البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

التوسع في القياس والاستحسان

61 views

إن اجتهاد الإمام أبي حنيفة ومسلكه في فهم الأحاديث مع البيئة التي عاش فيها من شأنه أن يجعله يُكثر من القياس، ويفرع الفروع على مقتضى ذلك؛ لأنه في اجتهاده ما كان يقف عند بحث أحكام المسائل التي تقع، بل يتسع في استنباطه فيبحث عن أحكام المسائل التي لم تقع، ويتصور وقوعها؛ ليستعد للبلاء قبل نزوله، ويعرف الخروج منه إذا وقع، وإن ذلك بلا ريب دفعه إلى أن يستنبط العلل الباعثة للأحكام، والغايات المناسبة لشرعيتها، ويبني عليها، ويجعل العلل مطردة في كل ما تنطبق عليه([1]).

وكان أيضًا يكثر من الاستحسان، فلقد كان يقيس ما استقام له القياس ولم يقبح، فإذا قبح القياس استحسن ولاحظ تعامل الناس([2]). فالاستحسان الذي أخذ به أبو حنيفة إنما كان منعًا للقياس من أن يكون تعميم علته منافيًا لمصالح الناس التي قام الدليل من الشارع على اعتبارها، أو مخالفًا للنصوص أو الإجماع، أو عندما تتعارض العلل الشرعية المعتبرة، فيرجح أقواها تأثيرًا في موضوع النزاع وإن لم يكن هو الظاهر الجلي([3]).

والقياس والاستحسان ليس حكرًا على المذهب الحنفي، بل لا خلاف بين المذاهب الفقهية المشهورة في العمل بالقياس، وأنه حجة عند فقدان النص الشرعي والإجماع، وقد أخذوا بالاستحسان وإن كان فيه خلاف، إلا أنه قد قال به غير الحنفية أيضًا([4]). فمالك الذي عاصر أبا حنيفة كان يقول: «الاستحسان تسعة أعشار العلم»([5]).

لكن ما يمكن اعتباره من سمات المذهب الحنفي في هذا الباب هو ما اشتهر عنه من التوسع بعض الشيء في العمل بالقياس والأخذ بالاستحسان؛ حتى روي عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله أنه قال: كان أبو حنيفة ينازعه أصحابه في المقاييس فينتصفون منه ويعارضونه، فإذا قال: أستحسن، لم يلحق به أحد([6]).

أما الأسباب التي جعلت فقهاء المذهب الحنفي يتوسعون في القياس والاستحسان، فمن أهمها:

1- تشددهم في قبول أخبار الآحاد، فقد تقدم أنهم يضعون لذلك شروطًا شديدة لا يسلم معها كثير من تلك الأخبار، وذلك أدى إلى تضييق دائرة العمل بأخبار الآحاد فلجؤوا إلى القياس والاستحسان وتوسعوا فيهما.

2- أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان يتمتع بموهبة فريدة في حجج العقل، ومقدرة فائقة في إعمال الرأي والقياس، حتى قال عنه الإمام مالك رحمه الله وقد سئل عنه: رأيت رجلًا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته، ولا يخفى ما للمواهب من أثر في إتقان الجوانب الأكثر ملاءمة لها، ولا سيما عند توافر الأسباب والدواعي، وما لذلك من تأثير في الأصحاب والتلاميذ السائرين على نهج الشيخ، ولا سيما الذين يلازمونه أمدًا طويلًا ويتخرجون عليه([7]).

3- أن العراق الذي نشأ به المذهب الحنفي كان معقد الحياة ومنوع الحضارات والمدنيات، مما يؤدي إلى كثرة الحوادث والنوازل، على عكس ما كان عليه الأمر في الحجاز من بساطة الحياة التي تقلل من الحوادث مع كثرة الأحاديث والآثار، فالأحاديث والآثار كانت بالعراق أقل مما في الحجاز، الأمر الذي جعل فقهاءها من الحنفية يكثرون من اللجوء إلى القياس الذي هو أغزر المصادر الفقهية في إثبات الأحكام الفرعية للحوادث([8]).

([1]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 368).

([2]) ينظر: السابق (ص: 387).

([3]) ينظر: السابق (ص: 389).

([4]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 402).

([5]) أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 388).

([6]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 387)، المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 403).

([7]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 404).

([8]) ينظر: السابق.

اترك تعليقاً