البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

تمهيد

56 views

تباينت آراء العلماء في قضية تدوين أصول المذهب، فنجد من يؤكد بأن الإمام مالكًا رحمه الله هو واضع هذه الأصول، وأن أتباعه ما لهم في ذلك إلا بيان التفاصيل والتفريع عليها، بينما هناك من يقرر خلاف ذلك ويرى أن الإمام لم يدونها وإنما الأتباع هم الذين استخرجوها من خلال استقرائهم لأقواله وفتاويه ثم دوَّنوا تلك الأصول وأضافوا إليها.

وفيما يلي نورد هذين الاتجاهين والراجح منهما:

الاتجاه الأول:

ذهب بعض محققي المالكية إلى أن الإمام مالكًا رحمه الله قصد في كتابه الموطأ بيان أصول الفقه وفروعه، حيث صرَّحوا بأنه بناه على تمهيد الأصول للفروع، ومن هؤلاء:

-الإمام أبو بكر بن العربي فقد قال في كتابه «القبس» عن كتاب الموطأ: «وهو أول كتاب أُلِّف في شرائع الإِسلام وهو آخره؛ لأنه لم يؤلَّف مثله؛ إذ بناه مالك رضي الله عنه على تمهيد الأصول للفروع، ونبَّه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع إليها مسائله وفروعه، وسترى ذلك، إن شاء الله، عيانًا وتحيط به يقينًا عند التنبيه عليه في موضعه»([1]) 

ونُقل هذا المعنى عن بعض أهل العلم، حيث قال الشيخ ابن غازي المالكي: «وجرت عادة الشافعية أن يفتخروا بأن الشافعي هو أول من خرَّج أصول الفقه ودوَّنها، وكان شيخنا يحيى بن النديم يحكي عن شيخه الصيرفي أنه كان يقول: مالك سبقه إلى هذا بأن موطأه أصول فقه»([2]).

فيؤكد أصحاب هذا الاتجاه أن هذه الأصول من وضع الإمام مالك وتدوينه، وليس للأتباع فيها إلا التفريع والتخريج عليها.

الاتجاه الثاني:

ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن الإمام مالكًا رحمه الله لم يدوِّن أصوله التي بنى عليها مذهبه، واستخرج بناء عليها أحكام الفروع التي استنتجها، وليس مرادهم بهذا عدم ملاحظة هذه الأصول أو بعضها من قِبَل الإمام حين استنباطه للمسائل الفقهية، فقد اتضح في مؤلفات الإمام اعتماده على بعض الأصول كعمل أهل المدينة والقياس، وإنما مرادهم أنه رحمه الله لم يصرِّح في كتبه أنه التزم فيما كان يستنبطه من أحكام أصولًا وقواعدَ اعتمدها أساسًا في الاستنباط، كما فعل تلميذه الشافعي الذي كتب في أصول الفقه وبيَّن منهجيته في تقرير الأحكام.

وما يقرره أصحاب هذا الاتجاه هو الصواب؛ وذلك لأن ما قاله أصحاب الاتجاه الأول ليس هناك ما يدعمه أو يؤيده من كلام الإمام أو تلاميذه، بل غاية الأمر أن الإمام مالكًا رحمه الله أشار إلى الخطوط العريضة التي بنى عليها مذهبه من خلال هذه الأصول التي تبيَّن من صنيعه اعتماده عليها، ومن خلال فتاويه ونحو ذلك ثم قام علماء المذهب ومحققوه بوضع تفاصيل أصول المذهب وقواعده الاستنباطية من خلال استقرائهم لآراء الإمام وفتاويه؛ فيكون استخراجها وتحريرها ثم تصنيفها على صورتها النهائية من عمل الأتباع لا من عمل الإمام.

ويدل على ترجيح هذا الاتجاه أمور، منها:

أولًا: اختلاف علماء المذهب رحمهم الله في تعداد هذه الأصول وحصرها، حيث ذكر بعضهم أربعة منها، وأشار ابن القصار في مقدمته إلى سبعة([3])، وصرح الجبيري بثمانية منها فقط([4])، وعدَّها ابن العربي عشرة([5])، وأوصلها القرافي إلى تسعة عشر([6])، وهكذا؛ فلو كان الإمام مالك رحمه الله قد صرَّح بالتزامه أصول معينة لما وقع هذا الاضطراب والاختلاف في تعدادها وحصرها.

ثانيًا: إشارة أغلب كبار محققي المالكية -في مواطن متعددة- إلى أن الإمام مالكًا رحمه الله لم ينص على بعض هذه الأصول التي اعتبرت فيما بعد من أدلة المذهب وأصوله، فمن هؤلاء: -ابن القصار رحمه الله حيث صرَّح بأن الاستصحاب من أصول الإمام مالك رحمه الله، وبرغم ذلك فإنه اعترف بأنه لم يظفر للإمام مالك بنص يصرح فيه بذلك، حيث يقول: «ليس عن مالك رحمه الله في ذلك -أي الاستصحاب- نص، لكن مذهبه يدل عليه»([7]).

-والقاضي عبد الوهاب رحمه الله صرَّح بأن الاستحسان من أصول مالك، ومع هذا يقول: «لم ينص عليه -أي الاستحسان- مالك وكتب أصحابه مملوءة منه كابن القاسم وأشهب وغيرهما»([8]).

ثالثًا: اختلافهم في اعتبار بعض الأصول مثل مراعاة الخلاف، فقد أنكر اعتباره بعض كبار أئمة المذهب كالقاضي عياض واللخمي وغيرهما رحمهم الله، واعتبره جمهورهم، وهو الصحيح من أقوال علماء المذهب، بل يعتبر من مميزات أصول مذهب الإمام مالك، فلو كان هناك نص صريح من الإمام في اعتباره لما اختلفوا في تعداده من أصول مالك رحمه الله.

فهذه الأوجه وغيرها ترجح ما أكده أصحاب القول الثاني، وهو أن الإمام رحمه الله لم يتول بنفسه تدوين جميع هذه الأصول، بل هي من عمل أصحابه، أو أنه رسم الخطوط الرئيسة بأن أشار في موطئه ورسالته إلى الليث بن سعد إلى بعض المعالم، ثم تولى أئمة المذهب استخراجها وتحريرها.

وعلى كل حال سواء كانت هذه الأصول من تدوين الإمام مالك أم من تدوين أتباعه الذين استخلصوها من أقواله وفتاويه فإن هذه الأصول أصبحت مستند المالكية في الاستنباط والتخريج، وعليها المعول في الاستدلال والاحتجاج، ومن ثم تعد الأسس الرئيسة التي قامت عليها أصول المذهب المالكي.

التحقيق في مسألة أوَّل من دوَّن في أصول الفقه:

بناءً على ما تقدم عُلم أن الإمام مالكًا قد ذكر في كتابه الموطأ قواعد أصولية، لكن الموطأ كما هو معلوم كتاب حديث، وقد مُزج بالفقه والأصول وغيرها، والكلام هنا إنما يدور على أوَّل من صنَّف كتابًا مستقلًّا في أصول الفقه، وإلا فما من شك أن كل إمام من الأئمة من الصحابة أو غيرهم كانت له أصول يجتهد وفقها، وأن الشافعي قد أخذ هذه القواعد الأصولية عن مالك وغيره، والمقصود هنا هو التأليف، وعليه فإن المتقرر أو مما استقر عليه رأي أغلب الأصوليين اليوم أن الإمام الشافعي هو أول من ألَّف كتابًا خاصًّا في أصول الفقه في كتابه «الرسالة»، وأن «الرسالة» كانت اللبنة الأولى في هذا الباب، أما عن العلم بهذه الأصول فإن كل إمام قبل الشافعي قد كانت له أصول ولكنها لم تدوَّن في كتاب واحد مثلما كان للشافعي.

قال الإسنوي: «كان إمامنا الشافعي رضي الله عنه هو المبتكر لهذا العلم بلا نزاع وأول من صنف فيه بالإجماع وتصنيفه المذكور فيه موجود بحمد الله تعالى وهو الكتاب الجليل المشهور المسموع عليه المتصل إسناده الصحيح إلى زماننا المعروف بالرسالة الذي أرسل الإمام عبد الرحمن بن مهدي من خراسان إلي الشافعي بمصر فصنفه له وتنافس في تحصيله علماء عصره»([9]).

ويقول ابن خلدون: «وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس»([10]).

وعندما نقول بأن الشافعي رحمه الله هو أول من ألف في أصول الفقه فليس معنى ذلك أنه هو من ابتدعه من نفسه فإنه رحمه الله لم يخترع الأصول وإنما اخترع التأليف والتصنيف في فن أصول الفقه.

يقول الشيخ محمد أبو زهرة: «وهكذا وضع الشافعي قواعد للاستنباط ولم تكن في جملتها ابتداعًا ابتدعه، ولكنها ملاحظة دقيقة لما كان يسلكه الفقهاء الذين اهتدى بهم من مناهج في استنباطهم لم يدونوها، فهو لم يبتدع منهاج الاستنباط ولكن له السبق في أنه جمع أشتات هذه المناهج التي اختارها ودوَّنها في علم مترابط الأجزاء، ومثله في ذلك مثل أرسطو في تدوينه لمنطق المشَّاءين، فما كان عمله فيه ابتداعًا لأصل المنهاج بل كان إبداعه في ضبط المنهاج. هذا هو نظر الجمهور من الفقهاء في تقريرهم الأسبقية للشافعي في تدوين ذلك العلم، ولا أحد منهم يخالف في ذلك»([11]).

وفيما يلي نذكر أصول المذهب المالكي، ونفرد كل أصل منها بمبحث مستقل على النحو الآتي:

 

 

([1]) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، للقاضي أبي بكر بن العربي (ص69)، دار الغرب الإسلامي.

([2]) إرشاد اللبيب إلى مقاصد حديث الحبيب للشيخ محمد بن أحمد بن علي بن غازي (ص266)، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمملكة المغربية، 1409هـ-1989م.

([3]) انظر: مقدمة في أصول الفقه لابن القصار (ص178)، تحقيق: الدكتور مصطفى مخدوم، دار المعلمة للنشر والتوزيع-الرياض.

([4]) انظر: التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدونة لقاسم بن خلف الجبيري (ص17 وما بعدها)، دار الضياء-مصر.

([5]) انظر: محاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب الإسلامي للدكتور عمر الجيدي (ص65)، منشورات عكاظ.

([6]) انظر: شرح تنقيح الفصول لشهاب الدين القرافي (ص445)، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، شركة الطباعة الفنية المتحدة.

([7]) مقدمة في أصول الفقه لابن القصار (ص315).

([8]) انظر: المسودة في أصول الفقه لآل تيمية (ص451)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد،

دار الكتاب العربي.

([9]) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لعبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي (ص45)، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة-بيروت، الطبعة الأولى، 1400هـ.

([10]) ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، لعبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون (ص 576)، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر-بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ-1988م.

([11]) أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة (ص14)، دار الفكر العربي-القاهرة، بدون طبعة.

اترك تعليقاً