البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المبحث التاسع عشر: مسألة تكرير النظر عند تكرر الواقعة

60 views

معنى هذه المسألة: أنه إذا وقعت حادثة ما وسُئل المجتهد عن حكمها فاجتهد فيها وأفتى ثم سئل عن حكم ذات الحادثة مرة أخرى فإن عليه إعادة الاجتهاد والنظر في الأدلة.

تحرير محل النزاع:

اتفق الأصوليون على أن المجتهد إذا لم يذكر اجتهاده الأول وجب عليه إعادة الاجتهاد.

واتفقوا على أنه إن طرأ عليه ما يقتضي رجوعه عن اجتهاده وجب عليه تكرار النظر([1]).

وتكرار الاجتهاد في الحادثة الواحدة إذا تكرر وقوعها، وجواز اختلاف الحكم في الاجتهادين لنفس الواقعة هو المبدأ الذي قرره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته إلى أبي موسى الأشعري في شأن القضاء؛ إذ جاء فيها: «ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل».

وهذا المبدأ مبدأ عظيم في النظر في الوقائع والحوادث المستجدة المشابهة لحوادث سابقة؛ فيجب على المجتهد ألا يقف عند الاجتهادات السابقة لتلك الحوادث في ذلك الزمان، بل الواجب عليه بذل غاية الوسع في الاجتهاد والنظر في ظروف وملابسات الوقائع الجديدة، وما يرافقها من تغيرات اجتماعية وظروف زمانية ومادية قد تُغير الحكم السابق في نفس الواقعة إلى حكم آخر يكون في هذا الزمان هو الأقرب للحق والصواب، والمحقق لمقاصد الشرع ومصالح العباد؛ فإن تزاحم المقاصد قد يغير في الأحكام الاجتهادية عند تكرر النظر فيها في ظروف مختلفة.

ولهذا فإن تكرار الواقعة الواحدة لا يمنع من تكرار الاجتهاد فيها والوصول إلى حكم مغاير للحكم الأول، والعمل به وإنفاذه، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعًا من العمل بالثاني إذا تبين أنه الحق، وأنه في هذه الظروف هو الأصوب؛ فإن الحق أولى بالاتباع حيث كان؛ لأنه قديم سابق على الباطل، فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني، والاجتهاد الثاني هو الحق فيكون الثاني أسبق من الاجتهاد الأول لأنه الحق، ولأن الحق قديم سابق على ما سواه، ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلافه، بل إن الرجوع إلى الاجتهاد الثاني خير وأولى من التمادي على الاجتهاد الأول([2]).

وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه قضى في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها؛ فأشرك عمر بين الإخوة للأم والإخوة للأب والأم في الثلث»، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال عمر: «تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم»([3]).

ولكن اختلف الأصوليون في وجوب إعادة الاجتهاد إذا لم يطرأ عليه ما يقتضي الإعادة وكان ذاكرًا لاجتهاده على مذاهب نوجزها فيما يلي:

مذاهب الأصوليين في هذه المسألة:

اختلف الأصوليون في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: يلزمه تكرار النظر مطلقًا عند تكرر الحادثة، وبه قال بعض الحنفية والمالكية والشافعية، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة([4]).

قال الكمال بن الهمام: «إذا تكررت الواقعة قيل: المختار لا يلزمه تكرير النظر…وقيل: يلزمه؛ لأن الاجتهاد كثيرًا ما يتغير، وليس إلا بتكريره؛ فالاحتياط ذلك»([5]).

وقال الشيرازي: «وإن اجتهد في حادثة مرة فأجاب فيها ثم نزلت تلك الحادثة مرة أخرى فهل يجب عليه إعادة الاجتهاد أم لا فيه وجهان: من أصحابنا من قال: يفتي بالاجتهاد الأول، ومنهم من قال: يحتاج أن يجدد الاجتهاد والأول أصح»([6]).

واستدلوا بما يأتي:

أولًا: إن لم يكرر النظر يكون مقلدًا لنفسه لاحتمال تغير اجتهاده.

ثانيًا: أن الاجتهاد كثيرًا ما يتغير فيرجع صاحبه عنه إلى غيره كما رجع الشافعي عن القديم إلى الجديد، وليس تغيره إلا بتكرير النظر؛ فالاحتياط تكريره([7]).

وأجيب عن ذلك: بأنه إذا كان تجديد النظر لهذا فيجب تكريره أبدًا لدوام احتمال التغير، ولا يخفى ضعفه؛ لأن السبب لتجديد النظر وقوع الواقعة لا احتمال التغير، ووقوع الواقعة لا يدوم فلا يدوم التكرار([8]).

القول الثاني: لا يلزمه مطلقًا عند تكرر الواقعة بل يكتفي باجتهاده الأول، وبه قال بعض الحنفية والمالكية والشافعية، وهو اختيار ابن الحاجب([9]).

قال ابن السمعاني: «وإن اجتهد المفتى في حادثة مرة فأجاب فيها ثم نزلت تلك الحادثة مرة أخرى فهل يجب عليه إعادة الاجتهاد؟ فيه وجهان: فمن أصحابنا من قال: يفتي بالاجتهاد الأول. ومنهم من قال: يحتاج أن يجدد الاجتهاد، والأول أصح»([10]).

واستدل أصحاب هذا القول بما يأتي:

أولًا: أن إلزامه بتكرير النظر إيجاب بلا موجب شرعي([11]).

ثانيًا: أنه قد اجتهد مرة وطلب ما يحتاج إليه في تلك المسألة وأنه وإن بقي احتمال أن يوجد شيء آخر لم يطلع عليه هو؛ لكن الأصل عدمه([12]).

القول الثالث: التفصيل، فيلزمه تكرار النظر إن نسي طريق اجتهاده وإلا فلا، وبه قال بعض الحنفية والحنابلة، وأكثر المالكية والشافعية([13])، وهو اختيار الآمدي والرازي والنووي([14]).

قال الأسمندي: «اعلم أن المفتي إذا سئل عن حكم، ولم يتقدم منه اجتهاد وقول في المسألة يجب عليه الاجتهاد فيها قبل القول…وإن تقدم منه اجتهاد وقول فيها، وكان ذاكرًا لذلك القول وطريقة الاجتهاد؛ لم يجب عليه تجديد الاجتهاد…، وإن لم يذكر طريقة الاجتهاد يجب عليه تجديد الاجتهاد»([15]).

وقال الكلوذاني: «وإذا سئل المفتي عن مسألة، فإن كان قد تقدم له فيها اجتهاد وقول وهو ذاكر لطريق الاجتهاد والحكم جاز له أن يفتي بذلك، وإن لم يكن قد تقدم له فيها اجتهاد لم يجز أن يفتي حتى يجتهد، فإن ذكر الحكم، ولم يذكر طريق الاجتهاد لزمه أن يتذكر طريق الاجتهاد، ويُعيد النظر في ذلك»([16]).

واستدل أصحاب هذا القول بأنه إن كان ذاكرًا لقوله في المسألة وطريقة الاجتهاد لم يجب عليه تجديد الاجتهاد؛ لأنه كالمجتهد في الحال، وإن لم يذكر طريقة الاجتهاد يجب عليه تجديد الاجتهاد؛ لأنه في حكم من لا اجتهاد له([17]).

وقد مال ابن السبكي إلى وجه آخر من التفصيل، وهو أنه إذا تكررت الواقعة للمجتهد، وعرض له ما يقتضي الرجوع عما ظنه فيها أولًا، ولم يكن ذاكرًا للدليل الأول وجب عليه تجديد النظر وإعادة الاجتهاد وعملية الإفتاء فيها قطعًا، وكذا يجب تجديده إن لم يتجدد ما يقتضي الرجوع ولم يكن ذاكرًا للدليل، لا إن كان ذاكرًا له([18])؛ لأنه إذا لم يكن ذاكرًا لدليل الإفتاء كانت فتياه بغير دليل ولا حجة تدل عليها؛ لذلك وجب على المفتي تكرار اجتهاده وعملية الإفتاء.

الرأي الراجح:

يترجح أن المجتهد إن كان ذاكرًا لاجتهاده في المسألة الأولى فلا يجب عليه إعادة النظر إذا تكررت؛ لأن القول بوجوب تكرار النظر وإعادة البحث في كل مسألة تعرض للمجتهد يوجب حرجًا عظيمًا، وقد يؤدي إلى ترك الإفتاء في المسألة، ولأن العمل بغلبة الظن في الشريعة واجب، وغلبة ظن المجتهد هنا صحة اجتهاده الأول وأنه بناه على مستند صحيح فيبقى على ما هو عليه.

وأما تذكره للدليل أو عدم تذكره فلا يضر في فتواه؛ لأن تذكر الحكم المطلوب كافٍ في المسألة([19]).

 

 

 

 

([1]) ينظر: هداية العقول إلى غاية السول في علم الأصول للحسين بن المنصور بالله (2/666).

([2]) ينظر: منهج الصحابة في استنباط الأحكام الشرعية، الدكتور حسين أنيس بني صالح (ص263)، دار الكتاب الثقافي.

([3]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، رقم (19005).

([4]) ينظر: تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 231)، ونسبه صاحب فواتح الرحموت إلى القاضي الباقلاني المالكي (2/427)، اللمع للشيرازي (ص 127)، أصول ابن مفلح (4/1551)، التحبير للمرداوي (8/4055).

([5]) ينظر: تيسير التحرير لأمير بادشاه (4/ 231).

([6]) ينظر: اللمع للشيرازي (ص 127).

([7]) ينظر: التقرير والتحبير لابن أمير حاج (3/332).

([8]) ينظر: فواتح الرحموت لنظام الدين الأنصاري (2/427).

([9]) ينظر: النقود والردود للبابرتي (2/ 725)، بيان المختصر للأصفهاني (3/355)، قواطع الأدلة لابن السمعاني (2/356).

([10]) قواطع الأدلة لابن السمعاني (2/356).

([11]) ينظر: التقرير والتحبير لابن أمير حاج (3/332).

([12]) شرح العضد على مختصر المنتهى (3/638).

([13]) ينظر: بذل النظر للأسمندي (ص692)، شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص442)، الإحكام للآمدي (4/233)، التمهيد للكلوذاني (4/394).

([14]) ينظر: الإحكام للآمدي (4/233)، المحصول للرازي (6/ 69)، آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (ص42، 43).

([15]) ينظر: بذل النظر للأسمندي (ص692).

([16]) التمهيد للكلوذاني (4/394).

([17]) ينظر: بذل النظر للأسمندي (ص692)، الإحكام للآمدي (4/233).

([18]) ينظر: جمع الجوامع وشرحه للمحلي وحاشية العطار (2/ 434).

([19]) ينظر: فواتح الرحموت لنظام الدين الأنصاري (2/427).

اترك تعليقاً