البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المبحث السادس: متى يجب على العامي أن يستفتي؟

57 views

اتفق الأصوليون على أن حكم استفتاء المستفتي للمفتي إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها هو الوجوب:

قال الإمام النووي: «ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام»([1]).

وقال الإمام ابن عبد البر: «يلزم كل مؤمن ومؤمنة إذا جهل شيئًا من دينه أن يسأل عنه»([2]).

وقال الإمام الجصاص: «إذا ابتلي العامي الذي ليس من أهل الاجتهاد بنازلة، فعليه مساءلة أهل العلم عنها»([3]).

وقال الإمام الغزالي‏:‏ العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء؛ لأن الإجماع منعقد على أنَّ العامي مكلَّف بالأحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال، لأنه يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل، وتعطُّل الحرف والصنائع، وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء ووجوب اتِّباعهم([4])‏.‏

وقال القرطبي: «فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه»([5]).

وقال الشيخ ابن تيمية: «وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان»([6]).

وعلى ذلك فلا يجوز للعامي إهمال أمر الحادثة ولا الإعراض عنها، وترك الأمر على ما كان عليه قبل حدوثها، وقد أُمر من لا يعلم بقبول قول أهل العلم فيما كان من أمر دينهم من النوازل، وعلى ذلك نصت الأمة من لدن الصدر الأول ثم التابعين إلى يومنا هذا، إنما يفزع العامة إلى علمائها في حوادث أمر دينها([7]).

الأدلة:

وقد استدل جمهور الأصوليين بالنص والإجماع والمعقول كما يأتي:

أما النص فقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وهو عام لكل المخاطبين، ويجب أن يكون عامًّا في السؤال عن كل ما لا يعلم، وإلا كان متناولًا لبعض ما لا يعلم بعينه أو لا بعينه، والأول غير مأخوذ من دلالة اللفظ، والثاني يلزم منه تخصيص ما فهم من معنى الأمر بالسؤال، وهو طلب الفائدة ببعض الصور دون البعض، وهو خلاف الأصل، فهو عام في الأشخاص، وفي كل ما ليس بمعلوم([8]).

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال»([9]).

وقول عائشة: «رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن»([10]).

وأما الإجماع: فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير، فكان إجماعًا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقًا([11]).

وأما المعقول: فهو أن من ليس له أهلية الاجتهاد إذا حدثت به حادثة فرعية، إما أن لا يكون متعبدًا بشيء، وهو خلاف الإجماع، وإن كان متعبدًا بشيء فإما بالنظر في الدليل المثبت للحكم، أو بالتقليد، الأول ممتنع؛ لأن ذلك مما يفضي في حقه وفي حق الخلق أجمع إلى النظر في أدلة الحوادث والاشتغال عن المعايش وتعطيل الصنائع والحرف وخراب الدنيا وتعطيل الحرث والنسل ورفع الاجتهاد والتقليد رأسًا، وهو من الحرج والإضرار المنفي بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»([12])، وهو عام في كل حرج وضرار، ضرورة كونه نكرةً في سياق النفي([13]).

فعلم مما سبق أنه يحرم على العامي إهمال النازلة وترك السؤال عنها؛ لذلك نجد المفتين عندما يُسألون عن خطأ ارتكبه المستفتي بسبب إهماله للنازلة وعدم السؤال عنها فإن أول ما يصدِّرون به جوابهم وجوب التوبة عليه أولًا ثم بيان ما يجب عليه بعد ذلك.

مسألة متعلقة بالمبحث:

إذا وقعت للعامي حادثة فسأل المفتي عن حكمها وعمل بفتياه ثم وقعت له هذه الحادثة مرة أخرى فهل عليه أن يكرر السؤال عنها.

اختلف الأصوليون في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن العامي يلزمه تكرار السؤال عند تكرر الحادثة، وبه قال المالكية وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة([14]).

قال القاضي أبو يعلى: «وإن استفتى عامي عالـمًا في حكم وأفتاه، ثم حدث حكم آخر مثل ذلك، فعليه أن يكرر الاستفتاء، ولا يقتصر على الأول»([15]).

وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:

1-أنه إنما يعمل باجتهاد ذلك الفقيه، ولعل اجتهاده في وقت ما أفتاه قد تغير عما كان أفتاه به في ذلك الوقت([16]).

2-أنه لو أخذ بجواب الأول من غير إعادة لكان آخذًا بشيء من غير دليل، وهو في حقه قول المفتي، وقوله الأول ثقة ببقائه عليه لاحتمال مخالفته له باطلاعه على ما يخالفه من دليل إن كان مجتهدًا أو نص لإمامه إن كان مقلدًا([17]).

القول الثاني: لا يلزمه ذلك، وبه قال بعض الشافعية([18])، ونُسب إلى بعض الحنابلة([19]).

قال الإمام النووي: «إذا استفتي فأفتى ثم حدثت تلك الواقعة له مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه…والثاني: لا يلزمه، وهو الأصح»([20]).

واستدل أصحاب هذا الرأي بأن المستفتي قد عرف الحكم الأول، والأصل استمرار المفتي عليه([21]).

القول الثالث: التفصيل، فإن كانت الفتوى استقرت على نص أو إجماع، أو عسرت المراجعة لبعد مسافة، أو كثرة تكرر المسألة، أو كان المقلد ميتًا –عند من يجوِّز تقليده- فلا يلزم تكرار السؤال، وإلا لزم، وبه قال أكثر الشافعية([22])، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة([23]).

قال الجويني: «وعندي أن الفتوى الأولى إذا استقرت إلى قطع من نص أو إجماع فلا يلزمه المراجعة ثانيًا؛ لأنه لا يتصور تغيره، وكذلك إذا كانت المسألة في مظنة الاجتهاد وعسر المراجعة في كل دفعة، بأن كان يحتاج إلى انتقال وسفر»([24]).

وقال ابن النجار: «ويلزم المستفتي تكرير السؤال عند تكرار الواقعة، وهذا الصحيح، إذا عرف المستفتي أن جواب المفتي مستند إلى الرأي كالقياس، أو شك في ذلك، والغرض: أن المقلد حي، فإن عرف استناد الجواب إلى نص أو إجماع، فلا حاجة إلى إعادة السؤال ثانيًا قطعًا، وكذا لو كان المقلد ميتًا»([25]).

واستدلوا:

1- أن أهل الفيافي كانوا يستفتون في عصر الصحابة مرة، وكانوا يتخذون الأجوبة قدوتهم عند تكرار تلك الواقعة.

2- إذا كانت المسألة فيما يتواتر ويتكرر كالاستنجاء والصلاة فقد يتكرر في كل يوم دفعات فإيجاب المراجعة في كل مرة تكليف مشقة([26]).

والذي نرجحه أن المستفتي إذا تكررت معه الحادثة فإن عليه إعادة السؤال والاستفتاء؛ لأنه لا يدرك إن كانت الفتوى مستندة إلى قاطع أو ظن، كما أن لكل حادثة ظروفها التي قد تؤثر في استنباط الفتوى، فلا بد من أن يسأل المفتي ثانية إلا إذا عسر عليه ذلك.

 

([1]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (ص 71).

([2]) انظر: التمهيد لابن عبد البر (8/338).

([3]) الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص (4/281)، وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة الثانية، 1414هـ-1994م.

([4]) انظر: المستصفى للغزالي (ص372).

([5]) تفسير القرطبي (2/212)، ط. عالم الكتب.

([6]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/208).

([7]) انظر: الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص (4/281).

([8]) انظر: الأحكام للآمدي (4/228).

([9]) أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم، رقم (336).

([10]) انظر: التمهيد لابن عبد البر (8/338).

([11]) انظر: الأحكام للآمدي (4/229).

([12]) أخرجه ابن ماجه، كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، رقم (2340).

([13]) انظر: الأحكام للآمدي (4/229).

([14]) انظر: المحصول للقاضي أبي بكر ابن العربي (ص156)، دار البيارق-عمان، الطبعة الأولى، 1420هـ-1999م، مقدمة في أصول الفقه لابن القصار (ص169)، شرح المحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار (2/435)، العدة لأبي يعلى (4/ 1228).

([15]) العدة لأبي يعلى (4/ 1228).

([16]) مقدمة في أصول الفقه لابن القصار (ص169).

([17]) شرح المحلي على جمع الجوامع وحاشية العطار (2/435).

([18]) انظر: أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 167)، آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (ص 82).

([19]) انظر: صفة الفتوى لابن حمدان (ص82)، إعلام الموقعين لابن القيم (4/201).

([20]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (ص 82).

([21]) انظر: أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 167)، آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (ص 82).

([22]) انظر: البرهان للجويني، تحقيق: الدكتور عبد العظيم الديب (2/1343)، طبعة دولة قطر، المنخول للغزالي، تحقيق: الدكتور محمد حسن هيتو (ص 593)، دار الفكر المعاصر-بيروت، دار الفكر-دمشق، الطبعة الثالثة، 1419هـ-1998م، غاية الوصول لزكريا الأنصاري (ص159).

([23]) انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/555).

([24]) البرهان للجويني (2/1343).

([25]) انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/555).

([26]) انظر: البرهان للجويني (2/1343، 1344).

اترك تعليقاً