البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المبحث الخامس عشر: المفتي هل يعمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه؟.

95 views

أجمع الأصوليون على أن المفتي يجب أن يعمل بموجَب اعتقاده فيما له وعليه([1])، قال المرداوي: «وهو واضح»([2]).

وذكر ابن الصلاح أن مَن اكتفى من فتياه بموافقة قولٍ أو وجهٍ في المسألة من غير نظرٍ في ترجيح ولا تقيُّد به فقد جهل وخرق الإِجماع([3])، ونَقَلَ عن أبي الوليد الباجي أن بعض المالكية كان يقول بخلاف ذلك وأنه كان يقول: “الذي لصديقي عليَّ أن أفتيه بالرواية التي توافقه”([4])؛ قال ابن الصلاح عن الباجي: «وحَكَى عمن يثِق به أنه وقعت له واقعة وأفتى فيها وهو غائب جماعة من فقهائهم من أهل الصلاح بما يضرُّه، فلما عاد سألهم فقالوا: ما عَلِمنا أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه»([5])، ورده أبو الوليد فقال: «وهذا لا يجوز عند أحدٍ يُعتَدُّ به في الإِجماع»([6]).

فصورة المسألة إذن أن تُعرَض على المفتي المجتهد مسألةٌ يكون فيها طرفًا؛ سواء كانت تتعلق به نفسه أو مَن يهتم لأمره من قريب أو صديق، ويكون في المسألة قولان أحدهما يعود عليه بالضرر، وهذا القول هو ما يعتقده ويُفتي به غيرَه؛ فيختار المفتي القولَ الآخرَ الذي لا يضره؛ فالإجماع على أن ذلك لا يجوز.

وقد قرر الإمام مالك هذا المعنى فقال: «لا يكون العالم عالمًا حتى يعمل في خاصة نفسه بما لا يُلزمه الناسَ ولا يُفتيهم به»([7]).

أما المفتي المنتسب فله نظرٌ آخر عند الأصوليين؛ ذلك أن المنتسب إن كان ذا اجتهادٍ فأداه اجتهاده إلى مذهب إمامٍ آخر غير مَن ينتسب إليه فإنه يعمل به في خاصة نفسه، وإذا أفتى به بيَّن ذلك في فتواه؛ فيقول: المذهب هو كذا ورأيي هو كذا([8])، وقد مر بيان ذلك في المطلب السابق؛ ومن ذلك ما قاله علاء الدين بن عابدين: «ذكروا أنه لا يجوز العمل بالقول الضعيف إلا للإنسان في خاصة نفسه إذا كان له رأيٌ»([9]).

وإن لم يكن ذا اجتهادٍ فرأى صحة قولٍ آخر غير المذهب الذي ينتسب إليه فإن كان أحوط أخذ به وإلا فلا؛ قال في المسودة: «فإن ترك مذهبه إلى مذهبٍ هو أسهل عليه وأوسع فالصحيح امتناعه، وإن كان تركه لكون الآخر أحوط المذهبين؛ فالظاهر جوازه، ثم عليه بيان ذلك في فتواه. قال: وليس له أن يتخير من القولين أو الوجهين»([10]).

وهذا في غير حال الضرورة كما ذكر المالكية؛ فالمفتي يجوز له العمل بالضعيف في خاصة نفسه إذا تحقق الضرورة أما غيره فلا؛ قال الدسوقي: «ولا يجوز للمفتي الإفتاء بغير المشهور؛ لأنه لا يتحقق الضرورة بالنسبة لغيره كما يتحققها من نفسه؛ ولذلك سدوا الذريعة وقالوا بمنع الفتوى بغير المشهور خوف ألا تكون الضرورة متحققة لا لأجل أنه لا يُعمل بالضعيف ولو تحققت الضرورة يومًا ما»([11]).

فتحصَّل من ذلك أن المنتسب غير ذي الاجتهاد إن كان طرفًا في الفتوى وكان أخذه بمذهبه يضره فلا يجوز له أن يأخذ بمذهبٍ آخرَ ولو رأى صحة هذا المذهب إلا في حال الضرورة له أو لصديقه؛ جاء في حاشية الدسوقي: «يجوز للمفتي أن يُفتي صديقه بغير المشهور إذا تحقق ضرورته؛ لأن شأن الصديق لا يخفى على صديقه»([12]).

 

([1]) انظر: أصول ابن مفلح (4/ 1564)، والمختصر في أصول الفقه لابن اللحام (ص 168)، التحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 4095)، وغاية السول لابن المبرد (ص 155)، وشرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 579)، وأدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 125).

([2]) التحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 4095). وانظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 579).

([3]) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 125).

([4]) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 125). وانظر: أصول ابن مفلح (4/ 1564).

([5]) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 125).

([6]) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 125). وانظر: أصول ابن مفلح (4/ 1565).

([7]) أسنده الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/ 339).

([8]) ينظر: المسودة لآل تيمية (ص 536).

([9]) قرة عين الأخيار لعلاء الدين بن عابدين (7/ 492).

([10]) المسودة لآل تيمية (ص 536).

([11]) حاشية الدسوقي (4/ 130).

([12]) المصدر السابق.

اترك تعليقاً