البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثاني مسائل "المستفتي

المبحث الثالث مسألة "مَن يجوز للمستفتي أن يستفتيه

76 views
  • تمهيد:

إذا احتاج العامي إلى معرفةِ حكمٍ شرعي في مسألةٍ ما؛ فقد نقل الأصوليون الخلافَ في أنه هل يستفتي مَن شاء ويُقلده بلا بحثٍ عن حاله أم يجب عليه البحث عن حال مَن يريد سؤاله وتقليده؟ وذلك على قولين:

القول الأول: أنه يجب عليه أن يبحث عن حال مَن يريد سؤاله وتقليده.

وهو قول جمهور الأصوليين([1])، قال الشيرازي: «وأما المستفتي فلا يجوز أن يستفتي من شاء على الإطلاق لأنه ربما استفتى من لا يعرف الفقه بل يجب أن يتعرف حال الفقيه في الفقه والأمانة»([2]).

وقال ابن عقيل: «ولا يجوز للعامي أن يستفتي في الأحكام من شاء، بل يجب أن يبحث عن حال من يريد سؤاله وتقليده، فإذا أخبره أهل الثقة والخبرة أنه أهل لذلك علمًا وديانة، حينئذ استفتاه»([3]).

وقال الآمدي: «واختلفوا في جواز استفتاء من لم يعرفه بعلم ولا جهالة. والحق امتناعه على مذهب الجمهور»([4]).

واستدلوا بأدلة؛ منها([5]):

أ- أن المفتي يجب قبول قوله، وكل مَن وجب قبول قوله وجب معرفة حاله؛ كما أن النبي لما وجب قبول قوله وجب معرفة حاله وامتحانه بظهور المعجز على يده، والشاهد والراوي لما وجب قبول قولهما وجب معرفة حالهما بالتعديل، والمقوِّم للسلع والمخبِر بالعيوب التي تنفسخ بها العقود كذلك، وإذا ثبت هذا فيما عزَّ، وهو النبوة والإمامة والحكم، وفيما هان؛ كالعيوب وقِيَم المتلفات؛ وجب اعتباره في التقليد في أحكام الشرع، ومتى لم يُعتبر ذلك لم يثق السائل بالمسئول والمستفتي بالمستفتَى، ولم يكن قوله بأولى من قول غيره.

ب- أنه لو كان سؤاله لمن شاء تقليدًا كافيًا لجاز له أن يفعل ما شاء وكان ذلك كافيًا.

القول الثاني: أنه يستفتي مَن شاء.

نقل ابن عقيل عن قومٍ لم يُعيِّنُهم أنه لا يجب على المستفتي البحثَ عن حال مَن يريد استفتاؤه؛ بل له أن يستفتي مَن شاء، ونقل أن هؤلاء استدلوا بأنه لو كان استعلام حال المستفتَى معتبرًا لكان من الواجب على العامي معرفة الأدلة التي تُسنَد إليها الأحكام؛ فلما لم يجب عليه البحث عن الأدلة كذلك لا يجب عليه البحث عن صفات المسئول([6]).

وأجاب ابن عقيل بالفرق من جهة أن السؤال عن حال المستفتَى لا يقطع العامي عن الأشغال ولا ينشغل به عن المعايش؛ إذ ليس بأمرٍ يطول؛ فأما تعلُّم العلوم التي يصلح بها للاجتهاد ويصير بها أهلًا لذلك فيحتاج إلى إفرادِ وقته وإفراغ وُسعه لذلك خاصة إلى أن يبلغ مبلغ أهل الاجتهاد([7]).

والراجح من القولين كما هو ظاهرٌ قولُ الجمهور، لأن الاستفتاء يدور حول القضايا الدينية؛ فيجب على المستفتي أن يبحث عن العالم الثقة المتأهل للإفتاء؛ يقول ابن سيرين: «إن هذا العلم دين فانظر عمن تأخذ دينك»([8]).

وأما القول الثاني فلا أظنه قول أحدٍ من الأصوليين؛ بل لعله ليس قول أحدٍ من العلماء؛ والظاهر أنه قولٌ فرضه ابن عقيل في المسألة ولم يقُل به أحدٌ؛ ومن هنا قال الجويني: «لا يخفى أن المقلد ليس له أن يُقلِّد غيره إلا بعد نظرٍ واجتهادٍ»([9])، ويقول ابن الصلاح: «اختلفوا في أنه: هل يجب عليه البحث والاجتهاد عن أعيان المفتين؟ وليس هذا الخلاف على الإطلاق؛ فإنه يجب عليه قطعًا البحث الذي يعرِف به صلاحية مَن يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن قد تقدمت معرفته بذلك»([10]).

وبعد اتفاق الجمهور على وجوب البحث عن حال المستفتَى؛ فإن للعاميُّ إذا أراد أن يستفتي شخصًا أحوالٌ، وهي([11]):

الحال الأولى: أن يعلم العامي أن هذا الذي أراد أن يستفتيه أهلٌ للفتيا؛ بأن يعلم علمه وعدالته.

الحال الثانية: أن يظن العامي أن هذا الذي أراد أن يستفتيه أهلٌ للفتيا.

الحال الثالثة: أن يعلم العامي أن هذا الذي أراد أن يستفتيه جاهلٌ لا يصلُحُ لذلك.

الحال الرابعة: أن يجهل العامي حالَ هذا الذي أراد أن يستفتيه؛ فلا يعلم أهليته ولا عدمها.

وتبحث هذه المسألة في تناول الأصوليين لهذه الأحوال وتطبيقها في الواقع المعاصر.

  • بيان المسألة:

اتفق مَن أجاز التقليدَ للعامي وأوجب البحث عن حال المستفتَى على أنه لا يجوز للمستفتي استفتاء مَن عُرِفَ بالجهل والفسق ولم يره منتصبًا للإفتاء والناس لا يلتفتون إليه لأنه تضييعٌ لأحكام الشريعة؛ فهو كالعالم يُفتي بغير دليل؛ وإنما يَستفتي مَن عَرِفَ علمَه وعدالته؛ أي: أهليته للفتوى؛ لأنه إذا عرف أنه عالمٌ عدل ٌكفى في جواز استفتائه لأن المقصود من الاستفتاء سؤال العالم العدل، وهذا كذلك([12]).

قال الآمدي: «القائلون بوجوب الاستفتاء على العامي اتفقوا على جواز استفتائه لمن عرفه بالعلم وأهلية الاجتهاد والعدالة، بأن يراه منتصبًا للفتوى والناس متفقون على سؤاله والاعتقاد فيه، وعلى امتناعه فيمن عرفه بالضد من ذلك»([13]).

وقال الطوفي: «العامي إذا أراد أن يستفتي شخصًا، فإما أن يعلم، أو يظن أنه أهل للفتيا، أو يعلم أنه جاهل لا يصلح لذلك، فالأول له أن يستفتيه باتفاقهم، وعلمه بأهليته إما بإخبار عدل عنه بذلك، أو باشتهاره بين الناس بالفتيا، أو بانتصابه لها وانقياد الناس للأخذ عنه ونحو ذلك من الطرق، والثاني: وهو من علم أو ظن جهله لا يجوز أن يستفتيه»([14]).

ثم اختلفوا في أمرين: في كيفية معرفة علمه وعدالته، وفي استفتاء مجهول العلم، وفيما يلي بيان ذلك.

1- استفتاء مجهول العلم:

اختلف الأصوليون في استفتاء مَن جُهل حاله علمًا([15])؛ وذلك على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز استفتاء مَن جُهل علُمه.

ذهب جمهور الأصوليين إلى أنه لا يجوز استفتاء مَن جُهِل حاله علمًا([16]).

قال الزركشي: «وإنما يسأل من عرف علمه وعدالته، بأن يراه منتصبًا لذلك، والناس متفقون على سؤاله والرجوع إليه، والحق منع ذلك ممن جهل حاله»([17]).

وقال الطوفي: «من علم أو ظن جهله لا يجوز أن يستفتيه، أما من جهل حاله فلا يقلده أيضًا عند الأكثرين»([18]).

واستدل الجمهور على ذلك بأمور؛ منها([19]):

أ– أنه لا يُؤمَن كونه جاهلًا؛ فإن هذا الشخص لما جُهِلَ حاله احتمل أن يكون أهلًا وألا يكون؛ لكن غالب الناس غير أهل للفتيا؛ فحَملُ هذا على الغالب راجحٌ، ويلزم منه أن تكون أهليته مرجوحة؛ فينتفي ظن أهليته؛ فلا يجوز تقليده.

ب- ما سبق تقريره في أدلة الجمهور على وجوب البحث عن حال مَن يريد المستفتي استفتاؤه من أن الرجوع إلى قول الغير لا يجوز إلا بعد العلم بأنه أهلٌ لذلك؛ فعلى سبيل المثال: مجهول الحال لا تُقبَل روايته فالأولى منع استفتاؤه؛ وإنما كان أولى لأن الأصل في الناس العدالة فخبر المجهول يغلُب على الظن عند القائل به، وليس الأصل في الناس العلم فلم يُقبَل قول مجهول العلم.

القول الثاني: يجوز استفتاء مَن جُهل علمُه.

نقل الأصوليون عن قومٍ قولهم بأنه يجوز استفتاء مَن جُهل حاله علمًا، وأنهم استدلوا على ذلك بأمور([20])؛ منها:

أ- أن العادة جرت فيمن دخل بلدًا أنه لا يَسأَل عن علم مَن يستفتيه ولا عن عدالته، والعوائد المشهورة حجةٌ لدلالتها على اتفاق الناس عليها عملًا بقوله عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»([21]).

وأُجيب عن ذلك من وجهين([22]):

الوجه الأول: أنه قد دل الدليل على أن مجهول الحال لا يُستفتى كما سبق، فما ذكرتم من العادة ليس حجةً على هذا الدليل، وكذلك مطلق العادة ليست حجة على مطلق الدليل؛ لجواز أن تخالفه، وما خالف الدليل لا يُعتبر إلا بدليل.

الوجه الثاني: عدم تسليم أن العادة هي ما ذُكِر؛ بل العادة خلافه، وهو أن من دخل بلدًا احتاط لدينه ولم يأخذ إلا عن أهله، وإن سُلِّمَ أن ذلك عادة لكن لا يُسلَّم شهرتها؛ بل هو عادة شذوذ الناس وجهالهم، وإن سُلِّمَ أنها مشهورة لكن لا نُسلم أنها تدل على اتفاقٍ عليها حتى تكون حجةً.

والراجح –والله أعلم- عدم جواز استفتاء مَن جُهل حاله من حيث أهليته للإفتاء في حال وجود معلوم الحال؛ لأن استفتاء مَن عُلم أهليته بغلبة ظنٍّ أحوط، ولقوة أدلة الجمهور وسلامتها من المناقشة وضعف أدلة القول الثاني بما نالها من المناقشات.

2- كيفية معرفة تحقق شروط جواز الاستفتاء:

اختلف القائلون بعدم جواز استفتاء مجهول الحال علمًا وعدالة في كيفية معرفة تحقق العلم والعدالة المشترَطَين لاستفتاء مَن يريد المستفتي سؤاله، وذلك على أقوال:

القول الأول: أن يكون منتصبًا للإفتاء والناس متفقون عليه.

ذهب بعض الأصوليين كالرازي والآمدي والزركشي والمرداوي إلى أن العلم والعدالة اللازمين لجواز استفتاء الشخص يُعرفان بأن يُرى الشخص منتصبًا للإفتاء والناس متفقون على سؤاله والرجوع إليه والاعتقاد فيه، واستدلوا بأن كونه كذلك يدل على علمه وأنه أهلٌ للاستفتاء([23]).

القول الثاني: إخبارُ مَن يوجب خبره العلم بكونه عالمًا في الجملة.

ذهب بعض الأصوليين كالباقلاني والشيرازي وابن عقيل وغيرهما إلى أنه يكفي لجواز استفتاء مَن أراد المستفتي استفتاؤه أن يُخبره بأهليته مَن يوجب خبره العلم بكونه أهلًا في الجملة([24]).

ثم اختلفوا في حدِّ مَن يوجب خبره العلم بذلك؛ فذهب الباقلاني إلى أنه يكفيه عدلان؛ قال الغزالي: «وقال القاضي مرة: يكفيه أن يُخبره عدلان بأنه مفتٍ»([25])، وذهب بعض الأصوليين كأبي إسحاق الشيرازي وابن عقيل والموفق بن قدامة إلى أنه يكفي إخبارُ عدلٍ واحدٍ بأهلية مَن أراد المستفتي استفتاؤه، واستدلوا بأن طريق العلم بأهلية المفتي هو طريق الأخبار؛ فيكفي عدلٌ واحد([26]).

ومرادهم بالعدل هنا: العدل الخبير([27])؛ قال المرداوي: «وإلا لم يحصل المقصود»([28])، وقال ابن الصلاح عن مرادهم بالعدل الواحد: «وقد أطلق الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره أنه يُقبَل فيه خبر العدل الواحد، وينبغي أن يُشترط فيه أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به الملتبس من غيره، ولا يُعتمد في ذلك على خبر آحاد العامة؛ لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك»([29]).

القول الثالث: إخباره بأنه مفتٍ مع العلم بأهليته للفتوى بخبرٍ أو استفاضة.

ذهب بعض العلماء كالغزالي وابن الصلاح إلى أنه يكفي لجواز استفتاء مَن أراد المستفتي استفتاؤه أن يُخِبِر هذا الشخص بأنه مفتٍ؛ أي: يعزو نفسه إلى العلم والفتوى؛ فلا يكفي مجرد اشتهار ذلك عنه لأنه قد يشتهر ما لا أصل له؛ قال النووي: «لا يكتفى بالاستفاضة ولا بالتواتر لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس»([30]).

واشترط هؤلاء([31]) مع عزو نفسه إلى الفتوى أن يؤكَّد ذلك بالإخبار عنه بذلك([32]).

ثم اختلفوا فما يحدث به الإخبار:

فاختار الغزالي إلى جانب قوله: “إني مفتٍ” إخبار عدلين بأهليته للفتوى([33]).

واختار بعض العلماء كالجويني وابن الصلاح والنووي إلى جانب قوله “إني مفتٍ” الاستفاضة من الناس بأنه أهلٌ للفتيا؛ فلا يُكتفي بواحد ولا باثنين ولا مجرد اعتزائه إلى العلم ولو بمنصبِ تدريسٍ أو إقراء أو غير ذلك من مناصب العلماء([34]).

قال ابن الصلاح: «ولا ينبغي أن يُكتفى في هذه الأزمان بمجرد تصديه للفتوى واشتهاره بمباشرتها لا بأهليته لها»([35]).

ويكفي عند الجويني مع قوله “إني مفتٍ” ظهور ورعه وبعده عن مظانِّ التُّهَم؛ لأن الغريب كان يرد ويسأل من يراه من علماء الصحابة فكان ذلك مشتهرًا مستفيضًا من دأب الوافدين والواردين ولم يبدُ نكيرٌ من جلة الصحابة وكبرائهم؛ فإذا كان الغرض حصول غلبة ظن المستفتي فهي تحصل باعتماد قول من ظهر ورعه كما تحصل باستفاضة الأخبار عنه([36]).

قال المرداوي عن قول النووي بعدم الاكتفاء بمن انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك([37]): «ومراده: في زمانه؛ بل هو في هذه الأزمنة أولى؛ لأن الدخيل قد دخل على الفقيه والمدرسين»([38]).

ولم يعتبر هؤلاء تواتر العلم بأهليته لأن التواتر إنما يُفيد العلم في المحسوس وكونه مجتهدًا ليس بمحسوس([39]).

القول الثالث: امتحانه.

نسب الجويني والغزالي إلى القاضي الباقلاني في التقريب أنه شَرَطَ لجواز استفتاء الشخص أن يُلفِّق له المستفتي مسائل متفرقة ويراجعه فيها؛ فإن أصاب فيها غلب على ظنه كونه مجتهدًا وقلده وإن تعثَّر فيها تعثرًا مُشعرًا بخلوِّه عن قواعدها لم يتخذه قدوته وأسوته([40])، ورده الجويني والغزالي من وجهين([41]):

أ- أن اعتبار تلقفه المشكلات من كل فن وامتحانه به تكليفٌ شطط.

ب- أن الذين كانوا يرفعون وقائعهم وينهون مسائلهم إلى أئمة الصحابة كانوا لا يُقدِّمون على استفتائهم إلقاء المسائل والامتحان بها، وكان علماء الصحابة لا يأمرون عوامهم ومستفتيهم بأن يُقدِّموا امتحان المقلَّدِين.

القول الرابع: تواتر الخبر بأنه مجتهدٌ.

نسبه الغزالي إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، ورده بأن التواتر يُفيد في المحسوسات وهذا ليس من فنه([42]).

القول الخامس: أن يعلم أهليته بأي طريقٍ من الطرق السابقة.

اختار الطوفي وبعض مَن تابعه من الحنابلة كالبعلي وابن المبرد أن العامي إذا أراد أن يستفتي شخصًا فإن له أن يستفتيه إن علم أو ظنَّ أهليته بطريق ما؛ سواءً بإخبار عدلٍ عنه بذلك، أو باشتهاره بين الناس بالفتيا، أو بانتصابه لها وانقياد الناس للأخذ عنه ونحو ذلك من الطرق، واستدل على ذلك بأن الظن يقوم مقام العلم في ذلك([43]).

والراجح –والله أعلم- أنه إذا غلب على ظن المستفتي أهلية المفتي الذي يقصده فذلك كافٍ في جواز استفتاؤه له؛ لأن سائر الأقوال السابقة إنما تدور على تحقق غلبة الظن بأهلية المفتي، وإنما كان الاختلاف فيها لاختلاف ما تتحقق به غلبة الظن في كل زمن عن غيره؛ فما تحققت به غلبة الظن في زمننا هذا يكفي لجواز الاستفتاء.

وذكر الزركشي في قريب العهد بالإسلام آراء مخصصة له بأحكامٍ أخرى؛ يقول: «قال ابن القطان في كتابه الأصول: مَن أسلم وهو قريب العهد فلقيه رجل من المسلمين على ظاهر الإسلام فأخبره بشيء؛ فاختلفوا فيه:

فقال أبو بكر في كتابه: يجب عليه قبول ما أخبر به ولا يعتبر فيه شرائط المفتي السابقة، وإنما تجب تلك الشرائط فينا؛ لأنه لا يشق علينا الاعتبار فيها؛ فأما المسلم الآن فيشق عليه هذا.

وقال ابن أبي هريرة: يُنظَر؛ فإن كان شيئًا وقته موسَّع فينبغي أن يتوقف حتى يستعلم ذلك مِن خَلقٍ، ولا يبادر حتى يعلم حال من أفتاه ويتابع عليه، وإن كان شيئًا وقته مضيق فعلى وجهين: أحدهما: يَقبَل قوله كقول أبي علي. والثاني: يتوقف في ذلك كما يتوقف الحاكم في العدول وغيرها»([44]).

مَن يجوز للمستفتي أن يستفتيه في التطبيق المعاصر:

قد ترجَّح كما مر قول جمهور الأصوليين بأنه يجب على المستفتي البحث عن حال مَن يريد سؤاله وتقليده، وكذا في التطبيق المعاصر ينبغي الاجتهاد لمعرفة المؤهلين؛ فإن الاستفتاء في حياة المسلم من الأصول المهمة التي يجب عليه أن يتحرَّى الحق فيها؛ فيجتهد في تحديد المفتي المؤهل لأن تؤخذ الفتوى عنه([45])، ولا يحل سؤال أي أحدٍ، كما أنه ليس كل من ادَّعى العلم صار من أهل الفتوى، وليس كل من لبس لباس العلماء صار منهم، وليس كل من حاز المناصب جاز له الإفتاء، وليس كل من وهبه الله تعالى فصاحة في اللسان وقوة في البيان صار من أهل الفتوى المعتبرين، وإنما العبرة بتوافر شروط المفتي؛ فعلى المستفتي أن يسأل مَن يثق به علمًا ودينًا وورعًا([46]).

والسبيل إلى معرفته في التطبيق المعاصر على أحوال:

الحال الأولى: أن يكون في البلد مؤسسة معنية بالفتوى تشريعيًّا أو عرفيًّا؛ فيكون جميع من يتصدر للفتوى فيها من المؤهلين للفتوى؛ ذلك أن اعتماد السلطة التشريعية أو العرفية كافٍ في الشهادة لهذه الجهة بالتأهل للإفتاء.

الحال الثانية: أن تصدُر من الجهة المسئولة عن الإفتاء في البلد أو من الجهة التشريعية قائمة بمن يُرخص لهم بالفتوى؛ وقد صدر نحو ذلك في جمهورية مصر العربية في قائمة اتفاقية بين دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف من خمسين عالمًا يحق لهم الإفتاء([47])؛ فيكون كل مَن ذُكر فيها أهلًا لأن يُتوجه له بالاستفتاء.

الحال الثالثة: أن يتصدر للفتوى في بلدٍ ما شخصٌ، ويستقر أمر الفتوى عليه بين الناس في بلده من زمن بعيد، ولا يُعترض عليه من طرف المؤسسة الرسمية للفتوى –إن وجدت- وتُوافق فتاواه ما يصدر عن هذه الجهة في المسائل ذات الشأن العام؛ فيكون هذا الشخص مؤهلًا للفتوى.

الحال الرابعة: أن يظهر المتصدر للفتوى في الإعلام الرسمي أو يكتب في المجلات والجرائد الرسمية؛ بشرط ألا يُخالِف ما يصدُر عن الجهة المعتمدة للفتوى من فتاوى في المسائل ذات الشأن العام.

الحال الخامسة: وهي خاصة بالأقليات المسلمة؛ فلا يُستفتى عندهم إلا مَن أجازته إحدى المؤسسات الإفتائية المعتمدة في بلدٍ عربي كدار الإفتاء المصرية ودار الإفتاء الفلسطينية ودائرة الإفتاء بالأردن؛ فإن لم يُوجد فمَن تصدَّر للفتوى في مراكزَ إسلامية معروفٌ بانتمائها إلى جهة إسلامية معتمدة كالأزهر الشريف وهيئة كبار العلماء ونحو ذلك، وإن لم يُوجد فتُخاطب الجهات الرسمية المعتمدة في البلدان العربية عبر الوسائل الحديثة؛ فإن لم يمكن فيستفتي مَن يُتاح له ممن عُرف بالعلم طالما لم يُعرف عنه تشددٌ أو تساهلٌ بالمقارنة مع فتاوى الجهات الرسمية المعتمدة في البلدان العربية.

 

([1]) ينظر: اللمع للشيرازي (ص 128)، والواضح لابن عقيل (5/ 465)، ويراجع: الإحكام للآمدي (4/ 232)، والمسودة لآل تيمية (ص 464)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 663)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 362)، والمختصر في أصول الفقه للبعلي (ص 167)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 4035).

([2]) اللمع للشيرازي (ص 128).

([3]) الواضح لابن عقيل (5/ 465).

([4]) الإحكام للآمدي (4/ 232).

([5]) ينظر: اللمع للشيرازي (ص 128)، والواضح لابن عقيل (5/ 465)، والإحكام للآمدي (4/ 232)، ومختصر الروضة بشرحه للطوفي (3/ 663)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 362).

([6]) ينظر: الواضح لابن عقيل (5/ 466).

([7]) ينظر: الواضح لابن عقيل (5/ 466)، ويراجع: التبصرة للشيرازي (ص 414).

([8]) ينظر: الفقيه والمتفقه للبغدادي (2/ 191).

([9]) البرهان للجويني بشرحه التحقيق والبيان لعلي بن سالم الإبياري، تحقيق: علي بن عبدالرحمن بسام الجزائري، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، قطر، الطبعة الأولى، 1434هـ، 2013م، (4/ 558).

([10]) أدب المفتي لابن الصلاح (ص 158).

([11]) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 663)، والمدخل لابن بدران (ص 389).

([12]) ينظر: الواضح لابن عقيل (5/ 465)، والإحكام للآمدي (4/ 232)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 663)، وبيان المختصر للأصفهاني (3/ 360)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 362)، والمختصر في أصول الفقه للبعلي (ص 167)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 4035).

([13]) الإحكام للآمدي (4/ 232).

([14]) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 663، 664).

([15]) وتختلف هذه المسألة عن مسألة “استفتاء مستور الحال” التي سبق تناولها في المسألة الثانية من المطلب الثالث من المبحث الأول في هذا الفصل؟؟؟؛ وذلك من جهة أن الأولى في مجهول العدالة بقطع النظر عن العلم، ومحل الكلام هنا مجهول العلم.

([16]) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 232)، ومختصر ابن الحاجب بشرحه بيان المختصر للأصفهاني (3/ 355)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 664)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 362).

([17]) ينظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 362).

([18]) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 664).

([19]) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 232)، ومختصر ابن الحاجب بشرحه بيان المختصر للأصفهاني (3/ 355)، ومختصر الروضة بشرحه للطوفي (3/ 663)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 362).

([20]) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 232)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 664)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 362).

([21]) سبق تخريجه؟؟؟.

([22]) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 232)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 665).

([23]) ينظر: المحصول للرازي (6/ 81)، والإحكام للآمدي (4/ 232)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 362)، والتحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 4036).

([24]) ينظر: المنخول للغزالي (ص 589)، والواضح لابن عقيل (5/ 467)، وروضة الناظر لابن قدامة (2/ 384).

([25]) ينظر: المنخول للغزالي (ص 589). ولم أجده في التقريب والإرشاد الصغير.

([26]) ينظر: اللمع للشيرازي (ص 128)، والواضح لابن عقيل (5/ 467)، وروضة الناظر لابن قدامة (2/ 384)، والبحر المحيط للزركشي (8/ 363).

([27]) ينظر: أدب المفتي لابن الصلاح (ص 159)، وأصول ابن مفلح (4/ 1542).

([28]) التحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 4036).

([29]) أدب المفتي لابن الصلاح (ص 159).

([30]) المجموع للنووي (1/ 54).

([31]) لم يشترط ابن فورك غير قوله “أنا مجتهد”، واختاره الإبياري بشرط كونه عدلًا. ينظر: التحقيق والبيان في شرح البرهان للإبياري (4/ 559).

([32]) ينظر: المنخول للغزالي (ص 589)، وأصول ابن مفلح (4/ 1542).

([33]) ينظر: المنخول للغزالي (ص 589).

([34]) ينظر: غياث الأمم للجويني (ص 409)، وأدب المفتي لابن الصلاح (ص 158)، والمجموع للنووي (1/ 54)، ويراجع: التحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 4037).

([35]) أدب الفتوى لابن الصلاح (ص 159).

([36]) ينظر: غياث الأمم للجويني (ص 410).

([37]) ينظر: المجموع للنووي (1/ 54).

([38]) التحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 4038).

([39]) ينظر: المجموع للنووي (1/ 54)، وأصول ابن مفلح (4/ 1542).

([40]) ينظر: البرهان للجويني بشرحه التحقيق والبيان (4/ 558)، وغياث الأمم للجويني (ص 408)، والمنخول للغزالي (ص 589). ولم أجده في التقريب والإرشاد الصغير.

([41]) ينظر: غياث الأمم للجويني (ص 409)، والمنخول للغزالي (ص 589).

([42]) ينظر: المنخول للغزالي (ص 589).

([43]) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 663)، والمختصر في أصول الفقه للبعلي (ص 167)، وغاية السول لابن المبرد (ص 154)، والمدخل لابن بدران (ص 389).

([44]) البحر المحيط للزركشي (8/ 364).

([45]) ينظر: الموقعون زورًا.. الإفتاء بين الجفاء والوفاء لمحمد بن أحمد القيسي (ص 245)، والفتوى والمفتي.. تحرير وتنوير لطه الدسوقي حبيشي (ص 121).

([46]) ينظر: النوازل المتعلقة بالمفتي والمستفتي لطارق بادريق (ص 102)، والموقعون زورًا.. الإفتاء بين الجفاء والوفاء لمحمد بن أحمد القيسي (ص 246).

([47]) ينظر: موقع المصري اليوم، قائمة علماء الإفتاء والأزهر الذين لهم حق الفتوى:

https://www.almasryalyoum.com/

اترك تعليقاً