البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثالث: أصول المذهب المالكي

المبحث الثاني: السنة.

99 views

معنى السنة لغة واصطلاحًا:

السُّنَّة لغةً: اسمٌ من “سنَّ”، والسين والنون أصل واحد، وهو جريان الشيء واطِّرادُه في سهولة، وممَّا اشتُقَّ منه السُّنة، وهي الطريقة والعادة والسيرة؛ حميدة كانت أم ذميمة. والجمع سُنَنٌ؛ ثم استُعملتْ في الطريقة المحمودة المستقيمة، فسنة الله: أحكامه وأمره ونهيه، وسنَّ اللهُ سُنةً؛ أي بيَّنَ طريقًا قويمًا. ويُقال: فلان من أهل السنة، معناه: من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة([1]).

واصطلاحًا: عُرِّفَت بتعريفات كثيرة؛ فهي عند الأصوليين: ما صَدَر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ القرآنِ من قول أو فعل أو تقرير([2]).

وعند المحدِّثين: ما أُضيف إلى النبي r من قول أو فعل أو صفة خَلْقيَّة أو خُلُقيَّة وما يتصل بالرسالة من أحواله الشريفة قبل البعثة([3]).

وعند الفقهاء: اسمٌ للطريقة المسلوكة الجارية في الدِّين من غير افتراض ولا وجوب([4])،
أو: الفعل إذا واظب عليه النبي r ولم يَدُلَّ دليلٌ على وجوبه([5])، أو: – أنها: ما يُستحق الثواب بفعله ولا يُعاقَب بتركه([6]).

وفيما يلي نعرض لموقف الإمام مالك من السنة باعتبارها أصلًا من أصول مذهبه:

السنة أصل من أصول الاستنباط عند الإمام مالك، غير أن الإمام تميز بموقفه من خبر الآحاد والحديث المرسل.

موقف الإمام مالك من خبر الآحاد:

كان الإمام مالك يأخذ بخبر الآحاد، ويستثمره في استنباط بعض الأحكام الفقهية.

قال ابن القصار: «مذهب مالك رحمه الله قبول خبر الواحد العدل، وأنه يوجب العمل دون القطع على غيبه، وبه قال جميع الفقهاء»([7]).

وخبر الآحاد: هو كل خبر لم ينته إلى التواتر سواء رواه واحد، أو اثنان، أو جماعة([8]).

وقد انفرد المذهب المالكي بتقديم عمل أهل المدينة المنبني على السنة لا الاجتهاد، وكذلك القياس على خبر الآحاد، فيرد خبر الآحاد إذا خالف عمل أهل المدينة النقلي والمتصل، ويُقبل ويقدَّم على عمل أهل المدينة الاجتهادي بل يقدَّم على إجماعهم الاجتهادي؛ لأن الإمام مالك يعتبر عمل أهل المدينة من السنة المتواترة، حيث إن عملهم عبارة عن نقل السنن الفعلية نقلًا متواترًا؛ لأن النبي حين قُبض ترك الناس على المحجة البيضاء، وأولى الناس بها هم أهل المدينة الذين شاهدوا النبي وعباداته ومعاملاته، وكان صلى الله عليه وسلم يقرُّ ما يفعلون أو يُعدِّل ويرشد. قال ابن رشد: «هذا معلوم من مذهب مالك أن العمل المتصل بالمدينة مقدَّم على أخبار الآحاد العدول؛ لأن المدينة دار النبي عليه السلام وبها مات وأصحابه متوافرون، فيبعد أن يخفى الحديث عنهم ولا يمكن أن يتصل العمل به من الصحابة إلى من بعده على خلافه إلا وقد علموا النسخ فيه، وكذلك القياس عنده مقدَّم على خبر الآحاد إذا لم يمكن الجمع بينهما، والحجة في ذلك أن خبر الواحد يجوز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص، ولا يجوز على القياس من الفساد إلا وجه، وهو أن هذا الأصل هل هو معلول بهذه العلة أم لا؟ فصار أقوى من خبر الواحد، فوجب أن يقدَّم عليه»([9]).

ومثال تقديم عمل أهل المدينة على خبر الآحاد ما ذكره ابن رشد من رد خبر «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا»، وهو خبر آحاد ردَّه الإمام مالك لأن عمل أهل المدينة على خلافه. قال ابن رشد: «وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد، وأصحها، حتى لقد زعم أبو محمد أن مثل هذا الإسناد يوقع العلم، وإن كان من طريق الآحاد. وأما المخالفون فقد اضطرب بهم وجه الدليل لمذهبهم في رد العمل بهذا الحديث. فالذي اعتمد عليه مالك -رحمه الله- في رد العمل به أنه لم يلفَ عمل أهل المدينة عليه»([10]).

عمل الإمام مالك بالمراسيل:

يُعرف الحديث المرسل بأنه: الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي([11]).

ومما يُعرف به الإمام مالك وأصحابه في هذا الأصل هو العمل بالمراسيل، ولم ينفرد به فغيره أخذ بالمراسيل كأبي حنيفة والجمهور من الحنفية والمالكية وجماعة من المحدثين، وأحمد في رواية([12]).

قال ابن عبد البر: «وأما أصحابنا فكلهم مذهبه في الأصل استعمال المرسل مع المسند كما يوجب الجميع استعمال المسند، ولا يردون بالمسند المرسل، كما لا يردون الخبرين المتصلين ما وجدوا إلى استعمالهما سبيلًا، وما ردوا به المرسل من حجة بتأويل أو عمل مستفيض أو غير ذلك من أصولهم فهم يردون به المسند سواء لا فرق بينهما عندهم»([13]).

والمرسل حجة عند مالك، يدل عليه احتجاجه به في «موطئه»، وفي كثير من المسائل التي رواها عنه تلامذته. والمرسل المقبول عنده هو الحديث الذي من عادة مرسِله أن لا يروي إلا عن ثقة وإلا فمرسَله مردود مطروح، واشتراط هذا الشرط لازم حتم ليتسق قبول المرسل مع ما عُرف من منهج مالك في التحري وشدة الانتقاد لمن يروي عنه([14]).

مثال العمل بالمراسيل عند مالك:

تخصيص عموم القرآن بالحديث المرسل كما في تخصيص عموم حل البيع في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] بالحديث المرسل الذي رواه سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الحيوان باللحم»([15])، والإمام مالك يعمل بنص السنة وظاهرها ومفهومها ودليل الخطاب بها.

فمن نصوص السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق، من رابه شيء في صلاته، فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء»([16]).

قال ابن بطال: «قالوا: وهذا نص لا تأويل لأحد معه»([17]).

ومن العمل بدليل الخطاب من السنة: «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه»([18]). وفي المعلم: «يقول مالك: فإن دليل خطاب الحديث يقتضي جواز غير الطعام ولو كان سائر المَكِيلات ممنوعًا بيعها قبل قبضها لما خصّ الطعام بالذكر فلما خصه دَلَّ على أن ما عداه بخلافه»([19]).

ومن العمل بمفهوم الموافقة ما ثبت في الحديث: «ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة»([20]). قال ابن رشد: «ومفهومه أن فيما زاد على ذلك الصدقة قلَّ أو كَثُرَ»([21]).

حجية السنة الفعلية عند المالكية:

السنة الفعلية إما أن تكون مما لم يتضح فيه أمر الجبلة كالقيام والقعود والأكل والشرب، أو يتضح فيه خصوصيته به صلى الله عليه وسلم كالضحى والوتر والتهجد والجمع بين أكثر من أربع نسوة، فهذه لا احتجاج بها عند العلماء، فإن كانت غير هذين القسمين فهي إما: بيانًا لمجمل من السنة والقرآن كأفعاله في الصلاة والحج فإنه وضَّح كونها بيانًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»([22])، و«خذوا عني مناسككم»([23]).

فإن لم تكن أفعاله هذه بيانًا لمجمل فإن عُلم حكمها من الوجوب والندب والإباحة فأمته مثله في حكم ذلك الفعل، سواء كان عبادة أو غيرها، وما لم يُعلم حكمه فهو على الإباحة، وهو مذهب مالك([24]).

 

 

([1]) ينظر: مقاييس اللغة لابن فارس (3/60)، ولسان العرب لابن منظور (13/220)، مادة (سنن).

([2]) ينظر: شرح التلويح على التوضيح للتفتازاني (2/3)، والتعريفات للجرجاني (ص122).

([3]) ينظر: فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للسخاوي (1/22)، وشرح نخبة الفكر في مصطلحات أهل الأثر لملا علي القاري (ص456).

([4]) ينظر: الكليات للكفوي (ص497)، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (ص198).

([5]) ينظر: حاشية رد المحتار لابن عابدين (1/70، 454)، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل للآبي الأزهري (1/73).

([6]) ينظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص31).

([7]) مقدمة في أصول الفقه لابن القصار (ص212، 213).

([8]) شرح نخبة الفكر في مصطلحات أهل الأثر للملا علي القاري (ص209)، دار الأرقم-بيروت.

([9]) البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة لابن رشد القرطبي (17/604)، دار الغرب الإسلامي-بيروت.

([10]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد (3/188)، دار الحديث-القاهرة، 1425هـ-2004م.

([11]) توجيه النظر إلى أصول الأثر لطاهر بن صالح بن موهب (1/400)، مكتبة المطبوعات الإسلامية-حلب.

([12]) انظر: شرح علل الترمذي لابن رجب (1/187)، مكتبة المنار-الزرقاء-الأردن.

([13]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (1/6).

([14]) التحقيق في مسائل أصول الفقه التي اختلف النقل فيها عن الإمام مالك بن أنس للدكتور حاتم باي (ص305)، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت.

([15]) موطأ مالك (رواية أبي مصعب الزهري-2/361).

([16]) أخرجه البخاري، رقم (684)، ومسلم، رقم (421).

([17]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/193)، مكتبة الرشد-الرياض.

([18]) متفق عليه: أخرجه البخاري، رقم (2126)، ومسلم، رقم (1526).

([19]) المعلم بفوائد مسلم للمازري (2/252)، الدار التونسية للنشر.

([20]) أخرجه البخاري، رقم (1459)، ومسلم، رقم (980).

([21]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/18).

([22]) أخرجه البخاري، رقم (6008).

([23]) أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في السنن الكبرى، رقم (9524)، وأصله عند مسلم، رقم (1297) بلفظ «لتأخذوا مناسككم».

([24]) انظر: بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب لشمس الدين الأصفهاني (1/479-486)، تحقيق: محمد مظهر بقا، دار المدني-السعودية.

اترك تعليقاً