البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المبحث السادس: شرع من قبلنا.

92 views

لم نقف على تعريف لشرع من قبلنا عند متقدمي الأصوليين، ومن أفضل تعريفات المعاصرين لهذا الأصل: «شرع من قبلنا هو ما نُقل في شرعنا من أحكام الشرائع السابقة وليس في شرعنا ما ينسخه ولا ما يقره».

فهذا التعريف تضمن قيودًا:

الأول: أن يكون شرع من قبلنا منقولًا في شرعنا -أي في الكتاب والسنة- حتى تحصل الثقة في النقل.

الثاني: أنه ليس في شرعنا ما ينسخ ذلك الشرع؛ لأنه إذا كان في شرعنا ما ينسخه فليس شرعًا لنا بالإجماع.

الثالث: أنه ليس في شرعنا ما يقرر ذلك الشرع في حقنا؛ لأنه إذا كان في شرعنا ما يقرر ذلك الشرع في حقنا فإنه يكون شرعًا لنا ابتداءً، لا لكونه شرعًا لمن قبلنا([1]).

حجيته ودليل اعتباره عند المالكية:

شرع من قبلنا شرع لنا لا خلاف عند المالكية فيه([2]). وهو ليس مما تفرد به المذهب المالكي وإن لم يأخذ به كل الأئمة.

واستدل مالك على أن شرع من قبلنا شرع لنا بقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. وجه الاستدلال: قال ابن العربي: «احتجاجه بالآية في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. وهذا خطاب لموسى -عليه السلام-، وأنه أيضًا متوجه إلينا كتوجهه لموسى -عليه السلام- وأمته»([3]).

شروط اعتبار هذا الأصل:

اشترط المالكية للأخذ بهذا الأصل شروطًا:

الأول: صحة النقل لهذا الشرع، ولا يتأتى ذلك إلا بأن يذكر في القرآن أو السنة الصحيحة([4]).

الثاني: ألا يكون منسوخًا في شرعنا([5]).

الثالث: ألا يرد به شرعنا، فإن ورد فهو شريعتنا لا شرع من قبلنا.

الرابع: شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما خصه الدليل([6]).

نماذج لهذا الأصل في المذهب:

النموذج الأول: مسألة القصاص:

قال الإمام مالك: «والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء، وذلك أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فذكر الله تبارك وتعالى: أن النفس بالنفس، فنفس المرأة الحرة بنفس الرجل الحر، وجرحها بجرحه»([7]).

فقد استدل الإمام بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} على مشروعية القصاص بين الرجل والمرأة، وهذا الحكم من شرع ما قبلنا كما لا يخفى. يقول ابن القصار: «مذهب مالك يدل أن علينا اتباعهم؛ لأنه احتج بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وهذا خطاب لأهل التوراة في شريعة موسى عليه السلام»([8]).

واستدلال مالك بهذه الآية هو الذي عناه ابن العربي بقوله: «شرع من قبلنا شرع لنا لا خلاف عند مالك فيه، وقد نصّ عليه في كتاب الديات»([9]).

وقال الزرقاني معلقًا على قول مالك: «وهذا الحكم وإن كتب عليهم في التوراة فإنه مستمر في شريعة الإسلام لما ذهب إليه كثير من الفقهاء والأصوليين أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي متقررًا ولم ينسخ، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يُقتل بالمرأة بهذه الآية كما قال»([10]).

النموذج الثاني: مسألة تذكية البقر:

قال ابن القاسم: فقلت لمالك: فالبقر إن نحرت أترى أن تؤكل؟ قال: نعم، وهي خلاف الإبل إذا ذبحت. قال مالك: والذبح فيها أحب إليَّ؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]. قال: فالذبح أحب إلي، فإن نُحرت أُكلت([11]).

النموذج الثالث: مسألة عقوبة اللواط:

فقد رأى الإمام مالك في حكم اللواط أن الفاعل والمفعول به يرجمان سواء أكانا بكرين أم ثيبين. قال ابن العربي في حكم اللواط: «ورأى مالك أنه يرجم بكرًا كان أو ثيبًا، وهو أسعدُ قولًا؛ لأن الله أخبرنا عن قومٍ فعلوه وعن عقوبته فيهم بالرمي بالحجارة، فوجب أن يتعظ بقوله، وأن يمتثل ما سبق من فعله، وهذا يدلك على أن مالكًا رأى أن شرعَ من قبلنا شرع لنا بلا خلاف؛ ألَا تراه لم يختلف قوله من أن البكر يُرجم كما رجمَ الله بكرهم وثيبهم»([12]).

 

 

([1]) أصول فقه الإمام مالك «أدلته النقلية» (2/1151).

([2]) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص103).

([3]) المسالِك في شرح موطأ مالك لأبي بكر بن العربي (1/436)، دار الغرب الإسلامي.

([4]) انظر: المنتقى شرح الموطأ (7/96).

([5]) انظر: الفروق للقرافي (4/9).

([6]) انظر: المنتقى شرح الموطأ (6/80).

([7]) موطأ مالك (رواية أبي مصعب الزهري-2/250).

([8]) مقدمة في أصول الفقه لابن القصار (ص307).

([9]) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص103).

([10]) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (4/321).

([11]) المدونة (1/543).

([12]) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص1014).

اترك تعليقاً