحه، شاذ بين علمائه، والفتوى كعلم لها أصول وضوابط حاكمة للعملية الإفتائية لا يجوز الخروج عليها، وإلا يقع مخالفها في الشذوذ، ومادة (شذذ) تدل على الانفراد والمفارقة كما قال ابن فارس في المقاييس(1)، فشذ يشذ -بضم الشين وكسرها- شذًّا وشذوذًا؛ انفرد عن الجمهور وخرج عنهم، قال الخليل بن أحمد(2) : «شذ الرجل إذا انفرد عن أصحابه، وكذلك كل شيء منفرد فهو شاذ».

ومن هنا أتى هذا المصطلح «الشذوذ في الفتوى»، يقول القرافي(3) : «كل شيء أفتى فيه المجتهد فخرجت فُتياه فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله تعالى، فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه، وما لا نقره شرعًا بعد تقرره بحكم الحاكم أولى أن لا نقره شرعًا إذا لم يتأكد، وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعًا، والفتيا بغير شرع حرام، فالفتيا بهذا الحكم حرام وإن كان الإمام المجتهد غير عاصٍ به بل مثابًا عليه؛ لأنه بذل جهده على حسب ما أمر به، وقد قال النبي عليه الصلاة السلام: ((إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران))، فعلى هذا يجب على أهل العصر تفقُّد مذاهبهم، فكل ما وجدوه من هذا النوع يحرم عليهم الفتيا به، ولا يَعْرَى مذهب من المذاهب عنه، لكنه قد يقل وقد يكثر غير أنه لا يقدر أن يعلم هذا في مذهبه إلا من عرف القواعد والقياس الجلي والنص الصريح وعدم المعارض لذلك، وذلك يعتمد تحصيل أصول الفقه والتبحر في الفقه، فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جدًّا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلًا… ولاعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتوى، فتأمل ذلك فهو أمر لازم)).

وقد يشذ العالم في مسألة بعد استفراغ جهده ووسعه فهو مثاب على اجتهاده، ولكن يمنع من تقليده ما دام قد حكم العلماء بشذوذه في المسألة، وأما أن يتعمد بعضهم جمع الشذوذات ونشرها بين الناس فهذا محرم آثم فاعله.

التعريف بالمهارة:

هي قدرة المتصدر للفتوى على إخراج فتواه صحيحة سالمة من الشذوذ؛ وذلك باجتنابه الأسباب التي توقعه فيه.

الأصل الشرعي للمهارة:

أدلة وجوب مجانبة الشذوذ في الفتوى ثابتة بالكتاب والسنة:

  1. الدليل من الكتاب قوله تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا} [الإسراء: ٣٦]، قال الزمخشري: «يعني: ولا تكن في اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل، كمن يتبع مسلكًا لا يدري أنه يوصله إلى مقصده فهو ضال؛ والمراد: النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم»(4).

ومن لم يعلم الأسباب التي تُوقِعُه في الشذوذ في فتياه يفتي بلا علم.

  1. ومن السنة ما أخرجه الإمام أبو داود عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ))(5)، وفي رواية: ((الشَّاذَّةَ))(6)، فَشَبَّهَ ﷺ استيلاء الشيطان على المنفرد عن الجماعة، وتمكنه منه باستيلاء الذئب على المنفردة عن الغنم، وفيه إشارة إلى لزوم الجماعة العلمية وعدم الخروج عليها بغير علم.

رُتبة المتصدر للفتوى:

من اللازم تحقق هذه المهارة لكل أمين فتوى، وكل مَن يضع معتمدات المؤسسة الإفتائية.

النطاق الفقهي للمهارة:

تدخل هذه المهارة في الإفتاء في جميع أبواب الفقه الإسلامي، إلا أنها تشتد الحاجة إليها عند الفتوى في الشأن العام.

خطوات إعمال المهارة:

لتجنُّب الشذوذ في الفتوى ينبغي على المتصدر بعد تصوير وتكييف المسألة مراعاة ما يلي:

  1. تعيين الحكم في المسألة.
  2. التحقق من عدم مخالفة الحكم لما يلي:
    • الإجماع.
    • نص شرعي قطعي الثبوت قطعي الدلالة سالم من المعارض.
    • أصل متفق عليه.
    • قاعدة متفق عليها.
  3. تحرير الواقع (ينظر مهارة إدراك الواقع).
  4. مراعاة الحكم للواقع بتنزيله عليه (ينظر مهارة تنزيل الفتوى).
  5. تحديد ما تئول إليه الفتوى (ينظر مهارة اعتبار المآلات).
  6. تقرير الحكم بعد مراعاة ما سبق.

المثال التطبيقي:

المثال: حكم وقوع الطلاق بدون إشهاد عليه.

السؤال:

هل يجوز الإفتاء لرجل طلق زوجته طلقة ثالثة بدون إشهاد بجواز الرجوع إليها؛ لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، واتباعًا لرأي الشيعة الإمامية في عدم وقوع الطلاق بدون إشهاد؟

الجواب

إن الإشهاد على الطلاق ليس شرطًا في صحة الطلاق، وذلك بإجماع أهل العلم، فلم يقل أحد من العلماء بأن الطلاق من غير إشهاد لا يقع.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد ظن بعض الناس أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع، وهذا خلاف الإجماع وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به)(7).

وقال الإمام الشوكاني: (قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق كما حكاه الموزعي في تيسير البيان، والقائلون بعدم الوجوب يقولون بالاستحباب)(8).

والمقصود بالإشهاد في الآية الكريمة هو الإشهاد على الرجعة.

يقول الطبرى فى تفسيره: (وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ، وذلك هو الرجعة)(9).

وكذلك قال القرطبي: (قوله تعالى: {وأَشْهِدُوا} أمر بالإشهاد على الطلاق. وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق)(10).

وبناء على ما تقدم فلا يجوز الإفتاء بالقول المذكور؛ لأنه شاذ لا يفتى به.

كيفية تطبيق الخطوات الإجرائية على هذا المثال:

مالخطــــــواتالتطبيــــق
١تعيين الحكم في المسألة:الحكم في وقوع الطلاق بدون إشهاد عليه
٢التحقق من عدم مخالفة الحكم للنصوص القطعية والأصول المتفق عليها:الحكم بأن الطلاق الصريح الذي لا يكون فيه إشهاد لا يقع حكم مخالف للإجماع؛ فقد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق.
كما أن الحكم بعدم وقوع الطلاق الذي لم يحصل الإشهاد فيه مخالف لقاعدة اتفق عليها الأصوليون، وهي أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وتفصيل ذلك: أن النصوص القرآنية التي وردت بإباحة الطلاق وردت مطلقة غير مقيدة بالإشهاد، وهذه النصوص هي: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: ١]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: ٤٩]، وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: ٢٣١].

فالطلاق في الآيات السابقة بيد الزوج، وهو حق من حقوقه يوقعه متى شاء وكيفما شاء دون حاجة إلى الإشهاد؛ إذ لو كان الإشهاد واجبًا لذكر مقترنًا بالطلاق، ولَأَمر الله تعالى به في الآيات التي ذكرت الطلاق، لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.

٣تحرير الواقع.الواقع أنه قد جرت عادة الناس منذ مئات السنين على أنهم لا يُشهدون على الطلاق.
٤مراعاة الحكم للواقع بتنزيله عليه.الحكم بعدم وجوب الإشهاد في الطلاق يراعي الواقع.
٥تحديد ما تئول إليه الفتوى:١-إن الإفتاء باشتراط الإشهاد لصحة الطلاق لا يستقيم على الرأي الفقهي الذي يقول: إن الطلاق البدعي في الحيض أو في الطهر الذي حصلت فيه المعاشرة الزوجية لا يقع؛ لأن الشهود لا يمكنهم أن يشهدوا بأن الطلاق وقع في حالة الطهر الذي لم تحصل فيه المعاشرة الزوجية؛ لأنه لا يُعرف إلا من جهة المرأة في الحيض، ومن جهة الزوجين في المعاشرة، وقول المرأة: إن الطلاق حصل في أيٍّ منهما يهدد قول المطلِّق وشهادة الشهود جميعًا، وهذا يقتضي أن يعيد الزوج الطلاق المرة تلو المرة إلى أن تقول الزوجة: إنه وقع في الطهر، وهذا يؤدي إلى إطالة أمر النفقة على الزوج وهو مصمم على الطلاق، وفي ذلك عدوان أي عدوان على حقه، وإذا عاشرها وهو يعلم أنه كان طلقها في ثلاثة أطهار عاشرها معاشرة غير شرعية لا يثبت معها نسب ولا إرث في نفس الأمر، وقول المرأة فيما لا يُعرف إلا من جهتها مقصور على ما يخصها فتعدية ذلك للآخرين أمر يأباه الشرع.

٢-أن الإشهاد إما أن يكون بعد التلفظ بالطلاق أو أثناءه، فإذا كان أثناءه فعلى قول من يشترطه فإن جمهور الناس لم يقع طلاقهم عبر السنين إذا أنهم لايجدون شهودًا عدولًا عند قيام المقتضي عندهم في أنفسهم لإيقاع الطلاق، فكيف لا يبين الرسول صلى الله عليه وسلم ثم جمهور السلف أن ذلك شرط بكلام واضح يفهمه كل أحد، وجمهور العلماء من بعدهم لم يخطر هذا على بالهم أثناء ضبط واقعة الطلاق وهو أنه شرط فلم يسألوا عنه فأين غاب هذا القول عنهم؟.

وإما أن تكون الشهادة على الطلاق بعد وقوعه فهذا وقع وانتهى أمره فكيف يكون شرطًا للوقوع بعد فكونها بعد إذن إشهاد على شيء تم وانقضى لإثبات تلفظه به.

٦تقرير الحكم بعد مراعاة ما سبق:الطلاق بدون إشهاد عليه واقع باتفاق جمهور أهل العلم، وإن كان هذا لا يعارض استحباب الإشهاد؛ إذ أن فائدته هي التوثيق خشية وقوع التجاحد والإنكار ولئلا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية فيرث.

المعارف والتدريب اللازمان لاكتساب المهارة:

  1. الاطلاع الواسع على القواعد الفقهية والتمرُّس على الكتب المصنفة فيها.
  2. التبحُّر في أصول الفقه.
  3. معرفة أسرار الشريعة ومقاصدها الكلية؛ فهذا مما يعين صاحبها على تفهُّم النصوص على وجهها الصحيح.

المهارات المتعلقة:

  1. مهارة إدراك الواقع.
  2. مهارة تنزيل الفتوى.
  3. مهارة معرفة المآلات.

1 انظر: معجم مقاييس اللغة، (٣/ ١٨٠)، مادة «شذذ».

2 معجم «العين»، الخليل بن أحمد (٦/ ٢١٥).

3 الفروق، (٢/ ١٠٩).

4 الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الزمخشري (٢/ ٦٦٦).

5 أخرجه أبو داود، (٥٤٧).

6 أخرج هذه الرواية الإمام أحمد في مسنده (٢٧٥١٣) .

7 انظر: مجموع الفتاوى، (٣٣/٣٣).

8 انظر: نيل الأوطار (٦/ ٣٠٠).

9 جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري (٢٣/ ٤٤٤).

10 الجامع لأحكام القرآن، (٢١/ ٤٠).

اترك تعليقاً