البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

تفسير مفهوم الحرية في المذهب الحنفي

70 views

جرت عادة الفقهاء والأصوليين -في التشريع الإسلامي بصفة عامة، وفي المذهب الحنفي بصفة خاصة- عند تعريف الحرية على التركيز على أنها هي العتق المقتضي للخلوص من حالة الرق والاستعباد، قال بدر الدين العيني: “والحرية عبارة عن الخلوص، يقال: طين حر؛ أي خالص مما يشوبه، وأرض حرة أي خالصة لا خراج في غلتها ولا عشر. وفي الشرع: الحرية خلوص حكمي يظهر في الآدمي بانقطاع حق الاعتبار عن نفسه، وإثبات هذا الوصف الحكمي يسمى إعتاقًا وتحريرًا. ومن محاسنه أنه إحياء حكمي”([1]).

فهي في المذهب الحنفي تعبر عن امتلاك القوة والقدرة الموجبة للفعل مع التخلص من القيود السالبة، قال المرغيناني: “هي قوة حكمية تظهر في دفع تسلط الغير”([2]). فهي تخلص الإنسان من تسلط غيره عليه، وتمكنه من الاستقلال بتصرفاته وأفعاله.

وهذا المعنى القديم في مضمونه يقارب ويشابه نفس تلك المعاني الحديثة للحرية؛ فكل أنواع التسلط والاستبداد والسُّخرة تُضاد معنى الحرية، وكل ما يمنع الإنسان من الاستقلال برأيه وتصرفاته هو نوع من أنواع الرق المجازي. فذلك التفسير الذي استخدمه الفقهاء والأصوليون الأوائل في التعبير عن مفهوم الحرية منغمس في مشاكل العالم وهمومه المعاصرة.

بعض تطبيقات مفهوم الحرية في المذهب الحنفي:

إن فقهاء الحنفية يمنحون الحرية الفردية مكانة خاصة في فقههم، فمثلًا:

عندما ناقش الحنفية مسألة حرية البكر العاقلة في تزويج نفسها استدلوا بأنها حرة مخاطبة، فلا يجوز تزويجها بغير رضاها كالثيب، قال المرغيناني: “وينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها ولي، بكرًا كانت أو ثيبًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في ظاهر الرواية… لكونها عاقلة مميزة، ولهذا كان لها التصرف في المال، ولها اختيار الأزواج”([3]). فقد قاسوا ذلك على حريتها في التصرف بالمال على طريق الاستبداد فيصح منها الزواج([4])‫.

كما رأى الإمام أبو حنيفة رحمه الله عدم الحجر على السفيه؛ لأنه حر مخاطب له مطلق الحرية في التصرف في ماله، قال السرخسي: “والمعنى فيه أنه حر مخاطب، فيكون مطلق التصرف في ماله كالرشيد… والسفه لا يصلح أن يكون معارضًا للحرية”([5]).

فمفهوم الحرية الذي حرَّره فقهاء المذهب الحنفي كان حاضرًا في معالجتهم للمشكلات الاجتماعية المتنوعة ضمن الأبواب الفقهية المختلفة‫.

العناصر الموضوعية لمفهوم الحرية:

لقد تكلَّم علماء المذهب الحنفي بوضوح عن العناصر الموضوعية الأكثر وضوحًا التي تكوِّن مفهوم الحرية وتحدد معناه، ويمكن استنباط أهم ثلاثة عناصر رئيسة، وهي:

العنصر الأول: التخلُّص من القيود وقهر الغير:

إن الحرية تضاد القيد، كما تضاد تسلط الغير وقهره، فلا حرية بدون تكسير القيود والتخلُّص من القهر، فهذا العنصر يؤكد ذلك الجانب السالب من الحرية الذي يقتضي إزالة الموانع والعقبات من أمام الشخص ليتمكن من التصرف.

ويعبر عنه فقهاء المذهب الحنفي بقولهم: “الحرية عبارة عن الخلوص”([6]). أي: الخلوص من قهر الغير وتسلطه، فهي عندهم: “قوة حكمية تظهر في دفع تسلط الغير”([7])، أو: “قوة حكمية للذات يدفع بها يد الاستيلاء والتملك”([8]).

ومن نتائجها أن يمتلك الإنسان حقَّ التصرُّف على الوجه الذي يريد دون تسلُّط من أحد عليه.

العنصر الثاني: القوة والقدرة على التصرف:

إذا تخلص المرء من القيود التي تقهره امتلك القدرة على التصرف والفعل، وبالتالي فقد ربط فقهاء المذهب الحنفي بشكل واضح بين الحرية والقوة، فالقوة عندهم من أهم عناصر الحرية، قال الزيلعي: “الحرية قوة حكمية”([9]). أي: أن الحرية فيها من القوة الشرعية التي تمنح الإنسان الحقَّ في التصرُّف، وتؤهله لأن يأخذ المكانة الاجتماعية التي يستحقها ولو كانت من الولايات العامة.

كما أنها أيضًا قوة حقيقية، تمنح صاحبها القدرة الفعلية على التصرف، وهي بهذا المعنى تعدُّ امتدادًا طبيعيًّا للقوة الحكمية التي تكتفي بمنح الحقوق، فلا معنى لمنح حق لا يمتلك صاحبه القدرة على إنفاذه.

ونستطيع أن نفرق بين الحريتين الحكمية والحقيقية بأن الحقيقية هي التي تنتمي لهذا العالم الواقعي المشاهد، أما الحكمية (الحقوقية) فهي التي تنتمي لعالم القيم والأخلاق، فهي تعبر عن الحقوق والالتزامات التي يمتلكها المرء، سواء استطاع ممارسة تلك الحقوق أو لم يستطع.

وقد قارن فقهاء المذهب الحنفي بين القوة الحكمية والحقيقية عند كلامهم على تجزؤ الحرية([10]).

العنصر الثالث: الاستقلال الذاتي والتفرد بالتصرف:

يؤكد فقهاء المذهب الحنفي أن الحرية تتضمن معنى الاستقلال والاختصاص والتفرد بالتصرف([11])؛ بمعنى أن يكون الشخص مالكًا لقراره، حرًّا في اختياره، يتصرف وفق إرادته، قال السرخسي: “إن مالكية اليد تثبت له حق الاستبداد بالخروج إلى حيث شاء”([12]). فالحرية عند الحنفية توجب “مالكية التصرف مستبدًّا به”([13])، وتفيد مع الاستبداد بالتصرف “ثبوت الاختصاص”([14])؛ بمعنى أن يكون الحر أخص بنفسه وكسبه.

([1]) ينظر: البناية شرح الهداية (6/ 3).

([2]) الهداية في شرح بداية المبتدي (2/ 332).

([3]) السابق (1/ 191).

([4]) ينظر: تبيين الحقائق (2/ 117).

([5]) ينظر: المبسوط (24/ 159).

([6]) ينظر: البناية شرح الهداية (6/ 3).

([7]) الهداية للمرغيناني (2/ 332).

([8]) بدائع الصنائع (4/ 98).

([9]) تبيين الحقائق (3/ 73). وينظر: حاشية ابن عابدين (3/ 658).

([10]) ينظر: بدائع الصنائع (4/ 87).

([11]) ينظر: الاختيار لتعليل المختار لأبي الفضل الحنفي (4/ 36) مطبعة الحلبي، القاهرة- 1356هـ/ 1937م.

([12]) المبسوط (7/ 209).

([13]) ينظر: الهداية للمرغيناني (3/ 254).

([14]) ينظر: الهداية للمرغيناني (3/ 254)، تبيين الحقائق (4/ 134)، الجوهرة النيرة لأبي بكر الزبيدي الحنفي (2/ 111) المطبعة الخيرية، الطبعة الأولى- 1322هـ.

اترك تعليقاً