البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الأول مسائل "المفتي" الأصولية

المبحث السابع: مفتي الضرورة

90 views

الضرورة لُغةً اسمٌ لمصدر “الاضطرار”؛ تقول: “حملتني الضرورة على كذا، وقد اضطر فلان إلى كذا وكذا”؛ مِن “ضرَّ”: ضد النفع. ورجل ذو ضرورة؛ أي: ذو حاجة، وقد اضطر إلى الشيء؛ أي: أُلجئ إليه، فمن معانيها: الحاجة والإلجاء والشدة والنقصان والضيق([1]).

واصطلاحًا: الحالةُ المُلجِئَةُ لتناولِ الممنوعِ شرعًا؛ فهي: بلوغ المكلَّف حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارَب([2]).

والمراد بمفتي الضرورة: العالِم الذي لم تتوافر فيه شروط المفتي، وعلى رأسها الاجتهاد؛ فهو مقلِّدٌ ولكن اقتضت الضرورةُ أن يكون متصدرًا للفتوى لسببٍ أو لآخر([3]).

وقد أشار الأصوليون وغيرهم إلى هذا المصطلح في مؤلفاتهم عند حديثهم عن حكم فتيا غير المجتهد؛ يقول الصفي الهندي عند كلامه على جواز فتيا غير المجتهد الذي هو عدل ثقة متمكِّن من فَهم كلام المجتهد ومقاصده فيرويه للعامي المستفتي ليعمل به: «والأولى في ذلك التمسُّك بالضرورة والحاجة؛ فإنا لو لم نُجَوِّز هذا لأدَّى ذلك إلى أن الشريعة غير وافية ببيان أكثر الوقائع الحادثة، ومعلوم أن ذلك يؤدي إلى التهارج وفساد أحوال الناس»([4]).

ويقول ابن حمدان بعد ذكر شروط المفتي: «فمن أفتى وليس على صفة من الصفات المذكورة من غير ضرورة فهو عاص آثم»([5])، ويخصص اللقانيُّ في كتابه “منار الفتوى” بابًا عن: “أهل إفتاء الضرورة”([6])؛ ويعلق على قول ابن رشد لما سئل عن صفة المفتي في طوائف المنتسبين إلى العلم الشرعي: «طائفة منهم اعتقدت صحة مذهب مالك تقليدًا بغير دليل؛ فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه دون أن تتفقه في معانيها فتميِّز الصحيح منها من السقيم»([7])؛ فيقول اللقاني عن هذه الطائفة: «فالطائفة الأولى من كلامه هم مفتو الضرورة كما لا يخفى»([8]).

وفي التناول الأصولي لشروط المفتي الأصلُ فيمَن يتصدر للقيام بمهمة الإفتاء أن يكون قد بلغ مرتبة الاجتهاد المطلَق؛ يقول الكمال بن الهمام: «لا يُفتي إلا المجتهد، وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ»([9]).

وقال الصنعاني: «وقع الإجماع على أنه لا يجوز أن يُفتي إلا المجتهد العدل؛ لأنه مخبر عن أحكام الله، ولا يخبر عنها إلا من يعرفها، ولا تقبل الرواية عنها إلا من عدل، وهذا هو الذي ذكره الأصوليون»([10]).

وعلى الرغم من اعتبار الاجتهاد المطلق شرطًا في المفتي إلا أن جمهور المتأخرين من الأصوليين أجازوا لمن ليس بمجتهدٍ أن يُفتي لعدم وجود المجتهد المطلق في الأزمنة المتأخرة؛ وعلى القول بعدم جواز خلو العصر عن المجتهد فالحاجة التي تُنزل منزلة الضرورة كافيةٌ لصحة نصب من ليس مجتهدًا للتصدر للإفتاء بالرغم من وجود المفتي المجتهد؛ لأنه لا يتيسر لكل أحد الوصول إليه لاستفتائه، ومن العسير عليه التفرغ التام طوال الوقت لإفتاء كل مسلم على وجه الأرض؛ لذا فمن باب رفع الحرج عنه وعن الأمة، يتوجب نصب مفتٍ في كل بلد ينوب عن المفتي المجتهد -إن وجد- ويستند إليه في فتواه، ويقدَّم من تحقق فيه أكثر شروط المفتي المجتهد، ثم الأقرب فالأقرب([11]).

وقصر الفتوى على المفتين المجتهدين فقط يؤدي إلى خلل عظيم في حفظ الدين الذي هو أحد المقاصد الخمسة الضرورية التي جاءت بها الشريعة السماوية؛ فحفظ الدين يكون ببيانه للناس حتى يتعلموه ويعملوا به ويبلغوه لمن بعدهم، ومهمة المفتي الأساسية هي بيان حقائق الدين وأحكامه للناس ليعرفوها ويلتزموا بتطبيقها فتنصلح بذلك حياتهم الدنيوية والأخروية([12])؛ فمن هنا جاز للضرورة أن يُفتي مَن ليس بمجتهدٍ([13])؛ وأدنى ما ورد عند الأصوليين من أنواع مَن يجوز لهم الإفتاء من غير المجتهدين هو أن مَن عرف حكم حادثة بدليلها أفتى به، وهو قول عند الشافعية([14]).

وقد أوجب العلماء على مَن سُئل من هؤلاء أن يذكر قول المجتهد على جهة الحكاية؛ فيقول مثلًا: مذهب الشافعي كذا وكذا، ومقتضى مذهبه كذا وكذا، وما أشبه ذلك؛ فلا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه؛ بل يُضيفه ويحكيه عن إمامه الذي قلَّده([15])؛ ويقول ابن الصلاح: «ومَن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامه إن كان ذلك منه اكتفاءً بالمعلوم من الحال عن التصريح بالمقال فلا بأس»([16]).

مفتي الضرورة في التطبيق المعاصر:

لقد تحتَّم في العصر الحديث اعتبار فتوى مَن ليس بمجتهدٍ اجتهادًا مطلقًا؛ بل مَن لم يعتبر في طبقات المجتهدين السابق بيانها؛ وذلك لما يلي:

(1) عدم وجود المجتهدين المطلَقين وندرة المجتهدين المقيدين وقلة المجتهدين في المسائل.

(2) تعذُّر الوصول إلى المفتين المجتهدين بأنواعهم الموجود في العصر الحديث.

(3) أن اتساع العمران وانتشار البشر في أماكن متفرقة والوصول إلى أماكن لم يصلها الإنسان قبل ذلك أفرز واقعًا جديدًا لم يكن موجودًا من قبل متمثلًا في وجود أقليات مسلمة في أطراف نائية، وفي مثل هذه الظروف يكون من الصعب أن يوجد مَن تتوفر فيهم شروط الإفتاء على الهيئة الكاملة.

(4) كثرة الأسئلة الإفتائية بحدٍّ يفوق قدرة استيعاب المجتهدين المحدثين مما يُلجئ للاستعانة بـ”مفتي الضرورة”([17]).

وقد أجازت المؤسسات الإفتائية المعاصرة إفتاء المفتي غير المجتهد واستفتائه إذا كان قد حصَّل جملةً صالحةً من علوم الشريعة واللغة وكان ضابطًا عدلًا فقيه النفس حسن التصور مُدرِكًا للواقع؛ بشرط استناده فيما يُفتي به إلى مجتهدٍ؛ سواء أكان مجتهدًا مطلقًا أم كان مجتهدًا في مذهب أحد الأئمة المجتهدين المتبوعين؛ فيقلده في تخريج أحكام النوازل على قواعد المجتهد المطلق، وفي معرفة راجح الأقوال والوجوه المتعددة في المذهب الذي يفتي به([18]).

مفتي الضرورة في المؤسسات الإفتائية الوطنية:

تتمتع المؤسسات الإفتائية الوطنية المعتمدة بقدرٍ كبير من المصداقية والثقة لدى جمهور الأمة من المستفتين الحريصين على معرفة الأحكام الشرعية؛ وذلك لما تتصف به هذه المؤسسات والهيئات من التخصصية والوسطية ومعرفتها الدقيقة بأحوال الناس وظروفهم وعاداتهم ومقتضيات العصر؛ فتكون فتاواها معبرةً عن التعاليم الإسلامية الصحيحة بدون إفراط أو تفريط، وهذا الرصيد من الثقة أدى إلى كثرة المستفتين ولجوئهم كثيرًا إلى دور الإفتاء؛ فأصبح هناك عدد هائل من الأسئلة يرد إلى تلك المؤسسات عبر الوسائل الإفتائية المختلفة؛ سواء الهاتفية أو الحضور إلى المؤسسة (المشافهة)، أو عبر وسائل التقنية الحديثة كالبريد الإلكتروني والفيس بوك وغير ذلك.

وهذا الكم الهائل من الأسئلة يصعُب معه توفير المفتين الذين تنطبق عليهم الشروط الكاملة للمفتي، والتي على رأسها الاجتهاد، وهنا يظهر دور “مفتي الضرورة” كحلٍّ لهذه المشكلة وعلاج لهذه الأزمة؛ خاصة وأن نوعية الأسئلة المثارة في العصر الحديث هي أسئلة مكررة تُطرَح يوميًّا لا تحتاج إلى مزيد اجتهادٍ وبحثٍ غالبًا، ويشمل ذلك الكثير من مسائل العبادات وبعض المعاملات؛ كالسؤال عن حكم اللحية والتدخين والنقاب ووضع الأموال في البنوك والأكل نسيانًا أثناء الصيام واستخدام “بخاخ” الربو أثناء الصيام وإخراج الزكوات وغير ذلك كثير من الأسئلة المتكررة.

ومن الطبيعي أن المؤسسات الإفتائية تتشكَّل من أكثر من مستوًى إفتائيٍّ، وهي درجة المفتي العام ودرجة المفتي ودرجة الباحث([19])؛ فهناك مساحة مقبولة يمكن أن يشغلها “مفتي الضرورة”، وهي من حيث نوعية الأسئلة: تلك الأسئلة المكررة يوميًّا أو التي تحتاج إلى قليلٍ من البحث، وبذلك تستطيع دور الإفتاء أن تقوم بدورها في الإجابة عن هذا القدر الهائل من الأسئلة الواردة بلا تأخير، والأهم من ذلك تفرغ المتصدرين للفتوى ممن استجمعوا شروط الإفتاء بأقسامهم ودرجاتهم للمسائل غير النمطية وغير المكررة أو تلك المسائل والنوازل المعاصرة والتي تحتاج إلى مزيد جهد وفكر ونظر([20]).

ويُشترط في إفتاء الضرورة في المؤسسات الإفتائية الوطنية في عصرنا هذا ما يلي:

(أ) ألا يُسمح بإفتاء الضرورة للأقليات المسلمة التي يتوفر لها المجتهد المنتسب أو البلاد الإسلامية قليلة العدد التي يكفي فيها المجتهدون المنتسبون، ويظهر هذا الشرط في كلام الصفي الهندي السابق نقله([21]).

(ب) أن يكون “مفتي الضرورة” من خريجي الكليات الشرعية المعنية بتدريس علوم الشريعة كالفقه والأصول والقواعد الفقهية، وغير ذلك من العلوم التي يحتاج المتصدر للفتوى أن يكون ملمًّا بطرف منها.

(ج) أن يكون “مفتي الضرورة” حاصلًا على دورة تأهيلية في مهارات الفتوى من الجانب النظري والجانب المهاري.

(د) أن يتمتع “مفتي الضرورة” بالقدرة على التواصل مع جمهور المستفتين بفهم أسئلتهم وحسن تصورها واستيعابهم.

(هـ) أن يكون “مفتي الضرورة” حسن السير والسريرة، ويُعرَف هذا من سلوكياته وملازمته للطاعات وبُعْده عن الشبهات([22]).

(و) أن تتمتع المؤسسة الإفتائية بنظامٍ مستقر لتحديد نطاق عمل “مفتي الضرورة” وآلية لتحويل النازلة الخارجة عن هذا النطاق إلى المفتي الأعلى ومراقبة ذلك.

(ز) أن تسعى المؤسسات الإفتائية إلى التأهيل والتدريب الكافي لـ”مفتيي الضرورة” لنقلهم إلى مستويات الاجتهاد المختلفة، ولو في الأبواب أو المسائل.

 

([1]) انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (3/ 360)، والصحاح للجوهري (2/ 719)، وتهذيب اللغة للأزهري (11/ 315)، مادة (ضرر).

([2]) انظر: التعريفات للجرجاني (ص 138)، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (2/ 1115)، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 85)، ودرر الحكام في شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر (1/ 38).

([3]) ينظر: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية (1/ 223).

([4]) نهاية الوصول للصفي الهندي (8/ 3886).

([5]) صفة الفتوى لابن حمدان (ص 24).

([6]) منار أصول الفتوى وقواعد الإفتاء بالأقوى (ص 339).

([7]) مسائل أبي الوليد بن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: محمد الحبيب التجكاني، دار الجيل، بيروت، دار الآفاق الجديدة، المغرب، الطبعة الثانية، 1414هـ، 1993م، (2/ 1325).

([8]) منار أصول الفتوى وقواعد الإفتاء بالأقوى (ص 342).

([9]) فتح القدير للكمال بن الهمام (7/ 256).

([10]) ينظر: إجابة السائل شرح بغية الآمل، الأمير الصنعاني، تحقيق: القاضي حسين بن أحمد السياغي، والدكتور حسن محمد مقبولي الأهدل، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1986م، (ص408).

([11]) ينظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 360)، وشرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 438)، وفوضى الإفتاء للأشقر (ص 35)، والفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، 1432هـ، 2011م، (38/ 166).

([12]) ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي (8/ 3886)، وفتح القدير (7/ 256)، وأدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 103).

([13]) راجع: المسألة الرابعة من هذا المطلب “اشتراط الكفاية العلمية في النظر القديم والمعاصر”.

([14]) ينظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 359)، وتشنيف المسامع للزركشي (4/ 615)، وأصول ابن مفلح (4/ 1559).

([15]) ينظر:  فتح القدير للكمال بن الهمام (7/ 256)، وأدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 103).

([16]) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 103).

([17]) ينظر: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية (1/ 224).

([18]) ينظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (38/ 167).

([19]) وقد سبق بيانهم في المطلب الثاني من هذا المبحث.

([20]) ينظر: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية (1/ 225).

([21]) ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي (8/ 3886).

([22]) ينظر: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية (1/ 226).

اترك تعليقاً