البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المبحث السادس عشر: المنتسِب لمؤسسةٍ إفتائيةٍ هل له أن يعمل بمنهج المؤسسة ولو خالف اعتقاده؟

59 views

أولًا: التعريف بالمؤسسات الإفتائية:

المؤسسة الإفتائية هي جهة عامة ذات طابع ديني تتمتع بخصوصيةٍ تقوم بخدمة المسلمين في نطاقها المحلي وتتسع خدماتها لخدمة الأمة الإسلامية؛ حيث تعمل على تأسيس الفتوى الشرعية تأسيسًا سليمًا يتفق مع صحيح الدين وتحقيق مقاصد الشريعة العليا من حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال كما تقوم بتقديم هذه الفتاوى لطالبيها بطرق ميسرة تتناسب ولغة العصر.

وتعمل كذلك على ترسيخ مبدأ المرجعية الدينية في نفوس الناس أمام الاستفسارات الكثيرة والمتوالية في المشكلات التي تواجههم.

وفي سبيل أداء رسالتها تقوم المؤسسة الإفتائية بتطوير المراكز البحثية بها وفقًا لأحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا العصر، كما تقوم بتقديم خدمة التدريب لطالبيها.

وكذلك تقوم غالبًا بإصدار البيانات الشرعية بتحديد أول كل شهر عربي عن طريق الاستعانة بلجان رصد الأهلة التي تعمل على انتشارها وتزويدها بأحدث أجهزة الرصد بالتعاون مع الفلكيين([1]).

ومع اختلاف دور الإفتاء من حيث مواردها البشرية والمادية واختلاف هيكلها الإداري والتنظيمي اختلفت وتباينت الوظائف والخدمات التي تؤديها تلك الدور بناء على مواردها وصلاحياتها في الدولة التي تمارس فيها مهامها، وقد تنوعت تلك الوظائف المختلفة التي تؤديها المؤسسات الإفتائية بين وظائف دينية واجتماعية، وقانونية في بعض الأحيان.

ويمكن تقسيم الوظائف التي تقوم بها مؤسسات الإفتاء إلى ثلاث وظائف رئيسية:

الوظيفة الأولى: وظيفة دينية، وهي الأصل في وظائف دور ومؤسسات الإفتاء، وتمارس المؤسسات الإفتائية هذا الدور الشرعي من خلال الإفتاء الذي يُعد الوظيفية الرئيسية لهذه المؤسسات، ويكون ذلك عبر الإفتاء الشفوي؛ حيث تستقبل المؤسسة المستفتين وتنظم مقابلاتهم مع أمناء الفتوى أو المتصدرين للفتوى فيسمعون أسئلتهم ويجيبون عليها، والإفتاء الهاتفي، وفيه تستقبل المؤسسة من خلال الإدارة أو القسم المخصص لذلك مكالمات الجمهور من المستفتين وإجابتهم على أسئلتهم هاتفيًّا، والإفتاء المكتوب، وتقدم المؤسسة الإفتائية خدماتها من الفتوى المكتوبة ردًّا على المستفتي الذي يأتي إلى مقر الهيئة ويترك سؤاله مكتوبًا، أو على الخطابات المرسلة إلى الهيئة بالفاكس أو البريد، أو الخطابات الموقعة من الجهات الرسمية، والإفتاء الالكتروني من خلال استقبال الأسئلة عبر الوسائط ومن خلال شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) سواء كان هذا عن طريق البريد الإلكتروني، أو عن طريق، التطبيقات المعدة لاستقبال الأسئلة، أو عن طريق الموقع الرسمي للمؤسسة، أو عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، أو ما يجد من نوافذ أخرى.

كما تقوم المؤسسات الإفتائية بإنشاء الأبحاث الشرعية لمعالجة المستجدات وتعميق النظر في القضايا المركبة والتي تحتاج إلى دراسة تأصيلية في إطار قواعد البحث العلمي المعتبرة.

وتقوم بإصدار البيانات الشرعية بتحديد أول كل شهر عربي والردُّ على الشبهات الواردة على الإسلام.

الوظيفة الثانية: وظيفة اجتماعية؛ فلبعض المؤسسات مساهمة في الخدمات الاجتماعية عن طريق خدمات النصح والإرشاد الأسري وحل النزاعات الأسرية.

الوظيفة الثالثة: وظيفة قانونية، وذلك بالحكم والفصل في النزاعات الزوجية، وتقديم المشورة الشرعية للهيئات القانونية([2]).

ومن أبرز المؤسسات الإفتائية: دار الإفتاء المصرية، ودائرة الإفتاء الأردنية، ودار الإفتاء الفلسطينية، وديوان الإفتاء في تونس، والمجلس العلمي الأعلى بالمغرب، دار الفتوى بالجمهورية اللبنانية، وديوان الوقف السني بالعراق، وإدارة الإفتاء بالكويت، ومكتب الإفتاء بسلطنة عمان، والمجلس الأعلى للفتوى والمظالم بموريتانيا.

ثانيًا: التعريف بـ”منهج المؤسسة الإفتائية”.

المنهج لغة: من “نَهَجَ يَنهَج نَهَجًا”، ويأتي على معان؛ منها: الطريق الواضِح والمسلك الظاهر والخطة المرسومة والوسيلة المحددة([3]).

وفي الاصطلاح: الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تُهيمِن على سير العقلِ وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة([4]).

ومنهج الفتوى: الطريقة السوية البينة التي يتخذها المفتي سبيلًا له في دراسة المسائل محلَّ الفتوى، والتي تعتمد على عدد من القواعد والمبادئ، تؤدي في النهاية إلى نتيجة فقهية محددة تمنع من اضطراب الفتوى([5]).

ولا ريب أن لكل مؤسسة إفتائية منهجًا خاصًّا للإفتاء؛ فبعضها يتبنى مذهبًا بعينه؛ كالحنفي أو المالكي أو الشافعي… إلخ، وبعضها يتبنى منهج الاختيار من المذاهب ما يوافق مقاصد التشريع في ظل الواقع المرتبط بالمكان والزمان والأحوال والأشخاص، مع مراعاة قوانين الدولة التي لا تخالف كليات الشريعة وقواعدها الكلية وفروعها المجمَع عليها إجماعًا قطعيًّا، وبعضها يُدخِل في ذلك موافقة ما لا يخالف الشريعة من بنود المواثيق والعهود الدولية المتفق عليها، وبعض هذه المؤسسات معنية بالإفتاء للأقليات المسلمة بما يؤثر على منهج الفتوى إجمالًا وتفصيلًا، وينبع هذا التنوع المنهجي للمؤسسات الإفتائية من أمور؛ منها طبيعة المجتمع الذي تهدف المؤسسة الإفتائية إلى خدمته والمذهب الفقهي المستقر فيه([6]).

فلدار الإفتاء المصرية على سبيل المثال منهجها لاعتماد الفتوى، ويتمثل هذا المنهج في نقل المذاهب السنية الأربعة المعروفة المشهورة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) مع الاعتراف بالمذاهب الأخرى، والاستئناس بها، بل وترجيحها أحيانًا لحاجة الناس، أو لتحقيق مقاصد الشرع، وهي تلك المذاهب التي يتبعها بعض المسلمين في العالم أصولًا وفروعًا، وهي: (الجعفرية والزيدية والإباضية) بل والظاهرية التي يؤيدها مجموعة من العلماء هنا وهناك.

كما أنها في تخيراتها الدينية كثيرًا ما تتسع دائرة الحجية عندها إلى مذاهب المجتهدين العظام كالأوزاعي والطبري والليث بن سعد، وغيرهم في أكثر من ثمانين مجتهدًا في التاريخ الإسلامي، تستأنس بآرائهم وقد ترجحها لقوة الدليل أو لشدة الحاجة إليها أو لمصلحة الناس أو لتحقيق مقاصد الشرع الشريف.

وتلتزم دار الإفتاء بمقررات المجامع الإسلامية وعلى رأسها مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة؛ وخاصة في القضايا العامة في الأمور المستحدثة وتشتد حاجة الناس للفصل فيها بشكل جماعي.

كما أنها قد تلجأ إلى استنباط الأحكام من النصوص الشرعية بالكتاب والسنة مباشرة، فإن نصوص الشرع أوسع من كل ذلك، فهي أوسع من المذاهب الثمانية، ومن الثمانين مجتهدًا، وكذلك هي أوسع من مقررات المجامع الفقهية، ولذا تلجأ دار الإفتاء لاستنباط الحكم الشرعي مباشرة من دليله في الكتاب والسنة خاصةً فيما لم يوجد في كل ذلك، أو كان موجودًا ولكنه لا يتناسب مع الحال، وشرط ذلك أن تكون النصوص تحتمل هذا الاستنباط بالمعايير التي وضعها الأصوليون في ذلك.

ودار الإفتاء المصرية ملتزمة بما صدر عن المؤسسة الإفتائية كمؤسسة ولا تعارض ما صدر عنها إلا لتغير الجهات الأربع التي تستلزم التغير في الفتوى (الزمان-المكان-الأحوال-الأشخاص)([7]).

أما دائرة الإفتاء بالأدرن في منهجها الإفتائي فقد اختارت أن تعتمد واحدًا من المذاهب الفقهية الأربعة منطلقًا وأساسًا للاختيارات الفقهية المفتى بها كي يتحقق من خلال هذا الاعتماد ما حققته الحركة الفقهية عبر التاريخ الإسلامي كله من فوائد ومصالح عظيمة، وقد وقع اختيار دائرة الإفتاء العام على مذهب الإمام الشافعي أساسًا ومنطلقًا للفتوى لأنه المذهب الأكثر انتشارًا في البلاد عبر التاريخ ومراعاة الغالب مقصد شرعي، ولأنه مذهب وسطي جمع بين أصول مدرستي الحديث والرأي، وخرج باجتهادات فقهية كانت وما زالت سببًا في تحقيق مصالح الأمة وجمع كلمتها.

والتزام دائرة الإفتاء بالفتوى على مذهب الإمام الشافعي لا يعني التقليد التام لاجتهادات فقهاء المذهب، بل للدائرة رؤية متقدمة في طريقة الاستفادة من جميع مفردات المذاهب الفقهية ضمن المعطيات الآتية:

1- إذا تعلقت المسألة بنازلة جديدة من نوازل العصر غير منصوص عليها في اجتهادات الفقهاء، أو كانت من المسائل العامة التي تتعلق بالمجتمع كله أو الأمة كلها، سواء في مسائل المعاملات المالية أو النوازل الطبية أو غيرها فلابد للدائرة حينئذ من إعداد أبحاث خاصة لدراسة المسألة في ضوء الأدلة الشرعية والقواعد الفقهية والموازنة بين المصالح والمفاسد، تخلص من خلالها إلى حكم شرعي يعرض على (مجلس الإفتاء) للبحث والتداول، ثم الوصول إلى قرار خاص بشأن تلك المسألة.

2- إذا كان اجتهاد المذهب الشافعي في مسألة معينة لا يناسب تغير الزمان والمكان والظروف المحيطة بسؤال المستفتي، كأن يؤدي إلى حرج شديد، أو مشقة بالغة، أو اختلفت العلة التي من أجلها نص فقهاء الشافعية على ذلك الاجتهاد، أو استجد من المعلومات والحقائق العلمية ما يدعو إلى إعادة البحث في الاختيار الفقهي: ففي جميع هذه الحالات تقوم دائرة الإفتاء بإعادة دراسة المسألة في ضوء القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية، وتستفيد من اجتهادات جميع المذاهب الإسلامية للوصول إلى الحكم الشرعي الأقرب إلى مقاصد الشريعة.

3- وأما في قضايا الأحوال الشخصية، كالنكاح والطلاق والحضانة والميراث، فإن الدائرة تعتمد في الفتوى (قانون الأحوال الشخصية الأردني) ولا تخرج عنه، وذلك حتى لا يحدث تضارب بين الإفتاء والقضاء الشرعي في المملكة، والقانون مستمد من اجتهادات وأقوال فقهاء المسلمين، تم اختيارها وفق أسس وضوابط شرعية، من قبل لجان مختصة([8]).

ثالثًا: المنتسب إلى المؤسسة الإفتائية:

المُنتسِب لغة: مأخوذ من نسب ينتسب فهو منتسبٌ، وضده المستقل، ويأتي على عدة معان؛ منها: المنتمي أو المتقرِّب والمتشبهُ والمتابعُ والمتعلقُ والمرتبطُ([9]).

واصطلاحًا: من سلم أصول إمامه واستعان بكلامه كثيرًا في تتبع الأدلة والتنبيه للمآخذ، وهو مع ذلك مستيقنٌ بالأحكام من قبلِ أدلتها، قادرٌ على استنباط المسائل منها، قل ذلك أو كثر([10]).

والمراد به هنا: الذي يتصدَّر للفتوى عبر مؤسسات إفتائية وطنية معتمدة يُسلِّم بمنهجها ويتبعه.

ولا خلاف أن المرتكز الحقيقي لعملية الإفتاء هو “الاجتهاد”، فعليه تدور عملية الفتوى، وبه يناط التأهل للإفتاء.

وقد اختلف -أو تطور- مفهوم الاجتهاد المشترط حصولُه للمتصدر للإفتاء، تبعًا للتطور الدلالي لمصطلح “المفتي” أو “المتصدر للإفتاء”، والذي مر بمراحل ثلاث رئيسية؛ فالمفتي عند المتقدمين كان ذلك الشخص الذي حصَّل من أدوات الاجتهاد منتهاها، ثم شهد مفهوم المتصدر للإفتاء (المفتي) منذ بداية القرن الرابع الهجري تطورًا جديدًا، أو بعبارة أدق تسامح الأصوليون في شرط الاجتهاد المفترض حصوله عند المتصدر للفتوى؛ فبدلًا من اشتراط الاجتهاد المطلق، والذي يصعب حصوله إلا عند جماعة قليلة جدًّا من العلماء، اشترطوا نوعًا آخر من الاجتهاد، وهو الاجتهاد المقيد، فصار مصطلح المتصدر للإفتاء يتناول مجتهدي المذاهب، وهم العلماء الذين لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد المطلق، واتبعوا مذهب أحد الأئمة المعتبرين، وصاروا مجتهدين فيه، بمعنى استقلالهم بتقرير مسائله ومذهبه بالأدلة، وفي هذه المرحلة صار الاجتهاد المعوُّل عليه في عملية الإفتاء، هو الاجتهاد المذهبي، وهو ما استقر العمل عليه طوال القرون التالية، ومثَّل فقهاء المذاهب القطاع الرئيسي من المتصدرين للفتوى، حتى مع اختلاف رتبتهم في العلم والقدر على التحرير والاستدلال، فدخل فيهم في وقت من الأوقات حفاظ المذهب الذي يحفظون مسائله وفروعه، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل([11]).

أما المرحلة الثالثة فكانت ظهور “المتصدر للفتوى” بالإطلاق المعاصر؛ حيث شهد مفهوم المتصدر للإفتاء تحولًا أخيًرا وكبيرًا في الوقت الراهن، نتيجة للتغيُّر الكبير الحاصل في الاستراتيجيات التعليمية التي اعتمدها الكثير من المؤسسات العلمية الشرعية، والتي عملت على الدفع في اتجاه التخصص العلمي والدراسات الأكاديمية المتخصصة، ونتيجة لذلك التطور تغير مفهوم المتصدر للفتوى ليأخذ دلالته الحالية، ويستقر الأمر على تحول معنى الاجتهاد الذي عرفه الأصوليون بمعناه المطلق والمقيد، إلى معنى آخر يدور حول (التخصص)، وصار المتصدر للفتوى هو الدارس لعلوم الفقه والأصول وقواعد الفقه دراسة مستفيضة، وله دراية في ممارسة المسائل وإلمام بالواقع المعيش.

وقد ساعد على هذا التطور الكبير الاتجاه السائد والإرادة الحقيقية لدى الكثير من المؤسسات الشرعية المعنية بالفتوى بقضية “التأهيل الاجتهادي”، فالاهتمام المتنامي بعملية التأهيل للفتوى أثمر العديد من الآليات التي مكنت من تحسين الأداء الاستنباطي والعقلي للمتصدرين، ومن ثم ساعدت في تسديد البحث والنظر في القضايا المعاصرة، وإحكام التنزيل على الواقعات، والتي هي الهدف الأبرز والغاية الرئيسية للمتصدرين للإفتاء، مما انعكس بدوره على ترشيد الأداء الإفتائي لدى تلك المؤسسات.

ولم يقلل هذا التطور الأخير من الأهمية الكبيرة لمناهج الإفتاء المذهبية، بل إنه ساهم في صناعة الفتوى على تلك المناهج وإحيائها، لا سيما مع تراجع الدرس المذهبي مقارنة بالقرون السابقة.

ومن البديهي أن الاستعداد العلمي “التأهل” لا يتحقق في جماعة المتصدرين للفتوى بدرجة واحدة، بل يختلف ويتفاوت بينهم، وكذلك المسائل والوقائع المسئول عنها، والمطلوب الاستفتاء فيها، ليست كلها على درجة واحدة، فبعضها مسائل أولية، والبعض الآخر يصل من التعقيد والتركيب إلى ما يحتاج إلى اجتهاد جماعي، ولأجل هذا التفاوت برزت ضرورة تنظيم المؤسسات الإفتائية لعملية الفتوى عن طريق اعتماد مستويات وظيفية، ينتظم من خلالها عمل المتصدرين للفتوى، ويتحدد من يشغله من تلك المستويات، ومهام كل مستوى وفقًا لطبيعة الفتوى والمتصدر لها.

ويمكن تقسيم تلك المستويات الوظيفية إلى أربعة مستويات:

المستوى الأول: وهم مفتو المعتمد المنصوص:

ووظيفتهم الإفتاء بما هو منصوص عليه في معتمدات المذاهب، أو في معتمد المؤسسة الإفتائية، ما لم يستشعروا أن هذا المعتمد يمنع من الإفتاء به ضرورة حاصلة أو عادة جارية، أو مصلحة مظنونة، فيتوقفون ويحيلون الفتوى للمستوى الأعلى (مفتي الضرورة).

المستوى الثاني: مفتو الترجيح:

ومحل عمل المتصدر للفتوى هنا المسائل المختلف فيها بين معتمدات المذهب الواحد، فلو اختلفت معتمدات الحنفية في مسألة، فإن المتصدر للفتوى هنا يقوم بالترجيح وفق القواعد المذهبية.

ولا يخرج المتصدر للفتوى هنا عن قواعد المذهب في الترجيح، ويلتزم أيضًا بإحالة المسائل التي يرى أن الضرورة أو العادة الجارية أو المصلحة لها تأثير في الترجيح إلى المستوى التالي.

المستوى الثالث: مفتو الضرورة والعوائد:

وللمتصدر للفتوى هنا وظيفتان:

الأولى: استخراج معتمد المذهب في المسائل التي لم ينص عليها في مصنفات المذهب المعتمدة، فيقوم بإجراء قواعد المذهب في استخراج المعتمد والفتوى به، ويراعي الضرورة والعادة كعادة فقهاء المذاهب.

الثانية: النظر في المسائل التي أحيلت عليه من المستويين السابقين، والبحث في الضرورة المظنونة فيها أو المصلحة المظنونة، أو في مناسبة الفتوى للعادة الجارية.

المستوى الرابع: صناعة المعتمد:

ووظيفته في الأصل إرساء المعتمد الذي يفتي به المستوى الأول من المتصدرين للفتوى، مراعيًا كافة الظروف المحيطة بالمجتمع([12]).

رابعًا: عمل المنتسب لمؤسسة إفتاء باعتقاده.

تبيَّن من المسألة الثانية من هذا المطلب أن المفتي المنتسب إن كان ذا اجتهادٍ فأداه اجتهاده إلى مذهب إمامٍ آخر غير مَن ينتسب إليه فإنه يعمل به في خاصة نفسه وإذا أفتى به بيَّن ذلك في فتواه؛ وإن لم يكن ذا اجتهادٍ فرأى صحة قولٍ آخر غير المذهب الذي ينتسب إليه فإن كان أحوط أخذ به وإلا فلا؛ إلا في حال الضرورة.

وأن المنتسب غير ذي الاجتهاد إن كان طرفًا في الفتوى وكان أخذه بمذهبه يضره فلا يجوز له أن يأخذ بمذهبٍ آخرَ ولو رأى صحة هذا المذهب إلا في حال الضرورة له أو لصديقه.

وبتطبيق ذلك على أنواع المتصدرين للفتوى المنتسبين إلى المؤسسات الإفتائية في العصر الحديث يتبين لنا ما يلي:

أن مفتي المعتمد المنصوص ليس من شأنه الاجتهاد الكلي ولا الجزئي؛ بل هو محض ناقل، وعليه فلا عبرة باعتقاده أصلًا.

أما مفتي الترجيح فإن له نوع اجتهاد في التخيُّر؛ فهذا إن رأى صحة قولٍ آخر غير منهج المؤسسة المعتمد في مسألة هو طرف فيها فله أن يأخذ بالأحوط لا الأيسر.

ويُقال هذا أيضًا عن مفتي الضرورة والعوائد.

أما المنتسب إلى مؤسسة إفتائية وهو ممن له صلاحية التدخل في منهج المؤسسة المعتمد فالفرض أن هذا بالغٌ في الاجتهاد مبلغًا لا بأس به، فهذا إن أداه اجتهاده إلى قول مخالف لمنهج المؤسسة فإنه يعمل به في خاصة نفسه وإذا أفتى به صديقًا أو نحوه بيَّن ذلك في فتواه.

 

([1]) ينظر: إدارة الموارد البشرية في المؤسسات الإفتائية، إدارة الأبحاث والدراسات الإفتائية، الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، الطبعة الأولى، 1441هـ، 2019م، (ص 23).

([2]) ينظر: إدارة الجودة في المؤسسات الإفتائية، إدارة الأبحاث والدراسات الإفتائية، الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، الطبعة الأولى، 1441هـ، 2019م، (ص 28).

([3]) ينظر: تهذيب اللغة للأزهري (6/ 41)، والصحاح للجوهري (1/ 346)، ولسان العرب لابن منظور (2/ 383)، وتاج العروس للفيروزابادي (6/ 252)، وتكملة المعاجم العربية لرينهارت بيتر (10/ 318)، ومعجم اللغة العربية المعاصرة لأحمد مختار عمر (3/ 2290)، والمعجم الوسيط (2/ 957)، مادة (نهج).

([4]) ينظر: أصول البحث العلمي ومناهجه، أحمد بدر، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، الطبعة التاسعة، 1996م، (ص 33).

([5]) ينظر: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية – معجم المفاهيم الإفتائية (4/ 425).

([6]) ينظر: المرجع العام للمؤسسات الإفتائية – الأسس والأساليب العلمية للإفتاء، إدارة الأبحاث والدراسات الإفتائية، الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، الطبعة الأولى، 1441هـ، 2019م، (4/ 15).

([7]) ينظر: دار الإفتاء المصرية.. تاريخها ودورها الديني والمجتمعي، شوقي علام، ضمن موسوعة الثقافة القانونية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، 2020م، (ص 189).

([8]) ينظر: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية – تاريخ الفتوى وأهم المؤسسات الإفتائية (2/ 262).

([9]) ينظر: الصحاح للجوهري (5/ 1854)، والمحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (8/ 529)، ومعجم ديوان الأدب للفارابي (4/ 126)، وشمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم للحميري (10/ 6567)، والتكملة والذيل والصلة للصغاني (2/ 199)، والقاموس المحيط للفيروزابادي (ص 436)، والكليات للكفوي (ص 81)، ودستور العلماء للأحمدنكري (4/ 86)، وكشاف اصطلاحات الفنون والعلوم للتهانوي (1/ 209)، والتعريفات الفقهية للمجددي البركتي (ص 227)، مادة (نسب).

([10]) ينظر: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي (2/ 497).

([11]) راجع: المسألة الرابعة من المطلب الثالث من هذا المبحث “اشتراط الكفاية العلمية في النظر القديم والمعاصر”.

([12]) ينظر ما سبق في: الأسس والأساليب العلمية للإفتاء، الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم (ص 260).

اترك تعليقاً