البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

أصول المذهب الحنفي وسماته

القرآن الكريم وإطلاقه ونسخه

104 views

الاعتماد على القرآن كأصل أول للاستدلال واستخراج الأحكام الشرعية هو محل اتفاق بين جميع المذاهب الإسلامية، ولا يزال الفقهاء والأصوليون متفقين على مر العصور على أن الكتاب الكريم هو المصدر الأول في التشريع، وأنه إليه ترجع الأحكام كلها في الشريعة الإسلامية.

وقد نص الإمام أبو حنيفة رحمه الله على ذلك، فقال: «آخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذتُ بقول الصحابة؛ آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قولَ من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم»([1]).

والقرآن عند الحنفية أو في تعريفهم كما قال البزدوي: هو الكتاب المنزل على رسول الله، المكتوب في المصاحف، المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلًا متواترًا، بلا شبهة، وهو النظم والمعنى جميعًا في قول عامة العلماء.

القرآن يطلق على النظم والمعنى:

وعلى الرغم من الاتفاق في كون القرآن الأصل الأول للاستدلال بين الحنفية وغيرهم، والاتفاق على أهم المبادئ في ذلك الأصل، إلا أن هناك بعض المسائل التي خص بها الحنفية في هذا الأصل، وأهمها مسألة: هل يطلق القرآن على النظم والمعنى أم على المعنى فقط؟

وهي مسألة مشهورة ذهب فيها جمهور الأصوليين إلى إطلاقه على النظم والمعنى معًا، ونسب إلى أبي حنيفة أنه قال: إن القرآن يطلق على المعنى فقط دون اللفظ.

وهذه الرواية عن أبي حنيفة لم تلقَ قبولًا من متأخري الحنفية؛ بمعنى أنهم لم يسلموا بنسبتها لأبي حنيفة، ورفضوا الإلزام بها، قال البزدوي في كشف الأسرار: «ومنهم من اعتقد أنه اسم للمعنى دون النظم، وزعم أن ذلك مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى بدليل جواز القراءة بالفارسية عنده في الصلاة بغير عذر، مع أن قراءة القرآن فيها فرض مقطوع به، فرد الشيخ رحمه الله ذلك، وأشار إلى فساده بقوله: وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة عندنا؛ أي المختار عندي أن مذهبه مثل مذهب العامة في أنه اسم للنظم والمعنى جميعًا.

وأجاب عما استدل به الزاعم بقوله: إلا أنه؛ أي لكنَّ أبا حنيفة لم يجعل النظم ركنًا لازمًا؛ لأنه قال: مبنى النظم على التوسعة؛ لأنه غير مقصود، خصوصًا في حالة الصلاة؛ إذ هي حالة المناجاة، وكذا مبنى فرضية القراءة في الصلاة على التيسير؛ قال تعالى: {فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ}، ولهذا تسقط عن المقتدي بتحمل الإمام عندنا، وبخوف فوت الركعة عند مخالفنا بخلاف سائر الأركان، فيجوز أن يكتفى فيه بالركن الأصلي وهو المعنى، يوضحه أنه نزل أولا بلغة قريش؛ لأنها أفصحُ اللغات، فلما تعسر تلاوته بتلك اللغة على سائر العرب نزل التخفيف بسؤال الرسول  صلى الله عليه وسلم، وأذن في تلاوته بسائر لغات العرب وسقط وجوب رعاية تلك اللغة أصلًا، واتسع الأمر حتى جاز لكل فريق منهم أن يقرؤوا بلغتهم ولغة غيرهم»([2]).

ويلاحظ من كلام البزدوي أن مسألة إطلاق القرآن على المعنى فقط إنما ألزم بها الإمام أبي حنيفة من الفرع الفقهي القائل بجواز الصلاة بالفارسية، ولذلك أجاب الإمام البزدوي عن ذلك الفرع وأوضح أنه لا يلزم منه أن يكون الإمام يرى أن القرآن اسم للمعنى دون اللفظ.

كما أن المشهور في المذهب أن أبا حنيفة رجع عن القول بهذا الفرع الفقهي من الأساس، فقال التفتازاني: «(لكن الأصح أنه رجع) إلى قولهما على ما روى نوح بن أبي مريم عنه، قال فخر الإسلام: لأن ما قاله يخالف كتاب الله تعالى ظاهرًا، حيث وصف المنزل بالعربي، وقال صدر الإسلام أبو اليسر: هذه مسألة مشكلة؛ إذ لا يتضح لأحد ما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى، وقد صنف الكرخي فيها تصنيفًا طويلًا ولم يأتِ بدليل شافٍ»([3]).

الزيادة على النص نسخ:

وهذه من المسائل التي اشتهر خلاف الحنفية فيها في مباحث القرآن، والمراد بالنص القرآن أو المتواتر من السنة، والمراد بالزيادة ما كان من طريق غير التواتر من سنن الآحاد.

والزيادة على النص كما درج الأصوليون، تنقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: زيادة مستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلق به، وليست من جنسه، مثل أن يوجب الله تعالى الصلاة ثم يوجب بعد ذلك الصوم، والمزيد عليه وهو الصلاة مستقل تمامًا عن الزيادة وهي: الصوم، وهما جنسان مختلفان، فلا نسخ هنا.

الثاني: زيادة مستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلق به، وهي من جنس المزيد عليه، مثل: زيادة صلاة على الصلوات الخمس، والجمهور على أنها ليست بنسخ باستثناء بعض العراقيين من الحنفية.

الثالث: زيادة غير مستقلة وتتعلق بالمزيد عليه تعلق الجزء بالكل، مثل زيادة تغريب عام على جلد مائة في حد الزاني، وخالف الحنفية الجمهور هنا في قولهم: إن ذلك نسخ.

الرابع: زيادة غير مستقلة وتتعلق بالمزيد عليه تعلق الشرط بالمشروط، مثل: زيادة النية في الطهارة؛ حيث إن الشارع أمر بالطهارة مطلقًا، ثم زيد شرط النية لها([4]). فالخلاف الظاهر من الحنفية في القسمين الأخيرين. قال السرخسي: «وأما الوجه الرابع وهو ‌الزيادة ‌على ‌النص فإنه بيان صورة ونسخ معنى عندنا سواء كانت الزيادة في السبب أو الحكم وعلى قول الشافعي: هو بمنزلة تخصيص العام، ولا يكون فيه معنى النسخ حتى جوز ذلك بخبر الواحد والقياس وبيان هذا في النفي مع الجلد وقيد صفة الإيمان في الرقبة في كفارة الظهار واليمين»([5]).

وقد تفرع على هذا الأصل العديد من الفروع الفقهية التي انفرد بها الحنفية، ومن أمثلتها:

التغريب على الزاني البكر: فجمهور الفقهاء على أنه يغرب عامًا بجانب حد الجلد، إلا أن الحنفية يرون أن التغريب غير داخل في الحد؛ لأنه زيادة من خبر آحاد، فيكون نسخًا، والناسخ إن كان آحادًا لا ينسخ المتواتر، قال الشاشي: «وكذلك قلنا في قوله تعالى: {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖ} إن الكتاب جعل جلد المائة حدًّا للزنا، فلا يزاد عليه ‌التغريب حدًّا؛ لقوله عليه السلام: ((‌البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام))، بل يعمل بالخبر على وجه لا يتغير به حكم الكتاب، فيكون الجلد حدًّا شرعيًّا بحكم الكتاب والتغريب مشروعًا سياسةً بحكم الخبر»([6]).

يقول الدبوسي: «الزيادة نسخ معنى؛ لأن الآية جعلت الجلد مائة حد الزنا، ومتى كان الجلد حدًّا مع النفي لم يكن المذكور في الكتاب حدًّا بنفسه؛ لأن حقوق الله تعالى من عبادة أو عقوبة أو كفارة لا يتجزأ ثبوتها ولا أداؤها، ومتى عدم شيء منها لم يكن للباقي حكم الجواز بحال: كالركعة من الفجر، والركعتين من الظهر، إذا فصلت عما بقيت لم يكن ظهرًا ولا بعضها. وكذلك صوم نصف يوم، وكذلك من صام شهرًا عن كفارة القتل ثم مرض، فأراد أن يتمه بالإطعام لم يجز؛ لأن المشروع كفارة صوم شهرين، فلا يكون لأحد الشهرين قبل الإتمام بما بقي حكم الأداء»([7]).

**** السنة النبوية وتعامل الحنفية مع خبر الواحد:

والسنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع باتفاق الأئمة، وهي ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.

والحنفية يقسمون السنة إلى ضربين:

– سنة الهدى أي مكمل للدين، تاركها يستوجب إساءة كالجماعة والأذان والإقامة والسنن الرواتب، ولذا لو تركها قوم عوتبوا، أو أهل بلدة قوتلوا.

– سنة الزوائد تاركها لا يستوجبها: كتطويل أركان الصلاة، وسيره عليه السلام في لباسه كالبيض، وقيامه وقعوده كالاحتباء بيديه في المجلس، وعلى ذا قال محمَّد في كتاب الأذان: تارة يكره ومرة أساء وهما لسنة الهدي، وطورًا لا بأس، وهو حكم سنة الزوائد ودفعة يعيد وهو حكم الوجوب([8]).

وقال ابن عابدين: «فلا فرق بين النفل وسنن الزوائد من حيث الحكم؛ لأنه لا يكره ترك كل منهما، وإنما الفرق كون الأول من العبادات والثاني من العادات، لكن أورد عليه أن الفرق بين العبادة والعادة هو النية المتضمنة للإخلاص، كما في الكافي وغيره، وجميع أفعاله صلى الله عليه وسلم مشتملة عليها كما بين في محله.

وأقول: قد مثلوا لسنة الزوائد أيضًا «بتطويله عليه الصلاة والسلام القراءة والركوع والسجود»، ولا شك في كون ذلك عبادة، وحينئذ فمعنى كون سنة الزوائد عادة أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها حتى صارت عادة له ولم يتركها إلا أحيانًا؛ لأن السنة هي الطريقة المسلوكة في الدين، فهي في نفسها عبادة وسميت عادة لما ذكرنا. ولما لم تكن من مكملات الدين وشعائره سميت سنة الزوائد، بخلاف سنة الهدي، وهي السنن المؤكدة القريبة من الواجب التي يضلل تاركها؛ لأن تركها استخفاف بالدين، وبخلاف النفل فإنه كما قالوا ما شرع لنا زيادة على الفرض والواجب والسنة بنوعيها؛ ولذا جعلوا قسمًا رابعًا، وجعلوا منه المندوب والمستحب، وهو ما ورد به دليل ندب يخصه، كما في التحرير؛ فالنفل ما ورد به دليل ندب عمومًا أو خصوصًا ولم يواظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا كان دون سنة الزوائد»([9]).

وهذا التقسيم ليس له الأثر البالغ في الاستدلال على الأحكام خاصة مع تحرير الاصطلاح، إلا أن أبرز ما يميز المذهب الحنفي فيما يخص أصل السنة هو قضية خبر الآحاد وضوابطهم الخاصة في قبوله للعمل به، وهو ما يختص به ذلك المبحث.

ضوابط الحنفية خاصة لقبول خبر الواحد:

إن العراق في زمن نشأة المذهب الحنفي كان مسرحًا للصراع السياسي والديني؛ فقد شهد العديد من الفتن والصراعات والثورات التي خصَّبت البيئة لظهور العديد من الفرق والنِّحل المتباينة والمتصارعة، بما حوته من بدع وأهواء أدت لظهور الكذابين والوضاعين الذين يبتغون تحقيق بعض المكاسب السياسية والدينية عن طريق وضع بعض الأحاديث التي تؤيد طريقتهم وبدعتهم، الأمر الذي جعل مؤسس المذهب الإمام أبا حنيفة وأصحابه رحمهم الله يتشددون في قبول أخبار الآحاد، ويلتزمون شروطًا شديدة للقبول: كشدة الضبط والتحري في التحمل والرواية، حتى قال القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: «كأنَّ أبا حنيفة لا يرى أن يروي من الحديث إلا ما حفظه عن الذي سمعه منه»([10]).

ولا شك أن أخبار الآحاد هي الأقرب للشبهة والاحتمال، فوارد فيها خطأ الراوي وسهوه ونسيانه، ووارد أيضًا أن يدخلها تصرف أهل البدع والأهواء بالوضع والزيادة والنقصان، ولذا فقد اشترط علماء المذهب الحنفي شروطًا لقبولها، من أهمها:

1- عدم مخالفتها للكتاب والسنة المتواترة والمشهورة([11]).

فالفقه العراقي يتجه إلى الأخذ بعموم الألفاظ، والاستمساك ببيان القرآن، فهم لا يعتبرون خاص القرآن في حاجة إلى بيان، وقد خالفوا بذلك أحاديث قد وردت في موضوعه اعتبرها الحجازيون بيانًا لذلك الخاص ولم يعتبرها العراقيون، بل ردوا نسبتها إلى الرسول؛ لأخذهم باعتبار الخاص مبيَّنًا غير محتاج إلى بيان وراء بيانه، وذلك راجع إلى شدة تحريهم وشكهم في الرواية عن كثيرين من الرواة. وكذلك كانوا يرون أن أحاديث الآحاد لا ترتفع إلى درجة معارضة عموم القرآن حتى يمكن أن تخصصه، بل إن عموم القرآن يسير على شموله، والحديث لا يمكن أن يكون مخالفًا للقرآن، ولا يمكن أن يكون حديث الآحاد ناسخًا لنص القرآن الكريم([12]).

2- أن لا يكون خبر الآحاد متروك الاحتجاج به في عهد الصحابة رضي الله عنهم؛ بأن يظهر منهم خلاف في مسألة ورد فيها الحديث دون أن يحصل منهم الاحتجاج به؛ لأن الصحابة هم الأصول في نقل الدين لا يتهمون بالكتمان، ولا يتركون الاحتجاج بما هو الحجة والاشتغال بما ليس بحجة؛ فإذا ظهر منهم الاختلاف في الحكم وجرت المحاجة بينهم فيه بالرأي -والرأي ليس بحجة مع ثبوت الخبر- فلو كان الخبر صحيحًا لاحتج به بعضهم على بعض حتى يرتفع به الخلاف الثابت بينهم بناء على الرأي، فكان إعراض الكل عن الاحتجاج به دليلًا ظاهرًا على أنه سهو ممن رواه بعدهم، أو هو منسوخ([13]).

مثاله: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة))([14]). حيث الخلاف في وجوب الزكاة في مال الصبي مشهور، ومع ذلك لم يعرف الاحتجاج بهذا الحديث من قبل الصحابة رضي الله عنهم([15]).

ولا يخفى أن مثل هذا الحديث قد يكون مما تفرد به راويه، ولم يسمعه غيره ولا بلغه، أو سمعه غيره إلا أنه لم يبلغ من جرى بينهم خلاف، وليس ذلك من الكتمان؛ لأنه قد يحصل لأسباب عديدة، كما أن عدم علم من بعد الصحابة رضي الله عنهم باحتجاجهم بحديث أو عدم احتجاجهم به ليس دليلًا على عدم حصول ذلك منهم([16]).

3- أن لا يكون قد عمل بعض الأئمة من الصحابة الفقهاء رضي الله عنهم بخلافه، وهم لا يخفى عليهم مثله؛ وذلك لأن الصحابة لا يتوقع منهم مخالفة حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الحديث مما لا يخفى على فقهائهم ومع ذلك قد عمل بعضهم بخلافه دل ذلك على أن الحديث عنده منسوخ أو محمول على غير الوجوب([17]).

ومثال ذلك ما روي: ((البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة))([18]). قال السرخسي: «صح عن الخلفاء أنهم أبوا الجمع بين الجلد والرجم بعد علمنا أنه لم يخف عليهم الحديث لشهرته؛ فعرفنا به انتساخ هذا الحكم، وكذلك صح عن عمر رضي الله عنه قوله: والله لا أنفي أحدا أبدًا»([19]).

4- أن يكون راوي الآحاد إلى جانب عدالته وحسن ضبطه وحفظه معروفًا بالفقه والرأي والاجتهاد: كالخلفاء الراشدين، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري، وعائشة، وغيرهم ممن اشتهر بالفقه والاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم، فما روي عن هؤلاء وأمثالهم من أخبار الآحاد مستوفية شروطها حجة في بناء أحكام الوجوب عليها، ومقدم على القياس مطلقًا، وافق القياس أو خالفه، فإن وافقه تأيَّد به، وإن خالفه عُمل به وتُرك القياس([20]).

أما غير المعروف بالفقه والاجتهاد فإن حديثه إن وافق القياس عُمل به، وإن خالفه فإن قَبِله الأئمة أو تلقته الأمة بالقبول فهو معمول به أيضًا، وإلا فالقياس الصحيح شرعًا مقدم على روايته عند الضرورة؛ وذلك لأن الرواية بالمعنى كانت مستفيضة بينهم، وغير الفقيه ربما يقصر في أداء المعنى بلفظه بناء على فهمه، بينما يؤمَن مثل ذلك من الفقيه([21]).

هذا هو المشهور عند الحنفية، وهو مذهب عيسى بن أبان رحمه الله، واختاره القاضي أبو زيد الدبوسي رحمه الله وكثير من المتأخرين([22]). وخالف في ذلك الفقيه الأصولي أبو الحسن الكرخي رحمه الله ومن تابعه من علماء الحنفية، فعندهم أن فقه الراوي ليس شرطًا لتقديم حديثه على القياس؛ بل خبر العدل الضابط كخبر المجتهد الفقيه يُقدم على القياس ما لم يخالف الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة([23]).

ويمكن أن نقول: إن أبا حنيفة رحمه الله نظر إلى أخبار الآحاد، فإن لم تعارض قياسًا قبلها، وإن عارضت قياسًا علته مستنبطة من أصل ظني، أو كان استنباطها ظنيًّا ولو من أصل قطعي، أو كانت مستنبطة من أصل قطعي وكانت قطعية ولكن تطبيقها في الفرع ظني؛ يقدم الأخبار أيضًا على القياس، أما إذا عارضت أخبار الآحاد أصلًا عامًّا من أصول الشرع ثبتت قطعيته وكان تطبيقه على الفرع قطعيًّا فأبو حنيفة يضعف ذلك الخبر وينفي نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويحكم بالقاعدة العامة التي لا شبهة فيها([24]).

هذا بالنسبة لموقف الحنفية إذا تعارض خبر الآحاد مع القياس.

أما موقفهم إذا تعارض خبر الراوي الفقيه مع غيره فالأمر واضح، فهم يعتبرون فقه الراوي أساسًا في الترجيح، فإذا تعارضت روايتان إحداهما من راوٍ فقيه والأخرى من راوٍ غير فقيه يؤثرون رواية الفقيه؛ لأنه أضبط وأشد تحريًا وأكثر فهمًا للدين. وقد أتى الترجيح بفقه الراوي على لسان أبي حنيفة في مجادلته مع الأوزاعي رحمهما الله: فقد روى سفيان بن عيينة قال: اجتمع أبو حنيفة والأوزاعي في دار الخياطين بمكة، فقال الأوزاعي لأبي حنيفة: ما لكم لا ترفعون أيديكم عند الركوع وعند الرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع. قال: كيف وقد حدثني الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع، وعند الرفع))؟ فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة، ولا يعود إلى شيء من ذلك. فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وتقول: حدثنا حماد، عن إبراهيم؟ فقال أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر، وإن كان لابن عمر صحبة، فالأسود له فضل كثير»([25]).

فأبو حنيفة إذن يقبل خبر الآحاد ولا يتردد في قبوله، ولكنه يشدد في أمر ضبط الراوي، ويرجح الروايات عند التعارض بفقه الرواة، فيرجِّح حديث الفقهاء من الرواة على حديث غيرهم([26]).

5- أن لا ينكر الراوي الخبر بعد روايته جحودًا أو نسيانًا؛ وذلك لأن إنكاره حجة في حق نفسه، وبذلك ينقطع اتصال الحديث برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال السرخسي: «فأما الوجه الأول فقد اختلف فيه أهل الحديث من السلف فقال بعضهم بإنكار الراوي يخرج الحديث من أن يكون حجة. وقال بعضهم: لا يخرج من أن يكون حجة. وقد عمل الشافعي بالحديث مع إنكار الراوي ولم يعمل به علماؤنا رحمهم الله»([27]).

ومثاله: ما رواه الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه السلام قال: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل))([28]).

فقد أنكر الزهري هذا الحديث ولم يعرفه، ثم عمل به محمد والشافعي مع إنكار الراوي، ولم يعمل به أبو حنيفة وأبو يوسف لإنكار الراوي إياه([29]).

6- أن لا يكون عمل الراوي أو فتواه بعد روايته بخلافه، إلا إذا عُلم أن ذلك كان منه قبل روايته للحديث وقبل أن يبلغه، أو لم يُعرف التاريخ؛ لأن الحديث حجة في الأصل فلا يسقط بالشبهة([30]).

قال السرخسي: «وأما الوجه الثاني وهو ما إذا ظهر منه المخالفة قولًا أو عملًا، فإن كان ذلك بتاريخ قبل الرواية فإنه لا يقدح في الخبر، ويُحمل على أنه كان ذلك مذهبه قبل أن يسمع الحديث، فلما سمع الحديث رجع إليه، وكذلك إن لم يُعلم التاريخ؛ لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه، وهو أن يكون ذلك منه قبل أن يبلغه الحديث ثم رجع إلى الحديث. وأما إذا عُلم ذلك منه بتاريخ بعد الحديث فإن الحديث يخرج به من أن يكون حجة؛ لأن فتواه بخلاف الحديث أو عمله من أبين الدلائل على الانقطاع وأنه الأصل للحديث، فإن الحالات لا تخلو إما إن كانت الرواية تقولًا منه لا عن سماع فيكون واجب الرد، أو تكون فتواه وعمله بخلاف الحديث على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث فيصير به فاسقًا لا تُقبل روايته أصلًا، أو يكون ذلك منه عن غفلة ونسيان وشهادة المغفل لا تكون حجة فكذلك خبره، أو يكون ذلك منه على أنه علم انتساخ حكم الحديث وهذا أحسن الوجوه فيجب الحمل عليه تحسينًا للظن بروايته وعمله»([31]).

مثاله ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام قال: ((يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا))([32]). ثم صح من فتواه أنه يطهر بالغسل ثلاثًا؛ فيُحمل على أنه كان علم انتساخ هذا الحكم، أو علم بدلالة الحال أن مراد رسول الله عليه السلام الندب فيما زاد على الثلاثة([33]).

وأيضًا ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل))([34]) ثم صح أنها زوجت ابنة أخيها حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما للمنذر بن الزبير، وكان أبوها عبد الرحمن غائبًا بالشام فلما قدم غضب، وقال: أمثلي يُصنع به هذا ويفتات عليه. فقالت عائشة رضي الله عنها: أو ترغب عن المنذر؟ ثم قالت للمنذر: لتملكن عبد الرحمن أمرها. فقال المنذر: إن ذلك بيد عبد الرحمن. فقال عبد الرحمن: ما كنت أرد أمرًا قضيتيه. وبذلك تبين نسخ حديثها([35]).

7- أن لا يكون فيما يدرأ بالشبهات كالحدود.

فقد اختلف علماء الحنفية في قبول خبر الواحد في الحد، فقبله أبو يوسف والجصاص، ولم يقبله الكرخي وأبو عبد الله البصري وأكثر الحنفية؛ وذلك لأن الأمر قد جاء من المشرع بدرء الحد بالشبهة، وخبر الواحد فيه شبهة، وهي احتمال الكذب؛ فلا يقام الحد بخبره([36]).

8- أن لا يخالف الظاهر؛ بأن يكون غريبًا فيما تعم به البلوي ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته للعمل به.

فمن صور مخالفة الظاهر عدم اشتهار الخبر فيما يعم به البلوى في الصدر الأول والثاني؛ لأنهم لا يُتَّهمون بالتقصير في متابعة السنة، فإذا لم يشتهر الخبر مع شدة الحاجة وعموم البلوى كان ذلك علامة عدم صحته([37]).

فالحوادث التي تعم بها البلوي قد أُمر فيها صاحب الشرع بأن يبين للناس ما يحتاجون إليه، وقد أمرهم بأن ينقلوا عنه ما يحتاج إليه من بعدهم، فإذا كانت الحادثة مما تعم به البلوى فالظاهر أن صاحب الشرع لم يترك بيان ذلك وتعليمه للكافة، وأنهم لم يتركوا نقله على وجه الاستفاضة، فحين لم يشتهر النقل عنهم عرفنا أنه سهو أو منسوخ، ألا ترى أن المتأخرين لما نقلوه اشتُهر فيهم، فلو كان ثابتًا في المتقدمين لاشتهر أيضًا([38]).

فإذا كان خبر الواحد فيما تعم به البلوى ومع ذلك لم يشتهر في الصدر الأول، وتفرد به راويه مع شدة الحاجة واشتهار الواقعة وتوفر الدواعي على نقله؛ فذلك مما يطعن في راويه بسهو أو نسيان، أو في الرواية بنسخ، ومثل ذلك لا ينهض دليلًا عند الحنفية.

مثاله: حديث السيدة عائشة مرفوعًا: ((توضؤوا مما مست النار))([39]). فهذا الحديث وإن كان له بعض الشواهد إلا أنه لم يشتهر في الصدر الأول بقدر الحاجة إليه، مع عموم البلوى باستعمال ما مسته النار، وشدة الحاجة إلى معرفة حكمه، وبالتالي لا يفيد وجوب الوضوء مما مسته النار([40]).

9- أن لا يشذ عن الأصول المجمع عليها.

يعني التي اجتمعت عندهم مما استخلصه الفقهاء من نصوص الكتاب والسنة وأقضية الصحابة رضي الله عنهم؛ وذلك أن الفقهاء رحمهم الله نهضوا باستقصاء موارد نصوص الشرع وأقضية الصحابة رضي الله عنهم، وأرجعوا ما فيها من نظائر منصوص عليها مما تلقاه العلماء بالقبول إلى أصول تجمعها وقواعد تندرج تحتها تلك النظائر، حتى اجتمعت عندهم جملة منها، وحيث إنها قوية المصدر والمنبع جعلوها أصولًا مسلمة يعرضون عليها أخبار الآحاد، فما شذَّ عنها اعتبروه مناهضًا لما هو أقوى منه ثبوتًا، فتركوه ولم يأخذوا به في بناء الحكم عليه؛ عملًا بأقوى الدليلين، وأخذًا بأحرى الحجتين في رأيهم، وسبب مثل هذا الشذوذ المعنوي في الغالب شيوع الرواية بالمعنى، وإخلال بعض الرواة أحيانًا بشيء من أصل معنى الحديث، فيلجأ الفقهاء إلى عرضه على الأصول المقررة عندهم؛ جمعًا بين الأصول والأخبار، وتمحيصًا للأحاديث والآثار([41]).

تلك هي أهم الشروط التي وضعها المذهب الحنفي لقبول أخبار الآحاد والاحتجاج بها على الأحكام الشرعية، ولشدة تلك الشروط ضاقت عندهم دائرة العمل بكثير من الأحاديث؛ ولذلك توسعوا قليلًا عن باقي المذاهب الفقهية في إعمال الرأي والقياس.

([1])  ينظر: الانتقاء، لابن عبد البر (1/ 82).

([2])  ينظر: كشف الأسرار (1/ 24).

([3])  ينظر: شرح التلويح (1/ 55).

([4])  ينظر: المهذب من علم أصول الفقه (2/ 579).

([5])  ينظر: أصول السرخسي (2/ 82).

([6])  ينظر: أصول الشاشي (ص 29).

([7])  ينظر: تقويم الأدلة (ص 233).

([8]) ينظر: فصول البدائع (1/ 243).

([9]) ينظر: رد المحتار (1/ 103).

([10]) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر (ص: 139)- مكتبة القدسي- القاهرة- 1350هـ.

([11]) ينظر: أصول الشاشي (ص: 280).

([12]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 332، 333).

([13]) ينظر: أصول السرخسي (1/ 369).

([14]) أخرجه الترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة مال اليتيم (641) وقال: «في إسناده مقال».

([15]) ينظر: أصول السرخسي (1/ 369).

([16]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 390).

([17]) ينظر: السابق (2/ 7).

([18]) أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب حد الزنا (1690) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

([19]) أصول السرخسي (2/ 7).

([20]) ينظر: أصول السرخسي (1/ 338، 339)، التقرير والتحبير على التحرير لابن أمير الحاج (ص: 322) ضبطه وصححه عبد الله محمود محمد عمر- دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الأولى- 1419هـ/ 1999م. أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 321، 322).

([21]) ينظر: أصول الشاشي (ص: 275)، أصول السرخسي (1/ 340، 341)، أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 322).

([22]) ينظر: التقرير والتحبير (ص: 322).

([23]) ينظر: السابق (ص: 323).

([24]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 326، 327).

([25]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 313، 314).

([26]) السابق (ص: 315).

([27]) أصول السرخسي (2/ 3). وينظر: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي لعلاء الدين البخاري (3/ 60) دار الكتاب العربي- بيروت.

([28]) أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي (2083)، والترمذي وحسنه، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي (1880).

([29]) ينظر: أصول السرخسي (2/ 3)، كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (3/ 62).

([30]) ينظر: كشف الأسرار (3/ 63).

([31]) أصول السرخسي (2/ 5، 6). وينظر: كشف الأسرار (3/ 63، 64).

([32]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان (172)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب (279).

([33]) ينظر: أصول السرخسي (2/ 6).

([34]) تقدم تخريجه.

([35]) ينظر: أصول السرخسي (2/ 6)، كشف الأسرار (3/ 64).

([36]) ينظر: تيسير التحرير لأمير باداشاه الحنفي (3/ 88) مصطفى البابي الحلبي- مصر- 1351هـ/ 1932م.

([37]) ينظر: أصول الشاشي (ص: 284).

([38]) ينظر: أصول السرخسي (1/ 368).

([39]) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الوضوء مما مست النار (353).

([40]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 397).

([41]) ينظر: السابق.

1 Comment

  • الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم

    أكتوبر 8, 2023

    جهد مشكور , نفع الله بكم العباد

    Reply

اترك تعليقاً