البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المبحث الثامن عشر: تجزؤ الاجتهاد

87 views

التجزُّؤ لُغةً مصدر “تجزَّأ يتجزَّأ”؛ وأصله “جزأ”؛ وأصل معناه: الاكتفاء بالشيء؛ يقول ابن فارس: «الجيم والزاء والهمزة أصل واحد هو الاكتفاء بالشيء؛ يقال: اجتزأت بالشيء اجتزاء: إذا اكتفيت به، وأجزأني الشيء إجزاءً: إذا كفاني»([1])، قال الجوهري: «واجتزأت بالشيء وتجزأت به بمعنًى: إذا اكتفيت به»([2]).

وتجزؤ الاجتهاد هو: جريان الاجتهاد في بعض المسائل أو الأبواب دون بعض؛ وذلك بأن يحصل للمجتهد ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة في بعض الأبواب أو المسائل دون غيرها([3])؛ فكأنه قد اكتُفي بالتمكُّن من الاجتهاد في بعض المسائل أو الأبواب في اعتبار العالِم مجتهدًا وما صدر عنه في هذا الشأن اجتهادًا.

والحاصل أن الاجتهاد يُقسَّم باعتبار قدرة المجتهد على الاجتهاد في كل مسائل الشرع وأبوابه أو في بعض المسائل والأبواب دون بعض إلى قسمين:

اجتهاد مطلق: وهو تحقق القدرة على الاجتهاد في كل مسائل الشرع وأبوابه.

واجتهاد جزئي: وهو تحقق القدرة على الاجتهاد في باب من أبواب الشرع دون غيره منها، أو في مسألة من مسائل الشرع دون غيرها منها.

على أن بعض الأصوليين عبَّر عن المجتهد المطلق بلفظ المستقل، وعبر عنه بعضهم بلفظ المطلق، بينما عبر عنه آخرون بلفظ المطلق المستقل.

وحقيقة الأمر أن تسمية المجتهد ووصفه بالمطلق إنما هي باعتبارين مختلفين لا باعتبار واحد؛ وذلك لأن لفظ “المجتهد المطلَق” يطلق ويراد به عند أهل الأصول أحد معنيين أو كلاهما معًا:

الأول: المطلق الذي يراد به المجتهد الذي لا يتقيد في اجتهاده بأصول غيره من أهل الاجتهاد ولا بفروعه، بل يجتهد وفق أصول وضعها هو بنفسه ويخرج عليها فروعه، وهو المسمى بالمستقل، وهو الذي يقابله المجتهد المقيد الذي يكون في اجتهاده متقيدًا بأصول مجتهد أو بفروعه.

الثاني: المطلق الذي يراد به المجتهد الذي لا يتقيد في اجتهاده بباب دون باب، ولا بمسألة دون مسألة، بل يجتهد في جميع الأبواب والمسائل، وهو الذي يقابله هنا المجتهد الجزئي أو الخاص الذي يجتهد في باب دون باب أو في مسألة دون مسألة.

وعلى هذا فمن وصف المجتهد المستقل بالمطلق فمراده بذلك أنه مستقل من جهة عدم تقيده بأصول أحد من أهل الاجتهاد ولا بفروعه، وأنه مطلق من جهة عدم تقيده في اجتهاده بباب دون باب أو مسألة دون مسألة.

وبناء على ما سبق يكون المراد بالاجتهاد الجزئي: أن يكون المجتهد مقتدرًا على الاجتهاد في مسألة أو مسائل بأعيانها فقط من مسائل الفقه أو باب أو أبواب بأعيانها فقط من أبوابه؛ وسواء كان مجتهدًا مستقلًّا أو لا([4]).

 

وقد اختلف الأصوليون في مشروعية تجزؤ الاجتهاد، وبيان ذلك فيما يلي:

1- تحرير محل النزاع:

تبيَّن من الكلام في مسألة اشتراط الكفاية العلمية في المفتي في المطلب الثالث من هذا المبحث أن مَن توفرت فيه شروط الاجتهاد المطلق فله أن يجتهد في سائر أبواب الفقه الإسلامي، ومحل الخلاف هنا مَن تحصَّل له في بعض مسائل الفقه أو أبوابه ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة النقلية والعقلية ووقف على كل ما له علاقة بها من العلوم؛ مثل الأصول ومقاصد الشريعة وغيرهما، وتوفرت فيه شروط الاجتهاد في هذه المسائل أو هذه الأبواب؛ فهل له أن يجتهد فيها ليتعرف على حكم الله فيها بالنظر والاستدلال أو يلزمه أن يُقلِّد فيها مجتهدًا مطلقًا له القدرة المطلقة على الاجتهاد في جميع أبواب الفقه ومسائله؟([5]).

ولعل أول من أثار هذه المسألة هو الإمام الغزالي في المستصفى؛ حيث يقول: «دقيقة في التخفيف يغفل عنها الكثيرون: اجتماع هذه العلوم الثمانية إنما يُشترط في حق المجتهد المطلق الذي يُفتي في جميع الشرع، وليس الاجتهاد عندي مَنصِبًا لا يتجزأ»([6])، ثم توالى الأصوليون بعد الغزالي في تناول المسألة؛ فمنهم مَن وافقه ومنهم من خالفه؛ فنشأت في المسألة عدة أقوال بيانها فيما يلي:

2- بيان الأقوال في المسألة:

للأصوليين في مسألة تجزؤ الاجتهاد أقوالٌ أربعة؛ بيانها فيما يلي.

القول الأول: جواز الاجتهاد الجزئي مطلقًا.

ذهب جمهور الأصوليين إلى أنه يجوز الاجتهاد الجزئي مطلقًا؛ سواء كان في باب دون باب، أو مسألة دون مسألة؛ فمن توفرت فيه شروط الاجتهاد في بعض أبواب الفقه أو مسائله فله أن يجتهد فيها([7]).

قال الغزالي: «وليس الاجتهاد عندي منصبًا لا يتجزأ، بل يجوز أن يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض، فمن عرف طريق النظر القياسي فله أن يفتي في مسألة قياسية، وإن لم يكن ماهرًا في علم الحديث، فمن ينظر في المسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفًا بأصول الفرائض ومعانيها، وإن لم يكن قد حصل الأخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها ولا تعلق لتلك الأحاديث بها، فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصًا؟ ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6] وقس عليه ما في معناه»([8]).

وقال الرازي: «الحق أنه يجوز أن تحصل صفة الاجتهاد في فن دون فن بل في مسألة دون مسألة خلافًا لبعضهم. لنا: أن الأغلب من الحادثة في الفرائض أن يكون أصلها في الفرائض دون المناسك والإجارات، فمن عرف ما ورد من الآيات والسنن والإجماع والقياس في باب الفرائض وجب أن يتمكن من الاجتهاد، وغاية ما في الباب أن يقال: لعله شذ منه شيء، ولكن النادر لا عبرة به كما أن المجتهد المطلق وإن بالغ في الطلب فإنه يجوز أن يكون قد شذ عنه أشياء»([9]).

وقال الآمدي: «وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل، فيكفي فيه أن يكون عارفًا بما يتعلق بتلك المسألة، وما لا بد منه فيها، ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق له بها مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية، كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدًا في المسائل المتكثرة بالغًا رتبة الاجتهاد فيها، وإن كان جاهلًا ببعض المسائل الخارجة عنها، فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالـمًا بجميع أحكام المسائل ومداركها، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر»([10]).

واستدلوا على ذلك بعدة أدلة؛ منها:

الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»([11])؛ ووجه الدلالة من الحديث أن ما كان مأخوذًا عن تقليدٍ ففيه ريبٌ بالنسبة للمقلِّد، وما كان مأخوذًا عن اجتهادٍ ونظرٍ فلا ريب فيه بالنسبة للمجتهد، وعلى هذا فإن أمكن الفقيه أن يأخذ حكم المسألة عن اجتهاد حين يكون قادرًا على الاجتهاد الجزئي فيها -ولو عجز عن الاجتهاد في غيرها- فلا شك أن أخذه فيها حينئذ بموجب اجتهاده وتركه تقليد غيره فيها تركٌ لما يريبه إلى ما لا يريبه، وهو مطلوب الشارع منه؛ فترك العلم عن دليل إلى تقليدٍ خلافُ المعقول؛ لأنه عدولٌ عن علمٍ إلى ظنٍّ فلا يلتفت إليه خصوصًا إذا علم أن في التقليد ريبًا؛ إذ هو محتمل أن يكون مطابقًا وأن يكون غير مطابق، والاجتهاد إذا كان عن دليل كان هذا الاحتمال بعيدًا عنه([12]).

وأجيب عن ذلك بأن المجتهد المتجزئ جاهلٌ بأدلة الأحكام ومناطاتها في المسائل الأخرى غير المسألة التي هي محل اجتهاده، والاحتمال قائمٌ حينئذ أن يكون لبعض تلك الأدلة والمناطات تعلقٌ بالمسألة محل اجتهاده؛ اعتبارًا بكون الأبواب والمسائل الفقهية في الأصل يتعلق بعضها ببعض؛ فإذا اجتهد في مسألة مع هذا الاحتمال فلا يمكن أن يقال في الحكم الذي يهتدي إليه والحال هذه: إنه حكم لا ريب فيه. وحينئذ لا يكون بتركه تقليد غيره في تلك المسألة تاركًا ما يريبه إلى ما لا يريبه([13]).

ورُدَّ ذلك بأن المجتهد الجزئي لما كان بالنسبة إلى المسألة محل اجتهاده كالمطلق تمامًا من جهة العلم بكل ما تعلق بها من الأدلة –ولو كانت من مسائل وأبواب أخرى- فقد صار كالمطلق تمامًا أيضًا من جهة عدم ورود ذلك الاحتمال عليه، وهو احتمال أن يكون قد فاته العلم بما لابد من العلم به من الأدلة والمناطات المتعلقة بالمسألة محل اجتهاده مما هو في المسائل والأبواب الأخرى([14]).

الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك»([15])؛ ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجتهد باستفتاء قلبه وإن أفتاه مجتهدٌ غيره، وفي هذا ترجيحٌ لاجتهاده على اجتهاد غيره ولو كان غيره مطلقًا؛ فيكون الحديث دالًّا من هذا الوجه على اعتبار الاجتهاد الجزئي ومشروعيته([16]).

الدليل الثالث: أن الاجتهاد لو لم يتجزأ للزم أن يكون المجتهد عالمًا بجواب كل مسألة، وهذا ما لم يكن؛ فإن كثيرًا من المجتهدين سُئِلُوا عن وقائع فأجابوا عن بعضها ولم يجيبوا عن بعضها الآخر، والمجتهد إذا لم يُجِب عن مسألة من المسائل فقد لزم أن يصير بذلك مجتهدًا متجزئًا لا مطلقًا؛ لأنه قدر على الاجتهاد في باب دون باب أو مسألة دون مسألة، وهذه حال كثير من المجتهدين المتفق على أنهم مجتهدون كالأئمة الأربعة وكثير من الصحابة والتابعين؛ فلو لم يكن الاجتهاد الجزئي جائزًا ومعتبرًا، ولو كانت القدرة على الاجتهاد المطلق في كل المسائل شرطًا لصحة الاجتهاد في مسألة بعينها لكان هؤلاء الأئمة حينئذ مقلدين لا مجتهدين، وهذا مخالف للإجماع على أنهم مجتهدون لا مقلدون([17]).

وأجيب عن هذا الدليل بأمرين([18]):

أحدهما: أنا لا نُسلِّم أن العلم بالأدلة التي تؤخذ منها الأحكام يستلزم العلم بكل الأحكام؛ لأن العلم بالأحكام يتوقف –بعد حصول العلم بالمآخذ- على أمرٍ آخر، وهو الاجتهاد؛ غاية الأمر أنه يحصل العلم بأدلة الأحكام التمكُّن من العلم بالأحكام، وأما حصول العلم بالأحكام بالفعل فإنما يكون بعد الاجتهاد.

ثانيهما: أنه قد يوجد الاجتهاد ويوجد العلم بالأدلة ولا يوجد الحكم؛ إما لتعارض الأدلة وعدم اطلاع المجتهد على مرجِّحٍ فيتورع عن الفتوى أو لمانعٍ آخر من تشويش فكرٍ أو أن المسألة تحتاج إلى مزيد بحثٍ يشغل المجتهد عنه شاغل في الحال أو لعلمه أن السائل متعنت وغير ذلك من الدواعي.

ورُدَّ من وجهين:

أحدهما: أن قول الواحد منهم: لا أدري. أعم من أن يكون لتعارض الأدلة في تلك المسألة، أو لعدم اجتهاده فيها؛ فحمله على أحدهما لا دليل عليه، إذ هو أمر خفي لا يعرف إلا من جهة ذلك الإمام المفتي، ولم يوجد منه إخبار به.

والوجه الثاني: أن الأصل عدم علم ذلك الإمام بحكم تلك المسألة، فيستصحب فيه الحال، ويحمل على أنه إنما وقف في الجواب لعدم علمه به، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل([19]).

الدليل الرابع: أن المجتهد في بعض المسائل يعرف حكم هذه المسائل التي اجتهد فيها عن دليل منصوب من قِبَل الشارع؛ فيحصل له معرفة حكم الله تعالى؛ فيجب عليه اتباعه، ولا يسوغ له تركه بقول أحدٍ من المجتهدين؛ لأن كل مكلَّفٍ مأمور باتباع قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم عند القدرة على ذلك، ولا يكون مأمورًا باتباع غيرهما؛ باعتبار أنه مبلِّغٌ عن الله وعن رسوله؛ إلا إذا عجز عن معرفة ذلك الحكم بنفسه، وحيث لم يعجز وعلم بنفسه حكم الله تعالى من قوله أو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ظن أن كل مَن خالفه مخالفٌ لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيحرُم عليه اتباعه([20]).

الدليل الخامس: أنه إذا حصَّل المجتهد المقيد ما يتعلق بمسألةٍ مما يتوقف اجتهاده فيها على تحصيله فهو والمجتهد لمطلق ممن حصَل له ما يتعلق بالمسائل كلها في تلك المسألة سواء؛ لعدم الفارق بينهما، وكونه لا يعلم أدلة غيرها من المسائل الأخرى لا مدخل له في تلك المسألة المجتهد فيها([21]).

وأجيب عن ذلك بأنا لا نُسلِّم أن المجتهد في بعض المسائل مثل المجتهد المطلق؛ لاحتمال أن تكون المسألة التي اجتهد فيها المجتهد الخاص لها علاقة بمسائل أخرى لا علم له بها؛ فيضعف ظنه في إدراك الحكم، وحصول إدراك الحكم بالنسبة للمجتهد المطلق والمجتهد الخاص إنما هو بحسب ظنهما لا بحسب الواقع؛ إلا أن احتمال عدم إدراك الحكم يقوى في جانب المجتهد الخاص؛ لعدم إحاطته بالمدارك؛ فيضعف ظنه في إدراك الحكم؛ فيحرُم عليه القول به؛ لأن الأحكام لا تُبنى على الظن الضعيف([22]).

ورُدَّ بأن المجتهد المطلق أيضًا غير عالم بالجميع بالضرورة؛ فيجوز أن يكون لما لا يعلمه تعلُّق بجميع المسائل؛ فلا يصح اجتهاده، وهو ممنوع.

واعُترِض بأن هذا الاحتمال يضعُف أو ينعدم في جانب المجتهد المطلق؛ لإحاطته بالمسائل كلها في الغالب؛ فيقوى ظنه في إدراك الحكم؛ فيجوز القول به؛ بخلاف المجتهد الخاص كما تقدَّم.

ونوقش بأن هذا الاحتمال في المجتهد في البعض أيضًا بعيد؛ لأنه قريب من رتبة المجتهد المطلق محصلًا في المسألة الخاصة التي اجتهد فيها ما حصَّل المجتهد المطلق فيها([23]).

الدليل السادس: أنه لو لم يكن الاجتهاد جائزًا في بعض المسائل دون بعض لما توقف كثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم عن الفتوى في بعض المسائل وعدم البت فيها بحكمٍ؛ لكنه ثبت التوقف عنهم حتى صار شعارًا لهم ولغيرهم من العلماء الآخرين بعدهم؛ فدل ذلك على جواز تجزئة الاجتهاد([24]).

 

القول الثاني: عدم جواز الاجتهاد الجزئي مطلقًا.

ذهب منلا خسرو والشوكاني إلى أنه يُشترط للاجتهاد ولو في بابٍ أو مسألة أن تتوفر في العالِم شروط الاجتهاد المطلق؛ فلا يجوز الاجتهاد في بابٍ دون باب أو مسألة دون مسألة للعالِم ولو تحصَّل له فيها مناط الاجتهاد وأحاط بكل ما يتعلق بها من العلوم المساعدة من الأصول ومقاصد الشريعة وتوفرت فيه شروط الاجتهاد بالنسبة للباب أو المسألة التي تعرَّض لها؛ فلا يجوز له الاجتهاد فيها حتى تكون هذه المنزلة حاصلة عنده في جميع أبواب الفقه ومسائله؛ بل يلزمه أن يُقلِّد غيره من المجتهدين الذين بلغوا رتبة الاجتهاد المطلق؛ لأن الاجتهاد لا يتجزأ([25]).

يقول الشوكاني: «الحق أن الاجتهاد لا يتبعض وأنه لا يقدر على الاجتهاد في بعض المسائل إلا من قدر على الاجتهاد في جميعها»([26]).

وقد اختار هذا الرأي الشيخ أحمد إبراهيم بك؛ فهو يرى أن مَن استوفى شروط الاجتهاد في بابٍ أو مسألة لا ينبغي أن يُسمى مجتهدًا جزئيًّا؛ لأن ملكة الاجتهاد والاستنباط لا تتجزأ، وهي إذا ثبتت لشخص قدر بها على الاستنباط في كل أبواب الشريعة؛ فهو في الحقيقة محصل للأحكام في هذا الباب وعارف بأصوله وأدلته فقط، وليس هذا هو المراد بالاجتهاد؛ فهذا منه ميلٌ إلى القول بعدم التجزؤ؛ إلا أنه قال بعد ذلك: «على أنه يكفي لثبوت كون الإنسان مجتهدًا أن يستطيع الرجوع إلى النصوص من الكتاب والسنة ويعرف مظان ما يريده ويقدر على البحث عنه واستنباط الحكم منه، ولم يشترط أحدٌ أن يكون حافظًا لشيء من ذلك عن ظهر قلب»([27])؛ فكأنه بذلك يؤكد على أن باب الاجتهاد المطلق في العصر الحديث مفتوحٌ لكل ذي ملكة؛ فمَن كان تحصَّلت له ملكة الاستنباط، ومع تيسُّر الرجوع إلى النصوص الشرعية والفقهية في العصر الحديث، فهو مجتهدٌ مطلَق لا جزئي؛ ففتح باب الاجتهاد من حيث ظُنَّ أنه أغلقه بمنع تجزؤ الاجتهاد.

وقد استدلَّ من منع تجزؤ الاجتهاد على ذلك بعدة أدلة؛ منها:

الدليل الأول: أنه يحتمل أن تكون كل مسألة يُقدَّر جهل المجتهد بها يجوز تعلقها بالحكم الذي يبحث عنه، والأحكام الشرعية مرتبطٌ بعضها ببعض، وعلى هذا فلا يتمكن المجتهد الجزئي من استخراج الحكم لهذه المسألة المفروضة؛ لأن العلماء اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم في مسألة حتى تحصل له غلبة الظن بحصول المقتضي للحكم وعدم المانع منه، وهذا إنما يحصل للمجتهد المطلق، أما المجتهد في بعض المسائل فلم يحصل له ظن عدم المانع؛ لأنه لم تحصل له غلبة الظن بما لم يعلمه، ومن لم يقدر على استخراج الحكم لمسألة لا يقدر على استخراج الحكم لمسألة أخرى، وعلى هذا لا يتجزأ الاجتهاد([28]).

الدليل الثاني: أن مَن لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر، وأكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض ويأخذ بعضها بحجز بعض؛ ولاسيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة؛ فإنها إذا تمت كان مقتدرًا على الاجتهاد في جميع المسائل وإن احتاج على مزيد بحثٍ، وإن نقصت لم يقتدر على شيء من ذلك، ولا يثق من نفسه لتقصيره ولا يثق به الغير لذلك([29]).

وقد نوقشت هذه الأدلة بأن المفروض في المجتهد في بابٍ معين أو مسألة معينة توفر شروط الاجتهاد بالنسبة للموضوع الذي يبحث فيه، وهذا متحقق في الاجتهاد الجزئي، أما حصول جميع ما يتعلق بالباب المجتهد فيه أو تلك المسألة من الأدلة فيكون –كما سبق- بالاطلاع عليه بنفسه أو أخذه من مجتهدٍ آخر أو جمع الأمارات التي قررها الأئمة وضموا كل جنسٍ إلى جنسه؛ وبذلك يحصل للمجتهد في مسألة معينة ظنٌّ غالب بوجود المقتضي للحكم وعدم المانع منه، وإذا كان كذلك فيبعد احتمال وجود بعض المسائل التي لها علاقة بالمسألة التي يبحث عن حكمها لم يطلع عليها ولم ينظر فيها؛ فلا يقدح ظنه الحكم لبعده؛ فيجب عليه العمل بالحكم الذي ظنه([30]).

 

القول الثالث: التفصيل.

نَسَبَ بعض الأصوليين كالزركشي والمرداوي لبعض العلماء بدون تعيينٍ أنه يصح الاجتهاد الجزئي في بابٍ دون باب، ولا يصح في مسألة دون مسألة([31]).

وقد استدل هؤلاء على قولهم بأن مسائل الباب الواحد كتلة واحدة يُفسر بعضها بعضًا ويُقيِّد بعضها بعضًا ولا يمكن تجزئتها لشدة ارتباط بعضها ببعضٍ أما مسائل بابين مختلفين فيمكن تجزؤتها لعدم ارتباط بعضها ببعض لتباين موضوعاتهما([32]).

وذهب ابن الصباغ والكلوذاني إلى جواز تجزئة الاجتهاد بأن يتخصص العالِم في مسائل المواريث؛ أما غير المواريث من أبواب الفقه ومسائله فلا يتجزأ الاجتهاد فيها عندهم؛ وعليه فمن وصل إلى مرتبة الاجتهاد في مسائل الفرائض جاز له أن يُفتي فيها ويُسمى مجتهدًا فيها ولا يجوز له تقليد غيره فيها([33]).

قال الكلوذاني: «فإن كان عالـمًا بالمواريث وأحكامها دون بقية الفقه جاز له أن يجتهد فيها، ويفتي غيره دون بقية الأحكام؛ لأن المواريث لا تبتني على غيرها، ولا تستنبط من سواها إلا في النادر، والنادر لا يقدح الخطأ فيه في الاجتهاد، ألا ترى أنه قد يخفي على المجتهد يسير من النصوص، ويغمض عليه قليل من الاستنباط، ولا يقدح ذلك في كونه مجتهدًا»([34]).

واستدلوا بأن مسائل المواريث لها أدلة قطعية نصت عليها من الكتاب والسنة ولا صلة بينها وبين أبواب الفقه الأخرى([35]).

وأجيب عن هذا بأن أصحاب هذا المذهب يوافقون الجمهور في القول بتجزئة الاجتهاد في المواريث، وهذا ما يقول به الجمهور؛ بل هو جزء من دعواهم؛ أما القول بالتفرقة بين المواريث وغيرها من أبواب الفقه فهذه مجرد دعوى لا تستند إلى دليل، وهي مردودة على أصحابها؛ لأن المواريث وغيرها من مسائل الفقه لا فرق بينهما البتة من هذه الناحية؛ فمن اجتمعت فيه شروط الاجتهاد وأحاط بكل ما له علاقة بالمسألة المجتهد فيها؛ سواء في أي مسألة من مسائل الفقه؛ فإنه يتساوى مع من اجتمعت له هذه الشروط بالنسبة للمواريث؛ فالكل يجوز له الاجتهاد في المسائل التي اجتمعت له فيها شروط الاجتهاد من غير فرق([36]).

 

القول الرابع: التوقف.

نسب بعض الأصوليين كمنلا خسرو وابن أمير الحاج إلى ابن الحاجب التوقف في مسألة تجزؤ الاجتهاد([37])؛ وعمدتهم في ذلك أن ابن الحاجب في مختصره قد عرض المذاهب في المسألة وأدلتها وتوقف عن الترجيح فيها([38]).

 

الترجيح:

المختار من أقوال العلماء في مسألة تجزؤ الاجتهاد هو رأي الجمهور، وهو جواز الاجتهاد الجزئي مطلقًا؛ وذلك لأمور؛ منها:

الأمر الأول: أن الصدارة في بعض العلوم أو بعض الأبواب الفقهية كان موجودًا في عهد السلف رضي الله عنهم؛ وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ورد عنه من أن بعض الصحابة أوسع إحاطة ببعض العلوم أو الأبواب؛ مثل قوله: «أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب»([39])، وقوله: «أقضاهم علي بن أبي طالب»([40])؛ وهذا كالنص على أن معاذًا مجتهد في أبواب الفقه المختلفة وأن زيدًا مجتهدٌ في باب المواريث وأن عليًّا مجتهدٌ في باب القضاء([41]).

الأمر الثاني: أن مَن أنعم النظر في حجج القائلين بمنع الاجتهاد الجزئي يظهر له أنها راجعة إلى أمرين:

الأول: اعتبار أن الاجتهاد ملكة لا تتجزأ.

والثاني: اعتقاد تعلق أبواب الشرع ومسائله بعضها ببعض.

فأما الأمر الأول فيُجاب عنه بأن التجزؤ المقصود إنما محطُّه نفس فعل الاجتهاد لا ملكته، فكان الخلط بين ملكة الاجتهاد ونفس فعله سبب الارتباك في كلام بعض المانعين؛ وذلك أن المراد بالتجزؤ في الاجتهاد الجزئي التبعيض في أجزاء الكلي لا في أفراد الكل؛ فملكة استنباط حكم مسألة ما هي فرد جزئي مندرج في كلي هو ملكة الاستنباط، وملكة استنباط حكم مسألة أخرى هي فرد جزئي آخر مندرج في كلي هو تلك الملكة أيضًا، ومن ثم فبساطة ملكة الاستنباط –أي عدم تركبها من أجزاء- لا تنافي التجزؤ بهذا المعنى، ولعل القائل بمنع تجزؤ الاجتهاد اشتبه عليه تبعيض جزئيات الكلي بتبعيض أجزاء الكل.

وأما الأمر الثاني فيُجاب عنه بأن فرض المسألة أن المجتهد المتجزئ فيما يجتهد فيه من المسائل كالمجتهد المطلق من جهة علمه بكل ما يتعلق بالمسألة من أدلة، ولو كانت من أبواب أخرى أو مسائل أخرى([42]).

وبهذا يظهر رجحان جواز تجزؤ الاجتهادـ.

تجزؤ الاجتهاد في التطبيق المعاصر:

1- أسباب ترجيح القول بتجزؤ الاجتهاد في العصر الحديث:

أقول بداية: إنه إذا كان قد ظهر رُجحان قول الجمهور بتجزؤ الاجتهاد مطلقًا في بحث التناول الأصولي للمسألة؛ فإن الواقع المعاصر فيه من المستجدات ما يؤيد هذا الترجيح ويزيد من الثقة فيه، وذلك لعدة أسباب؛ منها:

السبب الأول: أن القول بعدم جواز تجزئة الاجتهاد يؤدي إلى توقف الاجتهاد وسد بابه بالكلية؛ لندرة وجود أهل الاجتهاد المطلق؛ مع أن الحاجة ماسة جدًّا إلى مَن يجتهد الآن، ولو اجتهادًا جزئيًّا؛ لكثرة المسلمين وانتشارهم في جميع الأقطار مما أدى إلى كثرة المسائل والوقائع التي تحتاج إلى الاجتهاد لعدم وجود النص عليها([43]).

السبب الثاني: أن الحصول على معرفة حكم هذه المسائل التي تستجد وتنزل بالمسلمين عن طريق الاجتهاد في الوقت الحاضر سهلٌ جدًّا؛ لتوفر كل ما يحتاج إليه المجتهد؛ فمن أراد الاجتهاد في أي مسألة فقهية استحضر الأدلة من آيات الأحكام وأحاديثها وغيرها وبحث عما نُسخ منها وعرف مواقع الإجماع وصلاحية الأحاديث للاحتجاج، وكان على بصيرة بوضع لغة العرب وفهم تصرفهم فيها ودلالات الألفاظ أمكنه استنباط حكم هذه المسائل التي تحدث للأمة، وهذا كله ميسور؛ فالمصادر متوفرة، ولم يبق إلا العمل([44])، فحتى لو فرضنا صحة القول بعدم جواز تجزئة الاجتهاد في العصور المتقدمة فإن ما أُتيح في العصر الحاضر يرجُح معه جوازه الآن.

السبب الثالث: أن الحاجة إلى الاجتهاد الجزئي في هذا العصر ملحة من أجل مسايرة مستجداته الكثيرة التي لا تكاد تنقضي، وتجديد الدين فيه تجديدًا يقوم على الاجتهاد الصادر من أهله والواقع في محله؛ ففتح باب الاجتهاد الجزئي يجلب للأمة مصالح كثيرة ويدفع عنها مفاسد كثيرة([45]).

السبب الرابع: توفير البديل عن المجتهد المطلق، وذلك أن المجتهد المطلق القادر على الاجتهاد في جميع أبواب الشرع ومسائله نادر الوجود في هذا العصر، وحينئذ فإن البديل عن هذا المجتهد المطلق هو مجموع المجتهدين الجزئيين القادرين في مجموعهم على هذا النوع من الاجتهاد؛ بحيث إن المجتهدين الجزئيين الذين يملك كل واحد منهم أن يجتهد في باب بعينه من أبواب الفقه المختلفة يكوِّنون في مجموعهم مجتهدًا واحدًا مطلقًا يجتهد في كل أبواب الفقه؛ بمعنى أن ما يعجز بعض المجتهدين الجزئيين أن يجتهد فيه من أبواب الفقه فإن بعضهم الآخر –في الغالب- قادرٌ على الاجتهاد فيه؛ فإنه من المعلوم أن من المجتهدين المتخصصين في مؤسسات الفتوى والمجامع الفقهية وغيرها اليوم مَن هو خبير في باب المعاملات والاقتصاد الإسلامي دون باب الأحوال الشخصية مثلًا، في حين أن منهم من هو خبير في باب الأحوال الشخصية دون غيره من الأبواب الأخرى، وإذا كان كذلك فيمكن باجتماع هؤلاء المجتهدين المتخصصين مختلفي القدرات والمعارف بالنسبة إلى أبواب الفقه أن يوجد المجتهد المطلق القادر على الاجتهاد في تلك الأبواب كلها، ويعوض بذلك عن فقده أو ندرته([46]).

السبب الخامس: أن المشكلة كلما كانت معقدةً أكثر كان إسناد النظر فيها إلى أهل التخصص أنفع، وكلما كانت أعم وأشمل كان جعل البحث والاجتهاد فيها بيد الجماعة أنجح، ثم إنه مع تسارع المستجدات وتشابكها تنشأ الحاجة إلى وجود مؤسسات ومجامع في الأمة الإسلامية، ليس للقيام بالاجتهاد الجماعي المطلق بل بالاجتهاد الجماعي الجزئي، ويُراد بهذا أن توجد في الأمة مجامع فقهية للاجتهاد الجماعي في مجال المعاملات المالية والاقتصادية، وأخرى في مجال القضايا الطبية، وثالثة في مجال السياسة الشرعية، وهكذا حتى تستوعب هذه المجامع كل مجالات الحياة([47]).

السبب السادس: أن تجزؤ الاجتهاد يُشبه ما عرفه عصرنا من أنواع التخصص الدقيق؛ فمثلًا في القانون لا يوجد أستاذ في كل فروع القانون؛ بل في المدني أو الجنائي أو الإداري أو الدولي مثلًا، وقد يكون أحدهم أستاذًا كبيرًا يُرجع إليه ويؤخذ برأيه في اختصاصه وهو شبه عامي في المجالات الأخرى، وقد أثبت التخصص الدقيق في عصرنا الحاضر كفاءته في مواجهة الإشكالات في سائر المجالات المختلفة.

2- التطبيقات المعاصرة لتجزؤ الاجتهاد:

لقد تحقق تجزؤ الاجتهاد في التطبيق المعاصر في صورٍ عدة؛ من أهمها: المجامع الفقهية؛ فقد اشُترط في سائرها أن يكون عضوها مجتهدًا، وقد بيَّنوا أن المقصود بهذا الشرط هو أن يكون المجتهد المعاصر أو عضو المجمع متحققًا –في الأقل الأدنى- بشروط الاجتهاد الجزئي في المسألة محل اجتهاده، ولا يشترط أن يكون متحققًا بشروط الاجتهاد المطلق، وذلك لأنه بأقل من شروط الاجتهاد الجزئي لا يكون مجتهدًا رأسًا، لا مطلقًا ولا متجزئًا؛ فلا يعتبر نظره في المسألة حينئذ، ولأن تحققه بشرط المجتهد المطلق قدر زائد عن المطلوب لاعتبار اجتهاده وجواز تقليده فيه، كما هو رأي الأكثرين الذين أجازوا الاجتهاد الجزئي([48]).

ومن ذلك أيضًا آلية تقسيم الإدارات الإفتائية داخل مؤسسات الفتوى المختلفة؛ حيث قُسمت هذه المؤسسات في الغالب إلى إدارات مختلفة كلٌّ منها متخصص في بابٍ من الفقه الإسلامي أو نوعٍ محدد من وسائل الفتاوى، وقد اتضح ذلك بما سبق وبينته في الفصل الأول من التقسيمات الشرعية في الهياكل التنظيمية لمؤسسات الفتوى المختلفة.

كما أن تجزؤ الاجتهاد هو ما يقع في عصرنا الحاضر من خلال الرسائل العلمية المتخصصة للحصول على درجة الدكتوراه؛ حيث يمكن أن يصبح صاحبها مجتهدًا في موضوع رسالته إذا توافرت فيه شروط الاجتهاد.

3- مزايا تطبيق تجزؤ الاجتهاد في التطبيق المعاصر:

أدى تطبيق تجزؤ الاجتهاد في عصرنا هذا إلى فوائد ومزايا عدة؛ وهي:

أ- تصحيح اجتهادات كثير من الفقهاء المجتهدين المعاصرين؛ إذ هم في الواقع قد لا يقتدرون على الاجتهاد والنظر في جميع أبواب الفقه ومسائله؛ بل الغالب عليهم أن منهم مَن يُجيد في باب الاقتصاد والمعاملات المالية مثلًا، ومنهم من يُجيد في باب القضايا الطبية وما تعلق بها، ومنهم من يجيد في باب السياسة الشرعية والعلاقات الدولية وهكذا؛ فهم مجتهدون فيما تخصصوا فيه؛ ولما رُجِّحَ في التطبيق المعاصر صحة الاجتهاد الجزئي صحت اجتهادات هؤلاء؛ ولو كان الاجتهاد لا يصح إلا من المجتهد المطلق للزم أن تكون اجتهادات أكثر أعضاء مؤسسات الفتوى والمجامع الفقهية وغيرهم من العلماء المؤهلين غير صحيحة، وبخاصة إذا كانت من قبيل الاجتهاد في مسائل لم يسبق لها أصولٌ في المذاهب تُبنى عليها كما هو الواقع في اجتهادهم في أكثر المستجدات([49]).

ب- استغلال الطاقات والقدرات المتاحة وعدم إهدارها؛ وذلك أن العادة جارية في كل عصر بأن يوجد فيه من الناس من أوتي ملكة في علم بعينه من العلوم أو باب بعينه من أبواب العلم، ولا تكون له ملكة في غيره من العلوم والأبواب فلماذا يُحرم العلم والشرع من طاقة أمثال هذا وقدراته حين يُمنع من استغلال ملكته وقدرته فيما له فيه من أبواب الفقه ومسائله ملكة واقتدار بسبب عدم ملكته وقدرته في باب آخر من تلك الأبواب والمسائل؟!؛ بل إن من كبار المجتهدين المطلقين المتفق على قدرتهم على الاجتهاد من كان –مع كونه قادرًا على الاجتهاد في كل أبواب الفقه- أعظم ملكة في باب من أبواب الفقه منه في الأبواب الأخرى([50])، وهذا ما يؤكده قوله عليه الصلاة والسلام: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»([51]).

جـ- إثبات كمال الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان بوفائها بأحكام المستجدات في كل عصر من الأعصار؛ لأن الاجتهاد هو نقطة الارتكاز التي يقوم عليها الحكم بصلاح شريعة الإسلام لكل زمان ومكان؛ فإذا قيل ببطلان اجتهادات المجتهدين الجزئيين في هذا العصر لعدم مشروعية الاجتهاد الجزئي مع ندرة أهل الاجتهاد المطلق وتكاثر المستجدات في كل المجالات للزم دخول النقص على الشريعة من هذا الجانب، ولزم عجز الشريعة عن مسايرة هذه المستجدات بالحكم والتوجيه، وكل هذا باطل فما أدى إليه يكون باطلًا([52]).

د- تيسير الاجتهاد للفقهاء وطلبة العلم وفتح بابه لهم، وذلك من وجهين:

أحدهما: تمهيد السبيل إلى الاجتهاد الجزئي بفتح بابه لمن لا يقتدر من الفقهاء وطلبة العلم على الاجتهاد المطلق الذي يُشترط له العلم بأغلب أدلة الأحكام في أبواب الفقه المختلفة.

الثاني: تمهيد السبيل إلى الاجتهاد المطلق بفتح باب الاجتهاد الجزئي أولًا؛ لأن طلب الاجتهاد الجزئي يفضي إلى طلب الاجتهاد المطلق غالبًا؛ لأن من نال في العلم رتبة يطمح غالبًا إلى بلوغ ما بعدها، وأن مَن تمكن من الاجتهاد في باب فإن الغالب من شأنه أن يحاول التمكن من باب ثان وثالث بعدئذ إلى أن يصير متمكنًا من الأبواب كلها، وهذا هو المجتهد المطلق([53]).

وإذا أقررنا بجواز تجزؤ الاجتهاد وتخصص المجتهدين وأنه يتوافق مع ما يعرفه العصر الحديث من أنواع التشعب والتخصص العلمي فإن ذلك لا يصح إلا بأن يكون الشخص ملمًّا بضروريات العلم الشرعي؛ أي: العدة العلمية العامة للفهم والاستنباط، وبخاصة معرفة مقاصد الشريعة، وأن يدرس المسألة الاجتهادية التي ينظر فيها دراسة علمية فاحصة مستوعبة بحيث يحيط بها من جميع جوانبها متثبًا من الأدلة وموازنًا بينها وبين معارضها حتى يتمكن من الاجتهاد فيها([54]).

 

 

([1]) مقاييس اللغة لابن فارس (1/ 455) مادة (جزأ).

([2]) الصحاح للجوهري (1/ 40) مادة (جزأ).

([3]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 290)، وتشنيف المسامع للزركشي (4/ 576)، والبحر المحيط له (8/ 242)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/216).

([4]) ينظر: التجديد الأصولي لمجموعة من المؤلفين (ص 720)، والمعلمة المصرية للعلوم الإفتائية – المدخل إلى علم الإفتاء (1/ 194).

([5]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 290)، وتشنيف المسامع للزركشي (4/ 576)، والبحر المحيط له (8/ 242)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/216)، وتجزؤ الاجتهاد عند الأصوليين، مختار بابا آدو، بحث منشور في مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، السنة الثالثة عشرة، العدد الخامس عشر، (ص 427).

([6]) المستصفى للغزالي (ص 344).

([7]) ينظر: المستصفى للغزالي (ص 344)، والمحصول للرازي (6/ 25)، وروضة الناظر لابن قدامة (2/ 337)، والإحكام للآمدي (4/ 164)، وشرح تنقيح الفصول للقرافي (ص 437)، ونهاية الوصول للصفي الهندي (8/ 3832)، وجمع الجوامع للسبكي بشرحه تشنيف المسامع للزركشي (4/ 576)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 242)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3886)، وكشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري (4/ 17)، والتحرير للكمال بن الهمام بشرحه التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 293).

([8]) المستصفى للغزالي (ص 345).

([9]) المحصول للرازي (6/ 25، 26).

([10]) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 164).

([11]) أخرجه الترمذي في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، باب، حديث رقم (2518)، (4/ 668)،  والنسائي في كتاب آداب القضاة، باب: الحكم باتفاق أهل العلم، حديث رقم (5397)، (8/ 230)، صححه الترمذي والحاكم في المستدرك (1/ 116).

([12]) ينظر: أصول الفقه لطه عبدالله الدسوقي (ص 293)، والتجديد الأصولي لمجموعة من المؤلفين (ص 721).

([13]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 292)، وتشنيف المسامع للزركشي (4/ 576)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3886)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/216)، والتجديد الأصولي لمجموعة من المؤلفين (ص 722).

([14]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 293)، وتجزؤ الاجتهاد عند الأصوليين لمختار بابا آدو (ص 447).

([15]) رواه أحمد في مسنده (29/ 532) والدارمي في سننه، حديث رقم (2575)، (3/ 1649)، قال النووي في رياض الصالحين، تحقيق: ماهر ياسين الفحل، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1428هـ، 2007م، (ص 198): «حديث حسن».

([16]) ينظر: فواتح الرحموت لعبدالعلي الأنصاري (405)، وتجزؤ الاجتهاد عند الأصوليين لمختار بابا آدو (ص 439).

([17]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 290)، وتشنيف المسامع للزركشي (4/ 576)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3886)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/216)، ومرقاة الوصول وشرحها مرآة الأصول لمنلا خسرو (ص 369)، وأصول الفقه لطه عبدالله الدسوقي (ص 293).

([18]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 290)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 587)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3886)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/216).

([19]) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 587).

([20]) ينظر: فواتح الرحموت لعبدالعلي الأنصاري (2/ 405).

([21]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 292)، وفواتح الرحموت لعبدالعلي الأنصاري (2/ 406).

([22]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 292).

([23]) تنظر هذه المناقشة في: فواتح الرحموت لعبدالعلي الأنصاري (2/ 406).

([24]) ينظر: روضة الناظر لابن قدامة (2/ 337)، وكشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري (4/ 17).

([25]) ينظر: مرقاة الوصول وشرحها مرآة الأصول لمنلا خسرو (ص 369)، والقول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: عبدالرحمن عبدالخالق، دار القلم، بيروت، الطبعة الأولى، 1396هـ، (ص 90)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/217).

([26]) ينظر: القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: عبدالرحمن عبدالخالق، دار القلم، بيروت، الطبعة الأولى، 1396هـ، (ص 90).

([27]) علم أصول الفقه ويليه تاريخ التشريع الإسلامي، أحمد إبراهيم بك، دار الأنصار، القاهرة، ب.ط، ب.ت، (ص 110).

([28]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 292)، وتشنيف المسامع للزركشي (4/ 576)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3886)، ومرقاة الوصول وشرحها مرآة الأصول لمنلا خسرو (ص 369)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/216)، والتجديد الأصولي لمجموعة من المؤلفين (ص 722).

([29]) ينظر: مرقاة الوصول وشرحها مرآة الأصول لمنلا خسرو (ص 369)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/ 217).

([30]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 293)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3886)، ومرقاة الوصول وشرحها مرآة الأصول لمنلا خسرو (ص 369)، وفواتح الرحموت لعبدالعلي الأنصاري (2/ 406)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/ 216)، وتجزؤ الاجتهاد عند الأصوليين لمختار بابا آدو (ص 447).

([31]) انظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 358)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3886).

([32]) ينظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 358)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3886)، وأصول الفقه لطه عبدالله الدسوقي (ص 293).

([33]) ينظر: التمهيد للكلوذاني (4/ 393)، وأدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 91)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 358)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3886).

([34]) التمهيد للكلوذاني (4/ 393).

([35]) المصادر السابقة.

([36]) ينظر: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، حسن مرعي، جامعة الإمام، الرياض، الطبعة الأولى، 1396هـ، (ص 128)، وتجزؤ الاجتهاد عند الأصوليين لمختار بابا آدو (ص 451).

([37]) ينظر: التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 293)، ومرقاة الوصول وشرحها مرآة الأصول لمنلا خسرو (ص 369).

([38]) ينظر: مختصر المنتهى لابن الحاجب بشرحه بيان المختصر للأصفهاني (3/ 288).

([39]) أخرجه الترمذي في أبواب المناقب، باب: مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، حديث رقم (3791)، (5/ 665)، وابن ماجه في افتتاح الكتاب، حديث رقم (154)، (1/ 55)، صححه الترمذي والحاكم في المستدرك (3/ 477).

([40]) أخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب، حديث رقم (154)، (1/ 55)، وأبو يعلى الموصلي في مسنده (10/ 141)، صححه ابن حبان. ينظر: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، أبو الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: محمد عبدالرزاق حمزة، دار الكتب العلمية، (ص 548).

([41]) ينظر: تجزؤ الاجتهاد عند الأصوليين لمختار بابا آدو (ص 449).

([42]) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 292)، والتجديد الأصولي لمجموعة من المؤلفين (ص 722)، والمعلمة المصرية للعلوم الإفتائية – المدخل إلى علم الإفتاء (1/ 197).

([43]) ينظر: تجزؤ الاجتهاد عند الأصوليين لمختار بابا آدو (ص 447)، وبحوث في الاجتهاد، عبدالقادر محمد أبو العلا، مطبعة الأمانة، مصر، الطبعة الأولى، 1407هـ، (ص 170)، والتجديد الأصولي لمجموعة من المؤلفين (ص 722).

([44]) ينظر: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، وهبة الزحيلي، جامعة الإمام، الرياض، الطبعة الأولى، 1396هـ، (ص 189)، وتجزؤ الاجتهاد عند الأصوليين لمختار بابا آدو (ص 448).

([45]) ينظر: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية – المدخل إلى علم الإفتاء (1/ 197).

([46]) ينظر: السابق (1/ 199).

([47]) ينظر: التجديد الأصولي لمجموعة من المؤلفين (ص 723)، والمعلمة المصرية للعلوم الإفتائية – المدخل إلى علم الإفتاء (1/ 200).

([48]) ينظر: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية – المدخل إلى علم الإفتاء (1/ 198).

([49]) ينظر: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية – المدخل إلى علم الإفتاء (1/ 198).

([50]) ينظر: التجديد الأصولي لمجموعة من المؤلفين (ص 723)، والمعلمة المصرية للعلوم الإفتائية – المدخل إلى علم الإفتاء (1/ 199).

([51]) تقدم تخريجه.

([52]) ينظر: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية – المدخل إلى علم الإفتاء (1/ 198).

([53]) المصدر السابق (1/ 199).

([54]) ينظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 243)، والتجديد الأصولي لمجموعة من المؤلفين (ص 723).

اترك تعليقاً