البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

أثر الاحتياط عند الحنفية في مسائل العبادات

82 views

لا شكَّ أنَّ الاحتياط يبرز عند الحنفية في كثير من مسائل العبادات، بل لا يبعد أن نعتبره أصلًا من الأصول التي بنوا عليها العديد من الأحكام الفقهية.

قال الجصاص: “واعتبار الاحتياط والأخذ بالثقة أصل كبير من أصول الفقه، قد استعمله الفقهاء كلهم”([1]).

وقال السرخسي: “والأخذ بالاحتياط في باب العبادات أصل”([2]).

فالعبادات عند الحنفية تقوم على الأحوط قال الكاساني: “الصلاة إذا تردَّدت بين الجواز والفساد فالحكم بالفساد أولى، وإن كان للجواز وجوه وللفساد وجه واحد؛ لأن الوجوب كان ثابتًا بيقين فلا يسقط بالشك، ولأن الاحتياط فيما قلنا؛ لأن إعادة ما ليس عليه أولى من ترك ما عليه”([3]).

فالإمام أبو حنيفة رحمه الله نظر إلى الاحتياط في أكثر المسائل، فكان عاملًا رئيسًا في الترجيح والتصحيح وبناء الأحكام، حتى جعله الكمال بن الهمام من أدلة مصادر التشريع، فقال: “أدلة الأحكام الكتاب والسنة والإجماع والقياس… والاحتياط والاستصحاب”([4]).

بعض الأمثلة على الاحتياط في العبادات عند الحنفية:

– الاحتياط في الغسل عند عدم التمييز بين المني والودي:

حيث يقوم هذا الحكم على قاعدة “جعل السبب يقوم مقام المسبب” في إيجاب الغسل احتياطًا، فمن رأى بللًا ولم يستطع التمييز في حال كونه منيًّا أو وديًا فإن عليه الاغتسال احتياطًا، قال الكاساني الحنفي: “إذا استيقظ فوجد على فخذه أو على فراشه بللًا على صورة المذي ولم يتذكر الاحتلام، فعليه الغسل في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: لا يجب، وأجمعوا أنه لو كان منيًّا أن عليه الغسل؛ لأن الظاهر أنه عن احتلام، وأجمعوا أنه إن كان وديًا لا غسل عليه؛ لأنه بول غليظ. وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني: أنه إذا وجد على فراشه منيًّا فهو على الاختلاف، وكان يقيسه على ما ذكرنا من المسألتين. وجه قول أبي يوسف: أن المذي يوجب الوضوء دون الاغتسال، ولهما ما روى إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي بإسناده عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا رأى الرجل بعد ما ينتبه من نومه بلة، ولم يذكر احتلامًا اغتسل، وإن رأى احتلامًا ولم يَرَ بلة فلا غسل عليه. وهذا نص في الباب، ولأن المني قد يرق بمرور الزمان فيصير في صورة المذي، وقد يخرج ذائبًا لفرط حرارة الرجل أو ضعفه، فكان الاحتياط في الإيجاب”([5]).

والعمل بالاحتياط هنا في إيجاب الغسل وإن كان فيه بعض مشقة، لكنه أفْرَغُ للذمَّة.

– الاحتياط بالوضوء عند المباشرة الفاحشة:

هذه المسألة مبنيَّة أيضًا على إقامة السبب مقامَ المسبب احتياطًا؛ حيث إن المباشرة الفاحشة مظنة خروج النجاسة الحقيقية دون شعور من المباشر، قال الكاساني: “الحدث الحكمي نوعان: أحدهما: أن يوجد أمر يكون سببًا لخروج النجس الحقيقي غالبًا، فيقام السبب مقام المسبب احتياطًا. والثاني: أن لا يوجد شيء من ذلك، لكنه جعل حدثًا شرعًا تعبدًا محضًا. أما الأول فأنواع منها المباشرة الفاحشة، وهو أن يباشر الرجل المرأة بشهوة، وينتشر لها، وليس بينهما ثوب، ولم يَرَ بللًا، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يكون حدثًا استحسانًا، والقياس أن لا يكون حدثًا، وهو قول محمد”([6]).

حيث إن القياس يأبى ذلك، وهذا ما مشى عليه الإمام محمد، من حيث إن الموجب لنقض الوضوء عند الحنفية هو انتقالُ النجاسة من داخل الجسد إلى خارجه على تفصيل ما بين الخروج من السبيلين أو خروج النجاسة من غيرهما، بالأول يكفي البدو والظهور فقط، وفي الثاني لا بد من السيلان إلى مكان يجب تطهيره، فلم تكن المباشرة الفاحشة من أحد هذين الأمرين، إلا أن الشيخين قد استحسنا من باب إقامة السبب مقام المسبب، ولأن العبادات يُحتاط لها ما لا يُحتاط لغيرها، ولأن فيها الخروج عن العهدة بيقين([7]).

– الاحتياط في الحيض والاستحاضة:

أساس هذه المسألة في المرأة التي جاوز نزول الدم أيام حيضها المعتاد، فجاوز العشرة أيام، فاعتبر الحنفية أن الزيادة عن عشرة أيام استحاضة، وتُرد المرأة إلى أيام حيضها، وتقضي الصلاة والصيام في الأيام التي تركتها ما بين عادتها وأقصى مدة الحيض وهي العشرة أيام؛ للخروج عن ذمتها بيقين؛ لأن العبادة مبناها على الاحتياط، ففي إفراغ الذمة أوجب وأسلم، قال الكاساني: “وأما صاحبة العادة في الحيض إذا كانت عادتها عشرة فزاد الدم عليها فالزيادة استحاضة، وإن كانت عادتها خمسة فالزيادة عليها حيض معها إلى تمام العشرة لما ذكرنا في المبتدأة بالحيض، وإن جاوز العشرة فعادتها حيض، وما زاد عليها استحاضة، ولأن ما رأت في أيامها حيض بيقين، وما زاد على العشرة استحاضة بيقين، وما بين ذلك متردد بين أن يلحق بما قبله فيكون حيضًا فلا تصلي، وبين أن يلحق بما بعده فيكون استحاضة فتصلي، فلا تترك الصلاة بالشك”([8]). أي: فتقضي الصلاة والصيام في تلك الأيام احتياطًا لتخرج عن العهدة بيقين وتفرغ ذمتها.

والخلاصة:

أن الحنفية قد احتاطوا في كل ما يخصُّ حقوق المولى سبحانه وتعالى؛ فالاحتياط يكون على قدر الأهمية، وعليه فقد بنوا عليه كثيرًا من الأحكام الفقهية، وجعلوا له أثرًا مهمًّا في الأصول واستنباط القواعد الفقهية، بل واحتاطوا في قبول الأخبار؛ ففرقوا بينها من حيث الظنية والقطعية.

([1]) الفصول في الأصول (2/ 101).

([2]) أصول السرخسي (1/ 52). وينظر: الفصول في الأصول للجصاص (2/ 100).

([3]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 249).

([4]) ينظر: تيسير التحرير (3/ 2) مصطفى البابي الحلبي، مصر، 1351هـ/ 1932م.

([5]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 37).

([6]) السابق (1/ 29).

([7]) ينظر: بحث “أثر الاحتياط في الطهارة والعبادات عند الحنفية” (ص: 38).

([8]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/ 41).

اترك تعليقاً