البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المبحث التاسع: تحريم تصدُّر غير المؤهَّل للفتوى

63 views

نص الأصوليون على أن مَن لم يكن مجتهدًا ولا أهلًا لمعرفة مذهب المجتهدٍ ولا متمكنًا من فهم كلامه فإنه لا يجوز له التصدر للإفتاء مطلقًا؛ ويظهر هذا المنع من الإفتاء فيما اشترطه الأصوليون القائلون بجواز إفتاء المقلِّد من أن يكون هذا المقلد متحريًا لمذهب ذلك المجتهد مطلعًا على مأخذه أهلًا للنظر والتفريع على قواعده تمييزًا له عن العامي([1])؛ وقد صرَّح ابن دقيق العيد بأن المختار “أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلًا متمكنًا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به”([2])؛ فاشتراطه “أن يكون متمكنًا من فهم كلام المجتهد” تصريحٌ منه بأن مَن لم يكن متمكنًا من فهم كلام الفقهاء؛ أي: ليس متأهلًا تأهيلًا علميًّا كافيًا لذلك؛ لا يجوز له التصدُّر للإفتاء ولو بنقل الحكم عن المجتهد؛ وإنما يجوز نقله على سبيل الفتوى للعالم لا للعامي، والفرق بين نقل العالم ونقل العامي؛ أي: مَن ليس متأهلًا؛ علمُ المآخذ وأهلية النظر كما عبَّر الفناري([3])، ونص السمرقندي الحنفي على أن مَن تجوز له حكاية الفتوى هو “مَن يُحسِن الفقه”؛ قال: «لو أن رجلًا يُحسن الفقه فسمع من فقيه مسألة وحفظها جاز له أن يجيب غيره ويكون حكاية ولا يكون فتوى»([4]).

وقد نقل الآمدي عن أبي الحسين البصري وجماعة من الأصوليين الإجماعَ على أنه لا يجوز للعامي الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير؛ يقول في تقرير دليل القائلين بأن من ليس بمجتهد لا تجوز له الفتوى بمذهب غيره من المجتهدين: «لو جازت الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير لجاز ذلك للعامي، وهو محالٌ مخالفٌ للإجماع»([5]).

ونقل إمام الحرمين الجويني الإجماع على أنه لا يحل لكل من طلب شيئًا من العلم أن يُفتي([6])؛ ومعناه أنه يُشترط لمن يُفتي التأهل الكافي السابق بيانه([7])؛ قال: «وإنما يحل له الفتوى ويحل للغير قبول قوله في الفتوى إذا استجمع أوصافًا»([8]).

فهذا نقلٌ للإجماعٌ على حرمة التصدُّر للفتيا ممن ليس بأهلٍ لها؛ يقول النووي بعد ذكر أصناف المفتين: «هذه أصناف المفتين، وهي خمسةٌ، وكل صنفٍ منها يُشترط فيه حفظ المذهب وفقه النفس؛ فمن تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة فقد باء بأمر عظيم»([9]).

وقد ظهر بهذا أن “معرفة المسألة بدليلها” الذي اشترطه مَن قال بجواز إفتاء المقلِّد مطلقًا([10]) يُراد به التمكُّن من فهم كلام المجتهد بما يلزمه من التأهُّل الفقهي؛ وقد نقل الحنفية عن أصحاب أبي حنيفة إجماعهم على أنه لا يحل لأحد أن يُفتي بقولهم ما لم يعلم من أين قالوه([11])، ونص أبو الوليد بن رشد فيمن قرأ كتب المالكية على أنه: “إن لم يتفقه فيما قرأ فلا يجوز أن يُستفتى ولا يحل له هو أن يُفتي”([12])، وقال الماوردي: «أما مَن لا يجوز تقليدهم فهم العامة الذين عُدموا آلة الاجتهاد؛ فلا يجوز تقليدهم في شيء من أحكام الشرع؛ لأنهم بعدم الآلة لا يُفرقون بين الصواب والخطأ؛ كالأعمى الذي لا يجوز للبصير أن يقلده في القبلة؛ لأنه بفقد البصر لا يفرق بين القبلة وخطئها؛ فلو أن رجلًا من العامة استفتى فقيهًا في حادثة فأفتاه بجوابها فاعتقده العامي مذهبًا لم يجز له أن يُفتي به، ولا لغيره أن يقلده فيه، وإن كان معتقدًا له؛ لأنه غير عالمٍ بصحته، ولكن يجوز له الإخبار به»([13]).

وقد استدل العلماء على حرمة تصدر غير المؤهل للفتيا بأمور؛ منها:

أولًا: قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}([14])، وقوله سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}([15])، وقوله {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم}([16])، وقوله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}([17]) فاعتبر التفقه في الدين في الإنذار([18]).

ثانيًا: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يرفع العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، لكن يرفعه بموت العلماء؛ فإذا لم يَبق عالم اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»([19])، وقوله عليه السلام: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار»([20]) ففي هذه الأحاديث الحث على حفظ العلم والتحذير من ترئيس الجهلة وأن الفتوى هي الرئاسة الحقيقية وذم من يُقدم عليها بغير علم([21]).

ثالثًا: أن الإفتاء بغير علم إضلالٌ وقد يسبب ضررًا يصل إلى الموت، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ فعن جابر: «خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجرٌ فشجَّه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل فمات؛ فلما قدِمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك؛ فقال: «قتلوه قتلهم الله؛ ألا سألوا إذا لم يعلموا؟! فإنما شفاء العي السؤال»([22])، وقال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجلٌ قَتَل نبيًّا أو قتله نبي، أو رجل يُضل الناس بغير علمٍ»([23]).

رابعًا: أن الرجوع في قيم المتلفات وأروش الجنايات لا يجوز إلا أن يكون المرجوع إليه من أهل الخبرة بأسعار الأسواق؛ فأولى في باب أحكام الشرع ألا يُرجَع إلى مَن لا خبرة له بها أو كان مقصِّرًا فيها([24]).

ومن هنا أوجب العلماء على الإمام أن يتصفح أحوال المتصدرين للفتوى فمن صلح للفتيا أقره، ومَن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتواعده بالعقوبة إن عاد([25]).

مسألة ما إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها فهل له أن يُفتي؟:

تتعلق بمسألة تصدر غير المؤهل للفتوى مسألة أخرى ذكرها الأصوليون، وهي ما إذا علم العامي حكمَ الحادثة ودليلها؛ فهل له أن يُفتي لغيره؟ نقلوا عن الشافعية الاختلاف في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا يجوز له مطلقًا.

وهو الصحيح عند الشافعية؛ فإذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها فليس له أن يفتي غيره سواء كان الدليل نصًّا من كتابٍ أو سنة أو كان نظرًا واستنباطًا([26]).

واستدلوا بأمور:

أولًا: أنه قد يكون هناك دلالة تعارض الدليل من ظاهر الكتاب والسنة أقوى منه([27]).

ثانيًا: أن اجتهاد المفتي يتغير في كل زمان؛ قال الزركشي: «ولهذا قلنا: إنه لا يجوز لعامي أن يعمل بفتوى مضت لعامي مثله”([28]).

القول الثاني: يجوز مطلقًا.

وهو وجه عند الشافعية، واستدلوا بأن العامي الثاني قد وصل إلى العلم بالحكم بمثل وصول العامي الأول إليه([29]).

القول الثالث: إن كان الدليل نصًّا من كتابٍ أو سنة جاز، وإن كان نظرًا واستنباطًا لم يجز.

وهو وجه عند الشافعية([30]).

والراجح هو القول الأول؛ لأن الفتوى متغيرة بتغير الأزمان والأماكن والأحوال والأشخاص، وجوانب ارتباطها بهذا الواقعٍ لا يتصورها العامي؛ فقد تصلح له فتوى لا تصلح لغيره؛ فيُمنع مطلقًا عن نقل الفتوى.

تصدُّر غير المؤهل للفتوى في التطبيق المعاصر:

تظهر إشكالات تصدُّر غير المؤهل للفتوى في التطبيق المعاصر على مستوى الإفتاء شبه الرسمي والإفتاء غير الرسمي؛ فإن بعض أئمة المساجد قد يُفتي وليس مؤهلًا للفتوى، وكذلك المعلمُ كمعلمي حلقات تحفيظ القرآن؛ وبعض أساتذة الجامعات الشرعية ممن ليسوا مؤهلين؛ بل كثيرٌ من الصحفيين وغيرهم، وخرج بعض طلاب العلم في القنوات الفضائية وعبر شبكة المعلومات الدولية للفتيا وهم غير مؤهلين لها، وهذه ظواهر مشاهدة بكثرة في العصر الحديث([31]).

وقد سارعت الكثير من الهيئات في العصر الحديث إلى التوجيه بمنع تصدُّر غير المؤهل للفتوى؛ فقد أشار الميثاق العالمي للفتوى إلى هذا المنع في مادة رقم (51)؛ حيث نص على أنه: «يلتزم من يتصدى للإفتاء في وسائل الإعلام أن يكون من المجازين للإفتاء من الجهات المختصة عبر شهاداته ومؤهلاته وممارساته للإفتاء وحسن سيرته الشخصية والعلمية التي تؤهله لذلك وإجازة أهل الاختصاص خير مؤهل»([32]).

آثار تصدُّر غير المؤهلين للفتيا:

تتعدد آثار إفتاء غير المؤهلين وتصدرهم لبيان الأحكام الشرعية، ومن جملة هذه الآثار([33]):

1- طمس معالم الدين؛ وذلك بتحليل الحرام وتحريم الحلال.

2- الخروج على الأئمة والتحريض على عدم السمع والطاعة لولاة الأمور؛ مما يؤدي في النهاية لفتنٍ عظيمة.

3- إفساد الأنفس والممتلكات؛ فإن تصدر غير المؤهلين من جماعات التشدد والإرهاب للفتيا قد أدت إلى تفجير المنشآت العامة وقتل الأنفس المعصومة المسلمة والمستأمنة وإهلاك الحرث والنسل؛ وقد جاء في بيان لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حول خطورة التسرع في التكفير والقيام بالتفجير وما ينشأ عنه من سفك للدماء وتخريب للمنشآت: «يستنكر المجلس ما يصدُر من فتاوى وآراء تسوِّغ هذا الإجرام وتُشجِّع عليه؛ لكونه من أخطر الأمور وأشنعها وقد عظم الله شأن الفتوى بغير علم وحذر عباده منها وبيَّن أنها من أمر الشيطان»([34]).

4- خلق الكثير من البلبة والاضطراب الفكري عند الناس جراء الفتاوى غير الصحيحة مما يعني حدوث مشكلات اجتماعية ونفسية قد لا تُحمَد عقباها.

 

([1]) انظر: الإحكام للآمدي (4/ 236)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 359)، وفصول البدائع للفناري (2/ 494)، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 558).

([2]) انظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 360).

([3]) انظر: فصول البدائع للفناري (2/ 495).

([4]) عيون المسائل للسمرقندي (ص 485).

([5]) الإحكام للآمدي (4/ 236).

([6]) التلخيص للجويني (3/ 457).

([7]) راجع: المسألة الرابعة من المطلب الثالث من هذا المبحث ” اشتراط الكفاية العلمية في النظر القديم والمعاصر”.

([8]) التلخيص للجويني (3/ 457).

([9]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (ص 31). وانظر: الواضح لابن عقيل (1/ 278)، وتعظيم الفتيا لابن الجوزي (ص 128).

([10]) انظر: الإبهاج للسبكي (3/ 268)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 359).

([11]) انظر: عيون المسائل للسمرقندي (ص 485)، وفصول البدائع للفناري (2/ 495).

([12]) مسائل أبي الوليد بن رشد (2/ 1139).

([13]) الحاوي الكبير للماوردي (1/ 21).

([14]) سورة الإسراء، الآية رقم (36).

([15]) سورة النحل، الآية رقم (43).

([16]) سورة آل عمران، الآية رقم (66).

([17]) سورة التوبة، الآية رقم (122).

([18]) سبق تخريجه$$.

([19]) انظر: الواضح لابن عقيل (1/ 278)، والفتوى بغير علم وأثرها على الأمة لخالد الخريف (ص 34).

([20]) أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة، باب: الفتيا وما فيه من الشدة، حديث رقم (159)، (1/ 258)، قال ابن حجر في إتحاف المهرة (19/ 219): مرسل. وقال محقق الدارمي سليم حسين أسد: « إسناده معضَل؛ عُبيدالله بن أبي جعفر ما عرفنا له رواية عن الصحابة فيما نعلم».

([21]) انظر: الواضح لابن عقيل (1/ 278)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 195)، وفيض القدير للمناوي (1/ 185)، والفتوى بغير علم وأثرها على الأمة لخالد الخريف (ص 40).

([22]) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب: في المجروح يتيمم، حديث رقم (336)، (1/ 93)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب: في المجروح تصيبه الجنابة، حديث رقم (572)، (1/ 189)، وقد اختُلف في الحكم على الحديث فضعفه الدارقطني وصححه ابن السكن، انظر: السنن الكبرى للبيهقي (1/ 347)، وخلاصة الأحكام للنووي (1/ 223)، والتلخيص الحبير لابن حجر (1/ 395).

([23]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 211)، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 181).

([24]) انظر: الواضح لابن عقيل (1/ 279).

([25]) انظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (ص 17)، ومنار الفتوى للقاني (ص 259).

([26]) انظر: الحاوي الكبير للماوردي (1/ 21)، وروضة الطالبين للنووي (11/ 99).

([27]) انظر: الحاوي الكبير للماوردي (1/ 21)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 360).

([28]) البحر المحيط للزركشي (8/ 361).

([29]) انظر: الحاوي الكبير للماوردي (1/ 21)، وبحر المذهب للروياني (1/ 31)، والعزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 420).

([30]) انظر: الحاوي الكبير للماوردي (1/ 21)، والعزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 420)، وروضة الطالبين للنووي (11/ 99).

([31]) انظر: الفتوى بغير علم لخالد الخريف (ص 75، 77).

([32]) مشروع الميثاق العالمي للفتوى الصادر عن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم (ص 20).

([33]) انظر: فوضى الإفتاء للأشقر (ص 18)، والفتوى بغير علم لخالد الخريف (ص 80).

([34]) انظر: مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، (69/ 378).

اترك تعليقاً