البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثالث: أصول المذهب المالكي

المبحث التاسع: الاستصحاب.

112 views

معنى الاستصحاب لغة واصطلاحًا:

الاستصحاب لغةً: استفعالٌ من “صَحِب”؛ قال ابن فارس: «الصاد والحاء والباء أصل واحد يدل على مقارنة شيء ومقاربتِه»([1])، وقال الفيروزابادي: «استصحبه: دعاه إلى الصُّحبة ولازَمَه»([2]).

وقد عرَّفه الإمام القرافي بقوله: «اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال»([3]).

حجية الاستصحاب عند مالك:

لم يكن مصطلح الاستصحاب مستعملًا لا في عهد الصحابة والتابعين، ولا حتى في عهد الأئمة الأربعة، وإن كانت بعض اجتهاداتهم تدل عليه.

يقول ابن القصار: «الكلام في استصحاب الحال: ليس عن مالك رحمه الله في ذلك نص، ولكن مذهبه يدل عليه؛ لأنه احتجَّ في أشياء كثيرة سئل عنها فقال: لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ذلك، وكذلك يقول: ما رأيت أحدًا فعله، وهذا يدل على أن السمع إذا لم يرد بإيجاب شيء لم يجب، وكان على ما كان عليه من براءة الذمة»([4]).

وقد قرر الإمام الدسوقي أنه حجة في مذهب مالك فقال: «ومن قواعد المذهب استصحاب الأصل»([5]).

أدلة حجية الاستصحاب:

من أدلة حجية الاستصحاب من القرآن قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145].

وجه الاستدلال: أن الآية أثبتت المحرم في الشريعة الإسلامية، وما عداه حلال إلا ما ثبت بنص آخر، فهذا إبقاء ما ليس فيه نص على ما هو عليه من الحِل. وقد ذكر السيوطي في تفسيره: «عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فقال: ما خلا هذا فهو حلال»([6]).

ومن السنة: ما رواه البخاري أنه قيل لجابر بن زيد: يزعمون «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حمر الأهلية؟» فقال: قد كان يقول ذاك الحكم بن عمرو الغفاري، عندنا بالبصرة ولكن أبى ذاك البحر ابن عباس، وقرأ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}([7]).

وجه الاستدلال: استشهد ابن عباس بما كان محرمًا بالنص، وأبقى الحال على ما هو عليه لعدم ثبوت غيره، وهذا هو الاستصحاب.

ومن المعقول: أن الثابت عند العقلاء أنهم إذا تحققوا من وجود الشيء وثبوته أو انتفائه وعدمه، وكان لهذا الشيء أحكام خاصة به فإنهم يحكمون بها ويجرون على مقتضاها في مستقبل الزمان، سواء أكان ذلك في الوجود أو العدم؛ فالعقلاء مثلًا يسوغون مراسلة من علموا في الزمن الماضي وجودَه، ويستجيزون إرسالَ الودائع وإنفاذها، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تستند إلى إعطاء الزمن الحالي أو المستقبلي الحكمَ الذي كان موجودًا قبله إثباتًا أو نفيًا([8]).

أنواع الاستصحاب:

النوع الأول: استصحاب البراءة الأصلية أو العدم الأصلي:

الأخذ بالبراءة الأصلية من الأصول الثابتة في مذهب مالك، وكتب الفقه مشحونة بالتعليل بهذا الأصل والاحتجاج به، بحيث يعطي للناظر حكم القطع باعتبار هذا الأصل في المذهب المالكي.

قال الباجي: «اعلم أن حكم استصحاب حال العقل دليل صحيح، وبهذا قال جمهور العلماء. وهو عندنا القسم الثالث من الأدلة الشرعية»([9]).

وقال القرافي: «الأصل براءة الذمة، أي الراجح؛ لأن الإنسان ولد بريئًا من الحقوق كلها، فإذا خطر ببال أن ذمته اشتغلت بحق الله تعالى، أو للخلق، أو لم تشتغل، ولم يقم دليل على شيء من ذلك كان احتمال عدم الشغل راجحًا على احتمال الشغل في العقل»([10]).

مثاله: دليل قول المالكية في أن الوتر ليس بواجب، وأن المضمضة والاستنشاق لا يجبان في غسل الجنابة أن الأصل براءة الذمة وفراغ الساحة من الإلزام، وطريق اشتغالها الشرع، وليس في الشرع بعد التتبع دليل على وجوب الوتر والمضمضة والاستنشاق، ولو كان لوُجد مع كثرة البحث والنظر، فالذي يدَّعي أن الوتر واجب، وأن المضمضة والاستنشاق يجبان في غسل الجنابة فعليه الدليل الناقل من أصل البراءة الأصلية([11]).

وبهذا الدليل علمنا أنه لا يجب صلاة سادسة ولا زكاة غير الزكاة المعهودة ولا صوم غير رمضان([12]).

النوع الثاني: استصحاب ما دلَّ الشرع على ثبوته:

وأما استصحاب ما دل الشرع على ثبوته لوجود سببه فالمالكية قائلون به ومتوسعون في الأخذ به. قال العلوي الشنقيطي: «استصحاب ما دل الشرع على ثبوته لوجود سببه حجة ودليل من الاستدلال»([13]).

قال المقرى: «قاعدة: الأصل بقاء الشيء لمن هو في يده إلا بدليل؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا اختلفا في القبض فالقولُ قول البائع في الثمن والمبتاع في المثمون»([14]).

والمسألة التي أشار إليها المقري هي الاختلاف بين البائع والمشتري في القبض؛ فالأصل في السلعة أنها بيد البائع، والأصل في الثمن أنه في يد المبتاع، فيستصحب هذان الأصلان فيُقبل قول البائع في عدم قبض الثمن، ويُقبل قول المبتاع في عدم قبض السلعة. ويُستثنى من هذه المسألة إذا كان هناك عرف يقضي بسرعة القبض كاللحم مثلًا.

النوع الثالث: استصحاب حال الإجماع:

وهو أن يكون الأمر بحالةٍ ويُجمع فيه على حكم، ثم يتغير إلى حالة أخرى فيُستصحب حكم الإجماع في الأمر بعد تغيره حتى يقوم الدليل على أن له حكمًا غير ما انعقد عليه الإجماع([15]).

وهذا النوع من الاستصحاب أُثر خلاف بين أهل المذهب في الاحتجاج به، فلم يحتج به الأكثر، ومنهم من اعتبره واستدل به على بعض الفروع. يقول ابن العربي: «وهذا مما اختلف عليه علماؤنا رحمهم الله فمنهم من قال إنه دليل يعول عليه، ومنهم من قال إنه ليس بشيء»([16]).

ونسب الباجي لأكثر المالكية عدم حجية الاستدلال به فقد قال: «وذهب القاضي أبو بكر والقاضي أبو الطيب والقاضي أبو جعفر، وأكثر الناس من المالكيين والحنفيين والشافعيين إلى أنه ليس بدليل»([17]).

وقد احتجَّ ابن رشد الجد بهذا الأصل في مسألة تزويج الأب ابنتَه البكر البالغة في «البيان والتحصيل»، قال ابن رشد: «ومن الحجة لمالك أن أهل العلم قد أجمعوا على أنه يزوج ابنته البكر قبل بلوغها دون استئمار، فمن ادعى أن عليه أن يستأمرها إذا بلغت وجب عليه الدليل، وهذا استدلال باستصحاب حال الإجماع، وهو دليل صحيح عندهم»([18]).

وقد حكى ابن العربي أن بعض المالكية استدلوا بهذا الأصل على عدم انتقاض الوضوء عند رؤية الماء في الصلاة لمن دخل فيها متيمِّمًا، بأن قالوا: أجمعنا على أن صلاته صحيحة قبل رؤية الماء، فمن ادَّعى أنها قد فسدت برؤية الماء فعليه الدليل([19]).

والصواب في هذه المسألة أن مذهب المالكية هو عدم الاحتجاج بهذا الأصل، بدليل أن غالب المالكية على عدم الاعتداد به، حتى إن الباجي على رسوخ قدمه في المذهب لم يعلم أحدًا من المالكية قال به إلا محمد بن سحنون، فقد قال: «وإليه ذهب محمد بن سحنون من أصحابنا، لا أعلم من أصحابنا من قال به غيره»([20]). أما ما أُثر عن ابن رشد وغيره فلعله أن يُعدَّ اختيارًا منهم لا على أنه من مذهب مالك([21]).

النوع الرابع: الاستصحاب المقلوب:

وهذا النوع من الاستصحاب يسميه البعض الاستصحاب المعكوس، وحقيقته عند العلماء أنه إثبات أمر في الزمن الماضي لثبوته في الزمن الحاضر([22]).

وقد أخذ به المالكية في مواضع وتركوا اعتباره في مواضع أخرى، فقد نسب البساطي إلى المذهب الاضطراب في العمل به، فقال في مسألة لم يعتبر فيها المالكية هذا النوع من الاستصحاب: «ولهم في الاستصحاب المعكوس اضطراب، ولم يعتبروه هنا، وسيأتي اعتباره في مواضع»([23]).

وللمالكية فتاوى مبنية على رعاية هذا النوع من الاستصحاب، كمسألة الوقف الذي لا يُدرى بعد البحث أصل مصرفه وشرط واقفه، ولكنا نجده في الزمن الحاضر يُصرف على حالة، فقد ذهب بعض القرويين والأندلسيين من المالكية إلى أن الوقف إذا جُهل أصلُ مصرفه ووُجد على حالةٍ فإنه يجري عليها، ورأوا أن إجراءه على هذه الحال دليل على أنه كان كذلك في الأصل. قال حلولو: «فهذا دليل على أنه حجة عندهم»([24]).

ومثال عدم الأخذ به عند المالكية: إذا تنازع الزوجان في عيب فرج المرأة بعد صدور العقد بمدة، فقال الزوج: كان موجودًا حال العقد فالخيار لي في الرد وعدمه. وقالت الزوجة: بل حدث بعد العقد فلا خيار لك فالقول قول المرأة في نفي وجوده حال العقد، وسواء كان ذلك الاختلاف قبل الدخول أو بعده([25]).

وتفسير عدم اعتبارهم له في هذا الموضع: أن ثبوت العيب في الحال لم يُستصحب في الماضي لإثبات كون العيب كان حال العقد فلم يستصحبوا الاستصحاب المعكوس.

لكن مما يُعترض على ما ادُّعي من اضطراب المالكية في هذا النوع من الاستصحاب: أن الأخذ به إنما يكون في الأحوال التي لا يُعارضه دليل أقوى، وليس ترك الاستصحاب المعكوس في مسألة بدليل على عدم الحجية مطلقًا؛ لمكان المعارضة القوية؛ لأن الأدلة تتوارد على المحالِّ والأخذ بأقواها لا يدل على بطلان الاحتجاج بغيرها مطلقًا. وفي مسألة العيب: الظاهر أن الاستصحاب المعكوس عورض بالاستصحاب المستقيم؛ لأن الأصل في المرأة أنها برية من الداء؛ إذ العيب عارض وليس أصليًّا؛ فكان استصحاب السلامة أولى من عطف استصحاب العيب على الحال الماضية([26]).

 

 

 

([1]) مقاييس اللغة لابن فارس (3/335) مادة (صحب).

([2]) القاموس المحيط للفيروزابادي (1/104).

([3]) شرح تنقيح الفصول (ص447).

([4]) مقدمة في أصول الفقه لابن القصار (ص315).

([5]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/145).

([6]) الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (3/372)، دار الفكر-بيروت.

([7]) أخرجه البخاري، رقم (5529).

([8]) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/128).

([9]) إحكام الفصول في أحكام الأصول (2/700).

([10]) نفائس الأصول في شرح المحصول (1/157).

([11]) انظر: المحصول في أصول الفقه لابن العربي (ص 130، 131)، دار البيارق-عمان، إحكام الفصول (2/700، 701).

([12]) إحكام الفصول (2/701).

([13]) نشر البنود على مراقي السعود (2/260).

([14]) شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب لأحمد بن علي المنجور (2/489)، دار عبد الله الشنقيطي.

([15]) انظر: الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة (ص231).

([16]) المحصول في أصول الفقه (ص130).

([17]) إحكام الفصول (2/702).

([18]) البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة (4/262).

([19]) انظر: المحصول في أصول الفقه (ص130).

([20]) إحكام الفصول (2/702).

([21]) انظر: الأصول الاجتهادية التي يُبنى عليها المذهب المالكي (ص698).

([22]) نشر البنود على مراقي السعود (2/260).

([23]) انظر: حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي (3/243).

([24]) انظر: الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة (ص233).

([25]) انظر: شرح مختصر خليل للخرشي (3/242).

([26]) انظر: الأصول الاجتهادية التي يُبنى عليها المذهب المالكي (ص701).

اترك تعليقاً