البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المبحث الثالث: الإجماع.

60 views

معنى الإجماع لغة واصطلاحًا:

الإجماع لغةً: مصدرٌ من “أجْمَعَ يُجمِع إجماعًا”، وأصله “جَمَع”؛ ومعناه: ضمُّ شيء إلى آخرَ؛ يقول ابنُ فارس: «الجيم والميم والعين أصلٌ واحدٌ يدل على تضامِّ الشيء؛ يقال: جَمَعْت الشيءَ جمعًا»([1])، وأجمعَ الأمرَ: إذا عزم عليه([2]).

والإجماع عند مالك: هو «الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه»([3]).

ويقول الإمام القرافي: «هو اتفاق أهل الحل والعقد في هذه الأمة في أمر من الأمور، ونعني بالاتفاق، الاشتراك إما في القول أو الفعل أو الاعتقاد، وبأهل الحل والعقد: المجتهدين في الأحكام الشرعية، وبأمر من الأمور: الشرعيات والعقليات والعرفيات»([4]).

والإجماع حجة، وهو من الأصول المتفق عليها عند أئمة أهل السنة.

ومن أدلة حجيته قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

ووجه الاستدلال: أن ثبوت الوعيد على المخالفة يدل على وجوب المتابعة([5]).

وينقسم الإجماع عدة انقسامات بعدة اعتبارات، فهو باعتبار المجمعين ينقسم إلى: إجماع الأمة وإجماع أهل المدينة وإجماع أهل الكوفة وإجماع العترة وإجماع الخلفاء الأربعة.

وباعتبار كيفيته ينقسم إلى: الإجماع الصريح المنطوق والإجماع السكوتي.

وباعتبار دليله ينقسم إلى: الإجماع التوقيفي المتصل والإجماع الاجتهادي.

والحجة عند المالكية هو إجماع الأمة وإجماع أهل المدينة التوقيفي الثابت من طريق النقل والحكاية والمعمول به عملًا لا يخفى.

وقد ذكر الزركشي ادعاء بعضهم أن الإجماع الذي يعتد به مالك هو إجماع أهل المدينة دون غيرهم، وقد استبعد الزركشي هذه الدعوى المنسوبة لمالك حيث قال: «وهو بعيد»([6]).

والصواب أن الإمام مالكًا يقول بإجماع الأمة كما يقول بعمل أهل المدينة الذي يسميه بعض العلماء إجماع أهل المدينة، فهما أصلان من أصول فقه مالك، ومما يدل على ذلك قول الإمام مالك: «لم آخذ مسألة واحدة إلا بعد أن أعرضها على الآية والسنة وإجماع الأمة وعمل أهل المدينة»([7]). فقد غاير الإمام بين إجماع الأمة وعمل أهل المدينة وعدهما دليلين.

ويدل لذلك أيضًا قول الجبيري عن الإمام مالك: «كان لا يعدل في اختياراته عن ظاهر كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله عليه السلام، واتفاق الأمة، وإجماع أهل المدينة»([8]).

كما توجد في فقه مالك عدة مسائل استند الإمام في استنباط أحكامها إلى إجماع الأمة، منها: قوله: «إن من سنة المسلمين التي لا اختلاف فيها، أن من أعتق شركًا له في مكاتب لم يعتق عليه في ماله، ولو عتق عليه لكان الولاء له دون شركائه»([9]).

فقوله: «إن من سنة المسلمين التي لا اختلاف فيها» يُشعر بقصده إجماع المسلمين.

ومنها: قوله: «قال الله في كتابه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فاجتمع الناس أنه لا يقسم لولد البنات في الميراث شيء إذا لم يكن له بنات من صلبه»([10]). فقوله: «اجتمع الناس» يدل على إجماع الأمة، بدليل أن بعض العلماء حكى الإجماع على هذا الحكم الذي ذكره مالك([11]).

والإجماع حجة عند المالكية، سواء كان صريحًا منطوقًا أو سكوتيًّا.

ومما يدل على إعمال الإجماع السكوتي والاستدلال به أن كثيرًا من المسائل المدونة في كتب المالكية هي من قبيل الإجماع السكوتي، كما هو الحال في كتاب الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان الفاسي حيث حشد أكثر من أربعة آلاف مسألة الكثير منها من قبيل الإجماع السكوتي.

مكانة الإجماع في مذهب مالك:

إن كان الإجماع قطعي الثبوت فإنه في المذهب المالكي يُقدَّم على القرآن والسنة على اعتبار أنهما قابلان للنسخ والتخصيص والتقييد والتأويل. قال صاحب مراقي السعود:

وقدِّمنَّه على ما خالفا    إن كان بالقطع يُرَى متصفا

يقول صاحب نشر البنود: «يعني أنه يجب تقديم الإجماع على ما خالفه من الأدلة إن كان الإجماع قطعيًّا. قال في التنقيح: وهو مقدم على الكتاب والسنة والقياس. وقال في شرحه: لأن الكتاب يقبل النسخ والتأويل وكذلك السنة، والقياس يحتمل قيام المعارض وخفاؤه الذي مع وجوده يبطل القياس وفوات شرط من شروطه، والإجماع معصوم قطعي ليس فيه احتمال»([12]).

من يُعتبر قوله في الإجماع:

اختلف المالكية: هل يعتبر في الإجماع كل الأمة علماؤها وعامتها، أم يعتبر بعض الأمة، وهم العلماء فقط؟

ومذهب أكثر العلماء، ومذهب الإمام مالك أيضًا: اعتبار العلماء فقط في أي مسألة كانت دون العامة. وقد نص القرافي على ذلك بقوله: «فلا يعتبر فيه -أي الإجماع- جملة الأمة إلى يوم القيامة؛ لانتفاء فائدة الإجماع، ولا العوام عند مالك رحمه الله وعند غيره»([13]).

ونص عليه صاحب نشر البنود بقوله: «المختار إلغاء العوام عن الاعتبار في الإجماع فلا يعتبر وفاقهم للمجتهدين بل المعتبر اتفاق المجتهدين فقط لإجماع الصحابة على عدم اعتبارهم وبه قال مالك والمحققون»([14]).

سند الإجماع عند مالك:

مذهب الإمام مالك أنه يصح انعقاد الإجماع عن الدليل والأمارة والقياس. وقد نص على ذلك بعض المالكية منهم القرافي فقد قال: «يجوز عند مالك رحمه الله تعالى انعقاده عن القياس والدلالة والأمارة»([15]).

وقد بيَّن القرافي أن المراد بالدليل ما أفاد القطع، وأن المراد بالأمارة ما أفاد الظن.

فتحصل من هذا أن مذهب مالك أنه يصح أن يستند الإجماع إلى آية من كتاب الله أو حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قياس.

 

 

 

 

 

 

 

([1]) مقاييس اللغة لابن فارس (1/479)، وينظر: تاج العروس للزبيدي (20/451) مادة (جمع).

([2]) مختار الصحاح لأبي بكر الرازي (ص60) مادة (جمع).

([3]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/74).

([4]) شرح تنقيح الفصول (ص322).

([5]) انظر: السابق (ص324).

([6]) انظر: البحر المحيط للزركشي (6/441)، دار الكتبي.

([7]) من كتاب «لوامع الدرر في هتك عويص المختصر» للشيخ محمد بن محمد سالم المجلسي، نقلًا عن أصول فقه الإمام مالك «أدلته النقلية» لعبد الرحمن الشعلان (2/1011).

([8]) التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدونة لقاسم بن خلف الجبيري (ص17)، دار الضياء-مصر.

([9]) موطأ الإمام مالك (رواية أبي مصعب الزهري-2/451).

([10]) المدونة (4/421).

([11]) انظر: الإجماع لابن المنذر (ص69)، دار المسلم للنشر والتوزيع.

([12]) نشر البنود على مراقي السعود لعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي (2/97)، مطبعة فضالة بالمغرب.

.

([13]) شرح تنقيح الفصول (ص341).

([14]) نشر البنود على مراقي السعود (2/81).

([15]) شرح تنقيح الفصول (ص339).

اترك تعليقاً