البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

استعمال الحيل الفقهية على نطاق واسع

58 views

إن الحيل لا تمدح ولا تُذم لذاتها، بل بنتائجها وما يتم استعمالها في التوصل إليه، فقد تكون الحيلة ممدوحة بأن توصل إلى شيء مباح أو ترفع عن الخلق حرجًا، وقد تكون مذمومة بأن تُستعمل في إسقاط واجب، أو الوصول إلى محرم.

ولا يتصور أبدًا أن يكون أئمة المذهب الحنفي قد توسعوا في ذلك النوع المذموم، بل لا شك في أنهم قد ذموه ضمن مَن ذمه، وحذروا منه وانتقدوا من يفعله.

فالحيل بالمعنى المذموم لا يمكن أن تُنسب للإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولا لأحد من أئمة المسلمين؛ فإن ذلك قدح في إمامته، وذلك يتضمن القدح في الأمة حيث ائتمت بمن لا يصلح للإمامة، وفي ذلك نسبة لبعض الأئمة إلى تكفير أو تفسيق، وهذا غير جائز، ولو فُرض أنه حكي عن واحد من الأئمة بعض هذه الحيل المجمع على تحريمها فإما أن تكون الحكاية باطلة، أو يكون الحاكي لم يضبط لفظه فاشتبه عليه فتواه، ولو فُرض وقوعها منه في وقت ما فلا بد أن يكون قد رجع عن ذلك، وإن لم يحمل الأمر على ذلك لزم القدح في الإمام وفي جماعة المسلمين المؤتمين به، وكلاهما غير جائز. ثم إن هذا على مذهب أبي حنيفة وأصحابه أشد؛ فإنهم لا يأذنون في كلمات وأفعال دون ذلك بكثير([1]).

فعلم بذلك أن هؤلاء المحتالين الذين يفتون بتلك الحيل المذمومة شرعًا لا يقتدون بأي من أئمة المسلمين ولا يتبعون مذهبًا من مذاهبهم؛ فأئمة المسلمين أتقى لله سبحانه من أن يفتوا بتلك الحيل.

لكن وكما يذم الناس أرباب الحيل فهم يذمون أيضًا العاجز الذي لا حيلة عنده؛ لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه، فالأول ماكر مخادع، والثاني عاجز مفرط، والممدوح غيرهما، وهو من له خبرة بطرق الخير والشر خفيّها وظاهرها، فيحسن التوصل إلى مقاصده المحمودة التي يحبها الله ورسوله بأنواع الحيل، ويعرف طرق الشر الظاهرة والخفية التي يتوصل بها إلى خداعه والمكر به فيحترز منها ولا يفعلها ولا يدل عليها، وهذه كانت حال سادات الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا أبرَّ الناس قلوبًا، وأعْلمَ الخلق بطرق الشر ووجوه الخداع، وأتْقَى لله من أن يرتكبوا منها شيئًا أو يدخلوه في الدين([2]).

وهذا ما نزعمه في ذلك المبحث عن أئمة الحنفية؛ فهم أهل التوسط بين أرباب الحيل المذمومة، وبين العاجز الذي لا حيلة عنده، بل هم يستخدمون الحيل للتوصل للخير ودفع الشر، ورفع الحرج عن الناس.

بل قد أفتى أئمة الحنفية بالحجر على المفتي الماجن الذي يُعلِّم الناس الحيل الباطلة؛ قال شيخي زاده: «(ويحجر على المفتي الماجن) هو الذي يُعلِّم الناس الحيل الباطلة بأن علَّم المرأة الارتداد لتَبِين من زوجها، وبأن علَّم الرجل أن يرتد لتسقط عنه الزكاة ثم يسلم، ولا يبالي أن يحرم حلالًا ويحل حرامًا»([3]).

معنى الحيلة التي أكثر الحنفية من استعمالها:

إذا سلمنا أن أئمة الحنفية لا يمكن أن يستعملوا الحيل المحرمة؛ بأن يستعملوا حذقهم وبراعتهم الفقهية في إسقاط واجب أو تحليل محرم، فما الحيلة التي توسعوا في استعمالها؟

إن من الحيل المباحة التي يذكرها أهل العلم: ما كان الغرض منه الخروج من ضيق حادثة أو نازلة بمخرج فقهي ليس فيه تحليلُ حرامٍ أو تحريمُ حلالٍ، ولا يشتمل على إثم أو معصية، وهو ما يسميه بعض العلماء والباحثين: «المخارج من المضايق»([4]).

وقد عرفها الحموي الحنفي بأنها: «جمع حيلة، وهي الحذق وجودة النظر، والمراد بها هنا ما يكون مخلصًا شرعيًّا لمن ابتلي بحادثة دينية، ولكون المخلص من ذلك لا يدرك إلا بالحذق وجودة النظر أطلق عليه لفظ الحيلة»([5]).

وعرفها بعض الباحثين بـ: «طريق خفي مأذون فيه شرعًا يتوصل به إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة لا تتنافى ومقاصد الشرع». وعرفه آخر بـ: «التدبير اللطيف المخلص من مصادمة النص والمخرج من الحرج»([6]).

وهذا النوع هو ما اشتهر عن الحنفية الأخذ به والتوسع فيه؛ قال الحافظ ابن حجر: «وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية؛ لكون أبي يوسف صنف فيها كتابًا، لكن المعروف عنه وعن كثير من أئمتهم تقييد إعمالها بقصد الحق، قال صاحب المحيط: أصل الحيل قوله تعالى: {وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا} الآية، وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا، بل هي إثم وعدوان»([7]).

فأيوب عليه السلام كان قد حلف حال مرضه أن يضرب زوجته مائة جلدة لخطأ فعلته، فلما شفاه الله سبحانه رفع عنه الحرج وعن زوجته التي صبرت معه وقامت عليه وقت الشدة؛ فأمره الله سبحانه أن يأخذ مائة عود ويضربها بهم ضربة واحدة([8])، وقد عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى([9])، حيث لم يكن جسده يحتمل أن يُجلد الحد مائة جلدة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة([10]).

أما بداية استعمال الحيل الفقهية في المذهب الحنفي فكانت من الإمام أبي حنيفة رحمه الله، والذي دعاه إلى ذلك كثرة الحوادث وتنوعها بالعراق، كما ساعده ما كان يتمتع به من ذكاء ومقدرة فائقة على التخلُّص من المآزق والخروج من المضايق([11]).

وقد رويت عن الإمام رحمه الله مسائل تتعلق بحوادث فيها ضيق وحرج ابتلي بها بعض الناس في عصره وسألوه عن طريق الخروج عنها فدلهم على ذلك بوجه لا يتعارض مع أصول الشرع ونصوصه، ومن ذلك:

– ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله في مناقب أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن رجلًا أتاه بالليل فقال: أدركني قبل الفجر وإلا طلقت امرأتي. فقال: وما ذاك؟ قال: تركَت الليلة كلامي، فقلت لها: إن طلع الفجر ولم تكلميني فأنت طالق ثلاثًا، وقد توسلت إليها بكل أمر أن تكلمني فلم تفعل. فقال له: اذهب فمر مؤذن المسجد أن ينزل فيؤذن قبل الفجر، فلعلها إذا سمعته أن تكلمك، واذهب إليها وناشدها أن تكلمك قبل أن يؤذن المؤذن، ففعل الرجل، وجلس يناشدها، وأذن المؤذن، فقالت: قد طلع الفجر وتخلصت منك. فقال: قد كلمتيني قبل الفجر وتخلصت من اليمين. وهذا من أحسن الحيل([12]).

– وما ذكره ابن القيم عن بشر بن الوليد قال: كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلسه، فقال له يومًا: إني أريد التزوج بامرأة، وقد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي، وقد تعلقت بالمرأة. فقال له: أعطهم ما طلبوا منك. ففعل، فلما عقد العقد جاء إليه، فقال: قد طلبوا مني المهر. فقال: احتل واقترض وأعطهم. ففعل، فلما دخل بأهله قال: إني أخاف المطالبين بالدين وليس عندي ما أوفيهم. فقال: أظهر أنك تريد سفرًا بعيدًا، وأنك تريد الخروج بأهلك. ففعل، واكترى جمالًا، فاشتد ذلك على المرأة وأوليائها، فجاءوا إلى أبي حنيفة رحمه الله فسألوه، فقال: له أن يذهب بأهله حيث شاء. فقالوا: نحن نرضيه ونرد إليه ما أخذنا منه ولا يسافر. فلما سمع الزوج طمع وقال: لا والله حتى يزيدوني. فقال له: إن رضيت بهذا، وإلا أقرَّت المرأة أن عليها دينًا لرجل، فلا يمكنك أن تخرجها حتى توفيه. فقال: بالله لا يسمع أهل المرأة ذلك منك، أنا أرضى بالذي أعطيتهم([13]).

– وما ذكره الذهبي رحمه الله عن الليث بن سعد رحمه الله، قال: كنت أسمع بذكر أبي حنيفة، فأتمنى أن أراه، فإني لبمكة إذ رأيت الناس متقصفين على رجل، فسمعت رجلًا يقول: يا أبا حنيفة. فقلت: إنه هو. فقال: إني ذو مال وأنا من خراسان، ولي ابن أزوجه المرأة وأنفق عليه المال الكثير، فيطلقها فيذهب مالي، وأشتري له الجارية بالمال الكثير فيعتقها، فيذهب مالي فهل من حيلة؟ قال أبو حنيفة: أدخله سوق الرقيق، فإذا وقعت عينه على جارية فاشترها لنفسك، ثم زوجها إياه، فإن طلقها رجعت مملوكة لك، وإن أعتقها لم يجز عتقه. قال الليث: فوالله ما أعجبني صوابه كما أعجبني سرعة جوابه([14]).

– وما ذكره ابن نجيم: أنه قد سُئل أبو حنيفة رحمه الله تعالى عن رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا إن سألتني الخلع ولم أخلع. وحلفت هي بالعتق إن لم تسأله الخلع قبل الليل. فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى للمرأة: سليه الخلع، فسألته، فقال له قل: خلعتك على ألف. فقال لها: قولي لا أقبل. فقالت، فقال: قومي واذهبي مع زوجك فقد بر كل منكما»([15]).

فالإمام أبو حنيفة رحمه الله ما روى عنه أحد حيلة كان فيها يحاول هدم مقصد من مقاصد الشارع أو حكم من أحكامه، بل كانت حيله رحمه الله للتوسعة ومنع الضيق، مبينًا بها أوجه اليسر في الأحكام الشرعية([16]).

وكان لأصحاب أبي حنيفة رحمه الله وتلاميذه من بعده إسهام في ذلك، فمن مقل ومكثر، حتى وصل الأمر إلى جمع بعض الحيل وتدوينها، بل وإفرادها بالتأليف، وإن كان ذلك في نطاق محدود، ومن ذلك ما نشره بعض المستشرقين بعنوان: «المخارج في الحيل» منسوبًا إلى الإمام محمد بن الحسن رحمه الله، إلا أن في تأليف الإمام محمد كتابًا في الحيل خلافًا؛ حيث أثبته صاحبه أبو حفص البخاري وصححه السرخسي رحمهما الله، ونفاه صاحباه محمد بن سماعة وأبو سليمان الجوزجاني رحمهما الله، قال السرخسي رحمه الله:

«اختلف الناس في كتاب الحيل أنه من تصنيف محمد رحمه الله أم لا، كان أبو سليمان الجوزجاني ينكر ذلك، ويقول: من قال: إن محمدًا رحمه الله صنف كتابًا سماه الحيل فلا تصدقه، وما في أيدي الناس، فإنما جمعه وراقو بغداد. وقال: إن الجهال ينسبون علماءنا رحمهم الله إلى ذلك على سبيل التعيير، فكيف يظن بمحمد رحمه الله أنه سمى شيئًا من تصانيفه بهذا الاسم ليكون ذلك عونًا للجهال على ما يتقولون، وأما أبو حفص رحمه الله كان يقول: هو من تصنيف محمد رحمه الله، وكان يروي عنه ذلك، وهو الأصحُّ، فإن الحيل في الأحكام المخرجة عن الإمام جائزة عند جمهور العلماء، وإنما كره ذلك بعض المتعسفين لجهلهم وقلة تأملهم في الكتاب والسنة»([17]).

ومن أشهر ما وصل إلينا من مؤلفات الحنفية في الحيل كتاب للخصاف رحمه الله أحد علماء الحنفية المتقدمين، هو أوسع من الكتاب المنسوب لمحمد بن الحسن، ويحتوي على كثير من الحيل في أبواب المعاملات وأحكام الأسرة والأيمان وغيرها([18]).

وبغض النظر عن تأليف كتب مستقلة عن الحيل، فقد عقد بعض علماء الحنفية فصولًا عن الحيل الفقهية في مختلف الأبواب الفقهية؛ وذلك كما فعل ابن نجيم في كتابه «الأشباه والنظائر»([19]).

والخلاصة: أن أولئك الأئمة الأجلاء ما كانت حيلهم لهدم مقصد الشارع وجعل الظاهر فقط موافقًا، بل كانت لتحقيق الأغراض الشرعية وتسهيلها، ورفع الحرج، فكانت فقهًا جيدًا، وتطبيقًا مرنًا لقواعد العقود وشروطها، قد سهَّله العرفان الكامل لأحوال الناس وما يصلح لها([20]).

([1]) ينظر: إعلام الموقعين (5/ 98، 99).

([2]) ينظر: السابق (5/ 189).

([3]) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (2/ 441) دار إحياء التراث العربي. وينظر: غمز عيون البصائر للحموي (1/ 281) دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الأولى- 1405هـ/ 1985م.

([4]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 409).

([5]) غمز عيون البصائر (1/ 38).

([6]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 410).

([7]) فتح الباري (12/ 326).

([8]) ينظر: تفسير الطبري (20/ 111، 112) تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي- دار هجر- القاهرة- الطبعة الأولى- 1422هـ/ 2001م.

([9]) ينظر: فتح الباري (12/ 326).

([10]) أخرجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: النسائي في الكبرى (7268) تحقيق حسن عبد المنعم شلبي- مؤسسة الرسالة- بيروت- الطبعة الأولى- 1421هـ/ 2001م، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب الكبير والمريض يجب عليه الحد (2574) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي- دار إحياء الكتب العربية- فيصل عيسى البابي الحلبي.

([11]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 411).

([12]) إعلام الموقعين (5/ 413).

([13]) السابق (5/ 414).

([14]) مناقب أبي حنيفة وصاحبيه (ص: 36).

([15]) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 353) تحقيق زكريا عميرات- دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الأولى- 1419هـ/ 1999م.

([16]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية (ص: 489).

([17]) المبسوط (30/ 209).

([18]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية (ص: 473)، المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 414).

([19]) الأشباه والنظائر (ص: 350).

([20]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية (ص: 490).

اترك تعليقاً