البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

دليل مهارات الفتوى والإفتاء

مدخل عن المهارات الإفتائية

88 views

أولًا: تعريف المهارة:

١. المهارة لغة:

اتفقت كتب اللغة على أن المهارة: هي الحذق في الشيء، والماهر فيه: هو الحاذق فيه المتقن له، قال الجوهري في الصحاح(1) : « المهارة: الحذق في الشيء»، قال الأزهري في التهذيب(2) : «وأكثر ما يوصف به السابح، وقال الأعشى:

مــــــــــــــــــــثــــل الفــــــــــــــــــــــــــــــراتي إذا مــــــــــــــــــا طـــــــــــــــــمـــــايـــقــــــــــــــــــــــذف بالــــبُوصِـــــــــــــــــــيِّ والــمـــــــاهِــــــــــــــــــــــــرِ

يريد السابح».

قال الزمخشري في الأساس(3) : «مهر في الصناعة وتمهّر فيها ومهرها ومهر بها، وهو ماهر بيّن المهارة، وخطيب ماهر، وسابح ماهر، وقوم مهرة، وتمهّر فلان: سبح».

وفي الحديث(4)((مَثَلُ الْمَاهِرِ بِالقرآنِ مَثَلُ الكِرام السَّفَرَة البَرَرَة)) قال ابن الأثير في النهاية : «الماهر الحاذق في قراءة القرآن»، والحاذق في قراءة القرآن هو المقيم لحروفه المتقن لأحكام التجويد.

٢. المهارة اصطلاحًا:

تدور تعريفات العلماء في التخصصات المختلفة على أن المهارة هي: زمرة من العلوم والخبرات والمعارف المختلفة والتي تتسم بطابع التراكمية والا كتساب تنطبع على سلوك الفرد بحيث يستطيع إنجاز المراد منه بجودة وإتقان، وسهولة ويسر، ويكون هذا وفق خطوات إجرائية متسلسلة ومنظمة.

فمفهوم المهارة عند العلماء قائم على أمرين أساسيين:

أولًا: أن تكون المهارة موجهة نحو تحقيق وبلوغ هدف معين كتعلُّم صنعة أو حرفة أو مهنة معينة.

ثانيًا: أن تكون وفق خطوات إجرائية محددة ومنظمة؛ بحيث يستطيع الفرد أن يكتسبها ويتدرب على تعلُّمها وممارستها، فتصير بالتكرار سجية لسلوكه، فيؤديها بسهولة ويُسْر دونما تكلُّف ومشقة، مما يؤدي إلى توفير الكثير من الجهد والوقت.

ثانيًا: أنواع المهارات على سبيل الإجمال:

  1. المهارات العقلية (المعرفية):وهي تلك المهارات التي يغلب عليها العقل كمهارة التأليف ومهارة الاستنباط ومهارة القراءة.
  2. المهارات الاجتماعية:وهي المهارات التي يغلب عليها الجانب الاجتماعي، مثل مهارة التواصل مع الآخرين ومهارة الاستيعاب ومهارة الحديث.
  3. المهارات الحركية:وهي التي يغلب عليها الجانب الحركي، مثل مهارة السباحة ومهارة لغة الجسد ومهارة الكتابة.

ثالثًا: مفهوم المهارات الإفتائية:

هو توفر مجموعة من العلوم والخبرات والمعارف المختلفة، والتي يستطيع المتدرب على الفتوى أن يكتسبها ويتعلمها وفق خطوات إجرائية محددة ومرتبة؛ بحيث يستطيع بتكرار ممارستها والتدرب عليها أن يخبر بالحكم الشرعي في الواقعة المسؤول عنها بحذق وإتقان، ويصير هذا سجية وملكة راسخة له.

تمهير الإفتاء:

نعني بتمهير الإفتاء تحويل المعارف والعلوم الإفتائية إلى مهارات محددة الخطوات، ويعتبر التمهير من الأهمية بمكان للوصول إلى إحكام صنعة الإفتاء وإتقانها؛ حيث يتم من خلال هذا «التمهير» تقسيم المهارة إلى خطوات متسلسلة ومنظمة يحصل باتباعها وممارستها تعلم المهارة والتدريب عليها، وبتكرار الممارسة يحدث نمو وازدياد في إتقان المهارة وإحكامها حتى تصير ملكة للمتصدر للفتوى تصدر عنه بسهولة ويسر.

وثمة أمران مهمان ينبغي الإشارة لهما:

أولهما: أن نقل الخبرات الإفتائية وتوريثها للأجيال المتعاقبة لا يكون إلا وفق خطوات محددة ومرتبة يمكن تعلمها والتدريب عليها، وهذا لا يكون إلا عبر تحويل العلوم والمعارف الإفتائية إلى مجموعة من المهارات الواضحة المحددة، وهو ما نطلق عليه(تمهير الإفتاء)، وهذا الاتجاه -تمهير الإفتاء- يتوافق تمامًا مع الاتجاه المعاصر من تحويل العلوم والمعارف النظرية إلى علوم ومعارف تطبيقية يسهل تعلُّمها واكتسابها لسد الفجوة بين النظرية والتطبيق، فهناك فارق بين العلم بالشيء وبين ممارسته وتطبيقه.

ثانيهما: أن «تمهير الإفتاء» بما يحويه من خطوات محددة ومنظمة يساعد في جعل «الملكة» أو «الصنعة» أمرًا يمكن تقييمه وتقويمه؛ وذلك بمُقَايَسَة ومُعَايَرة ما وصل إليه المتدرب على المهارة الإفتائية وفق اختبارات ملائمة لطبيعة المهارة توضح مدى تمكنه من المهارة واستيعابه لها وصولًا إلى إحكامه لها وصيرورتها ملكة له.

«المهارة» طريق الوصول إلى «إحكام الصنعة» و«ترسيخ الملكة»:

قال الجرجاني في «التعريفات»(5) : «الصناعة: ملكة نفسانية تصدر عنها الأفعال الاختيارية من غير روية»، وقال أيضًا عن «الملكة» (6): «الملَكة هي صفة راسخة في النفس، وتحقيقه أنه تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، ويقال لتلك الهيئة: كيفية نفسانية، وتسمى حالة، ما دامت سريعة الزوال، فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها وصارت بطيئة الزوال فتصير مَلَكَة، وبالقياس إلى ذلك الفعل عادةً وخلقًا».

فنستطيع القول: إن (صنعة الإفتاء) أو (ملكة الإفتاء) تقوم على الدربة والممارسة، فالإفتاء كسائر الصناعات يحتاج إلى دربة وممارسة كثيرة على يد أهل الصنعة من المتخصصين، وبمزيد عناية وتقويم يتعلم المرء أصول هذه الصنعة ويتشرب مهاراتها حتى تصير (صنعة وملكة) الإفتاء سجيةً وطبعًا له.

وللعلماء في العلاقة بين «المهارة» و «الملكة» مذهبان:

المذهب الأول: يرى أنه ليس ثمة فارق بين المهارة والملكة، واللفظان مترادفان؛ حيث إن الملكة تتطابق في تعريفها وخصائصها مع المهارة.

المذهب الثاني: يرى أن ثمة فارقًا بينهما، حيث إن المهارة هي أول طريق الملكة، بمعنى أن المتصدر للفتوى يتدرب ويتعلم ممارسة المهارات الإفتائية كمهارة تخريج الفتوى أو تنزيل الفتوى، ثم بكثرة الممارسة والتكرار تنمو عنده هذه المهارة شيئًا فشيئًا حتى يتقنها وتصير هيئة راسخة في النفس تصدر منه بتلقائية وسهولة أو بغير روية -كما قال الجرجاني، وتلك الحالة الأخيرة من الرسوخ والإتقان تسمى «ملكة».

رابعًا: اكتساب المهارة الإفتائية وتنميتها:

لاكتساب المهارة الإفتائية وتعلمها ثم العمل على تنميتها وتطويرها بحيث تصبح «ملكة راسخة» لدى المتصدر للفتوى: هناك خطوات إجرائية لا بد من اتباعها والسير وفقها، وهذه الخطوات تشمل الآتي:

الجانب المعرفي.

حيث إن الجانب النظري للمهارة هو بمنزلة الأساس الذي يُبْنَى عليه غيره، فلا يمكن للمتدرب على الفتوى أن يقتصر في طريقه لتعلم مهارات الإفتاء على خطواتها الإجرائية فقط، بل لا بد أن يكون مُلِمًّا بكل ما له علاقة بهذه المهارة من علوم ومعارف، ولا نعني هنا الإحاطة الكاملة، بل نقصد أن يكون مُلِمًّا بالقدر الذي يحتاجه في العملية الإفتائية، فالجانب المعرفي هو بمثابة المخزون الرئيسي الذي يصقل المتدرب على المهارة الإفتائية ويجعله أكثر تمكنًا ورسوخًا في أدائها وممارستها، وأهم هذه العلوم والمعارف التي لا غنى للمتدرب على المهارات الإفتائية أن يكون مُلِمًّا بأصولها:

  • علم الفقه.
  • علم أصول الفقه.
  • علم القواعد الفقهية.
  • تخريج الفروع على الأصول.
  • كتب الفتاوى كفتاوى النووي والسبكي وابن حجر.

وهناك علوم ومعارف أخرى هامة لدى المتدرب على مهارات الفتوى لا غنى له عن الإلمام بطرف منها كعلم الحساب، وعلم النفس، وبعض مبادئ العلوم الحديثة كالطب والفلك، والكيمياء، ونحن قد اكتفينا بالإشارة إلى بعضها فقط على سبيل المثال لا الحصر.

الجانب الأدائي.

بعد الإلمام بمبادئ وأصول الجانب المعرفي النظري ودراسة الخطوات الإجرائية لتطبيق المهارة يأتي الجانب العملي التطبيقي، حيث يقوم المتدرب على المهارات الإفتائية بتطبيق تلك الخطوات وممارستها عمليًّا والتدرب عليها على يد مُفْتٍ متقن لديه مهارات التعليم والتدريب، وهذا الجانب يطلق عليه بالجانب الأدائي، ويشمل الآتي:

  • ملاحظة أداء المتدرب على الفتوى ومهاراتها.
  • اتباعه للخطوات الإجرائية والأساسية للمهارة المطلوب تعلمها واكتسابها.
  • تكرار المتدرب لممارسة الخطوات التطبيقية للمهارة.
  • قيام المفتي -الذي يقوم بعملية التعليم والتدريب- بقياس وملاحظة مدى إتقان المتدرب للمهارة وإحكامه لها.

ونختم كلامنا بالتأكيد على أهمية خطوة أن تكون عملية التدريب على المهارات الإفتائية تحت إشراف مفتٍ معلم مُدَرَّب؛ حيث إنها تمثل حجر الزاوية في الشق التطبيقي والأدائي لتعلم المهارة واكتسابها وتنميتها؛ وذلك من زاويتين:

الأولى: قيام المفتي المعلم بالممارسة العملية للمهارات الإفتائية أمام المتدرب على المهارات الإفتائية، فيحصل له -أعني المتدرب- بذلك تصور ذهني تطبيقي صحيح عن كيفية ممارسة المهارة، فيتكامل هذا ويتعاضد مع المعرفة النظرية للمهارة، فكما قيل: ليس الخبر كالعيان.

الثانية: قيام المتدرب على المهارات الإفتائية بممارسة المهارة والتدرب عليها تحت ملاحظة المفتي المعلم، وإشرافه يحدث حالة من الحوار والمناقشة والتقييم والتقويم، مما يكون له أعظم الأثر في (صناعة المفتي) المتشرب للمهارات المتقن لها، فتنتقل فيها الخبرات ومهارات الممارسة تلقائيًّا من المفتين إلى المتدربين على الفتوى.

 

1 الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، ٢/ ٥٥٣. مادة «مهر».

2 تهذيب اللغة، ٦/ ١٥٩. مادة «مهر».

3 أساس البلاغة، ٢/ ٢٣١. مادة «مهر».

4 النهاية في غريب الحديث والأثر، ٤/ ٣٧٤. مادة «مهر».

5 التعريفات، ص١٣٤.

6 التعريفات، ص٢٢٩.

اترك تعليقاً