البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

من المعلوم أن البحث في التراث الفقهي الإسلامي وسبر أغواره يكتسب أهمية بالغة في عصرنا الحاضر؛ إذ لا سبيل إلى معرفة ما أنتجته قرائح فقهاء الإسلام من نتاج علمي وفكري، والوقوف على الطرق والمسالك الاجتهادية التي اتبعوها في استنباط الأحكام والمناهج التي اعتمدوها في الاستدلال والتعليل -سوى قراءة هذا التراث واستقراء تفاصيله وجزئياته.

علاوة على أن البحث في هذا التراث بشكل عام أمر ضروري لاستلهام الرؤى والحلول المناسبة لما تعانيه الأمة اليوم من أزمات ومشكلات.

والناظر في تاريخ المذاهب الفقهية والدارس للمادة الفقهية المتراكمة يستنتج أن تلك المذاهب ليست كلها بجزئياتها مروية عن الأئمة الذين أسسوها، وإنما كانت لهم اليد الطولى في عملية الاستقراء الفقهي والتأسيس بعد استقرار معالم الاجتهاد وتطور علم الفقه بتمايز مدارسه، من هنا فإن تأسيس تلك المذاهب هو نتاج قرون وتراكمات سبقت قيامها، كما أن تلك المذاهب بهيئتها التي هي عليها اليوم نتاج عطاء علمي طويل، أسهم فيه علماء تلك المذاهب كل بتخصصه وما يحسن، حتى صارت على ما هي عليه اليوم، وبناء عليه فإن إهمال تلك التفاصيل وإلغاءها في عرض مذهب من المذاهب يجعله ناقصًا مبتورًا، ولا يمكن تطوير المذهب الفقهي دون الرجوع إلى المنعطفات التاريخية المهمة فيه، والمرور بمراحل نشاطه وركوده؛ لمعرفة الجوانب الإيجابية والسلبية، إضافة إلى الظواهر العلمية فيه؛ إذ المذهب بناء متكامل براجحه ومرجوحه ومشهوره وشاذه وقويه وضعيفه، ولرب مرجوح عضده دليل أو عُرْف فصار راجحًا معتمَدًا في حقبة من الحقب.

ويصور بعض الفقهاء المتأخرين المذهب المالكي على أنه مسلك واحد هو المشهور أو الراجح، وأنه لا يجوز مخالفة ذلك، لكن المتتبع لجهود جماعة من فقهاء المذهب المالكي يدرك أنهم مع تمسكهم بالمذهب كانوا يخرجون عن المشهور والراجح لكن خروجهم عنهما له أسباب.

وفي الواقع إن التعامل مع كتب المذاهب ليس بالأمر الهين؛ لأن ذلك يحتاج إلى معرفة بمداخل كل مذهب، فليس كل فقيه وإن كان طويل الباع في الفقه معتمدًا في نقل ما عليه الفتوى في المذهب الذي ينتمي إليه، وليس كل كتاب وإن كان مؤلفه جليل القدر يصح أن يُنقل عنه ما عليه مذهب إمامه.

وهناك أمر مهم في هذا الصدد، وهو أن الباحث إذا لم يعرف مداخل كل مذهب، بمصطلحاته والكتب المعتمدة فيه قد ينسب قولًا إلى إمام المذهب وهو لم يقل به؛ لأن كثيرًا من الآراء الموجودة في كتب الفروع المنسوبة لإمام معين هي مخرَّجة على أصوله من قِبَل أتباعه، فهي تُنسب إليه بهذا الاعتبار وإن لم يقلها.

ونعطي في هذا الكتاب إضاءات يسترشد بها الباحثون للتعرف على مداخل المذهب المالكي وأصوله ومصطلحاته ومراتب الروايات والأقوال في المذهب وطرق الترجيح بينها، وهو ما يعبر عنه بمنهج الإفتاء في المذهب المالكي.

ومن هنا فإننا نلقي الضوء على المنهج الفقهي والإفتائي في مذهب مالك رحمه الله لإبراز مزايا هذا المذهب وخصائصه وأصوله وما أنتجته عقول علمائه من مؤلفات قيمة، وما أصدروه من فتاوى يمكن الاستفادة منها في مواكبة الواقع الحديث.

اترك تعليقاً